الفصل التاسع عشر: لاسلام لللأشرار بل للمتواضعين

Normal 0 false false false EN-US X-NONE AR-SA MicrosoftInternetExplorer4 /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-priority:99; mso-style-qformat:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0in 5.4pt 0in 5.4pt; mso-para-margin:0in; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:11.0pt; font-family:"Calibri","sans-serif"; mso-ascii-font-family:Calibri; mso-ascii-theme-font:minor-latin; mso-fareast-font-family:Calibri; mso-fareast-theme-font:minor-latin; mso-hansi-font-family:Calibri; mso-hansi-theme-font:minor-latin; mso-bidi-font-family:Arial; mso-bidi-theme-font:minor-bidi;}

الفصل التاسع عشر

لاسلام لللأشرار بل للمتواضعين

أشعيا9،56-21،57

مقدمــــة

عاد الشعب من المنفى البابليّ، بعد أن تلقّى المواعيد الحلوة. الطريق تكون مهيَّأة، ممهَّدة، لا جبل يصعدونه ولا وادي ينزلون فيه. طريق سهلة، لا صعوبة فيها. قويمة، لا اعوجاج فيها ولا التواء. والبرّيَّة، والعطش والجوع؟ لن يكون الأمر كما كان في الخروج الأوَّل، حيث التذمُّر على موسى في كلِّ وقت، يصل إلى الله نفسه. ففي هذا الخروج الثاني من بابل »تنفجر المياه في البرّيَّة، وتجري الأنهار في الصحراء« (35: 6). زال الحزن والدموع وما رافق الماضين إلى السبي، وصل محلَّه الفرح والبهجة حين العودة إلى أورشليم. ولكن كيف بدا المناخ لهؤلاء الراجعين؟ الأقوياء ما زالوا أقوياء، والعظماء لا ينظرون إلى الفقير والمعدم الذي رأى بيته مهدومًا وأرضه مسلوبة، وعابدو الأصنام لا يتخلّون عن أصنامهم. وضع مؤلم! أمّا المتواضعون فيكون لهم السلام، سواء لبثوا في أورشليم، أو عادوا من البعيد. منذ الآن يستطيعون أن يسمعوا نداء الربِّ يسوع: »طوبى للودعاء لأنَّهم يرثون الأرض« (مت 5: 5).

1- بنية النصّ

بدأ القسم الثالث من نبوءة أشعيا في تساؤلات تحتاج إلى جواب. الأوَّل: ما مصير الغريب الآتي إلى الصلاة؟ والخصيّ الذي لا يحقُّ له أن يكون في الجماعة؟ وكان الجواب: »أجيء بهم إلى جبلي المقدَّس« (56: 7). والتساؤل الثاني: أي فائدة من صيام قمنا به إذا كان الله لا يرى؟ الجواب: ذاك هو الصوم الذي أريد، حين يعبِّر عن محبَّة الله ومحبَّة القريب (ف 58). والتساؤل الثالث: يد الربِّ قصيرة، لا تقدر أن تخلِّص؛ أذنه قاسية فلا تسمع (59: 1). هل الله لا يسمع أم الشعب الخاطئ؟ ومع ذلك يأتي الربُّ ويفعل.

في هذا الإطار نقرأ 56: 9-57: 21 حيث نجد تساؤلات ثلاثة: الأشرار يستغلّون الضعفاء؛ وجاء الجواب: »السالكون في الطريق المستقيم يدخلون في السلام« (57: 2). والثاني: كيف يقبل الله بعابدي الأصنام؟ فأجاب الربّ: »الذين يتكَّلون على الإله الحقيقيّ، يملكون الأرض ويرثون جبلي المقدَّس« (57: 13). ونحن الخطأة الذين غفرتَ لنا؟ ذاك كان التساؤل الثالث؛ والجواب: »من شفتيَّ تخرج ثمرة السلام« (57: 19).

إذًا، حين نقرأ هذه المتتالية (56: 9-57: 21)، نفهم أنَّنا أمام ثلاثة مقاطع. هي لا تشكِّل وحدة متماسكة كلَّ التماسك، بل تجميعًا لتساؤلات ثلاثة، ينتهي كلٌّ منها بأداة »ولكن« تبدو بشكل تعارض مع ما سبق.

أ- رؤساء إسرائيل (56: 9-57: 2)

يلاحظ النبيّ غيابًا للمسؤولين، وتهرُّبًا من العمل، بل جشعًا وطمعًا. ما يهمُّهم هو السرقة والنهب، والسكر والعربدة، لهذا، يمارسون كلَّ أنواع التعدِّيات على الناس البسطاء.

56: 9 تعالـي يا جميع وحوش البرّ، تعالي للأكل

يا كلَّ وحوش الغاب.

10 مراقبوه عميان

كلُّهم ما عرفوا

كلُّهم كلاب بكم

لا تقدر نباحًا

حالمون، راقدون

محبّون للنوم.

ذاك هو كلام النبيّ الذي يراقب الأمور. فتجيب السماوات:

11 والكلاب بشراهتها القويَّة

لا تعرف شبعًا

وهم راعون أشرار(1)

لا يعرفون أن يتبيَّنوا (الأمور).

كلٌّ يتوجَّه في طريقه

والرجل إلى أقصى مكسبه(2).

هنا يهتف هؤلاء السالبون:

12 تعالوا! نأخذُ خمرًا

ونمتلئ مسكرًا

ويكون الغدُ كهذا اليوم،

عظيمًا، وفيرًا جدٌّا.

ويهنّئ الناس هؤلاء »العظماء، المقتدرين« لا شيء ينقصهم. أمّا الأبرار فحالهم حال. ذاك ما تلاحظه السماء:

57: 1 البارُّ باد

وما من رجل يبالي

وأهلُ اللطف يُزالون

وما من أحد يتبيَّن.

في مواجهة الشرّ.

أزيل البارّ.

2 ولكن(3) يأتي السلام

فيرتاح على مضاجعهم،

هؤلاء السالكون في الاستقامة.

لا. هذا لن يكون، قالت الأرض. والأمور سوف تتحوَّل: السلام آتٍ للأبرار، لأهل الاستقامة، على ما نقرأ في 59: 19: »فيخافون من المغرب اسم يهوه، ومن مشرق الشمس مجده.

ب- عبادة الأوثان (57: 3-13)

يُحكم على الذين يعتبرون نفوسهم أبرارًا، وهم ليسوا كذلك. فيأتي الحكم قاسيًا على عبدَة الأصنام هؤلاء، وعلى ممارساتهم. اتَّكلوا على الوثن، فهل يستطيع الوثن أن يخلِّصهم؟

موضوع الأشرار حاضر في 59: 1-8: »أرجلهم إلى الشرِّ تجري، وتُسرع إلى سفك الدم الزكيّ. أفكارُهم أفكارُ إثم، وفي طرقهم اغتصاب وسحق« (آ7). أمّا عبادة الأصنام، فلبثت حاضرة بعد المنفى كما كانت حاضرة في المنفى (65: 3-7؛ 66: 3، 17). ونقرأ النصّ، وفيه تتحدَّث السماء إلى هؤلاء المتمرِّدين:

57:3 وأنتم اقتربوا إلى هنا،

يا بني القارئة في النجوم

يا زرع الفاسقة والزانية،

4 على مَن تضحكون؟

على مَن تفغرون أفواهكم

وتمدّون ألسنتكم؟

أما أنتم أولاد التعدّي،

وزرع الكاذبين؟

5 المولعون بإيليم(4)

تحت كلِّ شجرة خضراء

ناصرو الأولاد في الأودية،

وتحت شقوق الصخور

ويتوجَّه الكلام السماويّ إلى أورشليم:

6 في حصن الوادي يُصيبك (يا أورشليم)

هي، هي قُرعتُك.

لها أهرقتِ سكيبًا،

أصعدتِ تقدمة!

هل على هذا أعزَّى؟(5)

7 على جبل عالٍ ومرفوع،

وضعتِ مضجعك

هناك أيضًا صعدت

لذبح ذبيحة.

ويضع النبيّ الكلام في فمِ الربِّ الذي يوبِّخ أورشليم على سلوكها:

8 وراء الباب والقائمة،

وضعتِ تذكارك

بعيدًا عنّي تعرّيتِ(6)،

صعدتِ ووسَّعت مضجعك

حين اقتطعتِ(7) لك منهم،

أحببتِ نضجهم

ونظرتِ يدهم

9 وسرتِ(8) إلى الملك(9) بالزيت،

وأكثرتِ (جدٌّا) عطورك

وأرسلت سفراءك إلى البعيد،

وانحططتِ حتّى الشيول(10).

10 طالت طريقك فتعبتِ

وما قلتِ: »أنا يائسة.

وجدتِ حياة ليدك،

لذلك ما ضعفتِ(11).

11 فما خشيتِ وخفتِ

إذ كنتِ تكذبين

وإيّاي ما ذكرتِ

ولا وضعتِ(12) على قلبك!

ألأنّي ساكت، ومن زمن بعيد،

وإيّاي لا تخافين؟

12 أنا أخبرُ ببرارتك (وأيِّ برارة!)

وأعمالك التي لا تنفعك.

13 بزعيقك ينقذك جموعهم(13)

ترفعم الريح كلَّهم

والنفخة تأخذهم.

ولكن اللائذ بي تكون الأرض نصيبه

ويرث جبل قدسي.

وأعلن الربُّ أنَّ أورشليم تكون مدينة مفتوحة. فردَّ جيران المدينة المقدَّسة ببعض استخفاف: هكذا تكون عرضة للسلب والنهب (56: 9-12). وضمُّوا إلى هؤلاء السالبين اليهود الذين تركوا العيش في ظلِّ الشريعة منذ زمن بعيد (زك 7: 1-3). ومعهم مزيج الشعوب المقيمين في المقاطعات المجاورة، مثل الذين طلبوا أن ينضمّوا إلى زربّابل في بناء الهيكل (عز 4: 1-2)، أو أولئك الذين قال لهم ملاخي: أنتم لا تحتاجون إلى التعليم (ملا 1: 6-9).

هذه الاتِّهامات تذكِّرنا بما قاله الأنبياء قبل المنفى، مثل هوشع، وإرميا، وحزقيال. ومرمى هذا الهجوم، الطقوس الوثنيَّة التي تزايدت في الأرض في القرن 8-6. هي مكروهة الآن لدى الربّ، كما كانت في الماضي.

جاءت اللهجة في ف 54-55 مليئة بالأمل والتفاؤل. فجاء 56: 9-12 الهازئ في كلِّ شيء: أين الوداعة والتواضع؟ صارَا بعيدَين؛ فالإنسان يبحث عن خلاصه في بلبلة دائمة ورعدة تجاه الإمبراطوريَّة، وممارسات وثنيَّة تغيظ الربّ. ونلاحظ التعـارض بيـن (الشرّيـر) وبـيـن الصدّيق، البارّ، في 57:1.

ويبدأ ف 57 في صورة عن الفوضى السائدة حيث يتسامحون، ويتجاهلون ما يصيب المؤمنين من اضطهاد. هل انتهى الأمر ونفض الربُّ يده؟ كلاّ(14). فإنَّ آ2 تبدأ مع الواو التي تنقض ما سبق: لا مجال لظلم بعد، بل السلام وما نحمل من بركة. لا للأشرار، بل فقط »للسالكين في الاستقامة«. الله وحده يبدِّل الوضع، والإنسان لا يحمل الخلاص، بل الهلاك. أمّا الأصنام فهي لا تنفع شيئًا. في محطَّة أولى (56: 9-57: 2) تحدَّث النبيّ الأشعيائيّ عن العيش بحسب اللوحة الثانية من الوصايا، التي تدعو المؤمن إلى المحبَّة الأخويَّة، على ما قال سفر اللاويّين: »تحبُّ قريبك مثل نفسك، أنا الربّ«(لا 19: 18-34). مثل هذه المحبَّة الأخويَّة تسمح للإنسان بأن يقوم بالعبادة الحقَّة، لأنَّ محبَّة القريب هي المعيار لمحبَّة الله (1يو 4: 20). ولكن بما أنَّ المحبَّة الأخويَّة غائبة، فهذا يعني أنَّ من اعتبر نفسه »بارٌّا« هو كاذب. هو لا يعرف الله، ولا يحبُّ الله، بل يمضي إلى الأصنام التي يقدر أن يراها، يلمسها، يقبِّلها، يطلب معونتها.

* * *

ضاعت اللوحة الثانية، وتبعتها اللوحة الأولى التي تطلب من المؤمن أن يحبَّ الله من كلِّ قلبه وكلِّ نفسه وكلِّ قوَّته« (تث 6: 4). فماذا يبقى على الرعاة، أو المسؤولين أن يفعلوا؟ أو كيف يجب على الأشرار الذين جحدوا إيمانهم وعاشوا العصيان والكذب، أن يتوبوا؟ بدأ الربُّ الحوار مع الشعب، ثمَّ توجَّه إلى أورشليم في صيغة المفرد المؤنَّث، صارت المدينة المقدَّسة شخصًا حيٌّا بالناس الساكنين فيها. هو حوار ملؤه المرارة: نقُض العهد، وعاشت أورشليم الزنى والخيانة، فاتَّهمها الربُّ بأنَّها جحدت إيمانها وابتعدت عن حبِّها الأوَّل. والنتيجة تكون على المستوى الدينيّ ما على المستوى السياسيّ. حين رفض الشعب الحكم الفارسيّ رفض دور الله (آ9)(15). أمّا النتيجة الثانية التي تبدأ مع »لكن« (آ13) فهو إقامة في الأرض بالنسبة إلى الذين يلوذون بالله وحده.

رأى الكثيرون في 57: 1-13 ليتورجيّا نبويَّة(16) أو مرثاة أو مقال تهديد(17). واعتبر فورار(18) أنَّنا أمام مناقشة بين الله والشعب تنتهي بالدينونة والحكم. بُني هذا النصّ بناء محكمًا، فتوجَّه إلى يهود جحدوا إيمانهم، وحاولوا أن يدخلوا إلى أورشليم، المدينة المفتوحة دون أن يبدِّلوا طرقهم. أفسدوا نظام العدالة وهزئوا بطريق الربِّ في أسلوب عيشهم. يبدأ المقطع بالإشارة إلى الخداع. ويتواصل في بناء شكل نصف دائرة مع ضمير الغائب المفرد (= هو) والغائب الجمع (= هم) والمخاطب الجمع (= أنتم) والمخاطب المؤنَّث المفرد (= أنتِ).

هو الصدّيق يموت، ولا يلاحظ أحد (آ1)

هم (أ) جاء السلام فاستراح الأبرار في مضجعهم (آ2)

أنتم (ب) يا بني الساحرة والزانية، تعالوا (آ3)

أنتم (ج) بمن تسخَرون؟ (آ4)

أنتِ (د): ستَّة أعمال (2مع هم، 4 مع هي (آ5-6)

حجر الفلقة. وضعتِ التذكُّر وراء الباب وتركتِني (آ6-8ب)

أنتِ (د د): ستّة أعمال (آ8ج-10: نظرتِ)

أنت (ج ج). وممَّن خشيتِ (آ11 أب)

أنتِ (ب ب). أنا أخبرُ ببرِّك (آ11ج- 13أ)

هو (أ أ) اللائذ بي يرث الأرض (آ13ب)(19).

في آ2 وآ13ب، لا نعرف على من يدلُّ الفاعل مع هم وهو. إنَّ آ3-5 تتوجَّه إلى المتكلِّمين في صيغة هم كما في 56: 9-12. في آ6-13، صيغة المؤنَّث، هي تدلُّ على أورشليم. بدأ ف 57 بكلام عن » الأشرار الذين تكلَّموا بكبرياء في 56: 9-12. ولكن فُهم أنَّ الممارسات الوثنيَّة في المدينة تماهت مع أورشليم التي يقودها (الرعاة) الأشرار، في خطٍّ يعارض العدل والشريعة والنظام. فالمشاركة في العبادات الوثنيَّة تولّد الخلقيَّة الوثنيَّة.

ومع أنَّ الهيكل أعيدَ بناؤه، فما زال شعب يهوذا وثنيٌّا كما كان من قبل. قبل وصول عزرا ونحميا، نفهم سيطرة الوثنيَّة والعنف الذي لا عقاب له(20). غير أنَّ هذا لا يعني أنَّ المقطع الذي نقرأ يعود إلى الحقبة القبل المنفاويَّة، كما قال وسترمان حين قابل 56: 9-12 مع حز 34: 1-10(21).

الحالة المذكورة هنا تشير إلى نهاية الحرب بين الفرس واليونان، في ما دُعيَ الحروب الماداويَّة مع التراخي على أثر انتقال الحكم من داريوس الثاني الفارسيّ. كانت فترة غابت عنها الراحة والسلام، وبدأت التمرُّدات تطلُّ برأسها(22).

كرَّر الربُّ اللائحة بستَّة أعمال، إلى أورشليم (آ8ب- 9) في صيغة أنتِ. والاثنان الأخيران ينطلقان من الوثنيَّة الرمزيَّة إلى التمرُّد السياسيّ: »وأرسلتِ رسلك إلى البعيد، ونزلتِ حتّى الهاوية«. نلاحظ التــوازي بيــن في آ7 (وضعتِ) مع »مضجعك ( ). ثمَّ »تذكارك'' في آ8أ . والتلاعب على الحروف مع (آ8أ، جليتِ) ثمَّ (علوتِ، ارتفعتِ) واستعمال »خفت« ( ) مرَّتين في آ11.

ج- الخلاص من أجل الضعفاء (57: 14-21)

توجَّهت كلمات الخلاص إلى المؤمنين الذين لبثوا شعبَ الله وما جحدوا إيمانهم لا في العبادات الوثنيَّة ولا في التعامل مع إخوتهم وأخواتهم. في الماضي، بكوا وندبوا حظَّهم بسبب الشرِّ السائد والسلب والنهب (56: 11). أمّا الآن، فنالوا العزاء حين غفر لهم الربّ، وشفاهم وحمل إليهم السلام، ولكن (آ20-21). لكنَّ الذين يعاندون في كفرهم ويتمرَّغون في حمأة شرورهم، يبعدون نفوسهم عن السلام. ونقرأ النصّ:

57: 14 ويقول(23): مهِّدوا، مهِّدوا، وجِّهوا الطريق،

إرفعوا كلَّ معثرة من طريق شعبي

15 لأنَّ هكذا قال العليُّ والرفيع

الساكن في الخلود، والقدّوسُ اسمُه.

ذاك كان قول المنادي أو النبيّ، وكأنَّه يريد أن يقدِّم لنا الربَّ وهو يكلِّمنا في صيغة المتكلِّم المفرد: أنا أسكن«.

15 علاءً ومقدسًا(24) أسكن

ومع المنسحق والمتواضع الروح

لأحيّي أرواح المتواضعين،

لأحيّي قلوب المنسحقين،

16 فأنا لا أخاصم إلى الأبد،

ولا على الدوام أسخط،

فأمامي تضعف الأرواح

والنسمات التي أنا صنعت.

17 لأنَّه أذنب في مكسبه(25)، سخطتُ،

وضربته في السرّ، وسخطتُ

فمضى(26) مرتدٌّا في طريق قلبه.

18 طرقَهُ رأيتُها!

بالرغم من كلِّ ذلك، يبقى الربُّ هو هو لا يتبدَّل. فعل في الماضي ويفعل اليوم، شرط أن يتجاوب الإنسان معه.

18 فأنا أشفيه وأقوده(27).

وأتمِّم التعزيات(28) له ولنائحيه،

19 خالقًا(29) ثمر(30) الشفتين: »سلام سلام(31) للبعيد(32) وللقريب«(33)،

قال الربّ، وأشفيه.

20 والأشرار (يكونون) كبحر يفيض(34)،

وهو لا يقدر على الراحة

وتفيض مياهُه حمأة وطينًا

21 لا سلام للأشرار، قال إلهي.

جاء هذا المقطع يحمل فعلاً ملتصقًا بما سبق: »لا خلاص للخصوم« (48: 22؛ 66: 24). وهو يمزج تشجيعًا متفائلاً من أجل »بناء طريق« مع إقرار واضح بأن جحود الإيمان ما زال مسيطرًا. وهكذا يوجز الإنشداد بين غضب الله تجاه الخطيئة، واستعداده لشفاء شعبه ومدينته. لهذا دُعيَ 57: 14-21 قول خلاص، وإن دخل في هذا الفنّ الأدبيّ المزج بين عناصر إيجابيَّة وعناصر سلبيَّة.

مهِّدوا الطريق. أعطوها وجهًا لكي يمرَّ عليها الربُّ ضيفُ أورشليم للاحتفال بالعيد. هي أقوال ثلاثة، وكلُّ قول يبدأ مع . في آ15أ: : لأنَّ هكـذا. فــي آ16أ: : لأني لا أخاصم. آ16ب: : لأنَّ روحًا. وتواصل الكلام مع شرح (آ17-18) يجعل الدعوة ممكنة والوعد (آ19). وينتهي المقطع مع إعلان معارض: هنا الوعــد لـن يكـون للأشـرار ، للخصوم (آ20-21)(35). لم يأتِ الحلُّ بعد بالنسبة إلى المقاومة القاسية داخل أورشليم. ولكن مخطَّط الله سار مسيرته وهو سوف يكمِّلها ساعة يشاء وكما يشاء(36).

2- قراءة النصّ

أ- رعاة أردياء

اشتكى نبيُّ الله من حالة مزرية يعيشها الذين هم ضحايا بسبب الوضع الجديد بعد المنفى. المسؤولون لا يفعلون شيئًا. وهذا ما يعرِّض البلاد لكلِّ الابتزازات الممكنة. هذا يعني أنَّ رعيَّة الربِّ لا تنعم بالرعاية الحقَّة. الكلب حاضر ولكنَّه لا يقدر أن ينبح. والراعي نائم، سكران، غارق في أحلامه. ماذا وجد العائدون؟ الهيكل محروق، والذبائح تقدَّم على مذبح شيِّد بسرعة. وأسوار المدينة؟ مهدومة. وأبوابها؟ محروقة (نح 1: 3). والخصوم عديدون (عز 4: 1ي).

ما الذي يفعل الربّ؟ يرسل على هؤلاء ''الرعاة'' وحوش البرّ. أما هكذا فعل بصبيان هزئوا بالنبيّ أليشاع (2مل 2: 24)؟ أرسل عليهم دبَّتين. أترى هؤلاء الرعاة لا يستحقّون ذلك.

لمن يتحدَّث النبيّ؟ عن مدبِّري الشعب أو الكهنة أو الأنبياء(37)؟ أيٌّا يكونون فهم عميان(38). وكيف يكون الأعمى حارسَ المدينة؟ هو لا يُرى، أمّا هنا فالرؤساء لا يريدون أن يروا وبالتالي أن يفعلوا. وإذا كنّا في إطار العودة الأوَّل، فالرعاة يكونون حكّام السامرة مع الذين يمثِّلهم في أورشليم ويطلب رضاهم، هم يبحثون عمّا يفيدهم ويريحهم. هم لا يعرفون كالأنبياء الكذبة، وإن عرفوا لا يفعلون. من أجل منفعتهم يلبثون صامتين. يتظاهرون أنَّهم نائمون. يا ليتهم يتشبَّهون بالكلاب التي تحرس القطيع (أي 30: 1).

شبَّههم النبيّ بالكلاب، والكلب محتقر في الشرق (تث 23: 19؛ 1صم 17: 43)، بل هم أقلّ من الكلاب في القيام بواجب الحراسة. فالواجب الذي يدفعهم إلى العمل هو منفعتهم الخاصَّة، وتكديس الخيرات. هم لا يشبعون. ذاك كان وضع الأنبياء الذين يُشرَون ويباعون، والحكّام الجائرين(39). أهؤلاء يكونون رعاة؟ يصفهم إر 10: 23: هم بلداء، لا يطلبون الربّ (رج حز 34: 1-10)، كلُّ حياتهم تتلخَّص في هذا النشيد الذي ينشدون: تعالوا نأخذ الخمر، نمتلئ من السكر. اليوم وغدًا وبعد غدٍ، في خطِّ ما قال الرسول: »نأكل ونشرب فإنّا غدًا نموت« (1كو 15: 32)، وسبقه أشعيا (22: 13).

ساعة يعيش »العظماء« عيدًا متواصلاً، يكون الأبرار قريبين من الهلاك. ذاك ما يقوله الربُّ في مثل لعازر والغنيّ. رجل غنيّ يلبس الأرجوان والبزّ، ويتنعَّم كلَّ يوم ويترفَّه (لو 16: 19). وعند بابه مسكين. هو مطروح عند باب ذاك الغنيّ، ولكن اسم المسكين: لعازر، أي الربّ مساعدي وعوني. ذاك هو وضع الأبرار عند النبيّ الأشعيائيّ. »ولكن يأتي السلام«. فكأنَّ الله دعا نفسه السلام، دعا نفسه البركة. هو الذي يهب الراحة. بعد ذلك لم تبقَ حاجة للاتِّكال على البشر، بل على العظماء (مز 118: 8-9).

وضع مؤلم يعيشه الأبرار: يضربهم الشرّ ولا من يبالي، ولا من يتدخَّل لكي يعيد الحقَّ لمن هم ضحيَّة الظلم. ذاك معنى أوَّل. واقتُرح معنى ثانٍ يتحدَّث عن رقاد الأبرار في سعادة خالدة، وفي راحة بعد الموت على مثال ما نقرأ في أي 3: 13-19: أنام ساكنًا، مستريحًا. في هذا الخطّ راح سفر الحكمة حيث الربُّ يأخذ معه أولئك الذين يمكن أن يؤثِّر الشرُّ عليهم: »أمّا نفوس الأبرار فهي بيد الله، فلا يمسّها عذاب« (حك 3: 1).

ب- يا أبناء يعقوب، يا أورشليم

إذا كان الأشرار هم الذين أخذوا المؤمنين إلى السبيّ، وإذا كانوا أولئك الحكّام الذين جعلتهم المملكة الفارسيَّة يتسلَّطون على أورشليم، فهم يستحقّون العقاب، وأولاد الله يعرفون الراحة طالما لبثوا سالكين في الاستقامة. ولكن هل الشعب كلُّه ينطبق عليه المزمور الأوَّل؟ »طوبى للرجل« إن هو كان مع الأبرار لا مع الأشرار؛ إن وقف يحادث الصدّيقين لا الخطأة؛ إن جلس مع الذين ينظرون باحترام إلى العائشين بحسب وصايا الله، لا مع الذين يهزأون منهم.

بنو يعقوب ليسوا أفضل من غيرهم، وكلام الربِّ يتوجَّه إليهم ويكون قاسيًا. يرتبطون بالسحر وكأنَّهم يريدون أن يفرضوا إرادة »إبليس« على إرادة الله. يرتبطون بالزنى والفسق. تلك كانت ممارسات معروفة في ديانة بعل، وفيها يشارك من دُعوا مؤمنين، فجدَّف الناسُ على الله بسببهم (رو 2: 24). ويتوالى الوصف فيربكهم والتمرُّد والتعدّي على شريعة الله. في النهاية، كانوا زرعًا فصاروا زرعًا آخر. كانوا زرع الحقّ، فصاروا زرع الكذب. ذاك ما سوف يقول يسوع لأولادهم: الذين دعوا نفوسهم أبناء إبراهيم وبالتالي أبناء الله (يو 8: 42)، بل أبوهم هو إبليس: »ذاك كان قتّالاً للناس من البدء، ولا يثبت في الحقّ... لأنَّه كذَّاب وأبو الكذب« (آ44). لهذا نراهم يهزأون بالأبرار، يضحكون عليكم، يمدّون ألسنتهم.

ولماذا هذا الانحدار على مستوى الشعب، على مستوى أورشليم التي يجب أن تكون مدينة الله وموضع حضوره؟ لأنَّهم تركوا الربَّ وعبادته، والتحقوا بالأصنام وشعائرهم الدينيَّة. هم »مولعون«، يستسلمون للفسق والفجور، ويقدِّمون أولادهم ذبائح للآلهة، لا في وادي جهنَّم فقط، بل في أكثر من وادٍ، للإله ''مولوخ'' الذي هو الملك الحقيقيّ لهؤلاء الفاسدين (آ9).

وينتقل النبيّ من أبناء يعقوب إلى أورشليم. هي عروس الربِّ الخائنة. ميراثها، نصيبها هو الله الذي يجمِّلها ويخلِّصها. الله حصَّتها ولا يمكن لأحد أن ينتزع منها تلك الحصَّة، كما أنَّها هي أيضًا حصَّة الله. تركت الله، وبحثت في الوادي عن إله الخصب في أوتاد واقفة، عن الإله الذكر الذي يقدِّمون له التقادم والسكائب'' طعامًا يؤكل (لا 2: 1-3) وشراب الخمر (إر 7: 18؛ 19: 13؛ 32: 39). شجبت التوراة هذه العبادة شجبًا قاطعًا، بعد أن مارستها الشعوب القديمة. قال موسى بفم الربّ: »تهدمون مذابحهم، تحطِّمون أنصابهم، تجدعون أشيراتهم« (تث 7: 5) التي تدلُّ على الإله الذكر.

حين تُقرَّب هذه التقدمات إلى غير الإله الواحد، أتُرى يجد عزاء وراحة؟ مثل هذا المشهد كريه في عينيه، ولا سيَّما بما يحمل فسادًا على مستوى الفسق والدعارة. قال الربُّ للشعب في معرض الكلام عمّا فعل لهم منذ الخروج من مصر: »أخرجك الربُّ بيد قديرة« (خر 13: 9). إذًا يكون ذكر هذا الخلاص على يدك، بل بين عينيك بعد أن نظر الربُّ إلى شقائك. وفي فمك: تنشد عظائم الله وعطاياه، ولا تنشد السراب الذي اعتبرتَ أنَّك نلتَه من إله الخصب. اقتطعت أورشليم حصَّتها من هذا الإله الذكر. أخذت حصَّتها وتأمَّلت فيها واعتبرت أنَّها منبع الحياة عندها.

في الإطار الأصناميّ، يواصل الربُّ كلامه إلى المدينة المحبوبة: سرتِ إلى الملك. هو إله كاذب يُدعى الملك، فيحلُّ محلّ الله الذي يجب أن يكون الملك في شعبه (1صم 8: 5: اجعل لنا ملكًا... إيّاي رفضوا، آ7). جعلت السبعينيَّة هذا الملك مولوخ، moloc(40). في الأصل، المُلك هو ذبيحة لدى الفينيقيّين والفونيقيّين(41)، قبل أن يصبح إلهًا ويتماهى مع ملكوم إله العمونيّين. في 1مل 11: 7 نعرف أنَّ سليمان بنى مرتفعًا »لمولك«، الذي تدعوه السبعينيَّة هنا »الملك« BasileuV(42).

مثل هذه التقدمات »للملك« تدلُّ على انحطاط أورشليم. أرسلت إليه »السفراء«، أرسلت إليه الأطفال حين أحرقتهم، فمضوا إلى إله الأسافل. وبما أنَّ معابد مولوخ كانت في عمق وادي جهنَّم، وفي عمق وديان أخرى، نزلت المدينة المقدَّسة إلى هناك لتجد »إلهها«. لا يمكن أن تنحدر بعد أكثر ممّا انحدرت.

تعبت المدينة من المضيّ إلى عالم الموت، إلى الإله مُوت، كما دعته أوغاريت والعالم الفينيقيّ(43)، وتعبت من إرسال أطفالها إلى هناك، ولكنَّها لم تيأس، ولا خسرت عزيمتها. فهي تستعدُّ لإرسال أطفال آخرين. في هذا المناخ، قال إرميا: »إحفظي رجلك من الحفاء، وحلقك من الظمأ!

فقلت: »باطل، هل يئست؟ كلاّ!

فأنا أحببتُ الآلهة الغرباء ووراءهم أسير« (2: 25).

أمّا أشعيا، فقلب الجملة الإرميائيَّة:

»طالت طريقك فتعبت،

وما قلتِ: أنا يائسة!« (57: 10).

هي قتلت الأنبياء، واستعادت عافيتها من أجل جرائم أخرى. يده جاهزة ولا تضعف. هذا يعني أنَّها لا تخاف أحدًا. لا تخاف الربَّ ذاته، لأنَّها تسمح لنفسها أن تكون كاذبة معه إلى هذا الحدّ. جعلت نصبًا يذكِّرها بإله كاذب وبعدها بالخصب (آ8). فلماذا تتذكَّر بعد الإله الحقيقيّ والخالق وحده؟ ما وضعت على قلبها الربَّ عريسَها، بل عشّاقها البعليم. والذريعة؟ الله ساكت، لا يتحرَّك، لا يتدخَّل (42: 14). إذًا، نسيَت أنَّه السيِّد المخلِّص، وما عادت تحترم إرادته القدّوسة. ولكنَّ الله لا يبقى ساكتًا. ها هو يتجلّى ويشجب برارة كاذبة تتغنّى بها المدينة الضالَّة. أعمالها تعدِّيات على شريعة الربّ (58: 1). أتُراها تنفعهم؟ فإن وضع الربُّ عروسه أمام الشقاء الذي ولدته ذنوبها، فأيّ إله يخرجها من جحيمها؟ تزعق، تصرخ ولا من يسمع ولا من يُنقذ، الآلهة جموع غفيرة ولا يستطيعون أن يجمعوا الشعب المشتَّت. الربُّ وحده هو الذي يجمع أولاده (56: 8). هذا ما يذكِّرنا بمشهد الذبيحة على جبل الكرمل: من جهة إيليّا وحده، ومقابله كهنة البعل وأنبياؤه الكثر. هم ما أنزلوا نارًا من السماء. أمّا إيليّا فما إن هتف »استجبني يا ربّ، استجبني« (1مل 18: 37) حتّى »سقطت نار الربِّ، وأكلت المحرقة والحطب والحجارة والتراب« (آ38).

ولكن. وتعود أداة الضعف مرَّة ثانية بانتظار المرَّة الثالثة في 57: 20. ذاك ما يصيب الأشرار: يتشتَّتون مع أصنامهم، تأخذهم الريح. ولكنَّ الذين يلوذون بالربِّ فهم ثابتون، مثل شجرة الزيتون (مز 128: 8) التي يهتمُّ بها الله ويرعاها. الذين يتعلَّقون بالربَّ يقيمهم على أرضه التي تكون حصَّتهم، قرب الجبل المقدَّس ميراثهم. وحدهم يرثون ملكوت الله. هنا نترك مملكة الأرض وننفتح على مملكة السماء التي يمنحها يسوع المسيح بحضوره في وسط البشر.

ج- الحنطة وسط الزؤان

أمَّة خاطئة. مدينة زانية. أما بقي فيها أحدٌ يتعلَّق قلبه بالربّ؟ أنردِّد كلام إيليّا: »بقيت وحدي«؟ (1مل 19: 10). لا، لم يكن إيليّا وحده. بقيت سبعة آلاف ركبة لم تركع أمام البعل. وعالم الأرض لا يحمل الزؤان فقط، بل الحنطة أيضًا. بدا كلام النبيّ هنا في خطٍّ معاكس لما في الإنجيل: بعد الزرع الجيِّد جاء الزؤان (مت 13: 24-25). ولبثا معًا حتّى يوم الدينونة. أمّا عند النبيّ الأشعيائيّ، فالزؤان يملأ أورشليم، ولكنَّ الحنطة حاضرة أيضًا.

لا شكَّ في أنَّ هناك الفاسدين. ولكن في المدينة أيضًا المؤمنون الذين حافظوا على الأمانة للعهد، ومعهم يواصل الله قصده الخلاصيّ. فهذا الشعب الذي كان خاطئًا، قد نال الغفران الآن، فوجد عزمًا جديدًا. ونال مواعيد سعادة ذكَّرتنا بأقوال النبيّ الأشعيائيّ قبل المنفى. قال النبيّ هنا:

مهِّدوا، مهِّدوا، وجِّهوا الطريق،

إرفعوا كلَّ معثرة من طريق شعبي (57: 12).

فتذكَّرنا 40: 3:

»أعدُّوا طريق الربّ،

قوِّموا في القفر سبيلاً لإلهنا«.

وقال النبيّ هنا إنَّ الربَّ »ضرب« شعبه، فمضى »مرتدٌّا في طريق قلبه« (آ17)، رافضًا العودة، فبدا كلامه امتدادًا لما في 54: 8:

»بفيضان سخطٍ سترتُ وجهي لحظة منكِ،

وبلطفٍ أبديّ رحمتك، قال الربُّ مفتديك«.

في 42: 3، أعدَّت الطريق للربِّ الذي يعود من المنفى مع شعبه. وفي 57: 14، أعدَّت الطريق للشعب الذي اجتمع من الشتات حول الربِّ، في مدينته. فهذا الإله لم يترك يومًا شعبه، المعذَّب والممزَّق. فمع أنَّه الإله المتسامي، فهو أيضًا ذاك الذي يكون قريبًا من أولاده. هو إله رفيع، قدّوس، فلا مكان ولا زمان يحدّانه. وهو لا يكتفي بأن يرى الضعفاء من أعلى سمائه، بل يعيش معهم ويعيد إليهم العافية. أترى ذاك الذي يعطي الحياة ويحفظها، يحمل الموت إلى أبنائه ولو كانوا خطأة؟ كلاّ. غير أنَّ هذا لا يعني أنَّ شعبه يستحقُّ »الحياة«، فهو خاطئ. لكنَّ الله يحافظ على كرامته وشهرته بأنَّه اللطف والقدرة والحنان. ولهذا يُخلص. ولكنَّ الله يعرف كم الإنسان سريع العطب، لهذا يتحنَّن عليه. هو إله (هو 11: 9)، لا إنسان. ولا يبقى عاضبًا على الدوام. قال هنا:

»فأنا لا أخاصم إلى الأبد،

ولا على الدوام أسخط« (آ16).

في الخطِّ عينه قال مز 103: 9-10 عن الربِّ الذي لا يحاكم إلى الأبد ولا يحقد: »لا يصنع معنا بحسب خطايانا، ولا يجازينا بحسب آثامنا«. فلو ترك الله الرحمة جانبًا، لهلك كلُّ حيٍّ يتنفَّس، ولزالت كلُّ نسمة على الأرض. ولكن لا. إن كان سخط في الماضي، فهو الآن يحيل العزاء. سخط الربُّ بسبب النهب والسلب الذي مارسه العظماء، كما مارسه الشعبُ أيضًا، فتبع كلُّ واحد طريق قلبه. لهذا جاء العقاب. لا العقاب الذي يدمِّر، بل ذاك الذي يشفي. يشفي شعبه، يوجِّهه (58: 11)، يشجِّعه. يعزّي أولئك الذين خسروا أحد أفراد عائلتهم، أو دُمِّر بيتهم، أو سُلب كرمُهم. شفاه مغلقة سوف تنفتح وتهتف. أنّات تكاد لا تُسمَع، سوف تصبح نشيدًا يحمل أطيب الثمار. ثمار السلام للجميع، للبعيدين المشتَّتين في أصقاع الأرض، للقريبين المقيمين في أورشليم وجوارها. ذاك هو مصير اللائذين بالربّ(44).

والآخرون، المعاندون؟ الذين يرفضون طريق الربّ؟ لا يجدون السلام. قيل هذا الكلام عن البابليّين الذين استعبدوا أهل أورشليم ويهوذا (48: 22). وها هو يُقال في الرؤساء والأقوياء الذين يستعبدون الشعب الضعيف، المنسحق. يبدون كموج البحر، لا يعرفون السكون ولا تقدَّم لهم قائمة. كم نحو قريبون من مشهد الدينونة كما رواه متّى. بدأ مع الذين أطعموا الجياع وسقوا العطاش وألبسوا العراة. تعالوا يا مباركي أبي. ثمَّ عاد إلى الذين رفضوا أن يطعموا، يسقوا، يلبسوا، يزوروا. إذهبوا عنّي يا ملاعين إلى النار الأبديَّة (مت 25: 31-46). والنبيّ الأشعيائيّ تحدَّث عن الأمناء للربّ. هم ينعمون بالسلام وملء البركة. ولكنَّ الأشرار. انعكس الأمر كلُّه. الأشرار لا يكون لهم سلام ولا بركة. البعيدون يلبثون بعيدين، والقريبون يُشتَّتون. فيشبَّهون بقايين الذي بدا ''تائهًا وفارٌّا في الأرض'' (تك 4: 14).

الخاتمــــة

طرح النبيّ الأشعيائيّ السؤال: كيف يستطيع الله أن يعمل في عالم ناقص، ووسط شعب خاطئ؟ عاشوا في المنفى البابليّ فتعلَّموا حياة الرخاء التي تحتاج إلى المال. وعرفوا أنَّ القويّ يعرف كيف يكدِّس المال ولو بالظلم والجور. والمدينة المقدَّسة مفتوحة على كلِّ التأثيرات الخارجيَّة، تبعت الأصنام المجاورة، والآلهة التي تمثِّل الأمم القويَّة. ومع ذلك، فالله يعمل، لا مع الأشرارُ الرافضين لشريعته والمتتمرِّدين على مقصده، على المستقيمين، السالكين في طريق الربّ. مع الأمناء، اللائذين بالربّ وبالربِّ وحده. الذين لا ينتظرون الخصب من الأصنام، والنجاح من العظماء. هؤلاء وحدهم يعرفون السلام في أيِّ مكان يعيشون. يدعوهم إلى بيته، إلى هيكله، شرط أن يكونوا تائبين، خاضعين، منسحقي الروح. لا حاجة في أن يتذكَّروا خطاياهم، فالربّ غفرها لهم وما عاد يذكرها. فهل يستعدُّون لمواصلة المسيرة مهما كانت الصعاب التي تواجههم؟ ذاك هو التحدّي الكبير أمام الذين مضوا إلى المنفى وعادوا وهم لا يملكون شيئًا، وأمام الذين لبثوا في الأرض فتعلَّقوا بالأرض ونسوا ملكوت الله.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM