تقديم

تقديم

حين كنت أقرأ كتاباً من كتب التفسير الالمانيّة، دُهشت حين رأيت الكاتب يعتذر من القرّاء لأنه مزج بين فنّ أدبيّ وفن آخر. فبعد أن فسّر النص تفسيراً علمياً، كتب حاشية في آخر كل فصل كي يستنتج المعنى الروحي الذي يمكن أن يساعد المؤمنين من أجل الصلاة. أتُرى هكذا اعتادت الكنيسة أن تقرأ الكتاب المقدس، ولا سيّما مع آبائنا في الإيمان؟ لا يبدو الأمر كذلك. فالذين نعرفهم تعقّموا في كلام الله وأوصلوه إلى سامعيهم أولاً، ثم إلى قارئيهم. تتلمذ الذهبي الفم، في انطاكية، على يد معلّم كبير اسمه ديودورس، أسقف طرسوس، في تركيا. وترافق مع تيودورس، أسقف المصيصة. وكيرلس اسقف الاسكندرية، وقبله اثناسيوس، قرأا الكتاب في مدرسة الاسكندرية التي اشتهرت بتعمقها في دراسة الكتاب المقدّس منذ اوريجانس، بل قبل اوريجانس مع فيلون فيلسوف الاسكندرية. بل قبل فيلون مع الترجمة السبعينية، أي ترجمة التوراة، من اللغة العبرية إلى اللغة اليونانية منذ القرن الثالث ق م. وعمل فيها، كما يقولون، سبعون عالماً على عدد شعوب الأرض.

في عالم التخصّص الذي أخذ يسيطر على العلوم في أيامنا، عرفت دراسات الكتاب المقدس تفرّعات عديدة، أشارت إليها الرسالة التي أرسلتها اللجنة الكتابيّة في رومة سنة 1993: قراءة البيبليا في الكنيسة. تحدّثت عن القراءة النقديّة التاريخيّة. وهو أسلوب عُرف منذ القرن الثامن عشر. نربط الكتاب المقدّس بالتاريخ المعاصر، ونحلّل النصوص لكي نكتشف مختلف التقاليد التي دخلت عليها. النقد تمييز ونظر بحيث لا نأخذ النصّ بشكل أصوليّ وكأنه وصل إلينا حرفيا. فهذا النص كُتب مرّة أولى ثم مرّة ثانية ومرة ثالثة، قبل أن يصل إلى صيغته النهائيّة، بعد المنفى البابلي، سنة 538 ق م. ذاك كان الوضع بالنسبة إلى سفر التثنية أو نبوءة اشعيا.

وقُدّمت القراءة البنيويّة: كيف بُني النصّ بناء محكماً. والقراءة السرديّة التي تنظر في النص المرويّ لكي تستخلص الفكرة الأساسيّة. وقراءة تصل إلى الرموز لتكتشف ما وراء حرفيّة النصّ... وهناك قراءات تتصل بالمحيط الذي يعيش فيه المؤمن. ففي أميركا الجنوبيّة حيث يقرأون سفر الخروج أو نبوءة اشعيا، يحاولون أن يدخلوا في مسيرة التحرّر التي يريدها الربّ لجميع الشعوب ولكل الأفراد. والمرأة التي تساوت مع الرجل في الحقوق والواجبات، أقلّه على مستوى النصوص التشريعيّة المدنيّة، أرادت أن تقرأ النصّ الملهم على أنه يتوجّه إليها أيضاً، لا إلى الرجل وحده.

قراءات عديدة للنصّ الواحد. ولكلّ قراءة غناها ومحدوديّتها. أما المقياس بالنسبة إلى المؤمنين، فهو أن تصبح الكلمة قريبة منهم. يتناولونها بأيديهم، بعيونهم، بآذانهم، بقلبهم. ليست هذه الكلمة في السماء فيستحيل علينا الوصول إليها. ولا هي في أعماق البحر بحيث نستصعب أن نمسك بها. لهذا، فقراءتنا في هذا الكتاب «من الخلق والآباء إلى المسيح» تحاول أن تكشف المعنى الروحي لهذه المقاطع الكتابيّة. ثم تربطها بالمسيح وبالكنيسة وبحياة المؤمن اليوم، في القرن الحادي والعشرين. هكذا فعل الآباء في أيامهم. ونحن نحاول أن نقتفي آثارهم. والله هو الذي يبارك محاولتنا.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM