الوعد بالقيامة والحياة الأبديّة 12: 1-3

الوعد بالقيامة والحياة الأبديّة

12: 1-3

حين نقرأ دا 12: 1-3 وز من الضيق، نلتقي مع مر 13: 19: "فستنزل في تلك الأيّام، نكبة ما حدث مثلها منذ بدء العالم" فنصّ مر 13: 24-32 ودا 12: 1-3، ينتميان إلى الفنّ الجليانيّ الواحد، والأفق الحدود الأخيرة، في الزمن التاريخيّ. أي الزمن الذي فيه ينقلب هذا الكون ليحلّ محلّه "العالم الآتي" ويُشاهد أفقُ التاريخ هذا من نقطتين مختلفتين من المدى الزمنيّ على الأرض. في مر 13، الزمن الذي فيه يعيش يسوع. في دا 12، زمن اضطهاد أنطيوخس أبيفانيوس بين سنة 167 وسنة 164. ونقرأ نصّ دانيال (12: 1-3):

1 وفي ذلك الزمان ينفض ميخائيل،

رئيسُ الملائكة العظيم

الذي يعتمد عليه بنو شعبك،

ويكون وقتُ ضيق لا مثيل له،

منذ كانت الأمم إلى ذلك الزمان (زمن الخلاص)

ولكن في ذلك الزمان، ينمو من شعبك،

كلُّ من يوجَد اسمه مكتوبًا في الكتاب

2 وكثير من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون،

بعضهم للحياة الأبديّة،

وبعضهم للعار والذعر الأبديّ.

3 ويضيء العقلاء كضياء الأفلاك في السماء

والذين هدَوا كثيرًا من الناس إلى الحقّ،

يضيئون كالكواكب إلى الدهر والأبد.

1- سياق النصّ

إذا أردنا أن نفهم نصّ دانيال هذا، يجب أن لا ننسى الوضع التاريخيّ الذي فيه كُتب. كما نجعله في الإطار الأدبيّ الذي دُوِّن فيه.

فسفر دانيال ينتهي في لوحة جليانيّة واسعة (ف 10-12)، اصطلح الشرّاح على جعلها في جوّ ظهور ملائكيّ (10: 1-11: 1، ثمّ 12: 5-13). فالرائي الذي يحمل الكلمة إلى الكاتب، أي إلى دانيال، معاصر سبي بابل، لا يشاهد المستقبل هنا في شكل رمزيّ، كما في ف 7 مثلاً، بل يكتفي بأن يسمع كلام الملاك الذي يعلن له مسيرة الزمن.

قسمٌ أوّل من الخطبة، حول تاريخ الشرق منذ الحقبة الفارسيّة حتّى حكم أنطيوخس أبيفانيوس، واضطهاده للمؤمنين، وثورة متتيا (11: 1-39). وهكذا نصل إلى فترة حرجة تقابل الحقبة التي فيها دوّن الكاتب بلاغه النبويّ. وانطلاقًا من هنا تتوالى لوحتان: واحدة تعلن نهاية الملك المضطهِد (11: 40-45). وثانية تتطلّع إلى نهاية تاريخ الخلاص (12: 1-3).

دُوِّنت اللوحةُ الأولى بألفاظ عامّة، فجعلتنا نفهم أنّ الاضطهاد يتزايد بعد، حين الملكُ الكافر "ينصب خيام قصره بين البحار والجبل المقدّس المجيد" أي أورشليم (11: 45). في هذه الظروف نفهم أنّ المشهد الأخير ينفتح على وصف "زمن ضيق لا مثيل له" (12: 1). وبحسب النظرة الجليانيّة إلى التاريخ، التي ترى التاريخ ساحة مغلقة تتواجه فيها على الدوام قوى الخير وقوى الشرّ، إلى نقطة قطيعة يتدخّل فيها الله ليقلب الوضع من أجل أخصّائه، ويقيم ملكه على الأرض.

نلاحظ هنا أنّ الخطبة الإسكاتولوجيّة في مر 13 تستعيد الرسمة العامّة نفسها، حيث يسبقُ مجيء ابن الإنسان (آ 24-27) "رجاسةُ الخراب" (آ 14؛ رج دا 9: 27؛ 11: 31؛ 12: 11) و"الضيق الكبير" (آ 19؛ رج دا 12: 1). وامتداد زمن الكنيسة الذي بدأ بقيامة يسوع، يُبقي في الرؤيا منظار الأزمة هذا، فنقرأه أيضًا في نصوص الرسول حول الإسكاتولوجيّا (2 تس 2: 3-4؛ رج دا 11: 36: ويفعل الملك كما يشاء، ويترفّع ويتعاظم على كلّ إله).

2- نعمة الخلاص للبقيّة الباقية في الشعب

كيف يبدو مجيءُ الخلاص في هذه الظروف؟ لا شكّ في أنّنا لا نبحث هنا عن وصف تاريخيّ مسبَق: فالواقع يختفي وراء الزمن الذي يحتاج إلى إيضاح لكي نفهم معناه. أوّلاً، لن يكون الخلاصُ نتيجةَ مبادرة بشريّة، بل عطيّة من الله وحده. هذا ما ندعوه النعمة. وإذ أراد أن يُعبِّر عن هذه الفكرة، بيّن العالم الملائكيّ الذي اجتاح قلب التاريخ لينفّذ فيه قصد الله: "في ذلك الزمان، ينهض ميخائيل رئيسُ الملائكة العظيم" (12: 1). فالصراع بين الخير والشرّ يجري على مستويين اثنين: هنا على الأرض، وفي السماء. فكأنّ القوى التي تتواجه في التاريخ تجد ما يقابلها في العلاء. في بداية الرؤية الكبيرة التي تنهي هذا المقطع رأى الملاك أمامه رئيس مملكة فارس، إلى أن جاء إلى عونه ميخائيل رئيس الرؤساء (10: 13). ثمّ قام رئيس اليونان، وما انضمّ أحدٌ إلى الملاك ليقاتل هذه القوى المعادية "سوى ميخائيل، رئيسهم" (10: 26-27).

كيف نفهم بُعد هذه الصور؟ لإسرائيل وللممالك الوثنيّة مدلول يتجاوز نشاطها كقوى سياسيّة. ففي خلفيّة هذا النشاط، نحسّ بحضور الله اللامنظور وملائكته من جهة. ومن جهة ثانية، بقوى الظلام التي تُعيق مخطّط الله. وهذا مهما كان السرُّ الذي ما زال يحيط بهذا الكون الذي لا تطاله الحواسّ. المهمّ هو أن نعرف أنّ الإنسان لا يقدر أن يخلّص نفسه بقواه الخاصّة: فالله هو من ينتزع شعبه من تهديد الشرّ.

"في ذلك الزمان ينجو من شعبك..." (13: 1). في منطق الصور السابقة، نظر الكاتبُ إلى الشعب العائش حياة أرضيّة في وقت "الضيق الشديد". ويبقى السؤال: هل يسقط كلّه؟ الجوابُ المعطى يتوافق والتعليم النبويّ المعروف الذي يحتفظ "لبقيّة" إسرائيل بالمشاركة في الخلاص. أمّا المقطع الأقرب لنصّ دانيال فهو أش 4: 3:

ومن بقيَ من صهيون وتُرك في أورشليم

يقال له قدّيس فتكتبُ له الحياة

فسجلاّت المدينة الجديدة مضبوطة يوميًّا، وهي تشكّل "كتاب الحياة" حيث يُوجَد اسمنا لنشارك "في العالم الآتي".

ويستعيد سفر الرؤيا الصورة، يعبِّر عن فكرة الدينونة الأخيرة (رؤ 20: 12). وهي تتضمّن مبدأ الأعداد المسبق، بمعنى أنّ الانتماء إلى الشعب المخلِّص ينتج من إرادة الله. ولكنّ الفرز الطبيعيّ للذين "ينجون" يُتمّ بالنظر إلى موقفهم من العهد: فالاضطهاد نفسه بيّن بوضوح من هم المتجاوزون ومن هم العقلاء الذين نالوا التطهير الأخير (11: 32-35). لا يهتمّ دا 12: 1-3 بمصير الأوّلين: من المعلوم أنّهم يُرمَون في الموت مع سائر الهالكين. أمّا الأبرار الباقون، فيدخلون في الحياة. وما يلي يُوضح طبيعة هذه الحياة. حتّى الآن، لم يخرج بلاغُ دانيال من إطار الإسكاتولوجيّا النبويّة. غير أنّ ما يلي يعالج مسألة جديدة، قيامة الأفراد.

3- قيامة الأبرار

إنّ اضطهاد أنطيوخس أباد شعب الله: "فعقلاء" الشعب "سقطوا تحت السيف واللهيب والسبي والنهب" (11: 33). هؤلاء الناس الذين احتملوا الموت ليبقوا أمناء الله والعهد، هل يستبعدون، في هذه الحال، "من العالم الآتي"؟ فبقاء بقيّة الشعب شيء، والمجازاة الفرديّة شيء آخر. غير أنّ وضع الشهداء يطرح بقوّة هذه المسألة الأخيرة. أراد سفر دانيال الإجابة، فأدخل الجديدَ في التعليم التقليديّ، وطرح موضوع القيامة الفرديّة.

في حز 37: 1-14 (العظام اليابسة) وفي أش 26: 14-19 (تحيا موتاك وتقوم أشلاؤهم)، كان خروج الموتى من الشيول، الأماكن السفلى، واستيقاظهم لحياة جديدة، رمزًا يُمثّل عودة الحياة إلى شعب الله. إستعاد دا 12: 2 الصورة عينها وطبّقها على المستوى الفرديّ، وأعطاها مضمونًا وضعيًّا: "كثير من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون". هو لا يتحدّث عن جميع الموتى، بل عن بعض منهم. وكما تمّ فرز وسط الأحياء للاحتفاظ بالناجين "المسجَّلين في الكتاب"، كذلك يتمّ فرزٌ وسط الأموت، بحسب ما تقول عنهم السجلاّت السماويّة. فالذين يستيقظون من "رقاد الموت" (مز 13: 4)، هم "للحياة الأبديّة"، والآخرون هم "للعار والرذل الأبديّ" وتدلّ العبارة فقط على عقاب الموت (أش 66: 24؛ يه 16: 17). حيث يسقط الخطأة في جميع الأوقات، فينضمّ إليهم الهالكون على أثر الأزمة الأخيرة.

ولكن من الوقت الذي فيه استيقظ الأبرار الذين ماتوا من أجل الإيمان، لكي ينضمّوا إلى بقيّة إسرائيل في الحياة الجديدة، أخذت الأماكن السفلى معنى جديدًا. والذين لبثوا "في الرذل الأبديّ" حُرموا من الحياة في "العالم الحاضر"، بل يستبعَدون استبعادًا مباشرًا من "العالم الآتي"، من "الحياة الأبديّة". وبعبارة أخرى، صاروا من الهالكين. تحدّث سفر الرؤيا في هذا المجال، عن "الموت الثاني" (رؤ 20: 14-15). صارت الأماكن السفلى جهنّم في المعنى المسيحيّ. وهكذا نفهم أنّ المرذلين لن يستيقظوا لينجوا من قبضتها. أمّا المصيران اللذان بينهما تنقسم البشريّة، فحدِّدا بلفظي الحياة والموت: هذه الصفة هي تقليديّة ولكنّها تُفهَم الآن في منظار يتجاوز الحدود الضيّقة للحياة الأرضيّة.

15 أنظروا، ها أنا اليوم جعلت بين أيديكم،

الحياة والخير (السعادة)، الموت والشرّ (الشقاء)

16 فإذا سمعتم كلام الربّ إلهكم...

فأنتم تحيون وتكثرون

17 وإن زاغت قلوبكم...

تبيدون ولا تطول أيّامكم (تث 30: 15-17)

ونقرأ في سي 15: 17:

أمام الإنسان الحياة والموت،

وأيّهما يختار يُعطى له.

4- الحياة الأبديّة

إنّ السمة الأخيرة في اللوحة التي رسمها النبيّ، تشير في صور اصطلاحيّة إلى هذه "الحياة الأبديّة" التي وُعد بها المختارون "المسجَّلون في الكتاب" "الرجاء العقلاء" الذين برّروا "عددًا كبيرًا": هم يضيئون كضياء الأفلاك إلى الأبد" (12: 3). لن نتخيّل هنا خلودًا على مستوى الكواكب والنجوم، يشارك فيه القائمون من الموت. فالعبارة هي استعارة مع أداة التشبيه "مثل ضياء".

يكفي أن نذكر الطريقة التي بها تمثّل بعضُ النصوص المتأخّرة العالمَ الجديد الذي يُعدّه الله لشعبه "في الأيّام الأخيرة": "سماوات جديدة وأرض جديدة" (أش 65: 1). هذا ما يشكّل عالمًا تحوّل، تجلّى، استضاء بشكل عجيب كما قال أش 30: 26:

ويصير نورُ القمر كنور الشمس،

ونورُ الشمس يصير سبعة أضعاف.

أي كنور سبعة أيّام في يوم.

هذا العالم ينيره الله ذاته، كما قال أش 60: 19-20:

19 لا الشمس تنيرك في النهار؟

ولا القمر بضيائه ينير لك،

بل أنا أكون نورك الأبديّ،

وأنا أكون بهاءك.

20 شمسُك لا تغيب من بعد،

والقمرُ لا يُصاب بالنقصان

لأنّ الربّ يكون نورَك الدائم.

حين يدخل المختارون في هذا "العالم"، يشاركون في تحوّل الكون وتجلّيه، في هذا المعنى "تضيء" أجسادُهم وإن ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالتراب الذي أخِذت منه (تك 2: 7؛ 3: 19)، كما الأرض تتساوى مع الواقع السماويّ (حك 3: 7).

فهم في يوم الحساب يشتعلون

كنار يتطاير شررها بين القصب.

ونقرأ أيضًا عن "الحياة الأبديّة" (دا 12: 2) في حك 5: 15:

أمّا الأتقياء فيحيون إلى الأبد،

يجازيهم الربّ خيرًا، وبهم يهتمّ العليّ.

هذه الحياة تعطى لهم "فيقاسمون القدّيسين حظّهم" (حك 5: 5). أي يكونون مع الملائكة كما يقول دا 4: 10، 14. مع أنّ شيئًا ما قيل بشكل صريح عن مصير الأبرار المحفوظين للعالم الآتي (12: 1)، نستطيع القول إنّه يكون مماثلاً لمصير القائمين المنضمّين إلى الناجين من الضيق الشديد.

وهكذا أراد دانيال أن يقدّم حلاً لمسألة حرجة طرحها موتُ الشهداء، فأدخل في الوحي فكرة جديدة، جديدة، سوف يتقبّلها التقليد اليهوديّ أقلّه في أوساط الفرّيسيّين، ويكفلها يسوع في تعليمه:

41 رسل ابن الإنسان ملائكته،

فيجمعون من ملكوته المفسدين والأشرار،

42 ويرمونهم في أتّون النار،

فهناك البكاء وصريف الأسنان.

43 أمّا الأبرار،

فيشرقون كالشمس في ملكوت أبيهم (مت 13: 41-43).

ونقرأ عن قيامة الأموات في مت 22: 29-30، تجاه الصادوقيّين الذين "أنكروا" هذه العقيدة، لأنّ الأساس عندهم هو الأسفار الخمسة فقط:

29 فأجابهم يسوع: أنتم في ضلال.

تجهلون الكتب المقدّسة وقدرة الله.

30 ففي القيامة لا يزوّجون ولا يتزوّجون

بل يكونون كملائكة الله في السماء.

كلّ هذا يجد معناه في قيامة يسوع نفسه: يكون يسوع أوّل من يستيقظ ويدخل في عالم التحوّل والتجلّي، بعد أن اختبر مرارة الموت كما اختبرها الشهداء. منذ ذلك الوقت فُتحت لجميع البشر، طريقُ القيامة والحياة الأبديّة.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM