الفصل الثامن عشر :من إبراهيم إلى يعقوب في النبؤة الأشعيائية

 

الفصل الثامن عشر

من إبراهيم إلى يعقوب

في النبؤة الأشعيائية

حين نقرأ النبوءة الأشعيائيَّة في ما يُسمّى أشعيا الثاني وأشعيا الثالث، يلفت نظرنا الأسماء المذكورة، وكأنَّ الناس أرادوا أن تكون لهم معالم يكتشفون الطريق على ضوئها. في مسيرة البرّيَّة، كان لهم موسى الذي جُعل بقربه هارون في إطار التقليد الكهنوتيّ. مع النار في الليل، كما أرسلها الربُّ لهم ضياء. والغمام في النهار لكي يكون لهم ظلاٌّ يقيهم حرَّ الشمس في تلك الصحراء الواسعة، على ما قال المزمور: »لا تؤذيك الشمس في النهار ولا القمر في الليل« (مز 121: 6). أمّا في مسيرة الشعب خلال المنفى البابليّ، فأطلَّ عليهم إبراهيم، يعقوب، يهوذا، موسى، داود. تذكَّروا يهوذا، أحد الآباء، الذي خــرجــوا مـــن صـلـبــه (48: 1) وهــم يشكِّلون الآن نسله (65: 9). وداود الذي تعاهد الله معه عهدًا خاصٌّا (55: 3). نتوقَّف عند وجهين: إبراهيم ويعقوب. كان إبراهيم بداية، بداية مسيرة الإيمان. ويعقوب بداية، بداية الشعب العبرانيّ بقبائله الاثنتي عشرة. سيكونون صورة بعيدة عن الرسل الاثني عشر الذين هم أسس الكنيسة، شعب الله الجديد، تجاه الشعب الأوَّل الذي بدأ بقيادة موسى.

1- إبراهيم

توجَّه النبيّ إلى شعب ضائع، فسعى لإعادة الاطمئنان إلى قلبه، مع صورة إبراهيم، خليل الله؛ وإلى شعب ذاهب إلى الموت، فبيَّن له أنَّ اسم إبراهيم هو أبو جمهور كثير، هو المبارك الذي كثر نسله. وحين ظنَّ هذا الشعب أنَّه يقدر أن يستند إلى إبراهيم، كما يستند أهل بابل إلى أبطال صاروا في عالم الأسطورة، أفهمه النبيّ أنَّ لا أبَ له سوى الربِّ الإله. لا يمكن أن يكون إبراهيم أبانا فيحلُّ محلَّ الإله الذي في السماوات. كما لا يمكن أن يكون داود ملكنا، بحيث ننسى ملك الملوك وربّ المُلك، الإله الواحد الذي عرشه فوق الدهور.

أ- إبراهيم، خليل الله

أطلَّ الخلاص بالنسبة إلى المنفيّين. ولكن من يحمل هذا الخلاص؟ أشخص من بيت داود؟ كلاّ. بل ملك وثنيّ اسمه كورش. أنهضه الربُّ من المشرق، فلاقاه النصرُ في كلِّ خطوة (أش 41: 2). تبلبل المنفيّون، فبدوا وكأنَّهم يرفضون هذا التدخُّل من شخص غريب عن الشعب الذي سار مسيرة الإيمان منذ إبراهيم، ونسوا أنَّ المنشار لا يقدر أن يفتخر على من يحرِّكه، والفأس لا تتكبَّر على من يقطع بها (أش 10: 15). فالربُّ هو من يرفع القضيب بيد الراعي، ويمسك العصا ليقود شعبه. فطلب فعل إيمان من قبل المؤمنين: »أنا الربّ. أنا الأوَّل والآخر« (41: 4). الأرض كلُّها ارتعدت ممّا رأت من أعمال قمتُ بها، أمّا أنتم، فما لكم أن تخافوا (41: 8-10):

8 وأنت يا إسرائيل عبدي،

يا يعقوب الذي اخترته،

من نسل إبراهيم خليلي.

9 يا من أخذته من أقاصي

الأرض

ودعوتُه من أبعد أطرافها

وقلت له: أنت عبدي.

واخترته وما رفضته.

10 لا تخف فأنا معك،

ولا تتحيَّر فأنا إلهك

أما قوَّيتك ونصرتك

وبيميني الصادقة سندتك؟

»خليلي«. في العبريَّة: . من فعل » «. أحـبّ. فإبراهيـم هو محبوب الله. الربُّ أحبَّه وهو أحبَّ الربّ. و»الخليل« كما في الترجمات، يعني من هو الصديق الودود، صاحب الصداقة الصادقة الذي أحتاج إليه ويحتاج إليّ. أمّا الفعل العبريّ فيرتبط، على مستوى المعنى، بفعل »هبَّ« بمعنى أنَّ الشخص ينجذب إلى الأرض أو إلى ما يقدِّمه الصديق. في هذا المعنى يرد مز 40: 17:

فينشرح صدر كلِّ من يطلبك،

ويفرح بها كلُّ من يحبُّ خلاصك.

يترافق مع : أعجب الذي يعني في ما يعني »أحبّ« في العربيَّة. كان موضوع الرضى والسرور. لهذا، أحبَّ يعقوب ابنه يوسف، ومحبَّته كانت نتيجة الإعجاب (تك 37: 3، 4). جمع حزقيال الفعلين معًا: »وزنت أصوله (التي تدلُّ على السامرة، عاصمة مملكة الشمال) عليّ، وعشـقت محبّيهــا

فحـرف الجـرّ يــدلُّ على ميلٍ من السامرة إلى أشور، كما من الحبيب إلى الحبيب.

قالت اليونانيَّة: إبراهيم الذي أحببتُ .on hgaphsa وجاء هذا الحبُّ في امتداد الاختيار .exelexamhn هذا ما يذكِّرنا بنصٍّ من الإنجيل، حين جاء الشابُّ إلى يسوع يسأله عن الطريق للبلوغ إلى الحياة الأبديَّة. يقول مر 10: 21: »فنظر إليه يسوع بمحبَّة«. حرفيٌّا: أحبَّه ?.hgaphsen auton في السريانيَّة، كان بالإمكان القول . ولكنَّه قال ، وكأنَّ الـنصّ يـجمع الحبُّ والاختيار مع الرحمة.

فالشعب نسل إبراهيم. وكما أحبَّ الربُّ الأب فهو يحبُّ الأبناء. في هذا الإطار، أعيدت قراءة خبر إبراهيم الذي جاء من أور ومن حاران. يروي سفر التكوين عن تارح والد إبراهيم: »وأخذ تارح أرام ابنه...، فخرج معهم من أور الكلدانيّين ليذهبوا إلى أرض كنعان، فجاؤوا إلى حاران وأقاموا هناك« (تك 11: 31).

جمع إبراهيم في شخصه شمال بلاد الرافدين، حيث كانت المملكة الأشوريَّة، التي سبت من مملكة إسرائيل الشعب الكبير، كما جمع الجنوب حيث كان بنو يهوذا. وكان صراع بين الذين مضوا إلى السبي، وأولئك الذين لبثوا في البلاد. هؤلاء اعتبروا نفوسهم أنقياء ولا خطيئة عليهم. فجاء كلام النبيّ حزقيال قاسيًا. دوركم آتٍ، فعجِّلوا وتوبوا. وكان جواب المنفيّين: كما جاء إبراهيم من المنفى، كذلك نعود نحن ونسير في خطاه. كان وحده فصار شعبًا كثيرًا. ونحن نعود والربُّ ينمّينا. وهكذا ننتقل إلى النصِّ الثاني الذي يحدِّثنا عن إبراهيم في النبوءة الأشعيائيَّة.

ب- إبراهيم ونسله

اختلطت المسيرة في ما يُسمّى الشخصيَّة المتضمّنة، بمعنى أنَّ ما نقول عن الجدّ، نقوله عن النسل، وما نقوله عن النسل ننسبه إلى الجد. كان إبراهيم في أرض بعيدة، »في أقاصي الأرض... وأطرافها« (4: 19). وكذلك كان الشعبُ. قال الربُّ في أش 43: 5-6:

5 لا تخف فأنا معك!

من المشرق آتي بنسلك،

ومن المغرب أجمع شتاتك.

6 أقول للشمال: هات،

وللجنوب: لا تمنع!

جئني ببنيَّ من بعيد،

وببناتي من أقاصي الأرض!

إبراهيم جاء من الجنوب البعيد. كان وحده. كلاّ. بل الربُّ كان معه: »أجعلك أمَّة عظيمة، وأباركك، وأعظِّم اسمك وتكون بركة... ويتبارك بك جميعُ عشائر الأرض« (تك 12: 2-3). تلك البركة لازمت إبراهيم، ومن خلاله، لازمت بنيه. وهم إذ نظروا إلى من هو أبوهم، نظروا إلى المستقبل الذي ينتظرهم. فالثقة تنقص العديدين بحيث يعتبرون أنَّ مُلك الله انتهى. أين المواعيد؟ أين الصدق؟ فنحن لا نرى شيئًا في هذا الضباب الكثيف. يهتف النبيّ في 51: 1-3:

1 إسمعوا يا من يريدون الحقّ،

ويطلبون عدالة الربّ!

أنظروا إلى الصخر الذي

نُحتُّم منه

وإلى المقلع الذي منه

اقتُلعتم!

2 أنظروا إلى إبراهيم أبيكم،

وإلى سارة التي ولدتكم.

دعاه الربُّ وهو رجل واحد،

وباركه وكثَّر نسله.

3 الربُّ يعزّي صهيون،

يعزّيها على كلِّ خرابها

ويجعل قفارها كعدن

وصحراءها كجنَّة الربِّ

فيعود إليها الفرح والسرور

وتنطلق بالحمد وصوت

النشيد.

»إسمعوا«، حرفيٌّا: »استمعوا إليَّ« ( ). هو الإصغاء المتنبِّه. تدخل الكلمة إلى الآذان. تصل إلى القلوب. تحرِّك المشاعر وتدفع إلى العمل. هو الأب (أو الأمّ) يكلِّم أبناءه. كأنَّه يدعوهم إلى جلسة سرّيَّة، حميمة. تريـدون الحـقّ. الفـعـل : »لاحق«، »طلب بعــزم وقوَّة«، و»الحـق« هو (الصدق)، والفقرة الثانية: : »أنتم تطلبون الربّ«. يقابل اللغويّون مع العربيَّة »بحث«. في المعنى الأوَّل: طلب الشيء تحت التراب. مثلاً طلب المعدن من ذهب وغيره. في العاميَّة اللبنانيَّة »بحش« التي هي سريانيَّة الأصل (حفر). نحن نطلب الربَّ فقط.

»أنظروا«، . »تطلَّعوا إلى« . هو تحرَّك نحو أبي الآباء. والصفة الأولى هو الصخر. هو الصلابة التي يمكـن الاستنـاد إليهـا. . بــل هــو »المقلع«،

، في العربيَّة: »منقب«. من نقب الحائط خرقه أو ذهب في الأرض. كأنَّه يقول: جذوركم عميقة عمق بئر نقبتموه، حفرتموه. إرجعوا إلى الجذور، ولا تتوقَّفوا عند القشور. إرجعوا إلى الماضي خذوا منه العبرة، فالوضع الحاضر يعطيكم فكرة سيِّئة عمّا ينتظركم. نُحتُّم من الصخر. من نحتكم؟ الربّ. نُقرتم من بئر. من نقركم؟ الربّ. فصيغة المجهول تدلُّ على عمل الله، حين الكاتب لا يريد أن يذكــر اسمـه تعالـى. والفعـل هـو . »نقر«، »ثقب«، »حفر«. مع صورة المنقار.

ويوضح النبيّ: أنظروا إلى إبراهيم، وإلى ساره، جدِّ الشعب وجدَّة الشعب. كيف تصرَّف الله معه؟ دعاه. وكان الردُّ من إبراهيم: نعم، ها أنا. »أترك أرضك وعشيرتك« (تك 12: 1). نترك الأرض، »ورحل كما قال له الــربّ« (آ4)، والــربُّ يـدعــوكــم إلــى الرحيل. والعودة من السبي صوَّرت العديدين الذين لبثوا في بابل وما عادوا إلى أرض يهوذا. ولكنَّ الربَّ يقول بلسان النبيّ (ف 43):

16 فتحت في البحر طريقًا

وفي المياه العاتية مسكنًا

وتقولون: هذا في الماضي. فأقول لكم: أتركوا الماضي. وانظروا الآن:

19 في الصحراء أشقُّ طريقًا

وفي القفر أجري الأنهار.

فماذا تنتظرون للسير في خطى أبيكم، في رفقة أمِّكم!

وتقولون: هو رجل واحد. بل لا نـجـد لفـظ رجـل. حـرفيٌّـا: . هــو »واحد«. ولكنَّه لم يبق »واحدًا«، وكأنَّ لا نسل له بعده. لا شكَّ في أنَّه لم يكن له أولاد، فانتظر هو، وانتظرت سارة، وكان لهما إسحق. ولكنَّ الربَّ بارك، كثَّر النسل. هي بداية خلق جديد، على ما قال الكتاب في البداية: »وباركهم الله، فقال لهم: أنموا واكثروا واملأوا الأرض« (تك 1: 28).

يكفي أن تعودوا ليعود العزاء إلى أورشليم. ولكن لا تثقوا بإبراهيم وكأنَّه إله يخلِّصكم. هو سبقكم في الطريق لأنَّ الربَّ باركه. وأنتم تقدرون أن تتبعوه ببركة الله.

ج- الربُّ أب لنا

تأخَّر الخلاص، وعرف الشعب أزمة الرجاء. فذكَّر النبيّ الشعب بمآثر الله السابقة. الله الذي عمل في الماضي، يعمل اليوم أيضًا. ولكنَّ الحيرة تأخذ الناس: هو الذي عمل الكثير، فلماذا لا يعمل الآن أكثر؟ هناك أمرٌ بدأ، وها هو يتوقَّف. لهذا جاء طلب الرحمة والعون (63: 15-16):

15 تطلَّع من السماوات وانظر،

من مسكن قدسك وفخرك

أين غيرتك وجبروتك؟

لهفة أمعائك وأرحامك إليَّ،

امتنعت.

16 لأنَّك أنت أبونا.

لأنَّ إبراهيمُ ما عرفنا

وإسرائيل (يعقوب) لا

يدركنا

أنت يهوه أبونا، مفتدينا،

من الأبد اسمك.

فالذي رحم شعبه المستعبَد، يرحم أيضًا شعبه التعيس. فمن أعالي السماوات، من حيث يرى كلَّ شيء، طلب إليه المؤمنون من مسكن قدسه، فأعلنوا أنَّه حصن »قدسه وفخره«. وحين يتكلَّمون عن هيكلهم يدعونه »بيت قدسنا وفخرنا حيث هلَّل آباؤنا« (64: 10). اعتبروا بعده أورشليم على أنَّها السماء التي صارت في متناولهم. هناك يكون الله حاضرًا من أجلهم وفي وسطهم. ولكن، يا للغرابة! صار هذا الحضور شبيهًا بغياب: فالهيكل لبث خرابًا، وكأنَّ الربَّ ما عاد يهتمُّ بشعبه.

فتذكَّروا مراحم الربّ. »لهفة »أمعائك« ( ) و»أرحامك« ( ). هناك تكون العاطفة لدى الأمم، وابنها أقام في حشاها قبل أن يُطلَق إلى العالم. ولكن تلك الغيرة من عند الربّ تمتنع . تتمنَّع عن التدخُّل. فما هذه الأمّ التي تنسى أولادها بحيث »لا ترحم ثمرة بطنها«! (49: 15) فيقول الربّ: »شعبي هم بنون« (63: 8).

لهذا يقولون له مرَّتين: أنت أبونا . آباؤنـا في الأرض لا يعرفوننـا. صاروا بعيدين مع أنَّنا تعلَّقنا بهم وصاروا في الأخبار القديمة. إبراهيم؟ صار في عالم الأموات. لا يقدر بعدُ أن يفعل شيئًا. ومثله إسرائيل أو يعقوب. هما في الشيول، في مثوى الأموات. كالدخان والغبار، يعيشان حياة منقوصة. فمـن يفتديـنا؟

؟ يهـوه أبونا .

فعل إيمان هامّ. أتُرى استند هؤلاء العائدون من المنفى إلى أعمال إبراهيم ومآثره، إلى إيمانه وتجرُّده، فاعتبروا أنَّ لا عمل لهم بعد؟ يكفي أن يرثوه، هذا إذا لم يكونوا جعلوه في مصاف »الأبطال« الذين يحملون الخلاص إلى شعوبهم. في الماضي قهر الملوك الأربعة، »فاستردَّ جميع الثروة، ولوطًا ابن أخيه وثروته، والنساء وسائر القوم« (تك 14: 16). وهو يفعل الآن! والجواب: لن يفعل. وحده الله يفعل. تلك العاطفة التي فيها يحنُّ المؤمن إلى الماضي، نتذكَّرها عند معاصري يسوع. أعطاهم الآن خبزًا فشبعوا وفضل عنهم، فعادوا إلى موسى وإلى خبرة الآباء في البرّيَّة (يو 6: 31). والسامريَّة تذكَّرت يعقوب الذي »أعطانا هذه البئر وشرب منها هو وأولاده ومواشيه« (يو 4: 12). بل هتف اليهود في وجه يسوع: »هل أنت أعظم من أبينا إبراهيم؟« (يو 8: 53).

لا يمكن أن يكون إبراهيم أبانا. فقبل أن يكون إبراهيم، الله هو الكائن. يهوه، الإله الذي هو. الحاضر الآن وفي كلِّ آن. والعامل من أجل شعبه ومؤمنيه. ويعقوب! ماء بئره لا تكفي سوى ساعات، أمّا مَن يشرب »من الماء الذي أعطيه أنا (= الربّ) فلن يعطش أبدًا« (يو 4: 14). وموسى؟ ليس هو ذاك الذي أعطاهم خبزًا من السماء. لو فعل، لَصار شبه إله. فقال يسوع: »أبي وحده يعطيكم الخبز الحقيقيّ من السماء« (يو 6: 32).

2- يعقوب

اسم يعقوب يرد مرارًا في ما يُسمّى أشعيا الثاني وأشعيا الثالث. تارة يدلُّ على شخص يعقوب كما يصوِّره سفر التكوين، وطورًا يقابله مع إسرائيل انطلاقًا من تبديل الاسم الذي فرضه الربُّ على من اختاره. وفي النهاية، لا نعود نميِّز بين يعقوب كشخص فرد ويعقوب كجماعة المؤمنين الذين ينتظرون الميراث الذي ناله يعقوب.

أ- أبوك الأوَّل

بعد مسيرة البرّيَّة، اعتبر الشعب أنَّ الربَّ إلهٌ من الآلهة يحتاج إلى الطعام والشراب، إلى ذبائح اللحوم وسكائب الخمر، فذكَّره الربّ: أنا الذي أمَّن لك في البرّيَّة ما تحتاج إليه، وفي أرض إقامتك أيضًا، كما في المنفى البابليّ وطريق الرجوع. وبدأت المحكمة. تعال »نتحاكم« و»هات برهانك« (43: 26). صرتم عبيدًا للخطيئة وتعتبرون أنَّ أعمالكم تخلِّصكم، وتحسبون أنَّ المحرقات والبخور والذبائح تؤمِّن الطهارة. أنتم على خطأ. الربُّ وحده يمحو المعاصي، وينسى الخطايا، لا كرامة أعمال عُملت، بل »من أجلي« (آ25). من أجل كرامتي، أنا مسؤول عن شعبي.

اختبأ المنفيّون وراء أعمالهم يوم كان الهيكلُ بعد قائمًا. والآن، أُحرق الهيكل وهُدمت المدينة المقدَّسة، فماذا يقدرون أن يفعلوا؟ لا شيء، فعادوا إلى استحقاق من الآباء. عادوا إلى يعقوب وما تركه من أثر في حياته مع أبنائه الاثني عشر، أبناء شعب إسرائيل، فرفض الربُّ هذا السند (43: 27):

أبوك الأوَّل خطئ،

ووسطاؤك تعدُّوا إيّاي.

. صار الشعب كأنَّه واحد. وأبوه واحد هو يعقوب. اسمه الأصليّ وبحسب العودة إلى الأسماء الأموريَّة (في مدينة ماري): الله يساند . إله يأتي بعده ويكمِّل. إذًا، هو موضوع اختيار من عند الربّ. فقال أشعيا هنا (44: 1):

إسمع يا يعقوب عبدي،

يا إسرائيل الذي اخترته.

ولكن تحوَّل معنى الاسم بتحوُّل أعمال من حسبه بنو إسرائيل أباهم. تعقَّب أخاه مرَّتين. منذ الولادة، خرج بعد أخيه عيسو من حشا أمِّه »ويده قابضة على عقب عيسو (أخيه)، فسمّوه يعقوب« (تك 25: 26). في البداية، أخذ منه حقَّ البكوريَّة، بالحيلة وبسبب الحاجة لدى عيسو: »أطعمني من هذا الأدام« (آ30)، من هذا الطعام. أجاب يعقوب أخاه: »بعني اليوم بكوريَّتك« (آ31). وفي النهاية، بعد أن خدع يعقوب أباه إسحق، هتف عيسو: »ألأنّ اسمه يعقوب تعقَّبني مرَّتين؟ أخذ بكوريَّتي، وها هو الأن يأخذ بركتي« (آ36). واعترف الوالد فقال: »جاء أخوك بمكر وأخذ بركتك« (آ35). ولا نواصل الكلام عن يعقوب وعلاقته بخاله لابان بحيث قال أولاد خاله: »أخذ يعقوب كلَّ ما كان لأبينا، وممّا لأبينا جمع كلّ هذه الثروة« (تك 31: 1).

أهذا هو الأب الذي يريد المنفيّون أن يستندوا إليه؟ هو خطئ إليّ. فالبارّ يقدر أن يتشفَّع للخطأة، كما حاول أن يفعل إبراهيم في قضيَّة سدوم. أمّا يعقوب فلا. فهو يحتاج إلى التوبة، شأنه شأن أبنائه (هو 12: 7).

»ووسطاؤك« ( ). هل يقـدر يعقوب وأبناؤه أن يكونوا وسطاء بين الله وشعبه الخاطئ؟ هل يستطيعون أن يخلِّصـوه؟ فالفعـل يرتبــط بفعـل . هنا نعود إلى قاعدة سامية تجعل الجذر من حرفين، ويضاف إليه كلَّ مرَّة حرفٌ ثالث بحيث تتنوَّع الأفعال في إطار المعنى الواحد. ملث، ملد (مدَّ الغصن، أبعد)، ملس (انتزع)، ملص (أفلت)، ملط (الذي يعني النجاة من الخطر. والمليط هو الطفل الخارج من رحم أمِّه). هذا يجعلنا في جوِّ الخلاص والخروج من المأزق. حسب المؤمنون رؤساءهم، منقذيهم. هم أيضًا خطأة. عصوا شرائعي. »تعدُّوا إيّاي« ( ). في عــودة إلــى العربيّـة نـفهم تصرُّف هؤلاء المسؤولين، بدءًا بيعقوب الذي أراد أن يصارع الله. فالفعل »فشغ«: »علاه حتّى غطّاه«، بل »غلبه«. و»الفشّاغ« نبات لا ورق له، يعلو الأشجار ويلتفّ عليها فيفسدها. فماذا تنتظرون من هؤلاء الفاسقين ( ، ، فشق) الذين خرجوا عن طريق الحقِّ والصواب؟ والنتيجة؟ جاء العقاب. وسببه الربّ، لا الجيش الأجنبيّ، لأنَّه سيِّد التاريخ (43: 28):

دنَّستُ رؤساء قدس،

وأعطيتُ لحرم يعقوب

وإسرائيل لتجاديف.

اعتبر الرؤساء نفوسهم مقدَّسين، فصاروا أدناسًا؛ ابتعدوا عن أرض الربِّ فلحقهم العار. أمّا يعقوب فسُلِّم إلى الحرم. حُلِّل قتله إكرامًا لآلهة بابل. والناس جدَّفوا على إسرائيل، بعد أن سمح هو أن يجدَّف على اسم الله (روم 2: 24)، على ما قال أشعيا: »اسمي يُهان كلَّ يوم بلا انقطاع« (أش 52: 5).

ذاك هو أبوك الأوَّل. أبوك بالجسد. يقول »أنا أنتمي للربّ، واسمه يعقوب« (44: 5). وكأنَّه نال اسمه بقدرته. ومثله أبناؤه يعتبرون أنَّ أباهم إبراهيم، فقال يوحنّا المعمدان للآتين لكي يعتمدوا: »الله قادر أن يجعل من هذه الحجارة أبناء لإبراهيم« (مت 3: 9). فالربُّ يعلي الاسم، ويمنح الكنية. وحده الفادي والربّ القدير. هو الأوَّل والآخر، وحده الإله في الكون (44: 6).

ب- أنا اخترته

إذا كان يعقوب كبيرًا، فلأنَّ الله اختاره، لا نظرًا لأعماله الصالحة، بل مع أعماله. فهو الذي يخرج الخير من الشرّ. خطئ عيسو حين باع بكوريَّته لقاء بعض الطعام، فاستفاد يعقوب. والربُّ أمسك يد إسحق، فبارك الأصغر مع أنَّه حسب أنَّه يبارك الأكبر: »يعطيك الله من ندى السماء، ومن خصوبة الأرض، فيضًا من الحنطة والخمر« (تك 27: 28). ولا يتراجع الأب. جاء عيسو فكان جواب إسحق: »باركتُه ومباركًا يكون« (آ33).

قال أشعيا 41: 8-10:

8 وأنت يا إسرائيل عبدي،

يا يعقوب الذي اخترته ...

9 يا من أخذته من أقاصي

الأرض،

ودعوته من أبعد أطرافها،

وقلت له: أنت عبدي،

واخترته وما رفضته،

10 »لا تخف فأنا معك،

ولا تتحيَّر فأنا إلهك.

أما قوَّيتك ونصرتك،

وبيميني الصادقة سندتك«؟

الشعب اللائذ بالله يحسُّ بنفسه »ضعيفًا« على المستوى البشريّ، تجاه عابدي الأصنام. لهذا يأخذ منه الخوفُ مأخذه. فيسمع صوت الربّ: لا تخـف ( ). مــن هــم هــؤلاء الذين تخاف منهم، وأيّ خطر يشكِّلون؟ ألا ترى أنَّ أصنامهم صنع أيديهم؟ يكونون كلا شيء، وكأنَّهم ما كانوا، وكالدخان يبيدون (آ11). لهم الخزي والخجل، لا لك. فاترك مركَّب النقص واعرف من هو إلهك. وهو يقول: »معك أنا« ( ).

والـفـعــل الثانــي: : لا تتلفَّت يمينًا ولا شمالاً باحثًا عن طريق لـك. إمكانيّتـان فـي الفعـل: إمّا الذي لا يرد في القاموس العبريّ، ولكن نستطيع أن نقرِّبه من »شتع« في العربيَّة، الذي يعني: جزع (من مرض أو جوع). وهكذا يلتقي المعنى مع الفعل السابق: خاف. والإمكانيَّة الثانيـة تعـــود بالفعــل إلــى ، فـي السريانيَّة الذي يعني نظر، تطلَّع. وهي صيغة ، نظر حوله، تلفَّت، علَّه يجد من يعاونه. فقلنا: »تحيَّر« التي ترتبط بالسريانيَّة. وفي العبريَّة: »صار حيرانًا« الرجل: نظر إلى الشيء، غشيَ بصره. أمّا مع الربّ، فالطريق واضحة. وسيقول لنا يسوع: »أنا هو الطريق« (يو 14: 6). »لا يجيء أحد إلى الآب إلاّ بي«، فكيف يجسر التلاميذ بعد أن يسألوا: »كيف نعرف الطريق؟« (آ5).

ثلاث مرّات جـاء الفعــل »اختار« ( ). لم يكـن الاختيار سهلاً، بسيطًا، بل مضى الربُّ إلى أقاصي الأرض، إلى أطرافها. من هناك جاء بيعقوب. كان في بلاد الرافدين، عند خاله في حاران؛ هدَّد »لابان« فهدَّد الربّ لابان: »إيّاك أن تكلِّم يعقوب بخير أو بشرّ« (تك 31: 29). وفي أيِّ حال، سمع يعقوب نداء الربّ: »قم، اخرج من هذه الأرض، وارجع إلى أرض مولدك« (تك 31: 13). وحين تكبر المجاعة في مصر ويتحيَّر يعقوب، فيسمع صوت الربّ: »أنا الله إله أبيك. لا تخف أن تنزل إلى مصر... أنا أنزل معك إلى مصر، وأنا أصعدك منها«.

بعد هذا، هل يجسر يعقوب أن يقول: الربّ رفضني؟ ويأتي الجواب:

. فالفـعل »رفـض« يعـارض دومًا »اختار« ( ). الربّ لا يتراجـع. لأنَّ لا ندامة في عطاياه. اختار يعقوب، ولبث ثابتًا في اختياره، بل وصل اختياره إلى أبنائه، ولاسيَّما أولئك الذين مضوا إلى المنفى واعتبروا أنَّ كلَّ شيء انتهى بالنسبة إليهم، على ما قيل في حزقيال: »صاروا عظامًا يابسة« (حز 37: 4). قالوا: »يبست عظامنا، وخاب رجاؤنا وانقطعنا« (آ11). لا، فالموت ليس الكلمة الأخيرة. لا، ما مات يعقوب، فنسله باقٍ، والذي اختار أبا الآباء الاثني عشر، اختار أيضًا أبناءهم حتّى مجيء المسيح.

ج- زرع يعقوب

ما هو الشرط لكي يبقى زرع يعقوب حيٌّا ولا يموت؟ أن يعيش بحسب الوصايا، وأوَّلها الحفاظ على السبت (58: 13)، أن يمارس المحبَّة مع القريب: يحلّ قيود الظلم. يطلق المنسحقين أحرارًا. يفرش خبزه للجائع. يُدخل المسكين الطريد بيته... عندئذٍ »أطعمك ميراث يعقوب أبيك« (آ14). : أعطـيـك أن تأكل. حين جاء الغرباء والجيوش المحتلَّة، منعوا شعب الأرض من استغلال أراضيهم. »تغرسون كرومًا وتفلحونها، ولكنَّ خمرًا لا تشربون، وثمرًا لا تجمعون منها. ويكون لكم زيتون في جميع أرضكم، وزيتًا لا تستخرجون« (تث 28: 39-40). أمّا إذا عملوا بوصايا الربّ وسلكوا في طرقه« يزيدكم الربُّ خيرًا، في ثمر بطونكم وثمر بهائمكم، وثمر أرضكم التي أقسم لآبائكم أن يعطيها لكم« (تث 28: 10-11).

ولكنَّ الوضع ميؤوس منه. إبراهيم لا يتعرَّف علينا. يعقوب لا يهمُّه أمرنا. في أيِّ حال، صار بعيدًا في التاريخ. نسيناه. وإن نحن ناديناه لا يسمع. والسبب الأوَّل والأخير هو الله. ما عادوا يرونه، فاعتبروه غير موجود. ما عادوا يسمعون صوته، فحسبوا أنَّه لا يتكلَّم. ما عادوا يلمسونه حاضرًا في هيكله، فرأوا فيه ذاك الضعيف الذي لم يقدر أن يدافع عن مؤمنيه، بل عن هيكله ومدينته. ما الفرق بينه وبين الملك الذي حاول أن ينجو بنفسه، فوقع في يد الأعداء؟ أمّا الربّ، فخرج من المدينة قبل أن تسقط. وترك الناس يُسلَبون، يتيهون ويموتون، امتلأت المدينة بجثث القتلى. لهذا قال أش 63: 17-18:

17 لماذا تُتيهنا، يا يهوه، من

طرقك

تفسح قلبنا من مخافتك؟

عُدْ لأجل عبيدك،

أسباط ميراثك.

18 العليل ورث شعبُ قدسك

مضايقون داسوا مقدسك.

تلك هي نظرة حاليَّة لا تتطلَّع إلى أبعد من الحاضر. ولكن من دخل في سرِّ الله، كما يفعل النبيّ، يعرف أنَّ الربَّ لا يتخلّى عن شعبه ومؤمنيه. هو مشتَّت! لا بأس. نقرأ أش 43: 6ب-7:

6 جئتي ببنيَّ من بعيد،

وببنات من أقاصي الأرض.

7 بكلِّ من يُدعى باسمي

بدأ الربُّ وحدَّث شعبه: خلقه، جبله، افتداه، سمّاه، جعله له، (43: 1). هو خاصّ، خاصّ به. كلُّ هذا يدلُّ على قدرة الله التي تحفظ الإنسان في الوجود. وإذا كان هذا الإنسان، أو هذا الشعب، عزيزًا (آ4) على قلب الربّ، فماذا لا يفعل؟ أعاد أوَّلاً المشتَّتين، ثمَّ جمعهم، وحَّدهم. اسمه عليهم، فلا يمكن أن يجعلهم يضيعون. أتُرى الراعي لا يعرف قطيعه؟ بل يعرفهم واحدًا واحدًا، كما يعرف أماكن سكناهم في أيِّ موضع يقيمون.

هؤلاء المبعثرون يعودون من جديد. يكونون كما في بداية مسيرة الإيمان (أش 48: 19-30).

19 نسلك كرمل البحر،

وذرِّيَّتك عدد الحصى

فلا ينقطع اسمهم أبدًا،

ولا يُباد ذكرُهم من أمامي.

20 من أرض بابل اخرجوا،

من الكلدانيّين اهربوا

مرنِّمين.

أعلنوا هذا ونادوا به،

أذيعوه إلى أقاصي الأرض

قولوا: افتدى الربُّ شعبه.

وما يلفت النظر هو أنَّ نسل يعقوب، كامتداد نسل إبراهيم، لا يضمُّ فقط أبناء يهوذا وأورشليم، بل يدعو جميع الأمم. لهذا، فأورشليم التي اعتبرت عاقرًا، لم تعد تعلم أين تضع أبناءها. لهذا هتف فيها النبيّ (54: 2):

2 وسِّعي أرجاء خيامك،

وانشري ستائر مساكنك؛

أرخي وطوِّلي حبالَ

خيامك،

وثبِّتي في الأرض أوتارها.

3 فإلى اليمين وإلى الشمال

تمتلئين

لأنَّ زرعَك يرث الأمم،

ويعمِّر المدن الخراب.

الخاتمـــــة

إبراهيم ويعقوب، وجهان نيِّران في مسيرة الشعب العبرانيّ. إبراهيم جاء من الجنوب، من أور الكلدانيّين، رحل كما أمره الربّ، ويعقوب رجع من الشمال، من حاران، فرافقته الملائكة (تك 32: 2). ولماذا لا تكون الخبرة عينها لأولئك الذين مضوا منفيّين إلى الشمال. هم تسمُّوا باسم يعقوب ويوسف، قبل أن يصبحوا أهل السامرة. والذين راحوا إلى بابل سنة 597 وسنة 586 وسنة 582، فرحوا بأنَّهم يسيرون في خطِّ إبراهيم. لا قوَّة في يدهم، بل هم رفضوا أن يرافقهم جيشٌ جعله كورش في تصرُّفهم. كان سند إبراهيم إيمانه. وأراد الراجعون الاتِّكال على الربِّ وحده. قال يعقوب في صلاة واثقة إلى الربّ: »عبرتُ هذا الأردنّ ومالي إلاّ عصاي« (تك 32: 11). وها هو يعود الآن غنيٌّا جدٌّا. والذاهبون إلى السبي، لم يكن لهم سوى بقجة المهجَّر، كما قال حزقيال، وها هم الآن يرجعون كما في طواف: الطريق معدَّة، مهيَّأة، صارت دربًا قويمًا (أش 40: 3). الوادي يرتفع، والجبل ينخفض، المعوجّ يصير قويمًا، والوعر سهلاً (آ4). فماذا ينتظر من دعاهم الربّ؟ لا شيء، سوى رفقة إبراهيم ويعقوب. ولكن لا حاجة بعد إلى هذا السند البشريّ، اعتبرنا إبراهيم أبانا، فإذا هو لا يعرفنا. ربَّما رفض أن يعرفنا لأنَّه يئس من سلوكنا، فما عاد لنا سوى الربِّ نطلب منه الرحمة والغفران، ويعقوب! تضامن مع شعبه في الخطيئة. بل بدا أنَّه تعب من الربّ (43: 22). وتردَّد في القلوب كلام المزمور: »الاحتماء بالربِّ خير من الاتِّكال على البشر. الاحتماء بالربِّ خير من الاتِّكال على العظماء« (مز 118: 8-9). لا أعمال لهم يقدِّمونها لهم. لا هيكل لديهم يقدِّمون فيه شعائر العبادة. لهذا فتحوا يديهم كالمساكين، فهيَّأوا الطريق لمساكين الربّ والودعاء وصانعي السلام. لمثل هؤلاء ملكوت السماوات.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM