أبانا

أبانا

لا بدّ من أن نتفحّص بإمعان، هل يوجد في العهد القديم صلاة واحدة تدعو الله أبًا. فحتّى الآن ورغم كلّ أبحاثنا، لم نجد بعد شيئًا من هذا. لا نريد أن نقول إنّ الله لم يُدعَ أبًا أو إنّ المؤمنين الحقيقيّين لم يسمّوا أبناء الله. ولكن لن نجد صلاة واحدة يدعى فيها الله أبًا حسب التعبير المليء بالثقة الذي نقله إلينا المخلّص.

قد يحصل مرارًا أن يدعى الله أبًا، وأن يدعى أبناء الذين جاؤوا إلى كلمة الله. مثلاً في سفر التثنية: تركت الله الذي ولدك ونسيت الربّ الذي خلقك (32: 18)، وأيضًا: أنا هو أبوك الذي امتلكك كميراثه وصنعك وخلقك (32: 6). وبعد هذا: فقد أولادي الإيمان (32: 10). وفي أشعيا (1: 2): أنجبت أولادًا، ربّيت بنين ولكنّهم تركوني. وفي ملاخي (1: 6): الابن يكرم أباه والعبد يحترم سيّده. فإن كنت أنا أباكم فأين الإكرام الذي تؤدّونه لي؟ وإن كنت سيّدكم فأين المخافة الواجبة لي عليكم؟

فإذا سمّينا الله أبًا والذين ولدوا منه أبناء لأنّهم آمنوا بكلمته يبقى أنّنا لا نجد عند الأقدمين شيئًا مقولاً عن هذه البنوّة بصورة ثابتة وأكيدة. فالمقاطع التي أوردناها تدلّ على أنّ الأبناء الذين نتحدّث عنهم هم عبيد. فالرسول يشهد على ذلك: ما دام الوارث قاصرًا فهو لا يختلف بشيء عن العبد رغم أنّه سيّد كلّ شيء، إنّه تحت سلطة المربّي والوكيل حتّى الوقت الذي حدّده أبوه (عل 4: 2-3). لقد جاء ملء الأزمنة مع تجسّد ربّنا يسوع المسيح حين نال التبنّي ذوو الإرادة الصالحة كما يعلّمنا القدّيس بولس: "لم تنالوا روح العبوديّة لتسقطوا من جديد في المخافة. لقد نلتم روح التبنّي الذي يجعلنا نهتف: أبّا، أيّها الآب" (روم 8: 15).

وإنجيل يوحنّا (1: 12) يقول: "أمّا الذين قبلوه فقد أعطاهم أن يصيروا أبناء الله وهم الذين يؤمنون باسمه". وبسبب روح التبنّي هذا أكّدت رسالة القدّيس يوحنّا الكاثوليكيّة عن أبناء الله: "كلّ مولود من الله لا يقترف خطيئة لأنّه يحمل في داخله بذارًا إلهيّة. هو لا يقدر أن يخطأ لأنّه مولود من الله" (1 يو 3: 19).

ولنقدّم الاعتبار عينه عن معنى هذه الكلمة التي يوردها القدّيس لوقا: "إذًا حين تصلّون، قولوا: أبانا". لنخف، إن لم نكن أبناء شرعيّين أن نسمّيه بهذا الآسم: قد نتعرّص لأن نزيد على كلّ خطايانا خطيئة الكفر أيضًا. وإليك فكرتي: قال بولس في الرسالة الأولى إلى أهل كورنتُس (12: 3): "لا يستطيع أحد أن يقول يسوع هو الربّ إلاّ بفعل الروح القدس"، ولا يقول أحد، متكلّمًا بفعل الروح القجدس: يسوع ملعون. فكلمة الروح القدس وكلمة الروح هما مترادفتان. ماذا يعني: ربّ بفعل الروح القدس؟ هذا ليس بواضح. فهناك آلاف المرائين وجماعة الهراطقة بل بعض الشياطين الذين قهرهم اسمه، تلفّظوا بهذه العبارة. لن يتجرّأ أحد أن يعلن أنّ كلّ هؤلاء قالوا "الربّ يسوع" في الروح القدس.

هم لا يستطيعون معًا أن يقولوا "الربّ يسوع" لأنّ الذين يخدمون كلمة الله ولا تعلن أعمالهم ربًّا سواه يؤكّدون وحدهم بالحقيقة أنّ يسوع هو ربّ. فإن كان الأمر هكذا بالنسبة إلى الأبرار فالخطأة يجدّفون على كلمة الله بفسادهم وتعلن أعمالهم: يسوع ملعون.

أمّا الذين ولدوا من الله ولا يقترفون خطيئة ويحملون في داخلهم البذار الإلهيّ فهم يبتعدون عن الخطيئة بسلوكهم يعلنون: أبانا الذي في السماوات. ينضمّ الروح القدس إلى روحهم ليشهد أنّهم أبناء الله، إنّهم ورثة الله وورثة مع المسيح. يتألّّمون معه ولكنّهم يرجون أن يتمجّدوا معه (روم 8: 16-17).

إنّ أولئك لا يقولون "أبانا" بطريقة مبلبلة بسبب سلوكهم. فمن كلّ قلبهم الذي هو ينبوع الأعمال الصالحة يؤمنون بأنّهم يبلغون إلى البرّ. وهم بانسجام يعترفون بفمهم ليبلغوا إلى الخلاص (روم 10: 10).

فكلّ أعمالهم وكلّ أقوالهم وأقوال أفكارهم التي يكوّنها كلمة الله على مثاله، تعكس صورةَ الله اللامنظور والخالق الذي "يشرق شمسه على الأشرار والأخيار ويسكب مطره على الأبرار والأشرار" (مت 5: 45). وهكذا يحملون في ذاتهم صورة الله.

إذن، القدّيسون هم صورة الصورة، لأنّ يسوع هو الصورة، ويعكسون بنوّته لا بشبه خارجيّ فقط بل بتماثل عميق. يتحوّلون بتجدّد روحيّ يصل بهم إلى أن يتشبّهوا تشبّهًا حميمًا بذلك الذي يظهر في جسد ممجَّد.

إذا كانت هذه صورة الذين يقولون بالحقيقة: أبانا الذي السماوات، من الواضح أنّ الذي يقترف الخطيئة، كما يقول يوحنّا في رسالته الكاثوليكيّة، هو من الشيطان لأنّ الشيطان خاطئ منذ البدء (1 يو 3: 8). فبذار الله الذي يثبت في النفس المولودة من جديد يحضّ ضدّ الخطيئة الذين يرسمون صورة ابنه. ولكن بذار الشيطان يفسد الذين يقترفون الخطيئة وحضوره يمنعهم من أن يتمّوا تقدّمهم الروحيّ. وبما أنّ الابن ظهر ليدمّر أعمال الشيطان، فحضور كلمة الله في نفوسنا يقدر أن يدمّر فينا أعمال الشيطان، وينتزع البذار الشرّير الذي زرع فيها ويجعل منّا أبناء الله. لا نتخيّل إذن أنّنا تعلّمنا فقط عبارة صلاة نتلوها في ساعة محدّدة. فإذا كنّا نحقّق حقًّا ما نقوله في الفريضة: يجب أن تصلّي دومًا، تصبح حياتنا كلّها صلاة متواصلة، وتعلن أبانا الذي في السماوات. ولن تكون مدينتنا على الأرض بل في السماء حيث عرش الله، لأنّ ملكوت الله يكون قد حلّ في كلّ الذين يحملون صورة الكلمة السماويّ وبهذا يصبحون سماويّين.

الذي في السماء

قيل: أبو القدّيسين هو في السماء. فلا نتخيّل الله محصورًا بشكل جسديّ وساكنًا في السماوات. فلو كان الإله محصورًا كان أصغر من السماوات التي تحتويه. غير أنّ قدرة لاهوته الذي لا يعبّر عنه يحيط بكلّ موجود ويحمله. وإذا أخذنا بعض العبارات على حرفيّتها فهي تبدو وكأنّها تؤكّد أن الله موجود في حدود مكان. ولكن يجب أن نفهمها بالمعنى العام آخذين بعين الاعتبار طبيعة الله الروحيّة. نقرأ مثلاً في إنجيل القدّيس يوحنّا (13: 1): "قبل عيد الفصح، لمّا عرف يسوع أنّ ساعته أتت ليعبر من هذا العالم إلى أبيه، وكان قد أحبّ أخصّاءه في العالم، فأعطاهم شهادة سامية عن حبّه لهم". وزاد: "وإذ عرف أنّ الآب جعل كلّ شيء في يده وأنّه جاء من الله ويعود إلى الله" (يو 13: 3). وقال أيضًا: "سمعتم أنّي قلت لكم: أنا ذاهب وأعود إليكم. لو كنتم تحبّونني لكنتم تفرحون لأنّي ماضٍ إلى الآب" (يو 14: 28) وأردف: "الآن أنا ذاهب إلى الذي أرسلني ولا أحد منكم يسألني: إلى أين أنت ذاهب" (يو 16: 5) لو فهمنا كلّ هذه العبارات عن مكان مادّيّ لوجب علينا أيضًا أن نفهم هذه العبارة مثل رفيقاتها: "أجابه يسوع: من يحبّني يحفظ كلمتي وأبي يحبّه وإليه نأتي وعنده نجعل مقامنا" (يو 14: 23).

يجب أن لا نفهم هذه الكلمات الأخيرة عن انتقال مكانيّ للآب والابن إلى ذلك الذي يحبّ كلام يسوع. ولكنّ كلمة الله تعطّف واتّضع في كرامته حين جاء إلى البشر قبل أنّه يذهب من هذا العالم إلى أبيه لكي نتأمّل فيه في كمال طبيعته ومن خلال امّحائه الإراديّ في ملء مجده. فإن اتّخذناه مرشدًا نجّانا بدورنا من كلّ شقاءاتنا. فليذهب الآن إلى الذي أرسله. ليترك كلمة الله العالم وليعد إلى الآب.

وفي نهاية الإنجيل كتب يوحنّا (20: 17): "لا تمسكيني، لأنّي لم أصعد بعد إلى الآب". يجب أن نفهم هذه الكلمة بالمعنى المستيكيّ: فالفكر الروحانيّ يتيح لنا أن نفهم بطريقة تليق بالله صعود الابن نحو الآب كصعود الروح لا كصعود الجسد.

فسّرت كلمات "أبانا الذي في السماوات" لكي أبعد النظرة البسيطة لدى الذين يتخيّلون الله موجودًا في السماء كما في مكان، ولكي أرفض القول إنّ الله موجود في موضع مادّيّ (وهذا يعني أنّ له جسدًا مادّيَّا وومقسّمًا وقابلاً للفساد). فكلّ جسد يقسم ويفسد ويكون مادّيًّا. إذًا من الضروريّ أن نفهم أنّ الله هو من طبيعة غير مادّيّة.

قبل تجسّد المسيح بدت الكتب المقدّسة تقول مرارًا عن الله إنّه مرتبط بمكان. ولا يبدو من النافل أن نورد بعض هذه النصوص لتنير الذين يظنّون أنّ الله الساميّ ينحصر في موضع مقيّد ومحصور. أوّلاً في سفر التكوين. قال الكتاب: "سمع آدم وحواء صوت الربّ الإله الذي كان يتمشّى عند المساء في الجنّة. فاختبأ آدم وحواء من وجه الربّ وسط أشجار الجنّة" (تك 3: 8). نسأل الذين لا يلجون كنوز الكتاب المقدّس، بل لا يقرعون بابها، كيف أنّ الربّ الإله الذي يملأ السماء والأرض، والذي يحسبون أنّ السماء عرشه والأرض موطئ قدميه، كيف يستطيع أن ينحصر في مكان ضيّق بالنسبة إلى السماء والأرض؟ كيف أنّ هذا الفردوس الذي يتخيّلونه مادّيًّا ليس ممتلئًا من الله؟ وهل هو أكبر من الله بحيث أنّ الله يقدر أن بتمشّى فيه ويُسمع وقع قدميه؟

ومن الخطأ أيضًا أن نفكّر أنّ آدم وحوّاء اختبأا من وجه الله وسط أشجار الجنّة لأنّ عصيانهما جعلهما يرهبان الربّ. والنصّ لا يقول إنّهما أرادا أن يحتبأا بل إنّهما اختبأا حقًّا. فكيف يستطيع الله أن يسأل: أين أنت؟ ما هو جواب هؤلاء المفكّرين؟

لقد عالجنا مطوّلاً هذه المسائل حين شرحنا سفر التكوين. يكفينا الآن، ولئلاّ نفعل مسألة مهمّة أن نذكر كلمة الله: "أسكن فيهم وأسير في وسطهم" (خر 28: 8). فنزهته وسط القدّيسين تشبه نزهته في الجنّة: كلّ الخطأة يختبئون من أمام الله، يهربون من زيارته ويميلون عن حضوره. وهكذا ابتعد قايين من أمام وجه الربّ وسكن في أرض نود تجاه عدن (تك 4: 16). ألله يسكن في السماء كما يسكن في القدّيسين، أكان القدّيس الذي يحمل صورة الإنسان السماويّ أو المسيح الذي يحمل كلّ مشاكل السماء وغيومها المخلّصة أو القدّيسون الذين هم في السماء كما قيل: "إليك رفعت عينيّ يا ساكن السماء" (مز 123: 1). وفي سفر الجامعة (5: 1): "لا تقل شيئًا من دون تفكير ولا يسرع قلبك فيتلفّظ بأقوال أمام الربّ. فالربّ هو في السماء وأنت على الأرض. إن هذه الكلمات تعبّر عن المسافة التي تفصل الكائنات المحصورة في حدود جسديّة عن الكائن الذي هو مع الملائكة وقرب القوّات المقدّسة والمسيح نفسه. والمسيح هو على ما يبدو عرش الله المسمّى بالاستعارة سماء، والكنيسة هي موطئ قدميه المسمّاة بالاستعارة أرض.

أوردنا بعض أقوال العهد القديم التي تبدو وكأنّها تربط الله بمكان لنقنع قرّاءنا قدر استطاعتنا أنّ عليهم أن يفسّروا الكتاب الإلهيّ تفسيرًا روحيًّا وساميًا، حين يعلم أنّ الله موجود في مكان ما. كان من اللائق أن نعرض هذا بمناسبة الكلمات: أبانا الذي في السماوات، وهكذا نعارض بين جوهر الله وكلّ الخلائق. فللكائنات التي لا تشاركه تعطى قوّة ودفق من اللاهوت.

ليتقدّس اسمك

قد تعني هذه العبارة: أو أنّ ما طلب لم نحصل عليه. أو أنّ الذي عليه يطلب أن يدوم له. ولكنّ كلمات متّى ولوقا تدعونا إلى القول: ليتقدّس اسمك فتبيّن أنّ اسم الله لم يتقدّس بعد. ولكن يعترض معترض: كيف يستطيع إنسان أن يطلب أن بتقدّس اسم الله وكأنّه لم يقدَّس؟ لنرَ ما يعني اسم الآب وماذا يعني تقديسه.

يدلّ الاسم على الطبيعة الخاصّة والتي لا جدال فيها لكائن مسمّى. فطبيعة الرسول بولس الخاصّة تجعل نفسه وروحه وجسده أن يكون هكذا. وهذه الطبيعة الخاصّة والسرّيّة التي تمنع أيّ شخص أن يماثل بولس نعبّر عنها باسم بولس. وهناك أشخاص تتبدّل عندهم الصفات الخاصّة والأسماء فأبرام سمّي إبراهيم أو سمعان بطرس، وشاول الذي اضطهد يسوع دعي بولس.

أمّا الله الذي لا يتغيّر ولا يتبدّل فليس له إلاّ اسم واحد. إنّه الكائن كما أعطي له في سفر الخروج. نجهد كلّنا لنفكّر بالله لنفهم طبيعته (قليلون هم الذين يقدرون أن يفهموا قداسته). تعلّمنا صلاة يسوع أنّ الله قدّوس لتجعلنا نكتشف قداسته كخالق وعناية وديّان يختار ويترك. يتقبّل ويرذل، يكافئ ويعاقب كلّ واحد حسب استحقاقاه. هذا ما يميّز صفة الله الخاصّة التي سمّيت في رأيي باسم الله في الكتب المقدّسة. نحن نقرأ في سفر الخروج (20: 7): "لا تتلفّظ باسم الربّ إلهك بالباطل". وفي سفر التثنية (32: 2-3): "لتكن كلمتي منتظرة كالمطر ولتنتشر أقوالي كالندى كالمطر على العشب وكنقطة الماء على الخضير لأنّني دعوت اسم الربّ". وفي المزامير (45: 18): "يذكرون اسمك من جيل إلى جيل". فالذي لا يهتمّ بأن يجعل نظرته لا تنسجم مع ما هو حقّ، فهذا يتلفّظ باسم الله باطلاً.

وبفضل هذا الاسم يكون للكلمات فاعليّة المطر وتقدر أن تحمل الثمر إلى نفوس السامعين وتغذّي كالندى وتقوّي السامعين كالمطر الخيّر أو كنقطة الماء التي تنبت العشب. يفكّر الإنسان في نفسه أنّه إذا أراد أن ينجح في عمله فهو يحتاج إلى الله، لهذا يدعوه على أنّه موزّع كلّ خير. فمن فهم وكأنّه يتعلّم من إنسان، أو من اكتشف أسرار الله فهو يتذكّر الأمور الإلهيّة قبل أن يتعلّمها.

فعلى الذي يصلّي أن يفكّر ويطلب أن يتقدّس اسم الله حسب كلمة المزامير (30: 2): "ليعظم اسمه في ذاته". يطلب منّا المرتّل أن ننسجم مع الروح عينه لنعجّل فنتعمّق في معرفة الله الحقيقيّة والسامية. فمن عظّم اسم الله في ذاته شارك في الفيض الإلهيّ وولد منه، وتسلّط على أعداء يسرّون بسقوطنا. هنا تتعظّم قوّة الله كما يقول المزمور 30: "أعظّمك يا ربّ لأنّك فكرت فيّ ولم تترك أعدائي يشمتون بي". نحن نعظّم الله حين نبني له مسكنًا باسمه حسب عنوان المزمور عينه: مزمور نشيد لتدشين بيت داود.

وبالنسبة إلى الكلمات "ليتقدّس اسمك" ولغيرها التي تليها نزيد أنّ صيغة الأمر تحلّ محلّ التمنّي عند الكتّاب الملهمين. مثلاً في المزامير (31: 19): "لتصمت شفاه الكذب التي تنشر الوقاحة ضدّ البار. بدل من "اسكتي" بالنسبة إلى يهوذا: "ليأخذ المرابي كلّ ماله ولا يجد أحدًا يساعده" (مز 109: 11-12). كلّ هذا المزمور صلاة تدعو بالشرّ على يهوذا. وإذ لم يعرف طاطيانس هذه القاعدة الصرفيّة قدّم افتراضات شرّيرة على الله. فهو يفهم الكلمة "ليكن نور" كأنّها صلاة لا أمر. ويفسّر كفره فيقول: كان الله في الظلام.

يجب أن نسأله كيف يفهم عبارة "لتنبت الأرض عشبًا أخضر" أو "لتجتمع المياه التي تحت السماء في موضع واحد" أو "لتخرج المياه حيوانات حيّة تسبح في الماء" أو "لتخرج الأرض نفسًا حيّة" (تك 1: 11، 9، 20، 24). هل يتوسّل الله لكي تتجمّع في موضع واحد المياه التي تحت السماء لكي تقف على الجلد الجامد؟ أو هل يصلّي لتنبت الأرض فيتنعم بمحاصيلها؟ أيّة حاجة فيه إلى النور وإلى الأسماك ليتمنّى أن تخلق؟ "ليكن نور". هذا أمر لا تمنّ. بدا لي من الضروريّ أن أذكر تفسير طاطيانس بمناسبة هذه الصلاة التي نعبّر عنها بصيغة الأمر، لأنّه أضلّ عقولاً كثيرة فقبلت تعليمًا كافرًا عرفناه نحن في الماضي.

ليأتِ ملكوتك

ليأت ملكوتك! حسب كلمة ربّنا ومخلّصنا لا يأتي ملكوت الله بحيث يظهر للنظر ولن نستطيع أن نقول: هو هنا، هو هناك. ولكنّ ملكوت الله هو في داخلنا (إنّ كلمة في الداخل تعني في فمنا، في قلبنا). فمن الواضح أنّ الذي يصلّي ليأتي ملكوت الله يصلّي بحقّ لكي ينمو فيه ملكوت الله ويثمر ويكمل. فالله يسكن في كلّ القدّيسين الذين ملكهم الله والذين يطيعون شرائعه الروحيّة، كما في مدينة مدبّرة أفضل تدبير. فالآب حاضر والمسيح يملك مع الآب في النفس الكاملة حسب الكلمة التي ذكرناها أعلاه: "نأتي إليه ونجعل عنده مقامنا".

إنّ ملكوت الله يعني، في رأيي، حالة العقل السعيدة ونظام الأفكار الحكيمة. يعني ملكوت المسيح وأقوال الخلاص التي تتوجّه إلى السامعين كأعمال البرّ وسائر الفضائل الكاملة. فابن الله هو كلمة وبرّ. أمّا رئيس هذا العالم فيستبدّ بالخطأة، لأنّ كلّ الخطأة عبيد للجيل الشرّير. هم لا يستسلمون إلى الذي قدّم ذاته بإرادته من أجل خطايانا لينتزعنا من شرّ العالم الحاضر حسب مشيئة إلهنا وأبينا كما كتب في الرسالة إلى غلاطية (1: 4).

فالذين يستبدّ بهم رئيس هذا العالم لأنّهم خطئوا، يعيشون في حكم الخطيئة. ولهذا يأمرنا بولس أن نهزّ نير الخطيئة: لا تملك الخطيئة في جسدكم المائت لتجعلكم تطيعون شهواته (روم 6: 12).

ويقول معترض عن هاتين الطلبتين "ليتقدّس اسمك، ليأتِ ملكوتك": إذا طلبنا ونجحنا في أن نستجاب، من الأكيد أن اسم الله سيكون مقدّسًا وملكوته سيأتي بالنسبة إلى البعض. ولكن كيف يقدرون أن يواصلوا طلب خيرات حصلوا عليها فيقولون من جديد: ليتقدّس اسمك، ليأتِ ملكوتك؟

وهنا نحن نردّ على هذا الاعتراض. إنّ الذي يصلّي لينال المعرفة والحكمة، فهو على حقّ بأن يطلبهما لأنّه سيحصل على كنوز معرفة وحكمة أغنى، وهي تتيح له أن يعرف الجزء المحفوظ للزمن الحاضر بانتظار أن يكشف له لاحقًا الكامل الذي يحلّ محلّ الجزئيّ حين يقف العقل أمام الأشياء المعقولة فيلجها بحواسه. وإنّ اسم الله لن يتقدّس تقديسًا كاملاً، ولن يأتي ملكوته لكلّ منّا بطريقة كاملة إلاّ حين تكتمل فيها المعرفة والحكمة وسائر الفضائل. نحن نسير نحو الكمال إذ نسينا الطريق التي قطعناه وانشددنا إلى الأمام بكلّ كياننا (فل 3: 13).

ويصل ملكوت الله إلى كماله فينا نحن السائرين بدون تعب، حين تتمّ كلمة الرسول: حين يخضع للمسيح كلّ أعدائه يسلَّم المُلك إلى الله الآب ليكون الله كلاًّ في الكلّ (1 كور 15: 24-28). ولهذا نصلّي دومًا باستعارات مؤلّهة مع الكلمة فنقول لأبينا الذي في السماوات: ليتقدّس اسمك، ليأتِ ملكوتك.

ونلاحظ أيضًا بمناسبة الحديث عن ملكوت الله: ليس من الممكن أن نصالح بين البرّ والإثم، بين النور والظلمة، بين المسيح وبليعال. كذلك لا يمكن أن يتصالح ملكوت الخطيئة مع ملكوت الله. فإذا أردنا أن يملك الله علينا، فلا نسمح أن تملك الخطيئة على جسدنا المائت. لا نتبع نداءات الخطيئة التي تجتذب نفسها إلى أعمال الجسد وإلى الأفعال الغريبة عن الله. لنمت أعضاءنا اللحميّة لننتج ثمار الروح. والربّ يتنزّه فينا كما في فردوس روحيّ ويملك وحده فينا مع مسيحه على يمين القدرة الروحانيّة التي نطلبها إلى أن يصبح أعداؤه موطئًا لقدميه وأن يزول عنّا كلّ قوّة وكلّ سلطان وكلّ رئاسة. كلّ هذا يتحقّق في كلّ منّا ويُغلب الموت ليستطيع المسيح أن يقول فينا: "أين شوكتك يا موت، وأين انتصارك يا حجيم" (1 كور 15: 55)؟

إذًا، يجب على ما هو فاسد فينا أن يعلن القداسة اللافساد في الطهارة والنقاوة، وما هو مائت أن يتعرّى من الموت ويكشف خلود الآب. بهذا يملك الله فينا ونملك نحن منذ الآن خيرات الولادة الجديدة والقيامة.

لتكن مشيئتك

لتكن مشيئتك على الأرض كما في السماء. إنّ لوقا بعد أن قال: "ليأتِ ملكوتك" أغفل هذه الطلبة وكتب: أعطنا كلّ يوم خبزنا الحوهريّ. إذن، سندرس الكلمات التي أوردها متّى وحده والتي تلي الأقوال السابقة. نحن الذين نصلّي لم نزل على الأرض. ونفكّر أنّ كلّ سكّان السماء يتمّون هناك إرادة الله. فنسأل لنا أيضًا أن تتمّ على الأرض إرادة الله في كلّ شيء. وهذا يحصل إن لم نفعل شيئًا خارجًا عن هذه الإرادة. وحين تتمّ هذه المشيئة بالكمال فينا على الأرض نشبه الكائنات الذين في السماء. مثلهم نحمل صورة الكائن السماويّ ونرث ملكوت السماء. والذين يأتون بعدنا على الأرض يطلبون أن يصيروا مثلنا نحن الذين نكون في السماء.

ونفهم بالمعنى الواسع كلمات متّى "على الأرض كما في السماء". فالصلاة المطلوبة منّا تكون التالية: ليتقدّس اسمك على الأرض كما في السماء، لتكن مشيئتك على الأرض كما في السماء. لقد تقدّس اسم الله على يد سكّان السماء، وهل ملك الله فيهم وصنعت إرادة الله في وسطهم؟ كلّ هذه الأشياء الناقصة لسكّان الأرض تتحقّق إن نحن عرفنا أن نصير أهلاً ليستجيبنا الله.

ويمكننا أن نتساءل عن الكلمات "لتكن مشيئتك على الأرض كما في السماء: كيف يمكن أن تصنع إرادة الله في سماء تسكنها أرواح الشرّ (تسكن الشياطين في عالم الجو: أفسس 6: 12). فكر سيف الله حتّى في السماوات (أش 34: 5)؟ ماذا كنّا نطلب أن تصنع إرادة الله على الأرض كما في السماء؟ أما نطلب بحماقة أن تقيم على الأرض أرواح الشرّ التي تسكن في السماء؟ وفي الواقع فسد كثير من الناس على الأرض بسبب الأرواح الشرّيرة التي تسكن الأماكن السماويّة.

ولكنّ الذي يفسّر السماء والأرض تفسيرًا روحانيًّا فيكتشف فيها المسيح والكنيسة (من هو عرش الآب اللائق سوى المسيح وموطئ قدميه إلاّ الكنيسة؟) يقدر أن يحلّ الصعوبة بسهولة. فعلى كلّ عضو من أعضاء الكنيسة أن يطلب أن يعمل إرادة الآب كما عملها المسيح هو الذي جاء من أجلها وأتمّها كلّها. وحين نلازمه نصبح روحًا واحدًا معه ونتمّ بذلك إرادته. بهذا تكون كاملة على الأرض كما في السماء. قال بولس: "من اتّحد بالربّ صار وإيّاه روحًا واحدًا". لا أظنّ أنّ الذين يفكّرون بانتباه في تفسيري يستطيعون أن يرفضوه.

ونقدر أن نقدّم اعتراضًا، كلام الربّ للأحد عشر بعد قيامته: "أُعطي لي كلّ سلطان في السماء وعلى الأرض". فكما أنّ ليسوع سلطان على السماء فهو يقول إنّه نال السلطان على الأرض. لقد استضاءت أمور السماء وهي الأولى بواسطة الكلمة. وحين يتمّ الجيل تتشبّه أمور الأرض بفضل القوّة الممنوحة لابن الله، بتلك التي اقتبلتها قوّة المخلّص في السماء والتي هي كاملة. فالمسيح يريد بالصلاة أن يشرك معه قرب الآب الذين علّمهم. وهكذا بعد أن تخضع الكائنات الأرضيّة للحقيقة وللكلمة تتحوّل بالقوّة التي نالها على الأرض كما في السماء، فتصبح شبيهة بالكائنات السماويّة وتعاد إلى الغبطة التي هي في مقدورها.

فإذا عنينا السماء المخلّص والأرض الكنيسة قائلين إنّ بكر كلّ خليقة الذي عليه يستريح الآب كما على عرش هو السماء، نستنتج أنّ الإنسان الذي لبس القوّة بالاتّضاع والطاعة حتّى الموت قال بعد القيامة هذه الكلمة: "كلّ سلطان أُعطي لي في السماء وعلى الأرض". فالإنسان الذي اتّخذه المخلّص نال سلطانًا على أمور السماء التي تخصّ الابن الوحيد ليتّحد بلاهوته ويشاركه فيه.

يبقى أن نحلّ الصعوبة الثانية: كيف تصنع إرادة الله في السماء بينما تحارب الأرواح الشرّيرة كائنات الأرض في الأماكن السماويّة؟

إليك جوابنا: الذي ما زال يسكن على الأرض له منذ الآن مدينة في السماء وفيها يجمع كنور: لا بسبب المكان بل بسبب الاستعدادات الداخليّة، لأنّ قلبه في السماء ولأنّه يحمل صورة الكائن السماويّ. لم يعد من الأرض ولا من العالم الساميّ والسماويّ. هكذا أرواح الشرّ لها مدينتها على الأرض وهي تعيش في السماء. تهيئ الفخاخ للبشر وتحاربهم. تكنز على الأرض وتحمل صورة الكائن الأرضيّ الذي هو بداية خليقة الربّ المصنوع ليكون لعبة الملائكة. فأرواح الشرّ هذه ليست سماويّة ولا تسكن في السماوات لأنّ استعداداتها رديئة.

وفي الختام: لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض لا تعني أنّنا نجد في السماء أولئك الذين سقطوا بالفكر مع ذلك الذي سقط من السماء كالبرق (لو 10: 18).

وحين يطلب منّا المخلّص أن نصلّي لتصنع إرادة الله على الأرض كما في السماء، فهو قد لا يأمرنا بتاتًا أن نصلّي من أجل الذين يسكنون الأرض ليصبحوا شبيهين بالذين لهم مدينة في السماء. وهكذا يرغب بكلّ بساطة أن كلّ الكائنات الذين على الأرض أيّ الأشرار والأرضيوّن، يتشبّهون بالذين لهم مدينة في السماء وصاروا سماء.

فالخاطئ، أيًّا كان، هو أرض. وإن لم يتب يصر أرضًا. أمّا الذي يعمل إرادة الله ولا يعصي شرائع الخلاص والروح فهو سماء. إذًا، إن كنّا بعد أرض بسبب خطيئتنا لنطلب من أجلنا حتّى تصلحنا إرادة الله كما أصلحت بعضًا منّا الذين صاروا سماء أو هم سماء. وإذا كنّا لم نعد في نظر الله أرضًا لنطلب أن تتمّ إرادة الله على الأرض كما في السماء أي عند الأشرار فيصيرون سماء. حينئذ لن يكون في يوم من الأيّام أرض بل يصير الكلّ سماء.

وحسب هذا التفسير، إذا صنعت إرادة الله على الأرض كما في السماء، لن تعود الأرض أرضًا. وها أنا أستعين بمثل آخر. إذا كانت إرادة الله تصنع عند المعتدلين، فالمفرطين يصبحون معتدلين وإذا صنعت عند الأشرار كما عند الأبرار صار الأشرار أبرارًا. إذًا، إن صنعت إرادة الله على الأرض كما تصنع الآن في السماء، نصير كلّنا سماء. فاللحم الذي لا ينفع شيئًا والجسم القريب منه لا يستطيعان أن يرثا ملكوت الله. ولكنّهما يرثانه إذا تحوّلا من التراب والغبار والدم إلى جوهر سماويّ.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM