يوم المريض

يوم المريض

الرسالة: 2 كور 11: 27-33

الإنجيل: لو 13: 10-17

أفتخر بضعفي

يا إخوتي، عانيت الكدّ والتعب والسهر الدائم، والجوع والعطش والصوم الكثير والبرد والعري. وهذا كلّه إلى جانب ما أعانيه كلّ يوم من اهتمام بجميع الكنائس. فمن يضعف وأنا لا أضعف معه، ومن يقع في الخطيئة وأنا لا أحترق من الحزن عليه.

إن كان لا بدّ من الافتخار، فأنا أفتخر بضعفي. والله أبو ربّنا يسوع – تبارك إلى الأبد – يعرف أنّي لا أكذب، وأنّ والي الملك الحارث على دمشق أمر بحراسة المدينة للقبض عليّ. ولكنّ الإخوة وضعوني في قفّة وأنزلوني من كوّة في السور، فنجوت من يديه.

عالم اليوم هو عالم المستشفى. فيها يُولَد الإنسان وفيها يموت. في الماضي، كانت الداية تأتي إلى البيت وتولِّد المرأة وينتهي الأمر. وكانت نساء تموت خصوصًا مع ولادة البكر. وفي أوروبّا وأميركا، لا يموت إنسان في بيته، محاطًا بالأهل والأقارب كما العادة لا تزال حاضرة عندنا. فقد كان المريض "ينوس" في بيته دون علاج، والجميع يصلّون معه وينتظرون ساعة "انطلاق النفس المؤمنة إلى ديار ربّها". والأمراض التي يعرفها عالمنا الحديث كانت قليلة، نادرة. لهذا نستطيع القول إنّ عالمنا عالم المرض والأدوية والعلاجات. لهذا تأسّس يوم المريض وارتبط بعيد السيدة العذراء في لورد. هناك حصلت معجزات عديدة، وإن كانت الكنيسة تتحفّظ جدًّا في إعلانها والتأكيد عليها. بل حصلت شفاءات من نوع آخر حيث يتعدّى الإنسان مرضه، يرتفع، فيصبح المرض رفيق حياته كما العمل في مكتب والشغل في الحقل. والمثال على ذلك في عصرنا، القدّيسة رفقه.

1- عانيتُ الكدّ والتعب

تلك هي شهادة الرسول في الكلام عن نفسه في "مناجاة" للربّ تصل إلى المؤمنين الذين اعتبروا أنّه لم يفعل شيئًا. هو شخص متبدّل وينظر إلى شخصه وإلى رسالته. أمّا شخصه فلا يهمّه. وأمّا الرسالة فتشغل باله. وإن هو أراد أن يدافع عن نفسه، فلأنّ المهاجمين أخّروا بالرسالة أكثر ممّا أخّروا بحاملها. في نهاية المطاف، يستطيع "الرسول" أن يستقيل من عمله، وكدتُ أقول: لا يخسر شيئًا. ويتابع حياته في مجال آخر، وإن لم يكن على المستوى نفسه.

ولكنّ بولس لا يستقيل. لا يتراجع. هو قويّ بالذي يقوّيه. وهكذا يكون المريض. يكون واقعيًّا. يأخذ مرضه على عاتقه. مهما كان هذا المرض. يتعامل معه، ويبقى في "الجهاد" ولو كان الجهاد صعبًا. لا يعتبر أنّه لا يفيدُ بعد شيئًا. صلاته أوّلاً أكبر مساعد له وللذين حوله. آلامه ترافق آلام يسوع، والألم جزء من الحياة شئنا أم أبينا. وحضوره في كلمة حلوة، في نصيحة، في مشورة. وبسمته التي ترفع المعنويّات حوله. نتخيّل بولس في السجن، والسجن القاسي، مع ما يرافق ذلك من برد وحرّ وجوع... يقول لأهل فيلبّي: إفرحوا في الربّ، وأقول أيضًا: إفرحوا. كردّ الفعل ما خرجت اللفظة من فمه من دون وعي. بل بكامل وعيه قالها وردّدها أكثر من مرّة في هذه الرسالة بحيث ينتقل الفرح كالعدوى. لماذا ينتقل المرض من شخص إلى شخص ولا ينتقل الفرح.

2- من يضعف ولا أضعف أنا

هي مرحلة ثانية في قلب المرض: الخروج من الذات. قبل أن يدخل المستشفى وهو خائف من مرضه، يفهم أنّ مرضه ليس المرض الوحيد في العالم. وأنّه ليس الشقيّ التعيس والناس كلّهم بخير. التفكير في الآخرين، يُخفِّف من وطأة الوجع. أمّا الأنعزال والانغلاق على الذات فيزيد المرض مرضًا والوجع وجعًا.

تعب الرسول. ولكنّه فكّر في تعب الآخرين. وفي أيّ حال، نظر إلى معلّمه الصاعد طريق الجلجلة "وصليبه على منكبيه". بكت عليه نساء أورشليم "لطمن صدورهنّ، نحن عليه" (لو 23: 27). إعتبره أنّه مات. وفي أيّ حال، هي ساعة أو ساعتان ويكون على صليبه الذي هو أشنع عذاب وأخطر حالة من الموت. حالة محفوظة للعبيد المجرمين. ما اعتبر يسوع أنّ الله، ضدّه، "يحطّمه". بل ناداه، صلّى إليه. وفي أيّ حال، ما كان جوابه للنساء تأفّفًا وطلب شفقة: حالتي تعيسة، كلاّ ثمّ كلاّ. فكّر في مستقبل أورشليم وهي غارقة في الظلم حين تقتل ربّها: "لا تبكين عليّ، يا بنات أورشليم" (آ 28).

ضعف بولس. وكلّ واحد منّا يضعف، على مستوى المرض. وعلى مستوى الفكر، وأمام الفشل، والمرض يُعتبر فشلاً، كما اعتبر موت يسوع الفشل الأكبر. ولكن لا. موت يسوع قتل الموت. صليب يسوع قتل الخطيئة. كان على الصليب كملك على عرشه. إرتفع ورفع معه الجميع. ولا يزال يرفعهم من أمور الحياة العاديّة: ماذا نأكل، ماذا نشرب، ماذا نلبس؟ من المرض والألم، من الإعاقة، من السجن والظلم. هو وحده يرفع الإنسان فوق الإنسان.

3- أمام المرض

المرض يستطيع أن يحطّ الإنسان. يصبح مثل هذه المرأة المنحنية الظهر التي شفاها يسوع. أحدودبت. لصق رأسها بالأرض، وما كانت تستطيع أن ترفع عينها إلى السماء، أن تنظر إلى الله. ما عادت إنسان من الناس. وهي لا تستطيعأن تخرج من هذا الوضع البتّة وحدها. ولكن بقوّة يسوع، تبدّل كلّ شيء. قال لها: أنت معافاة من مرضك "فانتصبت قائمة، واقفة في الحال ومجّدت الله" (لو 13: 12-13). كلمة من يسوع كافية. لمسة كما مع النازفة. نظرة عطف وحنان.

يتحدّث الإنجيل عن "روح شرّير". من هو هذا الروح؟ أترى الشيطان ربطها؟ كما يقولون اليوم، ويريدون أن يقسّموا عليها؟ لا. فالمرض جزء من حياة الإنسان. ويبقى سرًّا لنا. لماذا هذا مريض وأخوه في العافية؟ لا جواب لنا. ماذا فعلتُ بالربّ ليرسل إليّ هذا المرض؟ لا جواب. ولكنّ الروح الشرّير يقابل روح الله. روح الل يجعلنا نأخذ المرض ونضعه في مكانه، كما فعلت القدّيسة رفقة وغيرها الكثيرون من القدّيسون والقدّيسات. بل الأمّهات اللواتي حولنا. والمرضى العديدون الذين يمضون إلى أحد المعابد طلبًا للشفاء، فينالون أكثر من شفاء. إذا كان عندهم ذرّة إيمان. إذا كان عندهم انفتاح على الله وعلى عمله. هم يتحوّلون في الداخل وإن كانت "خيمتنا على الأرض تتهدّم" (2 كور 5: 1). وإن كان جسدنا يتفكّك بفعل المرض، فمن خلال هذا "يبني الله لنا بيتًا"، لا في السماء فقط، بل منذ الآن. على المستوى البشريّ "نئنّ تحت أثقالنا" (آ 4). ولكنّ الحياة تريد أن تبتلع فينا "ما هو زائل". في أيّ حال، يبقى الأساس ما يبنيه فينا الله يومًا بعد يوم.

"الروح الشرّير" قلب الملك شاول إلى مريض بحسد ضدّ داود فأراد قتله. هذا الروح، أو بالأحرى المسيرة التي ندخل فيها حين نخرج الله من قلبنا. هي الأنحدار في الانغلاق بحيث يتحوّل مرضنا إلى "خطيئة"، لا إلى نعمة. هذا الروح يجعلنا نرفض، نجدّف... والذين يخدمون لا يخدمون بروح الإيمان والمحبّة.

نحن نطلب روح الله الذي يعزّينا، يشجّعنا. والضعف الذي فينا نفتخر به: كما نفتخر بأوهاننا. عندئذٍ نخرج منها ونعرف أنّ المسيح رفيقنا يحمل معنا صليبنا، بل يأتي وقت يحملنا مع صليبنا بحيث لا يسمح أن تزلّ رجلنا أو نعثر بحجر بسيط. فما لنا سوى النظر إلى حنان يسوع في تلك الساعة التي لا يستطيع أحد أن يعيشها مكاننا.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM