الحكمة وسط البشر 3: 9-4: 4

الحكمة وسط البشر

3: 9-4: 4

سفر باروك كتابٌ دوّنه عالَم الشتات اليهود، فدعا سكّان أورشليم إلى الاحتفال بليتورجيّة التوبة. المناخ مناخ الصعوبات التي عرفتها الثورة ضدّ الحكم السلوقيّ وأنطيوخس الرابع أبيفانيوس. يرتبط المؤمن بالحركة السياسيّة والعسكريّة حتّى النهاية، في رفقة المكابيّين، هل يخضع للسلطة الحاكمة وينسى أهميّة الاستقلال؟ أما هناك حكمة من نوع آخر تفهمنا أنّ الشعب قطع علاقته بالله، بسبب خطاياه، وعليه أن يعود إلى المصالحة. تأمّل المؤمن في خطايا شعبه، وفهم أهميّة العودة إلى الحكمة التي تتماهى مع الشريعة. سفر باروك كتاب يُقرأ في رفقة صوم تقوم به الجماعة بعد دمار أورشليم سنة 587 ق.م. كما في سنة 70 ب. م. بيد الجيوش الرومانيّة. وها نحن نتوقّف عند آياتٍ من هذا النصّ الطويل الذي اعتادت الكنيسة القديمة أن تقرأه في سهرة عيد الفصح.

1- بداية النصّ (3: 9-14)

9 اسمعوا يا بني إسرائيل، وصايا الحياة،

أصغوا وتعلّموا الفطنة

10 لماذا يا بني إسرائيل،

لماذا أنتم في أرض الأعداء؟

لماذا شختم في أرض غريبة؟

11 لماذا تنجّستم مع الأموات (الوثنيّين)،

وفي عداد الموتى تحسَبون

12 لأنّكم تركتم ينبوع الحكمة.

13 فلو سلكتم طريقَ الله،

لعشتم حياتكم في السلام

مدى الأيّام.

14 تعلّموا أين الفطنة،

أين القوّة وأين الفهم

حتّى تعرفوا أين الحياة وأين النور،

وأين السلام وطولُ البقاء.

2- سياق النصّ

إنّ سفر باروك الذي أُخِذ منه هذا المقطع، لا شأن له مع باروك، الذي عاش في القرن السادس ق.م. وكتب لإرميا نبوءته (إر 36: 1ي)، وتبع معلّمه إلى مصر بعد دمار أورشليم سنة 587 (إر 43: 6). نسب هذا السفر إلى سكرتير إرميا، كما نُسب كتابُ المراثي، لأنّه كان النبيّ الذي عاش ضيق شعبه كما لم يعِشْه نبيّ آخر. تألّف سفر باروك من مقاطع متأخّرة (القرنان 2-1 ق.م) أشارت إلى محن شعب إسرائيل المشتّت وسط الأمم، ورجاءه بالخلاص.

أمّا بنية السفر الحاليّة فواضحة. بعد مقدّمة متشعّبة (1: 1-14) فيها عناصر تاريخيّة فيها خروج عن الأساس، نقرأ ثلاث مجموعات رئيسيّة، وكلّ مجموعة ترتبط بفنّ أدبيّ خاصّ.

* في 1: 15-3: 8، نقرأ توبة كما في المزامير، مع اعتراف بالخطايا وتوسّلات. جاءت هذه المتتالية، في لاهوتها، قريبة من تث 28-30، من إرميا، من صلوات نقرأها في عز 9: 6-15؛ نح 1: 5-11؛ 9: 5-37. قال "موسى" في تث 28: 1:

إذا سمعتم كلام الربّ إلهكم،

وحرصتم على العمل بجميع وصاياه،

التي أنا آمركم بها اليوم،

يجعلكم فوق أمم الأرض.

وفي 28: 15:

وإن لم تسمعوا كلام الربّ إلهكم،

وتحفظوا وصاياه وفرائضه،

التي أنا آمركم بها اليوم

وتعملوا بها،

تحلّ عليكم هذه اللعنات كلّها.

وحتّى عزرا الكاهن في عز 9: 6:

يا الله إلهي،

كم أشعر بالخجل والعار

حين أرفع إليك وجهي

لأنّ ذنوبنا وآثامنا تكاثرت،

وارتفعت فوق رؤوسنا

حتّى بلغت أعالي السماء.

ونقرأ صلاة نحميا في نح 1: 5-7:

5 أيّها الربّ إله السماوات،

الجبّار، العظيم، الرهيب.

الذي تحفظ العهد،

وترحم محبّيك والعاملين بوصاياك

6 أنظر إلي واسمع صلاة عبدك،

التي أصلّيها اليوم أمامك، نهارًا وليلاً،

عن بني إسرائيل عبيدك،

معترفًا بخطاياهم التي خطئوا بها إليك

كما خطئتُ أنا وبيت أبي

7 أسأنا إليك وما عملنا بوصاياك

وفرائضك وأحكامك التي أمرت بها موسى عبدك.

* في 3: 9-4: 4 نقرأ مديح الحكمة التي تماهت مع الشريعة فكانت سبب فخر لإسرائيل. أوردنا بداية هذه المتتالية هنا.

* في 4: 5-5: 9 نقرأ خطبة تعزية. فيها توجّه النبيّ إلى الشعب لكي يلومه لأنّه ترك الإله الأزليّ وأحزن أورشليم.

4: 5 تشجّعوا، يا شعبي، يا ذكرانة إسرائيل،

6 لم تباعوا إلى الأمم لهلاككم،

بل لأنّكم أغضبتم الله،

فأسلمكم إلى أعدائكم

7 أعضبتموه وهو خالقكم،

ذبحتم للشياطين لا لله

8 نسيتم الإله الأزليّ الذي تعهّدكم،

وأحزنتم أورشليم التي ربّتكم.

9أ رأت غضب الله يحلّ بكم،

فقالت

بعد ذلك، صوّرت أورشليم نفسُها شقاء أبنائها (4: 9ب-16) في خطّ أشعيا الثاني:

4: 9ب إسمعن، يا جارات صهيون

الربّ أنزلَ بي أشدّ الفواجع

10 فرأيت سبي أبنائي وبناتي،

على يد الله الأزليّ.

11 ربّيتهم بفرح

ولكنّي ودّعتهم ببكاء ونواح

12 لا يشمتُ بي أحد،

أنا الأرملة المنبوذة من كثيرين

المهجورة من أبنائي لأنّهم خطئوا

وحادوا عن شريعة الله

13 ولم يتعلّموا فرايضه،

ولم يسلكوا طريق وصاياه،

ولم يعملوا بتعاليمه القويمة

14 تعالين، يا جارات صهيون،

واذكرن سبيَ أبنائي وبناتي

على يد الله الأزليّ

15 جلب عليهم أمةً جاءت من بعيد

أمةٌ وقحةٌ، أعجميّة اللسان

لم تحترم شيخًا، ولم تشفق على طفل

16 فأخذوا أبنائي الأحبّاء، أنا الأرملة،

واقتادوهم بعيدًا،

وتركوني وحيدة مع بناتي.

وبّخت أورشليم أبناءها وبناتها. بكت الشقاء الذي وقعوا فيه. ولكنّ الله يبقى إله الرحمة. لهذا دعت أولادها إلى التوبة والرجاء في 4: 17-19:

17 والآن كيف لي أن أعينكم؟

18 ذاك الذي أنزل بكم الويلات،

ينقذكم من أيدي أعدائكم.

19 فسيروا، يا أبنائي، سيروا

فأنا الآن متروكة، محزونة

20 خلعتُ لباس السلام

ولبستُ ثوب الابتهال

27 تشجّعوا يا أبنائي واستعينوا بالله

جلب عليكم الشرّ وهو يتذكّركم

28 وكما عزمتم أن تضلّوا عن الله،

ضاعفوا عزيمتكم للعودة إليه.

29 هو جلب عليكم المصائب،

وهو يجلب عليكم الفرح الأبديّ

بعد خلاص يقدّمه لكم.

وأخيرًا، يستعيد النبيّ الكلام، بعد أن ترك المجال لأورشليم، فيقدّم ثلاثة إرشادات استلهم فيها أش 60-62، فبشّر أورشليم بنهاية حزنها وعزلتها. في إرشاد أوّل يقول:

4: 30 تشجّعي، يا أورشليم

فالذي دعاك بهذا الاسم

سيأتيكم بالعزاء.

وفي إرشاد ثانٍ (4: 36-5: 4):

36 تطلّعي يا أورشليم إلى الشرق،

وانظري الفرح الآتي إليك من عند الله.

والإرشاد الثالث نقرأه في 5: 5-9:

5 فانهضي، يا أورشليم،

وقفي في الأعالي،

وتطلّعي من حولك إلى الشرق

وانظري أبناءك مجتمعين.

3- القصيدة الحكميّة (3: 9-4: 4)

ونعود الآن فنحلّل الموضوع الحكميّ ونبرز الأفكار الرئيسيّة التي فيه.

المقدّمة (3: 9-14) التي أوردناها في بداية هذا الفصل، تذكّرنا بنداءات سفر التثنية، كما بكلام إرميا حول ينبوع الماء الحيّ، والتقليد الذي نقرأه في يشوع بن سيراخ:

والآن، يا بني إسرائيل،

اسمعوا السنن والأحكام

التي أعلمكم إيّاها لتعملوا بها،

فتحيوا، وتدخلوا، وتمتلكوا الأرض

التي يعطيكم الربّ إلهكم (تث 4: 1؛ رج 5: 1).

وتكلّم الربّ بلسان إرميا:

شعبي ارتكب شرّين:

تركوني أنا ينبوع المياه الحيّة،

وحفروا لهم آبارًا مشقّقة،

لا تُمسك الماء (2: 13)

ونقرأ في إر 17: 13 كلام النبيّ بشكل توبيخ للشعب:

يا ربّ، يا رجاء إسرائيل

كلّ الذين يتركونك يخزون

وكأسماء مكتوبة في التراب،

لأنّهم تركوك، أيّها الربّ،

يا ينبوع ماء الحياة.

وجسم القصيدة جاء في مديح الحكمة (3: 15-4: 1) مع فكرة مركزيّة يُعلنها سؤال احتفاليّ نقرأه في 3: 15:

من وجد مسكن الحكمة؟

من ولج كنوزها؟

جاء الجوابُ أوّلاً في شكل سلبيّ (3: 16-31). ما من إنسان عرف حقًّا "طرق الحكمة" ولا "فهم سبلها". لا عظماء هذا العالم، ولا الأغنياء والمتمولّون، ولا الفنّانون الذين تفنى آثارُهم (آ 16-21):

19 تواروا كلّهم في القبور

وحلّ في مكانهم آخرون

تتوالى الأجيالُ على الأرض، ولكنّ حكمة البشر لا تنحو. والذين يعتبرون أنّهم يبحثون عنها، مفكّرو الشعب، والمشهورون بعلمهم، أقرّوا في النهاية، أنّهم لم يجدوها (آ 22-23). والرجال العظام في القدم، هلكوا في جهالتهم وجنونهم: ما كان في يدهم سوى قوّة الوحوش (آ 26-28). ولكنّنا لا نمتلك الحكمة في حرب أو قتال. ولا نشتريها بالذهب الخالص (آ 29-30).

هذا الجواب الأوّل الذي توخّى إبعاد كلّ اعتداد مفرط لدى البشر بأن يمتلكوا الحكمة، بدا ضروريًّا للكاتب من أجل توازن قصيدته. ثمّ إنّ هذا الجواب السلبيّ تطلّع إلى الحكمة فقط على مستوى الإنسان. إلاّ أنّ سمتين بدأتا القيام بتحوّل في المستوى: أوّلاً، صورة الكون "الرفيع وبلا حدود"، "بيت الله" "مكان ملكه" (آ 24-25). ثانيًا، القول بأنّ طريق العلم يعلّمها الله للذين يختارهم (آ 27).

ويتواصل الجواب الإيجابيّ ثانيًا في هذا الخطّ، فقدّم لنا الدرفة الثانية في هذه الدبتيكا (3: 32-4: 1). هذه الحكمة التي لا يصل إليها الإنسان "عرف طريقها ذاك الذي يعرف كلّ شيء، وكشفها بعقله فعمل الخلق وسلطة الله في الكون (آ 32ب-36) يشهدان أنّ الحكمة ليست سرًّا لله (آ 37أ). وما اكتفى الكاتب بالكلام عن معرفة الله الشاملة وعن قدرته. بل أراد أن يذكر قبل كلّ شيء، أنّ الله أعطى الحكمة لشعبه لأنّه خادمه وحبيبه (آ 37ب). وهذه الفكرة يُوضحها حالاً قولان يبدوان قمّة القصيدة من الوجهة اللاهوتيّة. الأوّل، تجلّي الحكمة على الأرض، وعاشت وسط البشر (آ 38). والقول الثاني، تتماهى هذه الحكمة في شكل ملموس، مع كتاب فرائض الله، مع الشريعة، التي هي ينبوع حياة، للذين يتعلّقون بها (4: 1). وهكذا تصل إلى مصبّ لاهوتيّ يفهمنا أنّ الحكمة تعبّر عن نفسها في الشريعة، وتعطي ذاتها للشريعة. إنّها امتياز من عند الله لشعبه.

ونهاية القصيدة تبرز في ثلاث آيات (4: 2-4) إرشاديّة: بما أنّ الشعب دخل، بواسطة الشريعة، في أسرار الله، بما أنّه نال، بنعمة فريدة، وحي ما يرضي الله، يبقى الله أن يعود (آ 2)، أن يمشي على ضوء هذه الشريعة نحو النور النهائيّ.

فارجعوا، يا بني يعقوب،

واحتفظوا بها في قلوبكم،

وسيروا في ضوئها لتنير طريقكم.

4- باروك والأسفار الحكميّة

إنّ لاهوت هذه القصيدة الحكميّة، يقع في نهاية تطوّر طويل مع نصّين رئيسيّين: أم 8 وأي 28. كما نجده في سي 24، الذي هو نصّ معاصر لسفر باروك.

ففي بداية القرن الخامس، قدّم أم 1-9 (آخر ما كُتب من سفر الأمثال) الحكمة على أنّها "مهندسة" ساعة الخلق، فأرانا إيّاها على الأرض، في علاقة مع الله ومع البشر:

وكنت جالسة بأمانٍ،

وفي بهجة يومًا بعد يوم،

ضاحكًا أمامه كلّ حين

ضاحكًا في أرضه الأهلة،

ومبتهجًا مع بني البشر (أم 8: 30-31)

أمّا قصيدة أي 28 حول الحكمة التي لا يطالها الإنسان، فقد جاء في هذا السفر، خلال القرن الثالث ق.م. لا شكّ في أنّها أحد المنابع البيبليّة التي استعملها با 3. ونقرأ الردّة في آ 21 وآ 30:

ولكن، هل وجدوا الحكمة،

واكتشفوا أين مقرّ الفهم (أي 28: 12)

فمن أين تجيء الحكمة،

وأين مقرّ الفهم (آ 20).

هذا ما يبرز عجز الإنسان للقاء السرّ الذي أخفاه الله في العالم. فلا الصنعة (آ 1-11) ولا الغنى (آ 15-19) يكفيان للتعرّف إلى الطريق: الله وحده عرف أين كانت الحكمة، ساعة بدأ يرتّب كلّ شيء بوزن ومعيار (آ 24-25).

في بداية القرن الثاني، عاد ابن سيراخ مرّتين إلى علاقة الحكمة مع الله، وعلاقتها مع البشر. وفي كلّ مرّة، جاء كلامه امتدادًا لاعتبارات أم 8. فأكّد حالاً بعد التوطئة، في 1: 4-10، وبشكل احتفاليّ، أنّ الله الذي خلق الحكمة قبل كلّ شيء ، أفاضها على كلّ بشر، ووهبها للذين يحبّونه (سي 43: 33) وما قيل شيء بعد شكل صريح، عن امتياز شعب إسرائيل. وفي 24: 2-12، امتدحت الحكمة نفسها: خرجت من فم العليّ، كانت خيمتها في السماء (موجودة قبل الكون لدى الله). وبحثت على الأرض، ولكن عبثًا، عن موضع راحة وسط الشعوب:

فأمرني خالق الجميع، خالقي،

وعيّن لي مسكني، وقال:

اسكني في يعقوب

ويكون إسرائيل ميراثك (24: 8).

منذ ذلك الوقت، "أقامت الحكمة في صهيون" و"تجذّرت في شعب عزيز" (آ 10-11). وهكذا تحقّقت العلاقة مع البشر. ولكن في هذه المرّة، برز الدور المميَّز لشعب الله (مز 147: 19-20) وامتزجت فكرتان، عطيّة الحكمة للبشر واختيار إسرائيل، وهكذا تجاوز 24: 23 الخطوة الأخيرة في كلام عن الحكمة ودورها:

كلّ هذا كتاب العهد

الذي قطعه الله العليّ معنا،

الشريعة التي أعطانا موسى.

وهكذا نكون قريبين من با 4: 1:

الحكمة كتاب وصايا الله،

هي شريعته الخالدة

كلّ من تمسّك بها فله الحياة

والذين يهملونها يموتون.

وهكذا نقيس الطريق التي مشيناها منذ أي 28. ساعة كانت، مع سفر أيّوب، طريق الحكمة مغلقة بشكل نهائيّ يحمل على الحزن، أكّد با 3: 37-38 (تراءت على الأرض، ومكثت بين البشر) أنّ الإنسان يجد الحكمة إن منحه الله أن يجدها. وهو يكشفها في أرض إسرائيل، لأنّ الله أعطاها عطيّة لا عودة عنها، لشعبه الحبيب. قدّمها في كلمات بشريّة حملت في الوقت عينه حبّه وإرادته، حياته ونوره.

هو تقدّم لاهوتي أوّل، وتقدّم آخر: انحصر فكر أيّوب فقط في دائرة لا تاريخيّة، في وصف الطبيعة. أمّا موضوع الحكمة في با 3، فأدخل في تاريخ الخلاص. وأخيرًا، ماهى سفر باروك بشكل واضح، الحكمة مع الشريعة، كما فعل ابن سيراخ وكما سيفعل مرارًا اللاهوت الرابّينيّ.

5- الحكمة ويسوع المسيح

هذه الحكمة العاملة في الخلق، التي جاءت تعيش وسط البشر، قد أعطاها اللاهوت المسيحيّ منذ زمان طويل اسمًا خاصًّا: يسوع المسيح، ابن الله. لسنا هنا أمام استنتاج في غير محلّه، ولا أمام استعارة مكبَّرة. فتماهي المسيح مع الحكمة الإلهيّة لا يقف فقط في خطّ التطوّر اللاهوتيّ للأسفار الحكميّة، بل أكّده العهدُ الجديد بوضوح.

في الأمثال (ف 8) وأيّوب (ف 28) وابن سيراخ (ف 24) وباروك (ف 3)، قُدّمت الحكمة على أنّها واقع وضعه الله قبل الكون، شارك بشكل سرّيّ في الخلق، ويمتلك بالتالي الأولويّة على جميع أعمال الله. تماهت الحكمة مع مخطّطات الله مع إشراف رفيع على العالم يؤمّن في كلّ مكان، النظام والتناسق. وطلبت لها حياة حميمة مع البشر، فجاءت تسكن فيما بينهم لتأخذ على عاتقها مصيرهم وتجعل لهم الله أكثر حضورًا وأكثر قربًا.

حاول سفر الحكمة (سنة 50 ق.م. تقريبًا) أن يحدّد ويغني صورة هذه الحكمة، كما رسمها سابقوه. فشدّد، أكثر ممّا فعلوا، على نشاطها الخلاّق، وربط بشكل أوثق الحكمة بالله (7: 25-26). ما قال الكاتب إنّها تمتلك جوهر اللاهوت في ملئه، ولكنّه سعى لكي يجعلها في إشعاع الله المباشر، وفي الوقت عينه، وسّع توسيعًا حقل عمل الحكمة، بحيث أصبح نشاطها قدر نشاط الله نفسه، في كلّ المجالات، سواء على مستوى الكون أو التاريخ أو قلب الإنسان. ومع أنّه تحدّث عن الحكمة أنّها "أعطيَتْ" أو "أُرسلت" (9: 4-10)، إلاّ أنّه لا يتصوّرها وسيطًا يؤمّن الاتّصال بين الله والعالم، بل هي رمز حيّ لحضور الله الفاعل.

وبمختصر الكلام، تركت لنا مجملُ النصوص الحكميّة صورة متشعّبة عن الحكمة. تميّزت عن الله لأنّها تعيش معه (حك 8: 3)، فكانت حقًّا "إلهيّة" لأنّها "صدرت عن مجد القدير" (حك 7: 25)، فدلّت في الوقت نفسه على حضور الله في الكون الذي يخلقه ويسوسه، وعلى حميميّة الله مع البشر على مدّ التاريخ. ولكن على هذا المستوى من الوحي، لا شيء يسمح لنا أن نتحدّث عن شخص. وإذا كنّا في قلب الله، عن أقنوم هو الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس.

وهكذا يبقى نصّ العهد القديم ناقصًا. فيكمّله العهد الجديد. فالأسفار اليوحنّاويّة ألقت الضوء على النصوص الحكميّة، فجعلتها من أجل المسيح، كلمة الله، وابن الله وتعطي مثلين بين أمثلة عديدة. الأوّل، وُجدت الحكمة لدى الله منذ البدء (أم 8: 22-23؛ سي 24: 9؛ حك 6: 22). فقال يوحنّا (1:1؛ 17: 7): الكلمة هو لدى الآب منذ البدء، قبل أن يُوجَد العالم. الثاني، جاءت الحكمة من السماء لكي تقيم وسط البشر (با 3: 29، 37). وقال يوحنّا عن يسوع إنّه نزل من السماء (يو 1: 14؛ 3: 13، 31)، وكشف السماويّات (3: 12) التي سمعها لدى الآب (7: 16؛ 15: 15).

وتماهت الحكمة مع يسوع الذي دعا إليه البشر: "تعالوا إليّ، أيّها المتعبون" ووعد المسيح تلاميذه بحكمة لا يقدر أحدٌ أن يقاومها (لو 21: 15). وفي النهاية دعا بولس الرسولُ، المسيح، "حكمة الله" (1 كور 1: 24)، وصورّه بسمات الحكمة في كو 1: 15-16. واستعادت الرسالة إلى العبرانيّين، في كلامها عن الابن، صورتين نقرأهما في حك 7: 25-26: "بهاء مجده وأيقونة جوهره" (عب 1: 3).

الخاتمة

إذا كان ذلك الغنى الكرستولوجيّ لموضوع الحكمة، نفهم أن يُقرأ با 3 في الليتورجيّا الفصحيّة المسيحيّة التي تنشد عمل خلاص الله من أجل شعبه. ذكّرتنا هذه القصيدة أوّلاً، مراحلَ حاسمة في مخطّط الله: الخلق والفرح الذي جعله الله في أعماله (3: 32-35). عطيّة الشريعة التي هي حياة ونور (4: 1-4). ويتكمّلُ وصفُ التاريخ المقدّس بنداءين اثنين: بحث عن ينبوع الحكمة، نور العيون والسلام (3: 12-14). العودة إلى الله في التوبة (4: 2-4): طُلب من الإنسان أن يعرف حدوده على مستوى السياسة والثقافة والصناعات والعلوم. ونُبّه من وهم القوّة العسكريّة (3: 16-31) لينفتح على حكمة يستطيع الله وحده أن يعطيها. وموضوع الحكمة التي ظهرت بين البشر لكي تقاسمهم مصيرهم، تذكّر الجماعة المسيحيّة المعنى الأخير لمخطّط الله هذا وتدعوها للتأمّل فيها على مدّ التاريخ: خلاص العالم بواسطة الكلمة المتجسّد، الذي يحمل لنا، لا الشريعة، بل النعمة والحقّ.


 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM