عيد قطع رأس يوحنّا المعمدان

عيد قطع رأس يوحنّا المعمدان

الرسالة: عب 11: 32-40

الإنجيل: مر 6: 14-29

أبطال الإيمان

يا إخوتي، وماذا أقول بعد؟ الوقت يضيق بي إذا أخبرت عن جدعون وباراق وشمشون ويفتاح وداود وصموئيل والأنبياء فهم بالإيمان أخضعوا الممالك وأقاموا العدل ونالوا ما وعد به الله وسدّوا أفواه الأسود وأخمدوا لهيب النيران ونجوا من حدّ السيف وتغلّبوا على الضعف وصاروا أبطالاً في الحرب وهزموا جيوش الغرباء، واستعاد نساء أمواتهنّ بالقيامة. واحتمل بعضهم التعذيب إلى حياة أفضل، وقاسى آخرون الهزء والجلد، بل القيود والسجن. ورجموا ونشروا وقتلوا بحدّ السيف وتشرّدوا لابسين جلود الغنم والماعز محرومين مقهورين مظلومين، لا يستحقّهم العالم، فتاهوا في البراري والجبال والمغاور وكهوف الأرض.

وما حصل لهؤلاء على الوعد مع أنّه مشهود لهم بالإيمان، لأنّ الله أعدّ لنا مصيرًا أفضل من مصيرهم وشاء أن لا يصيروا كاملين إلاّ معنا.

في هذا اليم نقرأ عن نهاية يوحنّا المعمدان. كان نبيّ الله، لا نبيّ الملك، فغضب الملك. وبّخ الملك وما خاف، يوم يخاف الجميع ويساومون، لأنّ الملك (والزعيم) هو فوق شريعة الله، رفض يوحنّا التراجع. وقد يكون الكثيرون نصحوه فلم ينتصح. ونتذكّر يوحنّا آخر، الذهبيّ الفم، الذي جعله مقفه يذهب إلى المنفى أكثر من مرّة وهناك يموت. المعمدان وُضع في السجن أوّلاً، في قلعة مقاور، قرب البحر الميت. ولكنّه لم يسكت فأزعج هيروديّة وابنتها. لا بدّ من قطع هذا اللسان ومنعه من الكلام. لهذا، إكرامًا لراقصة أعجبت الملك، قُطع رأس يوحنّا وجيء به على طبق إكرامًا للخطيئة وطاعة للزنى والفجور. وهكذا كان يوحنّا خاتمة الأنبياء الذي فتح الطريق أمام من هو الكلمة. وآخر شهيد في العهد القديم. في هذا الإطار نقرأ الرسالة إلى العبرانيّين.

1- أخضعوا الممالك

حين نتطلّع إلى الأنبياء، نرى كم هم ضعفاء. وعلى رأسهم إرميا. كتب أقوال الربّ، فمزّقوها وأحرقوها. قال ما طُلب منه أن يقول. فجعل في السجن، بل في بئر موحلة. ولا من يدافع عنه سوى غريب من كوش أو بلاد النوبة التي تضمّ الحبشة والسودان. ولكنّ كلمة كانت أقوى من كلّ سلاح الملوك.

الجميع خضعوا. وقالوا ما يريد الملك. أو سكتوا. أو اختفوا ونسوا مسؤوليّتهم تجاه الله وتجاه شعبه. أمّا إرميا فما خضع. ودعاه الملك في إحدى الليالي. وطلب منه أن يخفّف من كلامه. ولكنّ النبيّ الحقيقيّ لا يقول سوى كلام الربّ. توسّل الملك إلى النبيّ، مالقه. أعطاه الأمان، علّه يتزعزع. فما قال النبيّ إلاّ ما قاله في ما مضى. ما هذا النبيّ الضعيف الذي يتضرّع إليه الملك. هو أقوى من الملك.

وحين خطئ داود، بدا ناتان النبيّ أقى منه. وبّخه، هدّده. وكذلك نقول عن يوحنّا المعمدان. هيرودس كان يهابه (مر 6: 20).

2- إحتملوا التعذيب

حين يقول الإنسان الحقيقة، لا بدّ أن يدفع الثمن. فالملك أخاب، ملك السامرة، دعا ميخا بن يملة، هو غير ميخا المورشتيّ، أحد الأنبياء الاثني عشر. في الطريق قالوا له: "بصوت واحد تنبّأ الأنبياء (= أنبياء الملك، إذن، يُرضون الملك) للملك بالنصر. ليكن كلامك مثل كلامهم" (1 مل 22: 13). ولكنّ جواب ميخا واضح، قاطع: "ما قوله لي الربّ أقوله أنا" (آ 14). بيّن ميخا كذب أنبياء الملك الذين أغووا الملك للصعود إلى الحرب. واعتبر فيهم "روح" كذب يقصد بالملك شرًّا. ولمّا قال ميخا قول الربّ، لطموه على فكّه (وقد يكون بصق الدم). وفي النهاية، جُعل في السجن مع الخبز والماء (آ 27). وهذا ما حصل للمعمدان. فالذين يعيشون في التوقى يضطهدون. وماذا نقول عن الأنبياء الذين يحرّكون ضمير "السلطان" ويوصلون إليه كلام الله. بوما أنّ الملك لا يقدر أن "يقاتل" الله"، فهو يقاتل نبيّه، وفي النهاية يقتله. ولكنّ صوت الله لا يموت.

وذكرت الرسالة أنبياء نُشروا مثل أشعيا (بحسب التقليد). كما يُنشر الخشب. وأولئك، الذين هربوا في البراري، كما حصل للأنبياء في أيّام أخاب وإيزابل. ولكن، هل تراجعوا؟كلاّ. إختاروا الموت على الحياة، والعذاب على الراحة، قبلوا أن يكونوا "محرومين، مقهورين، مظلومين". لا لشيء يُرى، بل لشيء لا يُرى. هي القيامة تنتظرهم، وحياة أفضل. فهموا كلام الربّ: من أراد أن يخلّص نفسه يهلكها، "ولكن الذي يخسر حياته في بسيل يسوع يجدها" (مت 16: 25). هي تجارة خاصّة. فالربح خسارة السماء. والخسارة ربح الحياة الأبديّة. ما توقّف هؤلاء الأنبياء عند الظواهر، ولا هم سمعوا من البشر ولا أخذوا بنصائحهم. سمعوا فقط صوت الله. رفعوا هذا الصوت، وسواء سمعوا أم لم يسمعوا، ليعرفوا أن بينهم نبيّ (حز 2: 5).

3- مصير هؤلاء ومصيرنا

لا. ما مات الأنبياء بعد. حسب الشعب الأوّل أنّ الله لم يعد يتكلّم (ما يظنّ ذلك البعضُ اليوم). لهذا قالوا للربّ: ليتك تشقّ السماء وتنزل. وانتظروا ذاك النبيّ الأمين (1 مك 14: 41) الذي يعلّمهم من جديد، ويحمل إليهم كلام الله. بدأ العهد الجديد بنبيّ هو يوحنّا المعمدان هكذا دعاه والده في نشيد أطلقه بإلهام الروح: "وأنت أيّها الصبيّ، نبيّ العليّ تدعى" والناس، جعلوا يوحنّا في خطّ الأنبياء مثل إيليّا، إرميا. أجل، كلمة الله لا تصمت. لهذا لا يزال الله يرسل "أنبياء وحكماء ومعلّمين" (مت 23: 34).

إختبر المعمدان حضور الله حين مضى إلى البرّيّة، على مثال شعبه في تحلّقه حول جبل سيناء. على مثال إيليّا، بل على مثال موسى. لهذا نادى بهذا الحضور. وكذلك التلاميذ الذين رافقوا يسوع، وصولاً إلينا. إذا كان مصير هؤلاء الأنبياء قاسيًا على المستوى البشريّ، فهذا يعني أنّ عددًا من الأنبياء يموتون اليوم، لأنّهم ينادون بكلام الإنجيل. المطران روميرو في أميركا الوسطى. ومثله اليسوعيّون الأربعة. وجميع النساء اللواتي قتلهنّ "الطريق المستنير" في التشيليّ. ولا ننسى حاملي البشارة الذين يضطهدون في شرقنا: يسجنون، يصلبون، يغرّقون في النهر، يُحرمون لقمة عيشهم. مصير قاسٍ. فالكلمة التي ابتلعها حزقيال كانت مرّة. وإن كان طعمها في البداية "حلوًا كالعسل" (حز 3: 3).

هم أنبياء وصلوا إلى هذا المصير. ومصيرنا كمصيرهم في الفرح وفي الحزن، في النجاح وفي الاضطهاد. وكلّ ذلك في خُطى يسوع الذي قال: "إذا اضطهدوني يضطهدونكم. وإذا سمعوا كلامي يسمعون كلامكم" (يو 15: 20). تلك كانت حياة المعمدان، سمع له الكثيرون. تتلمذ على يده أندراوس وغيره. ولكنّ "عظماء" هذا العالم لا يريدون أنبياء، لا يريدون كلمة تزعجهم في تصرّفاتهم "المؤلّهة". لهذا، يموت الأنبياء. مات المعمدان وقبله مات من مات. وفي أيّ حال مصيرنا مصيرهم مهما كان شكل الاضطهاد الذي يصيبنا.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM