الفصل 4: الرسالة الأولى إلى كورنتس

الرسالة الأولى إلى كورنتس

إذا عدنا إلى التقليد المخطوطيّ، نعرف أنّ الرسالة إلى رومة بدت بشكل عرض تعليميّ عن المسيحيّة. أمّا الرسالة الأولى إلى كورنتس، فهي كما نقرأها اليوم كتاب خلقيّة إنجيليّة: كيف يتصرّف المؤمن في مختلف الحالات التي تواجهه في الكنيسة، في رعيّة كورنتس أو في مجمل رعايا كورنتس. إنّ سياق الاتّصال الذي جعله الرسول هو بشكل مفارقة: أرسلت الرسالة أوّلاً إلى كورنتس. وأجابت على عدد من الأسئلة المحدّدة: مثلاً، هل يحقّ للرجل أن يمسّ امرأته، وزمان مجيء المسيح صار قريبًا (7: 1). كيف التعامل مع ذبائح الأوثان وما يقدَّم فيها من لحم للطعام (8: 1)؟ ماذا عن المواهب الروحيّة، وما هو مركز التكلّم بالألسنة (12: 1)؟ ثم هناك أسئلة خاصّة برزت في كورنتس: مركز الصليب لدى المسيحيّ، بعد أن حسبه الجاهلون حماقة (1: 11). الفوضى في عشاء الربّ، حيث لا يستحقّ الكورنثيّون التهنئة بل اللوم (11: 17ي). بعد أن آمنتم بقيامة المسيح من بين الأموات، كيف يتجرّأ بعضكم فيقول: لا قيامة للأموات (15: 12)؟

رسالة كُتبت إلى كنيسة خاصّة، كما إلى المسيحيّين في أيّ مكان كانوا. كُتبت إلى كنيسة الله التي في كورنتس (1: 2أ)، وإلى جميع الذين يدعون اسم الربّ يسوع المسيح في كلّ مكان (1: 2ب). ونستطيع القول إنّ كورنتس الأولى تشكّل، في تاريخ المسيحيّة، أوّل كتاب كاثوليكيّ ومسكونيّ في الحياة المسيحيّة.

1- بنية الرسالة ومضمونها

هذه الرسالة مبنيّة بناء واضحًا. في قسم أوّل نتعرّف إلى أساس المسيحيّة وإلى شروط إيصال الإيمان بيد الرسل (1: 1-4: 21). ويعالج القسم الثاني عددًا من المسائل الخلقيّة (5: 1-11: 1). ويتكرّس القسم الثالث للحياة العباديّة في الكنيسة (11: 2-14: 40). أمّا القسم الرابع والأخير فيتضمّن أطول توسّع قدّمه بولس حول قيامة الموتى (ف 15).

ويتحدّد كلُّ قسم من الرسالة بشكل واضح، صريح.

أ- القسم الأوّل

بعد عنوان الرسالة والتحيّة إلى المؤمنين وصلاة الشكر التي تتضمّن عددًا من المواضيع سوف تعود في جسم الرسالة. تبدأ الرسالة بنظرة أساسيّة حول جوهر المسيحيّة، وظروف الكرازة بالإنجيل كرازة رسوليّة، ما الذي دفع الرسول إلى تدوين رسالته مع أنّه قضى في كورنتس سنة ونصف السنة، فتأسسّت جماعات عديدة فيها؟ وصلت إليه معلومات تقول إنّ كنيسة كورنتس هي موضع انقسامات: أحزاب مختلفة تربط نفسها بهذا الرسول أو ذاك. انطلق بولس من وضع ملموس في الكنيسة فجعلنا نغوص في عمق الإنجيل البولسيّ بشفافيّته وكثافته، متوقّفين عند جانب خاصّ من جوانبه.

نستطيع أن نقابل هذا التوسّع بجسم الرسالة إلى رومة أو إلى غلاطية. فالعرض الذي لا يقدّم إلى مسيحيّين من أصل يهوديّ، بل إلى مسيحيّين في بلاد اليونان أو تحضّروا بالحضارة الهلّينيّة، إلى جماعات جاءت من المسيحيّة وتكوّنت منذ فترة قصيرة. لهذا، ما عاد الرسول إلى مقولات اليهوديّة حول البرّ والشريعة والإيمان، كما عمل مثلاً في روم 1: 16ي، أو في غل 2: 11ي، بل هو يقدّم براهينه منطلقًا من مدلولي الحكمة والجهالة، من مدلولي القوّة والضعف. فالإنجيل هو كرازة الصليب. هو جهالة للذين يهلكون، وقدرة الله للذين يؤمنون.

فالفكرة التي تقف في خلفيّة لاهوت الرسول هي: بما أنّ العالم رفض أن يتعرّف إلى الله بحكمته وفي حكمته، عزم الله أن يجعل نفسه جاهلاً ويكشف هويّته في مفارقة الصليب كما يصل إلى البشر."فالبشارة بالصليب "جهالة" عند الذين يسلكون طريق الهلاك. وأمّا عندنا نحن الذين يسلكون طريق الخلاص، فهو قدرة الله. فالكتاب يقول: سأمحو حكمة الحكماء، وأزيل ذكاء الأذكياء" (1: 18-19). وينهي الرسول في آ 25: "فما يبدو أنّه جهالة من الله، هو أحكم من حكمة الناس، وما يبدو أنّه ضعف من الله، هو أقوى من قوّة الناس".

وجهالةُ الله هذه تحدّد الطريقة التي بها تكوّنت جماعة كورنتس قال لهم الرسول: "ما كان فيكم كثير من الحكماء بحكمة البشر، ولا من الأقوياء والوجهاء فالله اختار ما يعتبره العالم جهالة ليخزي الحكماء، وما اعتبره العالم ضعفًا ليخزي الأقوياء" (1: 26-27). وهذه الجهالة سرّ يحمله الرسول. قال لهم: "شئتُ أن لا أعرف شيئًا، وأنا بينكم، غير يسوع المسيح، بل يسوع المسيح المصلوب. وكنتُ في مجيئي إليكم أشعر بالضعف والخوف والرعدة" (2: 2-3). مثل هذه الجهالة في نظر العالم، هي الحكمة الحقيقيّة. "ولكن هناك حكمة نتكلّم عليها بين الناضجين في الروح، وهي غير حكمة هذا العالم ولا رؤساء هذا العالم، وسلطانُهم إلى زوال. بل هي حكمة الله السرّيّة التي أعدّها الله قبل الدهور، في سبيل مجدنا" (2: 6-7).

أمّا النتيجتان اللتان تصوّران عن انقلاب صورة الله هذه، فهما: أوّلاً: الوسيط واحد وهو يسوع المسيح. هو صُلب من أجلنا. باسمه اعتمدنا، لا باسم بولس ولا باسم بطرس أو أبلّوس. فالمؤمنون هم لله، لا لإنسان من البشر. وعلاقتهم بالله تمرّ بالروح الذي فيهم. "أما تعرفون أنّكم هيكل الله، وأنّ روح الله يسكن فيكم؟ فمن هدم هيكل الله، هدمه الله، لأنّ هيكل الله مقدّس، وأنتم أنفسكم هذا الهيكل" (3: 16-17). والنتيجة الثانية: لا يستطيع الرسول أن يفهم عمله، إلاّ كخدمة المصلوب. "فليعتبرنّا الناس خدّامًا للمسيح، ووكلاء أسرار الله. وكلّ ما يُطلَب من الوكلاء أن يكون كلُّ واحد منهم أمينًا" (4: 1-2).

ب- القسم الثاني

تكرّس القسمُ الثاني، وبدون انتقالة، إلى كلام حول مسائل ثلاث برزت في كورنتس. المسألة الأولى: تقبّلت الجماعة في حضنها أخًا يعيش مع امرأة أبيه. "شاع في كلّ مكان خبر ما يحدث عندكم من زنى، وهو زنى لا مثيل له عند الوثنيّين" (5: 1). هو زنى الأقارب. فالشرع اليهوديّ لا يقبل به. ولا الحقّ الرومانيّ. والمسألة الثانية: دعاوى الأخوة لدى القضاة الوثنيّين. "أنتم تقاضون بعضكم بعضًا، وهذا عيب!... أما تعرفون أنّ الظالمين لا يرثون ملكوت الله" (6: 7، 9). والمسألة الثالثة: هناك مؤمنون يزورون البغايا. يأخذون "أعضاء المسيح" ويجعلون "منها أعضاء امرأة زانية" (6: 15). وبعد ذلك، يبرّرون أنفسهم. فالزنى حاجة لدى الإنسان مثل الطعام والشراب! أيّة خلقيّة هي هذه الخلقيّة!

استندت تعليمات الرسول إلى قداسة الجماعة، إلى قيمة الجسد الذي هو عضو المسيح وهيكل الروح القدس، إلى النظرة البولسيّة إلى الحرّيّة المسيحيّة: "كلّ شيء يحلّ لي"، باسم الحرّيّة المسيحيّة، لا بأس. "ولكن ما كلّ شيء ينفع. كلّ شيء يحلّ لي، ولكنّي لا أرضى أن يستعبدني شيء" (6: 12).

وكانت الأجوبة العمليّة: "سلّموا هذا الرجل إلى الشيطان، حتّى يهلك جسده فتخلص روحه في يوم الربّ" (5: 5). في الواقع، هذا الخاطئ سلّم نفسه إلى الشيطان، إلى الخطيئة والموت. تتركه الجماعة فيعرف إلى أيّ درك انحدر، شأنه شأن الابن الأصغر في إنجيل لوقا (15: 11ي). وبعد ذلك، يعود إلى نفسه، فيكون هنا "الحرم" والإبعاد بمثابة دواء يوجّهه نحو الخلاص.

ثمّ قال بولس: "أما هو خير لكم أن تحتملوا الظلم؟ أما هو خير لكم أن تتقبّلوا السلب" (6: 7). وتتأفّفون وكأنّ الظلم يلحقكم! في الواقع، أنتم تظلمون، أنتم تسلبون، فأين العطاء المجّانيّ الذي علّمكم يسوع: "إن أحسنتم إلى المحسنين إليكم، فأيّ فضل لكم"؟ بل "أحسنوا، وأقرضوا، غير راجين شيئًا" (لو 6: 33-35).

وتجاه الوضع الثالث الذي فيه يئس المؤمنون أنّهم تقدّسوا، تبرّروا، نبّههم بولس: "اهربوا من الزنى! فكلّ خطيئة غير هذه يرتكبها الإنسان، هي خارجة عن جسده. ولكنّ الزاني يُذنب إلى جسده. ألا تعرفون أنّ أجسادكم هي هيكل الروح القدس، الذي هو فيكم، الذي هو هبة من الله؟ فما أنتم لأنفسكم،، بل لله. هو اشتراكم ودفع الثمن. فمجّدوا الله في أجسادكم" (6: 18-20).

ج- القسم الثالث

هذا القسم هو أطول الأقسام في الرسالة. وهو مبنيّ بسلسلة من الأسئلة طرحتها كنيسة كورنتس على رسولها. في 7: 1، نعرف أنّ كنيسة كورنتس بعثت برسالة تبدأ بعبارة: "وأمّا من جهة" (7: 1). هي بداية عدد من المواضيع. لهذا تعود أكثر من مرّة (7: 25؛ 8: 1؛ 12: 1؛ 16: 1، 12).

المجموعة الأولى من الأسئلة التي طرحها الكورنثيّون تتعلّق بالزواج والبتوليّة وبراهين الرسل تستند إلى موضوع الحرّيّة. انطلق الرسول أوّلاً من وجهة نظر كريستولوجيّة. بما أنّ الحريّة الحقيقيّة تقع تحت سيادة المصلوب، وتحت دينونة الله وحدها وبرّه، فهي ولادة الخليقة الجديدة، التي يحبّها الله وينظر إليها كما هي، لا بالنظر إلى صفات تتحلّى بها. ثمّ انطلق من وجهة إسكاتولوجيّة. بما أنّ النهاية قريبة، حيث البشر لا يزوّجون ولا يتزوّجون (مت 22: 30)، فلماذا الزواج بعد، ولماذا الحياة الزوجيّة؟ البتوليّة تصبح أفضل من الزواج. فلماذا يزوّج الرجل ابنته؟ لماذا يتزوّج الشابّ أو الفتاة؟ ثمّ، ألا تكون العفّة الحلّ الأنسب؟ ولكنّ جواب بولس جاء عمليًّا: "لا يمتنع أحدكما عن الآخر إلاّ على اتّفاق بينكما وإلى حين، حتّى تتفرّغا للصلاة. ثمّ عودا إلى الحياة الزوجيّة العاديّة، لئلاّ يعوزكم ضبط النفس، فتقعوا في تجربة إبليس" (7: 5).

أجل، كلّ واحد يُدعَى ليكون حرًّا في الحالة التي وُجد فيها حين دعاه الربّ. وإن كان المؤمن حرًّا، فلأنّه عبد ليسوع المسيح. "فمن دعاه الربّ وهو عبد، كان للربّ حرًّا. وكذلك من دعاه المسيح وهو حرّ، كان للمسيح عبدًا. والله اشتراكم ودفع الثمن. فلا تصيروا عبيدًا للناس" (7: 22-23). هي حرّيّة الخيار. قد نستمع إلى رأي أو نصيحة. ولكن لا أحد يكرهنا أن نتّخذ موقفًا في هذا المجال. وكما لا نكون عبيدًا للناس، فلا نكون عبيدًا للزمن الذي نعيش فيه: نترك الخوف جانبًا. فمثل هذا الخوف يمنعنا من التصرّف بحسب ما أعطانا الله. والتجرّد يبقى الموقف الأهمّ.

المجموعة الثانية من الأسئلة تشير إلى الموقف الواجب اتّخاذه تجاه أكل اللحم. "أمّا من جهة ذبائح الأوثان" (8: 1). "وأمّا الأكل من ذبائح الأوثان" (آ 4). هي مسألة خيريّة تُطرَح على مسيحيّي كورنتس: قسم كبير من اللحم الذي يُباع في السوق، يأتي من ذبائح الهيكل الوثنيّة. والمؤمن لا يستطيع أن يعرف. وطُرح أكثر من سؤال: كيف نتصرّف حين نكون في زيارة، فيقدّم لنا لحمٌ لا نعرف من أين جاء؟ هل نحن أحرار في شراء اللحم في السوق؟ ما الموقف الذي نتّخذه حين نُدعى إلى وليمة تنحَر فيها ذبائح وثنيّة؟

قدّم بولس ثلاثة أحوبة ورافقتها ثلاث قواعد. الأوّل، الإيمان الذي يعترف بإله واحد هو الآب، وبربّ واحد يسوع المسيح، هو حرّ لأنّه يعرف أن لا وجود لآلهة أخرى: "لا إله إلاّ الإله الأحد" (8: 3). إذن، يستطيع المؤمن أن يأكل من أيّ لحم، لأنّ ارتباط الضحيّة بالآلهة لا يزيدها شيئًا. الثاني، غير أنّ الحرّيّة تجد حدودًا لها في احترام ضمير القريب. "يشعرون في ضمائرهم الضعيفة أنّهم تدنّسوا" (8: 7). وبالنسبة إلى الأقوياء، "الطعام (أيّ طعام) لا يقرّبنا من الله. فإن ما أكلنا لا نخسر شيئًا. وإن أكلنا لا نكسبُ شيئًا" (آ 8). والقاعدة، "فإن رآك أحد، يا صاحب المعرفة، تأكل في هيكل الأوثان. ألا يتشجّع إذا كان ضعيف الضمير فيأكل من ذبائح الأوثان؟ فتكون معرفتك أنت سببًا لهلاك هذا الضعيف... فإذا كان بعض الطعام سببًا لسقوط أخي، فلن آكل اللحم أبدًا لئلاّ أكون سببًا لسقوط أخي" (8: 10-13).

والقاعدة الثالثة: "كلّ شيء حلال، ولكن ما كلّ شيء ينفع. كلّ شيء، حلال، ولكن ما كلّ شيء يبني" (10: 23). هل نريد أن نعود إلى عبادة الأوثان؟ ولكنّ الوثن هو حجر وخشب وذهب. إذن، ليس هو بشيء. لا شكّ في ذلك. ولكنّ عبادة الوثن التي تبعدنا عن الله، تبدو وكأنّها تدعونا إلى عبادة الشياطين. لهذا قال الرسول: "إنّ ذبائح الوثنيّين هي ذبائح للشياطين، لا لله. وأنا لا أريد أن تكونوا شركاء الشياطين. لا تقدرون أن تشربوا كأس الرب وكأس الشياطين، ولا أن تشتركوا في مائدة الربّ ومائدة الشياطين" (10: 20-21). نحن قريبون جدًّا من كلام إيليّا النبيّ على جبل الكرمل: يختار المؤمن بين يهوه، الربّ الإله، وبين البعل. ولكنّه لا يقدر أن يكون مع هذا وذاك.

المجموعة الثالثة من الأسئلة تقودنا إلى الاحتفالات بشعائر العبادة. "كلّ رجل يصلّي... كلّ امرأة تصلّي" (11: 4-5): فللمرأة ذات الحقوق التي للرجل. هي تتكلّم، تتنبّأ. ولكن من أجل الحشمة، لا يكون رأسها مكشوفًا، عريانًا. وكيف تغطّي رأسها؟ بشعرها، لئلاّ يظنّها الذين لا يعرفونها "بغيًّا" آتية من "الشارع". وشدّد الرسول على "عاداتنا" و"عادة كنائس الله" (11: 16). وهكذا أراد أن يكون في جوّ التقاليد: هو تسلّمها في الكنائس التي زارها، وها هو يسلّمها إلى جماعات كورنتس: عشاء الربّ (11: 22-26). كما في مر 14: 22-25. قد نكون أمام تقليد أنطاكية اليونانيّ. خبر الظهورات من أجل اعتراف الإيمان حول قيامة الربّ: "المسيح مات من أجل خطايانا، حسب الكتب، ودُفن. وقام في اليوم الثالث، حسب الكتب، وتراءى. وهكذا ذُكرت "الكتب" للقول بأنّ الوعد المعطى للآباء قد تمّ. وذُكر حدث الموت والقيامة لإبراز البُعد الخلاصيّ. وفي 1 كور 10: 16، تُذكر الكأس والخبز، لا حسب الترتيب العاديّ، بل المعاكس. لماذا؟ لكي تُربَط هذه الآية بتلك التي تليها حول كلام عن الجسد والخبز: "فنحن على كثرتنا جسد واحد، لأنّ هناك خبزًا واحدًا. ونحن كلّنا نشترك في هذا الخبز الواحد" (آ 17).

وترد المواقف العمليّة بالنسبة إلى الاحتفالات: أعضاء الكنيسة ينتظرون بعضهم بعضًا ليشاركوا في عشاء الربّ. "فمتى اجتمعتم، يا إخوتي، لتناول العشاء، فلينتظر بعضكم بعضًا. وإذا كان أحد جائعًا، فليأكل في بيته" (11: 34). والموقف الثاني، يحترم أعضاء الجماعة التي نالها كلّ واحد، بصفته عضو المسيح. ويعرف أنّ موهبة الواحد تكمّل موهبة الآخر. "فالمواهب الروحيّة على أنواع، ولكنّ الروح الذي يمنحها واحد" (12: 4). وينتهي الكلام: "هذا كلّه يعمله الروح الواحد نفسه، موزِّعًا مواهبه على كلّ واحد، كما يشاء" (آ 11). والموقف الثالث: يخضع المتكلّم بالألسن لمعيار هامّ: بناء الجماعة، لا بناء الذات فقط (14: 4). بل إنّ معيار المعايير هو الحبّ الذي يُشرف على مواهب الروح. فلولا الحبّ، لكان الكلام نحاسًا يطنّ أو صنجًا يرنّ. وكانت المعرفة كلا شيء. "أعمال الخير بلا نفع" (13: 1-3).

د- القسم الرابع

يشكّل هذا القسم توسّعًا مستقلاًّ، وموضوعُه قيامةُ الموتى. بعد أن ذكر الرسول أنّ الاعتراف بموت يسوع وقيامته، هو أساس الإيمان المسيحيّ، بيّن أنّ لا معنى للكلام عن قيامة يسوع، إذا لم يكن وجود لقيامة الموتى. قال بعض الكورنثيّين: "الأموات لا يقومون" (15: 12). فجاء جواب بولس: "إن كان الأموات لا يقومون، فالمسيح ما قام أيضًا. وإن كان المسيحُ ما قام، فتبشيرنا باطل وإيمانكم باطل" (آ 13-14). والجواب الأخير فعل إيمان ودخول الرجاء في قلب التدبير الخلاصيّ: "لكنّ الحقيقة هي أنّ المسيح قام من بين الأموات. هو بكر من قام من رقاد الموت" (آ 20).

فقيامة يسوع هي بداية التتمّة النهائيّة التي فيها يقوم الموتى. وفيها ينال المسيح كلّ سلطان على الخليقة، فيخضعها معه لله، بعد أن تمرّدت حين تمرّد الإنسان. وهكذا تكون قيامة الموتى جزءًا من تتمّة عمل الله الخلاصيّ. حينئذٍ يتحوّل كلّ شيء، والخلائق الفاسدة تصبح لا فاسدة: البشريّ صار الروحانيّ والأرضيّ صار السماويّ. "ومثلما لبسنا صورة الأرضيّ نلبس صورة السماويّ" (15: 49).

خاتمة

تلك كانت نظرة سريعة إلى كورنتس الأولى. وقد اعتبرها بعضهم مؤلّفة من رسالتين أو ثلاث رسائل، أو أربع. جمعها أحد المدوِّنين وجعلها كتاب الخلقيّة المسيحيّة. الرسالة الأولى تتميّز بمواقفها الصلبة. دوِّنت في أفسس. والثالثة (1: 1-6: 11) تشكلّ رسالة مستقلّة. أمّا الثانية فكتبت في مكدونية. أمّا القائلون بأربع رسائل، فيرون في 1: 1-4: 21 وحدتين. ثمّ تأتي أجوبة الرسول على رسائل الكورنثيّين.

ولكن هذه تبقى فرضيّة تستند مثلاً إلى 5: 9 والكلام عن رسالة سابقة تحذّرهم من "الزناة". وإلى الموقف من اللحوم المذبوحة للأصنام: تحذير قاسٍ أو حرّيّة ضروريّة تراعي القريب. وإلى أكثر من سفر بين كورنتس وأفسس.

إنّها تبقى وحدة الرسالة هي المسيطرة. عمليًّا، المخطوطات تتضمّن الرسالة كلّها، لا أجزاء. ثمّ هناك الفنّ الأدبيّ الرسائليّ. لا يعرف العالم القديم مجموعة رسائل تصبح رسالة واحدة. والأسلوب، يمكن أن نفصل أقسام الرسالة إذا لم تُفهَم البراهين من دون تبديل في السياق. وتفرض أوضاعًا تاريخيّة مختلفة. ولكنّ هذا ليس وضعَ 1 كور. وأخيرًا، التماسك اللاهوتي. يُشرف على الرسالة وعيٌ جليانيّ، إسكاتولوجيّ، إرساليّ: تفسير الصليب. وجه يسوع المسيح. النظرة إلى الإنسان وإلى الجسد على أنّه هيكل الروح القدس وعضو المسيح، ضرورة قطع العلاقة بين الكنيسة والعالم القديم، فهم الحرّيّة الإنسانيّة.

تتنوّع الأفكار، وتختلف الأسئلة. ذاك هو غنى الرسالة الذي يعكس شخصيّة كاتبها، الذي ينطلق من أمور عمليّة ملموسة فيصل بنا إلى قمّة اللاهوت. وحده بولس الرسول يمكن أن يكون كاتبها. وهو الذي وُهب له أن يلج سرّ المسيح ويدخلنا معه.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM