عيد الأمّ

عيد الأمّ

القراءة: سي 3: 1-11

الإنجيل: مر 3: 31-35 (أو يو 2: 1-12)

أكرم أباك وأمّك

يا أبنائي اسمعوا أقوال أبيكم، إعملوا بها فتخلصوا. فالربّ يمنح الأب سلطة على أولاده. ويثبّت حقّ الأمّ على البنين. من أكرم أباه كفّر عن خطاياه ومن أكرم أمّه فهو كجامع الكنوز. من أكرم أباه فرح بأولاده، وحين يصلّي، له يستجيب الربّ. من أكرم أباه طالت حياته، ومن أراح أمّه أطاع الربّ، من خاف الربّ أكرم والديه وخدمهما كما يخدم سيّده. أكرم أباك بالقول والفعل، فتحلّ عليك البركة منه. بركة الأب تثبّت بيوت البنين ولعنة الأمّ تقلعها من الأساس. لا تفتخر بمذلّة أبيك، فمذلّته لا ترفعك، بل يرتفع الإنسان بكرامة أبيه، ومذلّة الأمّ عار للبنين.

في العالم القديم، كانت المرأة الخادمة في البيت. تؤمّن للرجل جميع حاجاته. وعليها بصورة خاصّة أن تؤمّن الأولاد ولا سيّما الذكور منهم. وإلاّ، فهي تُطرد، تطلّق. أو إذا كثرت الزوجات، تصبح مع الجواري والخدم. ولا دور لها في حياة زوجها. يقول الكتاب: تصبح مكروهة (تث 21: 15). أمّا إذا ولدت الأولاد الكثيرين، فتكون موضع احترام وتقدّر، بحيث تترك اسم زوجها الذي أخذته يوم "كُتب كتابها" وتزوّجت، وتأخذ اسم ابنها البكر. هي أمّ فلان. في هذا المجال، نفهم إنجيل يوحنّا الذي ما دعا مريم العذراء باسمها، مع أنّه اسم قديم يعود إلى مريم أخت هارون. هي أمّ يسوع. تركت العهد القديم، ودخلت في سرّ الخلاص. وعظمتها أنّها "والدة الإله" كما سيقول مجمع أفسس سنة 431. وما دعاها "زوجة" يوسف وخطّيبته. صار اسمُها اسم ابنها. تماهت معه.

هذا في الشرق، وفي الحضارات القديمة. أمّا في الغرب فضاع الكثير من روحانيّة الأمّ. هي لا تريد أن تلد، فتلجأ إلى امرأة "تحمل" طفلها عنها في حشاها. وحين تلده يكون لها. هكذا فعلت "هاجر" بالنسبة إلى "سارة" زوجة إبراهيم. فكان ابن هاجر كأنّه ابنها. وكذلك جاريتا رفقة وليئة زوجتا يعقوب. والمرأة اليوم لا تريد أن ترضع. ولا وقت لها لكي تربّي الولد فتسلّمه إلى خادمة، أو إلى "حاضنة أطفال" والسلسلة طويلة في هذا المجال. لهذا كان عيد الأمّ في بداية الربيع وخروج الحياة كلّ سنة بعد موات فصل الشتاء والمطر والبرد.

1- إكرام الأب والأمّ

تلك هي الوصيّة الأولى بعد الوصايا المرتبطة بالله مباشرة. هي قريبة ممّا سبقتها: قدّس يوم الربّ. إكرام إلهك. فالأب شخص مكرّس. أي فرزه الله وسلّمه مهمّة. والأمّ مقدّسة. هي غير بقيّة البشر في نظر البنين. إحترامها غير احترام الجميع. ومحبّتها غير محبّتهم. في أيّ حال، هي السابقة. أحبّت ابنها وهو بعدُ في حشاها. اهتمّت به فحافظت على صحّتها من أجل صحّته. وأكلت ما أكلت لكي تؤمّن له الطعام الذي يُنميه في حشاها قبل أن يخرج إلى العالم. ووضعت كلّ ثقة ورجاء في هذا المولود الآتي، في هذه المولودة.

ويومًا بعد يوم، كرّست وقتها، ليلها ونهارها، لتجعل حياته سعيدة منذ المهد وما طالت به الأيّام. أرضعته من صدرها، لا الحليب فقط بل المحبّة والغنج والحنان. ورافقته يومًا ويومًا، بل ساعة وساعة. ما هي أوّل ابتسامة، أوّل كلمة، أوّل حركة، أوّل نظرة. أقلّ شيء في حياته يُهمّها، فلا شيء تافهًا في حياة ابنها أو ابنتها. الناس "في الخارج" يرون شيئًا طبيعيًّا. لا الأمّ. ولدُها غير سائر الأولاد. قد لا يكون أجمل منهم ولا أذكى ولا أسرع فهمًا. فهي تعرفه أكثر ممّا يعرفه الجميع. تعرف مزاياه ونقائصه، خيره وشرّه، ولكن بالنسبة لها هو الكلّ، هو الأجمل والأذكى والأفهم، لأنّه ابنها وقطعة منها.

كيف يكون جواب الابن؟ كيف يكون جواب الابنة؟ أقلّه المبادلة. وإن لم يستطع أحد أن يتمّم التبادل مع أمّه، مهما فعل. ولكنّه يحاول.

2- إكرام في القول والفعل

هكذا أكرم يسوع أمّه. ما عندهم خمر! نظرة منها كانت كافية، مع أنّ ساعة صنع العجائب لم تبدأ بعد. كرامة أمّه قرّبت الساعة. إستبق ما كان "خطّطه" بالنسبة إلى الرسالة التي يقوم بها. وفي أيّ حال، لم تتردّد دقيقة، وإن بدا في عيوننا أنّ يسوع رفض طلب أمّه. هي فهمت. إفعلوا ما يقوله لكم. فأنا سبقتُ وفعلتُ. وأطاعها الخدم الذين كانوا الجيران والأقارب الذين يساعدون في الاهتمام بالمدعوّين. وكان عطاء ما بعده عطاء. إذا كان حبّ الأمّ فيّاضًا، فلا يكون جواب يسوع أقلّ فيضًا من حبّ أمّه. وامتلأت الخوابي حين فاضت. وشربوا. وفرحت الأمّ بابنها حين "أظهر مجده فآمن به تلاميذه" (يو 2: 11).

وأكرم يسوع أمّه بالقول. هي حبلت به. على مستوى أيّ امرأة، لا فضل لها بذلك سوى أنّها قبلت أن تكون أمًّا. ولكن قبول مريم غير كلّ قبول. هو طلب خاصّ من السماء. أجابت: ها أنا خادمة الربّ، فليكن لي كما تقول، كما يقول الربّ. ولكنّ هذه القرابة الجسديّة الفريدة سترافقها قرابة أخرى روحيّة: أمّي، إخوتي، أخواتي، هم الذين يسمعون كلام الله ويعملون به. إن كانت مريم مطوّبة، حاملة سعادة، لأنّها حملت يسوع في بطنها وأرضعته من ثدييها، فهي أكثر طوبى لأنّها التلميذة الأولى: حفظت كلام الربّ. حفظت أحداث الخلاص وتأمّلت بها في قلبها. هذا ما قاله يسوع عن أمّه. وأيّ أمّ هي أمّه. هي كبيرة به بعد أن كوّنها الله ممتلئة نعمة. وهو كبير "بهذه المباركة بين النساء".

ولكن هناك من يحتقر أباه في الشيخوخة، من يفتخر بمذلّة أبيه. مثل هذا كان العهد القديم يأمر بقتله (تث 21: 21). وفي أيّ حال، لو بقي حيًّا، فهو لا يستحقّ. ومتى كانت "مذلّة الأمّ" فخر للبنين؟ بل هي عار. فإن ذلّ ابن (أو ابنة) أمّه، أتراه ينال كرامة؟ مسكين مثل هذا الإنسان.

3- إكرام يترافق مع البركة

جاءت وصيّة إكرام الوالدين وحدها، في رفقة وعد من عند الله: فتطول أيّامك "في الأرض التي يعطيك الربّ" (خر 20: 12). تكون سعيدًا. في إكرام الأب العمر الطويل. وفي تأمين الراحة للأمّ، طاعة للربّ وسماع له. فالأمّ، في حبّها وحنانها، أقرب صورة إلى الله الذي دُعيَ "الرحيم". فمن رحمها يلد الأولاد. وكلّ إنسان عطيّة من عند "الرحيم". قالت حوّاء، وتقول كلّ امرأة تلد ولدًا: "رُزقتُ ولدًا من عند الربّ".

إكرام الوالدين دلالة على مخافة الربّ. فمن لا يخاف الربّ ولا يهمّه وصاياه، كيف يكرم أباه وأمّه؟ هذا مستحيل. لأنّ كلّ عمل صالح فينا هو من لدن الله أبي الأنوار (يع 1: 17). نحن نخدم "سيّدًا" من ساداتنا، رئيسًا علينا، ولا نجرؤ أن نخالف أمره، لأنّنا نخاف منه ومن عقابه. فإن اكتفينا بهذه العاطفة، دللنا أنّنا لسنا من الأبناء بل من العبيد. فخدمة الوالدين فوق كلّ خدمة على الأرض، ولا تتفوّق عليها سوى خدمة الله. وفي أيّ حال، هو الله يوجّهنا. ويطلب من أهلنا أن يسيروا معنا من أجل الذي جاء إلينا ليخدمنا، لا لنخدمه. فإن عارض الوالدان، وجب علينا الطاعة لله الذي نسمع له قبل أن نسمع للناس (أع 5: 29).

ذاك هو عيد الأمّ. وتأسّس فيما بعد عيد الأب. نصلّي من أجلهما لأنّهما معًا "على صورة الله ومثاله". معًا أنجبانا إلى الحياة. معًا عملا على تربيتنا والاهتمام بنا. مهمّة صعبة مهمّتهما، وإنّ أبانا عن ضعف فهم بشر ونحن نساعدهما ليقفا بوجه مسفر أمام الله حين يسألهما عن وكالتهما. نظيعهما كما أطاع يسوع المقيم في الناصرة (لو 2: 52) لكي يقوما بعملهما بفرح وسرور. هكذا نكرم أبانا. هكذا ندلّ على محبّة أمّنا واحترامنا لها.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM