تقديم

تقديم

الصلاة الربّيّة، الأبانا، صلاة الأبناء الأحبّاء، الذين يستطيعون أن يقولوا لله، كما الأطفال: أبّا، أيّها الآب. صلاة علّمها يسوع لتلاميذه. وردت عند متّى في إطار عظة الجبل والكلام عن الصلاة مع الصدقة والصوم كممارسات في العالم اليهوديّ. وعند لوقا في إطار صعود يسوع إلى أورشليم.

"وإذا صلّيتم" (مت 6: 5). هكذا بدأ كلام يسوع: صلاة في الخفية. داخل الغرفة. لا حاجة إلى أن يرانا الناس فنأخذ أجرنا من الناس. وصلاة لا يغلب فيها التكرار وكثرة الكلام فيحسبنا الناس وثنيّين أي واقفين أمام صنم لا يسمع ولا يحسّ. فالله أب وهو يعرف حاجاتنا قبل أن نسأله.

وكيف نعبِّر عن عواطف تجاه الله؟ أعطانا يسوع نموذجًا لكلّ صلاة. ننطلق من السماء، من اسم الله، من ملكوت الله ومشيئة الله. ثمّ نعود إلى حاجاتنا: الخبز اليوميّ. غفران الذنوب والخطايا، الحوار من التجربة والشرّير. بعد النداء إلى الآب السماويّ، نقرأ سبع طلبات، والرقم سبعة هو عدد الكمال. فكأنّ بيسوع أوجز في عبارات قصيرة مواضيع صلاتنا. المهمّ المهمّ الجوهريّ. أمّا الباقي فتفاصيل. وقد قال لنا يسوع: لا تهتمّوا بما تأكلون أو تشربون. أطلبوا أوّلاً ملكوت الله وبرّه والباقي تزدادونه. صلاتنا هي دخول في الملكوت، في حياة الله الحميمة، وهو يعرف كيف يهتمّ بنا.

ويروي لوقا (11: 2-4) ما حدث للتلاميذ حين رأوا يسوع يصلّي. وجهه، ملامحه، نظراته، صمته العميق، إنخطافه، لا شكّ ما تجرّأوا أن يقاطعوه. انتظروا أن يُتمّ صلاته. ثمّ قالوا له: "علّمنا أن نصلّي" إذا كان يوحنّا علّم تلاميذه الصلاة التي تخرج من إطارها الضيّق، وتبتعد عن الروح الفرّيسيّة، فلماذا لا يعلّم يسوعُ تلاميذه. وهكذا فعل.

أبّا، أيّها الاب، وترد طلبات خمس: اسم الله، ملكوته، ثمّ الخبز اليوميّ وغفران الذنوب والابتعاد عن التجربة. صلاة المؤمن ليست صلاة العبيد، بل طلب صديق من صديقه. ولا بدّ من الإلحاح حتّى مع الله أبينا. هكذا نستعدّ لتقبّل عطاياه والدخول في مخطّطه. ونفهم أنّ عددًا من طلباتنا لا تروح بعيدًا فتدلّ على أنّ صلاتنا مليئة بالأنانيّة بحيث نريد من الربّ أن يلبّي حاجاتنا كابن مدلَّل بعتبر نفسه مركز العالم. بل الصلاة تخرجنا من ذواتنا، وتنسينا حاجاتنا البسيطة وتجعلنا نسلّم ذواتنا لله كما فعل يسوع على الصليب.

منذ بداية الكنيسة، كانت الأبانا صلاة المسيحيّ. هي حضور المسيح اللامنظور في قلب الجماعات التي تتكوّن هنا وهناك. وأوّل إشارة إلى الصلاة الربّيّة نقرأ في رسالة بوليكربس، أسقف أزمير (تركيا) إلى أهل فيلبّي: "تطلبون من الربّ أن يغفر لكم، فاغفروا بدروكم". كان ذلك في نهاية القرن الأوّل المسيحيّ. وفي الحقبة عينها دوِّنت الديداكيه أو تعليم الرسل. "لا تصلّوا مثل المرائين، بل حسب ما أمر الربّ في الإنجيل. صلّوا هكذا". وترد الصلاة الربّيّة كما في إنجيل متّى، وهي التي ستكون الصلاة الليتورجيّة العاديّة. وأضاف "تعليم الرسل": "صلّوا هكذا ثلاث مرّات". في الواقع اعتاد المسيحيّون أن يصلّوا ثلاث مرّات في النهار. وأساس صلاتهم تلاوة الصلاة الربّيّة: أبانا الذي في السماوات.

من أجل هذا، شرح آباء الكنيسة هذه الصلاة التي علّمنا إيّاها يسوع. يبدو أنّها كانت تتلى، منذ ترتليانس، في الليتورجيا العماديّة، فجاءت الطلبة الثانية (ليأتِ ملكوتك) على الشكل التالي: "ليأتِ روحك القدّوس ويطهّرنا". الأبانا صلاة الجماعة، قبل أن تكون صلاة الفرد ونحن لا نصلّي فقط من أجل شخص واحد، بل من أجل الشعب كلّه.

يتلون الأبانا حين قبول العماد. ويتلونا في الليتورجيا الإفخارستيّا مع مقدّمة. في ليتورجيّة القدّيس يعقوب وليتورجيّة القدّيس مرقس، كما في الطقوس السريانيّة، يُنشد المحتفل الأبانا، ويتلوها الشعب. ونورد مثلاً ما جاء في نافور الرسل الاثني عشر: "أيّها الربّ الرحيم الرؤوف، يا من هو مزيَّح فوق الكلّ ومعظَّم ومرفوع ومسبّح، أهّلنا نحن عبيدك المساكين الضعفاء أن نصلّي بنقاوة وقداسة ونهتف فنقول: أبانا الذي في السماوات.

وجاءت مقدّمة الصلاة الربّيّة في نافور القدّيس مرقس كما يلي: "أيّها الإله الآب الرحيم والعذب، أيّها الصالح والطويل الروح والرؤوف. يا من له يسجد الملائكة وعظماء الملائكة، ويسبّحونه، مع مراتب جميع اللاهوتيّين، يا من تقدّس هذه الخدمة الإلهيّة وتكمّلها وتتمّها برضاك وبنعمة ابنك الوحيد وبحلول روحك القدّوس. أنت أيضًا، أيّها الربّ، قدّسنا كلّنا فنكون لك بنين جددًا وروحيّين وأنقياء وقدّيسين، لكي بقلب نقيّ ونفس مستنيرة نتجاسر وندعوك أبًا ممجّدًا ومحبًّا للبشر، فنصلّي ونقول: أبانا.

ونقرأ أطول المقدّمات في ليتورجيّة مار يعقوب، القديمة جدًّا: "أيّها الإله، ويا أبا ربّنا يسوع المسيح. يا أبا المراحم وإله كلّ تعزية، يا جالسًا على الكروبيم ويمجّده السرافيم. يا من يقف أمامه ألف ألفٍ من رؤساء الملائكة وربوة ربوات من الملائكة العمّال الناطقين والسماويّين، يا من رتّبت القرابين منًّا والمواهب وكمال الثمار التي تقرّب لك، رائحة عذبة، فتقدّس وتكمّل بنعمة ابنك الوحيد وبحلول روحك القدّوس في كلّ شيء. قدِّس يا ربّ نفوسنا وأجسادنا وأرواحنا، لكي بقلب نقيّ ونفس مستنيرة وبوجه لا خزي فيه، نتجاسر بأن ندعوك، أيّها الإله السماويّ، والأب الضابط الكلّ والقدّوس، فنقول: أبانا.

حين نتأمّل صلاة الربّ فهي تكشف لنا موجز تاريخ الخلاص، والجواب الذي يضيء مسيرتنا بما فيها من محن وتجارب، كما يضيء رجاءنا. وصلاة الربّ أيضًا تعبِّر عن اعتراف الإيمان: فحين يقول المسيحيّون "أبّا، أبانا"، يعرفون أنّهم أبناء الله ومدعوّون إلى الملكوت الذي منحه المسيح بآلامه وموته وقيامته. وفي الوقت عينه، تحفر هذه الصلاة في نفوسنا، رغبة صادقة بأن تجتمع البشريّة كلّها، عبر مسيرة الزمن، منذ البداية إلى نهاية العالم. في حضن الآب حيث لن يكون حزن ولا صراخ ولا وجع، حيث تزول الأشياء القديمة ويكون كلّ شيء جديدًا (رؤ 21: 4-5). عندئذً نفهم فهمًا تامًّا أنّ أبا يسوع هو أبونا، وأنّ ما رجوناه في الإيمان أُعطيَ لنا في المحبّة. عندئذٍ نعرف بالعيان، لا في مرآة، أنّنا محبوبون، مولودون من الله، أنّنا نعرف الله (1يو 4: 7)، ونتّحد به في حياة لا تنتهي.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM