عيد الشهداء المسابكييّن الثلاثة

عيد الشهداء المسابكييّن الثلاثة

الرسالة: عب 12: 1-9

الإنجيل: لو 12: 6-10

ميدان الجهاد

يا إخوتي، أمّا ونحن محاطون بسحابة من الشهود، فعلينا أن نلقي عنّا كلّ ثقل وكلّ خطيئة عالقة بنا، فنجري بعزم في ميدان الجهاد الممتدّ أمامنا، ناظرين إلى رأس إيماننا ومكمّله، يسوع الذي تحمّل الصليب مستخفًا بالعار، من أجل الفرح الذي ينتظره، فجلس عن يمين عرش الله.

فكّروا في هذا الذي احتمل من الخاطئين مثل هذه العداوة لئلاّ نيأسوا وتضعف نفوسكم. فما قاومتم أنتم بعد حتّى بذل الدم في مصارعة الخطيئة. ولعلّكم نسيتم الكلام الذي يخاطبكم كبنين:

"لا تحتقر، يا ابني، تأديب الربّ ولا تيأس إذا وبّخك، لأنّ من يحبّه الربّ يؤدّبه ويجلد كلّ ابنٍ يرتضيه".

فتحمّلوا التاديب، والله إنّما يعاملكم معاملة البنين، وأيّ ابن لا يؤدّبه أبوه؟ فإذا كان لا نصيب لكم من هذا التأديب، وهو من نصيب جميع البنين، فأنتم ثمرة الزنى لا بنون. كان آباؤنا في الجسد يؤدّبوننا وكنّا نهابهم، أفلا نخضع بالأحرى لأبينا في الروح لننال الحياة؟

إذ نعيّد الشهداء المسابكيّين، نعيّد حقبة من الاضطهاد عرفتها كنيسة من كنائس الشرق. وهي ليست بشيء تجاه ما عرفته الكنيسة في بدايتها، قبل قرار ميلانو سنة 313. وليست بشء تجاه اضطهاد عرفته مصر في القرون الوسطى، فتحوّلت عن المسيحيّة ومات من مات فيها. وليست بشيء تجاه ما حدث للبنان في بداية القرن الرابع عشر، حيث انتقل الموارنة إلى قبرص والشيعة إلى الجبال والأطراف. وليست بشيء تجاه ما قاساه الأرمن والسريان بكلّ فئاتهم في أيّام الحكم العثمانيّ. ولكنّنا نعرف ما قال لنا يسوع: "يسوقونكم إلى المجامع والحكّام وأصحاب السلطة" (لو 12: 11). ولكن لا تظنّوا أنّ الربّ يترككم. شعر رأسكم مُحص. يعرفه الربّ. يهتمّ به. وأنتم ألا يهتمّ بكم؟ العصفور الذي لا قيمة له إذ يساوي درهمين، له مركزه لدى الله، لا ينساه، أتراه ينساكم؟ إذًا، لا تخافوا. فهذا الاضطهاد لم يكن الأوّل. ولن يكون الأخير. ونحن "نحاكم" لا كمجرمين، بل لأنّنا للربّ يسوع. فهنيئًا لنا.

1- سحابة من الشهود

حين سُئل البابا يوحنّا بولس لماذا طوّب هذا العدد الكبير، ورفع على المذابح القدّيسين العديدين، أجاب: حتّى يستقبلونني حين أمضي إلى السماء. وما هو هذا العدد تجاه الآلاف والملايين الذين سبقونا إلى السماء. هناك القدّيسون المعروفون في الشرق والغرب. وهناك الذين لا يعرفهم سوى الله. قدّيسون تحدّثت عنهم الكتب المقدّسة: ملكيصادق، نوح، أيّوب. أنبياء مثل أشعيا وإرميا وحزقيال وهوشع. شهداء، معترفون. هم يحيطون بنا. يعيشون معنا. ليسوا ببعيدين كما يظنّ البعض. وليسوا تحت التراب كما ينادي مسيحيّون لم يفهموا كلام الرسول: نحن مع الربّ كلّ حين.

هم شهود. لا شكّ في أنّهم لم يروا المسيح خلال حياته على الأرض، مثل بطرس وأندراوس ويعقوب ويوحنّا. ولا كانت لهم رؤى مثل بولس على طريق دمشق وإسطفانس قبل أن يموت رجمًا. ولكن كانت لهم خبرة فريدة مع الربّ! إنطلقوا منها بعد أن اشتعلت قلوبهم بسبب قربهم من الله. كانوا يقولون: الله نار آكلة. وهؤلاء الشهود أحبّوا أن يخسروا كلّ شيء لتكون لهم الدرّة الثمينة التي من أجلها باعوا كلَّ شيء واشتروها.

2- طريق الصليب

من فتح الطريق أمام هؤلاء الشهود؟ يسوع. هو في البداية وهو في النهاية. كما الراعي مع قطيعه. هو الرأس ونحن الأعضاء. وحيث يتوجّه الرأس همناك يكون الجسم كلّه. هو "رأس إيماننا ومكمّله". ماذا فعل؟ راج إلى الصليب قدمًا وما تراجع عما نادى به. عيّر فاستخفّ بالعار. اضطهد فاعتبر الاضطهاد طريق المجد. أرسل إلى الموت، فأطلّت عليه القيامة من وسط القبر.

هكذا يؤدّب البشرُ الأبرار. وفي النهاية، الله هو الذي يؤدّبنا. كان قبلنا التأديب، فهمنا أنّنا من البنين. نحن أغصان في كرمة الربّ. وهو يشذّبنا، ينزع ما فينا من يباس لنعطي ثمرًا أكثر. إن كنّا نقبل تأديب آبائنا، فلماذا لا نقبل تأديب الربّ؟

في أيّ حال، ما وعدنا يسوع يمًا بالراحة. قال: من أراد أن يتبعني يكفر بنفسه ويحمل صليبه. ليس هناك سوى هذا الطريق. فلا نبث عن غيره. ذاك كان تصّرف الإخوة المسابكيّين والمسيحيّين العديدين الذين ماتوا باسم سياسة قاتلة. ولكنّهم ماتوا أوّلاً لأنّهم مسيحيّون. لو أنكروا مسيحهم، لما كانوا ماتوا. وهذا كان واضحًا في كلّ اضطهادات هذا الشرق، من مصر إلى تركيا. وكما في بدايات المسيحيّة: من قدّم البخور لتمثال رومة وأوغسطس ينجو من الموت، بل يكرَّم. وذاك كان وضع بلاد فارس قبل أن تفني المسيحيّين من أراضيها على أيّام أفراهاط الحكيم الفارسيّ. وفي أيّ حال، كان كلام يسوع لبولس (الذي كان اسمه شاول) صريحًا: "سأعلّمه كم سوف يتألّم من أجلي".

3- لا مجال لليأس

رأى المؤمنون الأوّلون ما حدث لإخوتهم، فخاف البعض من مثل هذه العداوة للاسم المسيحيّ. وضعفت نفوسهم. وقد اعتادت السلطة أن تزرع الخوف فتجعل أمام الأقوياء مشهد الموت أو التعذيب. ولكنّ البعض الآخر لم يتراخَ. بل لبث ثابتًا في إيمانه لا يتزعزع، فاجتذب معه الوثنيّين، كما حصل مع الشهداء الأربعين. ترك أحد الجنود سلاحه، وارتمى معهم في الماء المجلّد ومات معهم. وأسقف كنيسة برغامس، في تركيا، رأى "أنتيباس الشاهد الأمين يسقط قتيلا" (رؤ 2: 13). ولكنّه لبث متمسّكًا باسم الربّ وما أنكر إيمانه.

والرسالة إلى العبرانيّين تدعونا لننظر إلى هؤلاء الأبطال. بالإيمان أخضعوا الممالك. وتغلّبوا على الإمبراطوريّة الرومانيّة، فصارت رومة المسيح بعد أن كانت قلب العالم الوثنيّ في أبشع أشكاله وأكاذيبه. بالإيمان، أخمدوا لهيب النيران، وذلك بقدرة الله، لا بقدرتهم، تغلّبوا على الضعف وصاروا أبطالاً، وبعضهم قاسى الهزء والجلد والقيود والسجن... تشرّدوا، تاهوا في البراري. وكلّ هذا من أجل اسم الربّ يسوع. وهكذا بلغوا الكمال.

ونحن الشهود نسير في خطّهم. نقترب من الربّ في صلاة عميقة تُدخلنا في قصده. نعيش حياة تمجّد الله. فيرى الناسُ الأعمال التي نقوم بها. كان هؤلاء الذين سبقونا مشهدًا للناس الذين آمنوا حين رأوهم. ونحن مدعوّون لنكون الشهود من أجل عصرنا. هل نحن مستعدّون لذلك؟ فإن قبلنا نضع أمامنا يسوع المسيح مبدئ إيماننا ومكمّله. هو بدأ العمل الصالح فينا، وهو يكمّله إلى يوم مجيء ربّنا.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM