يعلمون أنّ بينهم نبيًّا 2: 1-5

يعلمون أنّ بينهم نبيًّا

2: 1-5

بعد رؤية المجد، رؤية السماء، قبل العودة إلى الهيكل (البيت الأرضيّ الذي هو موضع اللقاء بالربّ) نسمع كلام الربّ يرسل نبيَّه. هو ابن الإنسان، إنسان من الناس، إنسان عاديّ لا يقدر أن يقف على رجليه، تجاه مجد الله المخيف (1: 28). ولا يكتفي الربّ بالكلام، بل يمنح روحه لنبيّه، يمنحه قوّة إلهيّة بسبب الصعوبات التي ستواجهه. ونستطيع أن نجعل مقدّمة لهذا المقطع ما قرأناه في 1: 28: "هذا منظر يشبه مجد الربّ. فلمّا رأيتُه سقطتُ على وجهي ساجدًا، وسمعتُ صوتًا يتكلّم".

ونقرأ النصّ الكتابيّ (2: 1-5):

1 فقال لي: يا ابن البشر،

قف على قدميك فأتكلّم معك.

2 ولمّا كلّمني، دخلُ فيّ الروح،

وأقامني على قدميّ وسمعتُ صوته.

3 وقال لي: يا ابن البشر،

سأرسلك إلى بني إسرائيل،

إلى شعب تمرّدوا عليّ وعصوني،

هم وآباؤهم إلى هذا اليوم.

4 فتقول لهؤلاء البنين

الذين عاندوا وقت قلوبهم:

هذا ما قال السيّد الربّ

5 وسواء سمعوا أو لم يسمعوا،

لأنّهم شعب متمرّد،

فيعلمون أن بينهم نبيًّا.

1- قف فأتكلّم معك (آ 1)

عنصران لا يفترقان: الرؤية والكلمة. كلاهما يكوّنان خبر دعوة حوقيّا (كنبيّ. جاءت الوقائع بعد جلاء أوّل، سنة 597 ق.م.) في موضع اسمه تل أبيب. هناك فُرضت الإقامة على أهل السبي.

ساعة لم يكن التقليد يتيح لحزقيال الكاهن بأيّ أمل، بعيدًا عن الهيكل حيث يحتفلون بشعائر العبادة، وعن الأرض المقدّسة حيث الله قريب من شعبه، في تلك الساعة اختبر النبيّ صوت الله اختبارًا مباشرًا. فإنّ "مجد الله" الذي لم يعد جامدًا جمود حجارة الهيكل، بل صار متحرّكًا إذ رافق المسبيّين في طريق المنفى، هذا المجد ما زال يتدخّل في حياة شعبه من أجل قرب لم يكونوا يأملون به، من أجل صلاة إلى الله وحوار معه، حتّى في المنفى.

كان وضعُ حزقيال وضعَ الساجد العابد خلال الاحتفال بالعبادة: وجهه يلامس الأرض. وحين تدخّلت الكلمة لتناديه، أنهضه "الصوت"، فجعله محاورًا مسؤولاً، كما كان موسى في الماضي، وسيطًا ومتشفعًا (خز 24: 1ي).

إذًا، بدأ كلّ شيء في تيوفانيا، في ظهور الله وتجلّيه، ولكن لا شيء بعدُ يجعلنا نستشفّ العهدَ الذي يقدّمه. ولا ألفاظ تحدّد علاقتَه مع محاوره والذين يتضامنُ معهم هذا المحاور.

فالآن يقف إلهُ المجد وحده تجاه إنسان (ابن الإنسان) وجهًا لوجه. ولكنّ هذا الإنسان الذي هو أمام الله، لا يستطيع أن "يقف على رجليه": هو ملتصق بالأرض وكأنّه ميت. حينئذ تدخّلت كلمةُ الله وجعلت منه إنسانًا قادرًا على السماع والأصغاء ونقل الكلمة، جعلت منه نبيًّا.

2- دخل فيّ الروح (آ 2)

فُسِّر عملُ الخالق بعبارة تقليديّة، قديمة جدًّا. إبتعد الأنبياء "المستنيرون" عن تأسيس سلطتهم على صورة روح جاءت من عند الربّ لكي "يختطفهم": خافوا أن ينالوا طابعًا جنونيًّا. نقرأ في هو 9: 7: "تقولون النبيّ أحمق، ورجل الروح مجنون". أمّا حزقيال فحوّل موقفه أكثر من مرّة في تواصل مع الأنبياء الأوّلين، الرائين، وصوّر هذه القدرة الخارقة التي تحرّكه كما كان الأمر بالنسبة إلى إيليّا. نقرأ في 1 مل 2: 18: "لعلّ روح الله حمله، وعلى أحد الجبال رماه، أو في أحد الأودية". أمّا حزقيال فيقول في 3: 14:

ورفعني الروح وذهب بي،

فمضيتُ وقلبي مليء بالمرارة والغيظ،

ويد الربّ ثقيلة عليّ

وفي 8: 3:

فمدّ ما يُشبه اليد،

وأخذني بشعر رأسي،

ورفعني الروح بين الأرض والسماء،

وجاء بي في رؤية من رؤى الله،

إلى أورشليم، إلى مدخل الباب الداخليّ.

وفي 11: 24:

ورفعني الروح في الرؤية،

وجاء بي إلى المسبيّين في أرض بابل.

عاد النبيّ إلى هذه الفكرة القديمة، فصوّر تدخّل الله الذي يناديه نداء فريدًا ويدعوه "الرقيب". يناديه في وقت خاصّ من تاريخ شعبه: هو الجديد الجديد في الحدث. وأصل تلك البداية الجديدة. لا، ما انتهى كلّ شيء بذهاب الشعب إلى السبيّ. فنحن أمام فعل الله الخالق الذي يستطيع روحه أن يصنع نبيًّا خارج الأرض المقدّسة، خارج التاريخ المقدّس.

3- أرسلك إلى شعب تمرّدوا (آ 3-4)

أ- شعب تمرّدوا (آ 3)

خلق الله علاقة جديدة بينه وبين شعبه في شخص حزقيال، أو بالأحرى في المهمّة التي أوكل بها نبيّه. من جهة نبيّ مرسَل، ومن جهة أخرى شعب متمرّدين. عبارتان تحدّدان علاقة حلّت محلّ عهد نقض بعد اليوم، في السنة الخامسة لسبي الملك يوياكين.

لا نستطيع أن نذكر هنا كلّ ما عرفناه عن معاهدات في الشرق القديم، عن "ب ري ت" (عهد): الصورة هي هي. وكانت مكانةٌ هامّة لهذه الرسوم العلائقيّة في الصياغة اللاهوتيّة لهذا المفهوم، في شعب إسرائيل. يكفي أن نشير إلى أنّه حتّى المنفى، تطلّع "النؤمن" الإسرائيليّ تطلّعًا جوهريًّا في تاريخ الخلاص (تث 6: 4: إسمع، يا إسرائيل، الربّ إلهنا ربّ واحد. ثمّ 26: 4: كان أبي أراميًّا تائهًا، فنزل إلى مصر) هذا التاريخ هو أساس علاقة مميّزة بين إله يُحيي شعبه، وبين شعب يرتبط بنعمة إلهه الذي تعرّف إليه في أحداث خلاصيّة تكوّن التاريخ في إسرائيل. عرف الشعب المختار معرفة ملموسة هذا الوضع، فراعى الالتزامات التي تربطه بملكه الحقيقيّ، فحفظ الشريعة التي تقبّلها منه، وعاش كشعب لهذا الإله الذي خلّصه. ولكنّ عهدًا من هذا النمط ينقض إذا لم يراعِ واحدٌ من المتعاقدَين التزاماته. لا شيء يربط بين المتعاهدين سوى غضب ذاك الذي خانه.

وهكذا ما دُعيَ بعدُ إسرائيل الخائن "شعبي" ولا "شعب العهد"، بل "شعب تمرّد عليّ". فماذا ينتظر أيضًا من ملكه سوى العقاب الذي ناله فعلاً في دمار كيانه السياسيّ والحضاريّ.

وانطلاقًا من وضع اليأس هذا، تجاوز الله الخالق المنطق القاسي الذي تعرفُه معاهدات الشرق بين السيّد وتابعه. فأرسل واحدًا إلى هذا الشعب: فإمكانيّة علاقة جديدة تقوم في نواة دعوة حزقيال. ولكنّها إمكانيّة حدوديّة تفترض وضوحًا جذريًّا حول الوضع القائم: فبنو إسرائيل ليسوا فقط متمرّدين لفترة محدودة، فحطّموا العهد في يوم من الأيّام. ولكنّ التمرّد يرافقهم منذ البداية فعبر كلّ تاريخهم، ومنذ موسى، نستطيع أن نقرأ على ضوء ما يحدث اليوم، هذه الثورة.

أعاد حزقيال قراءة "النؤمن" التقليديّ، فقدّم في ف 20 موجزًّا لتاريخ إسرائيل، لا تاريخه، ونفيًّا لكلّ ما يؤسِّس الثقة الدينيّة لشعب الله، بشكل عامّ.

5 وقل لهم: يوم اخترتُ شعبَ إسرائيل،

وتعرّفت إلى نسل يعقوب في أرض مصر،

أقسمتُ لهم أنّي أنا الربّ إلههم.

6 في ذلك اليوم أقسمت لهم

أنّي أُخرجهم من أرض مصر،

إلى أرض اخترتُها لهم،

إرض تفيض لبنًا وعسلاً

وهي فخر الأراضي.

7 وقلت لهم: إنبذوا الآلهة الكاذبة

التي تراها عيونكم،

ولا تتنجّسوا بأصنام مصر،

فأنا هو الربّ إلهكم

8 فتمرّدوا عليّ ورفضوا أن يسمعوا لي (20: 5-8)

ويتواصل الاتّهام لكي ينتهي في وعدٍ من الله:

33 حيّ أنا، يقول السيّد الربّ،

إنّي بيد قويّة، وذراع ممدودة

وغضب شديد أتسلّط عليكم.

34 وأخرجكم من بين الشعوب،

وأجمعكم من البلدان البعيدة

التي بعثرتُكم فيها

35 وأجيء بكم إلى البرّيّة

ونقرأ الشيء عينه في ف 16 مع كلام عن أورشليم الخائنة التي أحبّت الأصنام على الربّ الإله: حبّ وحنان من قبل الله. ومن قبل الشعب خيانة وكذب:

60 أمّا أنا فأذكر عهدي معك

في أيّام صباك

وأقيم لك عهدًا أبديًّا

61 عند ذلك تذكرين طرقك وتخجلين.

ب- عاندوا، قسّت قلوبهم (آ 4أ)

لا نستطيع إلاّ أن ندرك عنف الصفة التي جعلت من بني إسرائيل أبناء لفرعون، لا أبناء موسى. فنقرأ في خر 7: 13: "فاشتدّ قلب فرعون قساوة، من لا يمسع لموسى وهرون". وفي 32: 9: "فقال الربّ لموسى: رأيتُ هؤلاء الشعب. فإذا هم شعب قساة الرقاب". إنّهم يعاندون. يرفضون.

وتكرّرت آ 4، أمر المهمّة المطلوب من النبيّ، فأبرزت ضخامة ما قيل، كما أهميّة مبادرة الله الذي يعيد الرباط في شخص مرسله، لا مع شعب صار خائنًا، بل مع شعب صار شعب متمرّد، مثل فرعون. كلّ إمكانيّة حياة الشعب في المنفى، تقوم في هذا القرار الذي يحكم على إسرائيل حكمًا جذريًّا. وإن هو وعى وضعه، يمنحه إمكانيّة حياة من كلمة المرسَل، وهي كلمة حقّ.

ج- هذا ما قال الربّ (آ 4ب)

إستعمل الأنبياء هذه العبارة لينهوا بلاغه أوصلوه بحذافيره. وهكذا يبينون صدق القول النبويّ الذي تفوّهوا به. وهنا، تعني العبارة أنّ خطبة نبويّة سوف تلقي، أنّ بلاغًا حقيقيًّا يتوجّه إلى شعب المنفيّين هؤلاء. هم الآن مرّة أخرى، وأكثر من أيّ وقت كان، في حضرة إله يتكلّم لكي يعطي الحياة. فمنذ مصر، لم يعرفوا يومًا كما الآن، وضعهم الحقيقيّ. فحزقيال يكون نبيّ الإله الذي يحيي من لم يَعُد حيًّا ولن يعود. وهو يفعل بنعمة مجّانيّة، وبقدرته الخالقة: رج 37: 1-14:

5 هكذا قال السيّد الربّ لهذه العظام:

سأدخل فيك روحًا فتحيين.

6 أجعل عليك عصبًا، وأكسيك لحمًا،

وأبسط عليك جلدًا وأنفخ فيك روحًا،

فتحيين وتعلمين أنّي أنا هو الربّ.

د- فيعلمون أن بينهم نبيًّا (آ 5)

هناك عدد من أقوال حزقيال النبويّة، تنتهي بعبارة تشكّل البرهان الذي يُقدَّم للشعب: "فتعرفون (أو: فيعرفون) أنّي أنا الربّ". هي عبارة قانونيّة في أصولها (تعرفون) وعباديّة (أنّي الربّ)، وهي تؤكّد أنّ الله يتيح للإنسان أن يعرفه في تتميم وعد أو وعيد. إذًا، في فعل خاصّ يطبع في التاريخ طابع ذاك الذي يتكلّم بواسطة النبيّ. إذًا، يبقى إلهُ حزقيال ذاك الذي يكشف ذاته في التاريخ، ولا سيّما في تاريخ شعبه. وحتّى لو كنّا هنا أمام "شعب من المتمرّدين"، وبالتالي أمام أناس رفضوا بمعظمهم أن يسمعوا الكلمة الموجّهة صريحًا يتيح لهم أن يكتشفوا في التاريخ القريب حضور الله الناشط وإرادته الفاعلة.

وبنود هذا "العهد" الجديد، ضيّقة جدًّا. لا وعد يُعطى، بل صدق الكلمة التي يعلنها حزقيال، وفاعليّتها "في وسط" هؤلاء الناس. ولكنّه وعدٌ لا شرط فيه، علاقة لا يمكن أن تُقطع بخطيئة أحد المتعاقدين. "سواء سمعوا أم لا"، "نبيّ في وسطهم".

في قلب فعل الله الذي يرتبط "بهم" من جديد، يقف النبيّ. وهذا الرباط الرقيق الذي يحلّ محلّ عبادة الهيكل وقرب الله في الأرض المقدّسة، يكفي بالمحافظة على إمكانيّة حياة من دون الله. لهذا استطاع حزقيال، ذاك النبيّ الحقيقيّ، وابن المرسلين الأوّلين الذين حرّكهم الروح، استطاع مثلهم أن "يحوّل وجهه" نحو إسرائيل لينقل إليه كلمة دينونة جذريّة، تختفي فيها جلادة جديد كلّ الجدّة (3: 1-3):

2 ففتحتُ فمي، فأطعمني هذه الورقة

3 وقال لي: يا ابن البشر،

أطعم جوفك واملأ أحشاءك

من هذه الورقة التي أعطيك إيّاها.

فأكلتها، فصارت في فمي حلوة كالعسل.

هذه "الحلاوة" ستكون موضوع القسم الثاني من الكتاب: حياة قلب جديد يقدّمها الخالق. وكلّ فنّ النبيّ وقوّة التعبير عنده يتلخّصان في العبارة التي تختم آ 5. فهنا، ينهي حزقيال مرارًا بعد قول تهديد أو دينونة، "تعرفون أنّي أنا الربّ" أي تعرفونني من العقاب الذي يصيبكم. هو التنبيه الاحتفالي نفسه، ولكن اسم النبيّ (مع إرساله وحضوره وعمله) أي مهمّته، يحلّ محلّ الله. ففيه يعرف الناس حضور الله الفاعل، وفي هذا العهد الجديد مع المتمرّدين، يتمّ كلّ شي بوساطة "مرسل"، هو النبيّ. فمن عرف نعمة من كلّفه بمهمّة، التقى إله حزقيال الذي بلاغه "حلو" بالرغم من قساوته، وبسبب هذه القساوة، لأنّه يحيي الموتى.

فمُرسل الآب في الإنجيل الرابع يلعب حتّى النهاية هذا الدور بشكل حاسم وسط تعارض جذريّ. هو موسى الحقيقيّ وهو إيليّا الحقيقيّ. وهو حزقيال أيضًا. ولكنّه أعظم منها جميع ما قال يوحنّا: قيل أن يكون إبراهيم أنا كائن. وموسى كتب عنّي. إن كانوا أنبياء حملوا الكلمة، فيسوع هو الكلمة. فيه تصبّ أقوالهم وتأخذ كامل معناها.

ويسوع هو أيضًا معلّم في إسرائيل. "يجب أن تولَدوا من فوق، أي من جديد، أي: تولَدون من فوق إذا فهمتم أنّه يجب أن تولَدوا من جديد. وهذا ما يشكّل التفسير النهائيّ للوعد الذي ناله المنفيّون. ففي حزقيال كما في يوحنّا: كلّ شيء يرتبط بـ "معرفة" (يو 3: 2-10) تجعلهم يدركون معنى وبعد حضور رسل الآب وسط الشعب. وإذ النبيّ هنا، تتمّ رسالته فيما بينهم، وجب على البشر أن "يعرفوا" أنّ الله هو الذي أرسله (يو 17: 21-23).


 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM