الفصل الرابع عشر :كتابات إرشادية

الفصل الرابع عشر
كتابات إرشادية

نتوقّف في هذا الفصل الاخير من القسم الأول على أسفار طوبيّا ويهوديت وباروك ورسالة إرميا.

I- سفر طوبيّا
أ- النصّ اليونانيّ لسفر طوبيّا
وصل إلينا سفر طوبيّا في شكلين رئيسين، النصّ الطويل ويمثّله المخطوط السينائي الذي تتبعه الترجمة اللاتينية العتيقة. نص غنيّ بالتفاصيل ولكنّه يتضمّن فجوتين: 6:4 ب- 19 و 6:13 ب- 10 أ. وهناك من يفضّله بسبب نكهته السامية وخصائص أسلوبه، والنصّ القصير ويجد شاهدين رئيسيين في المخطوط الإسكندراني والمخطوط الفاتيكاني. لغته اليونانية تكاد تكون لهجة من اللهجات.
أخذت ترجمة المطبعة الكاثوليكية الحديثة بالنصّ الطويل، أمّا الترجمة الموحّدة (جمعيّات الكتاب المقدّس) فأخذت بالنصّ القصير.
لم يُكتب سفر طوبيّا أصلاً في اليونانية، بل يعود إلى أصل سامي. وُجدت منه بعض مقاطع فدلّت على أنّ الأرامية هي اللغة الأصليّة التي دوّن فيها.
تجعل المخطوطات الكبرى طوبيّا مع يهوديت وأستير وتجعله الشعبية اللاتينية في رأس اللائحة. جعلته كنائس الغرب في لوائحها القانونية منذ القرن الرابع. أمّا البروتستانت الذين اتّبعوا "القانون " اليهودي فرفضوه واعتبروه كتابًا منحولاً (من الأبوكريفات).

ب- تنظيم سفر طوبيّا
مسرح سفر طوبيّا هو الشتات الشرقي وبالتحديد نينوى وأحمتا. فهاتان المدينتان هما موضع لقاء بين العائلات، لا موضع مواجهات ملحمية كما في سفر يهوديت. ويدور الخبر حول ثلاث محن ستجد حلاًّ لها: مال لا بد من استعادته، عمى طوبيا، سيطرة الشيطان اسموداوس على سارة.

1- المطلع (1: 1-2)
اسم الكتاب: "كتاب أعمال طوبيط وهو يهودي من قبيلة نفتالي، سُبي في أيّام شلمنصّر ملك أشورية". منذ البداية نحن أمام خدعة أدبية. المهمّ لا التاريخ، بل الخبر التقوي.
2- المحن الثلاث (1: 3- 3: 17)
1 :3- 14: يبدو طوبيط يهوديًا تقيًّا: يحفظ الشريعة ويمارس الأعمال الصالحة. نجحت أعماله بفضل شلمنصّر، فاغتنى وأودع مالاً عند قريبه جبائيل في ماداي.
1: 15- 22: تبدّل الملك فتبدّلت حالة طوبيط إلى الأسوأ. وإذ دفن سرًّا أحد الموتى، أجبر على الهرب تاركًا أمواله. بعد موت الملك، استطاع أن يعود إذ نينوى بفضل تدخّل ابن أخيه أحيقار.
2: 1- 6:3: عاش طوبيط عيشة المنفى بظروفها الدقيقة (2: 1- 2). ثمّ حدث له حادث سلبه نظره. فأعاله أحيقار. واتّخذت حنّة امرأته لها عملاً، غير أنّها لم ترضَ عن أقواله في الفضيلة. هنا يذكر خبر أيّوب (أي 1- 2). وينتهي هذا القسم الذي يعرض محنتي طوبيط بصلاة باكية (2:3- 6).
7:3- 15: وفي ذلك اليوم عينه نقلنا الكاتب إلى أحمتا، إلى رعوئيل، قريب طوبيط. فابنته سارة ضحيّة الشيطان اسموداوس الذي يهلك أزواجها ليلة العرس. ونجد عناصر مشابهة لما نبي محنة طوبيط: تدخّل الجارية، طلب الموت، صلاة تنتهي بطلب: أن لا تسمع الشتائم بعد اليوم في حياتها (6:3- 15).
3: 16- 17: ويتدخّل الراوي في الكواليس فيدلّ على البطلين اللذين سيتغلّبان على المحنة.

3- الخلاص (4: 1-18:6)
4: 1- 20: ينطق العمل المسرحي من اهتمام طوبيط باستعادة المال الذي استودعه لدى جبائيل، في راجيس من أعمال ماداي (4: 1- 20، 20). أمّا الأقوال الحكمية فلا تتوافق كلّها مع النصّ. قد نكون أمام قطعة كانت مستقلّة، وأقحمت في هذا المكان من الخبر.
5: 1- 22: التقى طوبيّا (ابن طوبيط) بالمرشد الذي سيقوده إلى جبائيل قريبه (آ 1 - 8) وقدّمه إلى أبيه. شجّع الملاك طوبيّا مرّتين (آ 10)، ورحب طوبيط مرّتين بهذا المرشد (آ 14). ويأتي الحوار فيُلقي ضوءًا على الهوية العائلية والقبلية لهذا الشخص المجهول، ويظهر في اسم عزريا معنى للمهمّة الموكولة إلى هذا المرشد: الله يعين. تسيطر المفردات عن الطريق وعن التحيّة على هذا الفصل. كما نجد كلامًا عن حنّة، زوجة طوبيط: وبكت أمّه (آ 18) ثمّ "وكفَّت عن البكاء" (آ 22).
6: 1- 18: وحصل المسافران (عزريا وطوبيّا) على وسيلة لشفاء طوبيط وسارة. نجد تضمينين، الأوّل: ذهبا معًا (آ 2). ثمّ سارا معًا (آ 6). الثاني: هناك حديث عن الدواء (آ 7) ثمّ عن الشفاء (آ 9). طوبيّا هو أقرب الناس إلى سارة، ولهذا له الحقِّ الأوّل في أن يتزوّج منها. اعترض طوبيّا، فأجاب المرشد على الاعتراض وأعطى الوصفة لإبعاد الشيطان بصورة نهائية. حينئذ دخل الحبّ في قلب الشابّ.

4- الزواج في ماداي. نجت سارة من شيطانها (7: 1- 6:9)
7: 1- 16: وصل المسافران إلى أحمتا، فاستقبلهما رعوئيل، والد سارة، بحرارة (آ 1- 19). ولمّح الكاتب إلى شقاء طوبيط الرجل البارّ الذي يعطي الصدقات (آ 7) فذكّرنا بالمحنة التي ستجد لها حلاًّ في النهاية. وتقرّر الزواج في جوّ من الفرح (آ 9 ب- 13). قال رعوئيل لطوبيّا: كل واشرب (آ 10- 11؛ رج 7: 14؛ 8: 1- 20) وكأنّه يريد أن يبعده عن مشروعه. يقرّ رعوئيل بحقّ طوبيّا، ولكنّه يشير إلى عار سارة الذي يعترض على هذا المشروع. واتّخذ القرار أخيرًا بالعودة إلى شريعة موسى (آ 11 ب- 13). وامتدّ العيد (8:7: 1 أ). وشجّعت عدنه (عدناء) ابنتها وردّدت كلام الملاك لطوبيّا: "تشجّعي " (16:7 ؛ 10:5).
8: 1- 21: تتحدّد الوحدة الأولى بفعل "رقد" (آ 1، 8). اتّبع طوبيّا بدقّة تعليمات الملاك، فقام بالطقس الذي يطرد الشيطان. ثمّ أخذ العروسان يصلّيان معًا. وتتحدّد الوحدة الثانية بالحديث عن "قبر يُحفر" (آ 9)، و "قبر يُردم " (آ 18). وحين عرفوا بخلاص سارة ارتفعت صلاة المباركة. استعدّ رعوئيل لعرس يدوم 14 (2 × 7- عدد الكمال) يومًا، وتبنّى طوبيّا وقال له "تشجّع " مرّتين في آ 21، فكان لهذه الكلمة معنى غير الذي في 7: 16.
9: 1- 6: وعاد المال المودع، فانتهت محنة أولى فجعلت الفرحة كاملة مع حضور جبائيل الذي بارك العريس. وإذ تحدّث عن طوبيّا (9: 6) استعاد ما قرأناه في 7:7.

5- الزواج في نينوى. شفاء طوبيط من عماه (10: 1- 21:12)
10: 1- 13: نحن هنا على مسرحين مختلفين (نينوي وأحمتا) يوحّد بينهما العلاقات بين الوالدين والبنين. في نينوى: طوبيط هو حزين (آ 3) وحنّة امرأته تبكي وتنتحب (آ 4-7). وإنّ كلمات التشجيع التي يطلقها طوبيط تذكّرنا بالماضي (18:5- 22) وتهيّئنا للأحداث التالية: سترى عينا حنّة (5: 22)، بل إنّ عينَيْ طوبيط ستريان (ف 11). والملاك الذي أعلن عنه في 22:5 سيكشف عن نفسه في ف 12. في أحمتا: استأذن طوبيّا من حمَويه وأخذ معه سارة إلى نينوى. نكتشف في هذا المشهد نبل العواطف العائلية. وجاءت المباركة في النهاية.
11: 1- 18: وظهر رفائيل من جديد. وعادت عبارة "سارا كلاهما". وكان الكلب يتبعهما. كل هذا يعيدنا إلى 6: 1- 6. إنتظرت حنّة ابنها كما سينتظر الوالد ابنه الضالّ (لو 15: 20). ولمّا شُفي طوبيط رأى ابنه "نور عينيه "كما يقول النصّ السينائي، وبارك الله من أجل عظمته ورحمته. وهكذا شُفي طوبيط، وأعاد طوبيّا المال، وتزوّج بسارة (11: 15). واستُقبلت العروس بكلمات الترحاب التي وُجّهت إلى رفائيل (5: 14). وكان العيد في نينوى بحضور أحيقار.
12: 1- 21: كان الراوي قد أشار إلى هويّة المرشد (3: 16- 17) وها هو يكشفه الآن (12: 11- 15). ويعطي معنى ممارسات طوبيط وما قاساه من محن: إنّ الله يمتحن إيمان الأبرار ويكافئ أمانتهم. كل هذا يحيط به نداء ان لمباركة الله (آ 6- 7) وإذاعة أعماله (آ 17- 20) ويقدّم لنا هذا النصّ الأخير إشارات إلى وضع الملائكة: ونُلاحظ القول في آ 10: أمّا الذين يرتكبون الخطيئة والإثم فهم أعداء أنفسهم.

6- نشيد طوبيط والوداع (ف 13- 14)
13: 1- 23: يلعب هذا النشيد الدور الذي لعبه نشيد يهوديت في يه 16. يعلن أعمال الله الخيّرة تجاه طوبيط (دون ذكر لظروف حياته الملموسة) وأبناء إسرائيل. وتتكرّر الردّة في آ 2، 5، 9: "يؤدّب ويرحم ". ويتمّ الانتقال في آ 8 إلى موضوع أورشليم الذي يشرف على القمقم الثاني (آ 9- 23).
14: 1- 15: يشكّل هذا الفصل الأخير خاتمة الخبر. مات طوبيط بعد حياة طويلة من الأمانة لله. نصح ابنه فلجأ إلى ماداي، وسيشهد دمار نينوى قبل أن يموت.
إنّ لاهوت خطبة طوبيط الوداعية تشبه خطبة تث. أمّا المواضيع المدروسة فهي: الحياة والازدهار على الأرض يرتبطان بالأمانة. بعد الخطيئة والدينونة تأتي الرحمة. مخافة الله ومحبّته. لاهوت الذكر...

ج- تكوين كتاب طوبيّا
1- أصل الكتاب
نحن أمام كتاب مرتّب، ولكنّ تاريخ تدوينه متشعّب. فالصلوات العديدة التي تتوزع مسيرة الأحداث ترتبط ارتباطاً وثيقًا بمؤلّفات معاصرة. هناك بعض الأقوال الحكمية التي أقحمت إقحامًا (4: 3 ب- 19؛ 12: 6- 15). ورفضُ طعام الوثنيين ينتمي إلى دا لا إلى سائر سفر طوبيّا. لا توافق بين 1: 20 إلى يترك لي شيئًا بل صادر لي كل شيء) و 2: 1 (أقام مأدبة فاخرة). أمّا الإشارة إلى أحيقار فهي مزيدة (1: 21 ب- 22؛ رج 2: 10 ؛ 19:11؛ 14: 10). وفي البنية الحالية، يهيّئ المقطع الخاصّ بحنّة (2: 11- 14) صلاة 3: 2- 6، ولكنّه لا يتكيّف مع ما سبق. وكنّا ننتظر ردّة فعل طوبيط إزاء عماه. إذًا لسنا أمام نصّ دوّن مرّة واحدة، بل أمام كتيّب أساسي اغتنى تدريجيًا.
2- مراجع الكتاب
أوّلاً: المراجع اللا بيبليّة
هناك نقاط مشتركة بين طو وسيرة أحيقار الأشوري وأقواله (اكتشفت النسخة الأرامية في الفنتين- في مصر).
تقول الترجمة السريانية التي هي أقدم النصوص وأفضلها بعد نسخة الفنتين: كان أحيقار وزير سنحاريب وأسرحدّون. شاخ ولم يكن له أولاد. فتبنّى ابن أخيه نادين (يقابل ناتان الاسم العبري) وجعل الملك يرضى عنه ليخلف عمّه (كانت الوظائف الإدارية تنتقل من الأب إلى الابن). وعلّم أحيقار نادين تعاليم الحكمة. وهنا نجد مجموعة أقوالٍ مأثورة كما في طو 4: 4- 19 ستدخل في الخبر. ولمّا توظّف نادين في القصر خان سيّده فتنبّه أحيقار وأخبر الملك. حينئذ أراد نادين أن ينتقم فوشى بعمّه كاذبًا مفتريًا، فأعطى الملك أمرًا بإعدام أحيقار. ولكنّ الضابط الموكل بتنفيذ الإعدام، وكان أحيقار قد خلّصه في الماضي، لم يعدم أحيقار بل عبدًا متمرّدًا. واختبأ أحيقار حتّى اليوم الذي فيه تحسّر الملك على وزيره القديم. عاد أحيقار إلى القصر وأرسل نادين إلى الموت.
يساعدنا هذا الملخّص القصير على أن ندرك المشابهات والاختلافات مع طو. لا موازيات مباشرة بل مواضيع متشابهة. تذكّر الكاتبُ البيبلي قصّة أحيقار المعروفة في الأرامية، وتذكّر أيضاً خبر يوسف (تك 37- 50) فكيّفه حسب مخطّطه الديني.
واستعاد طو مواضيع مأخوذة من الأخبار الشعبية جمعت في "الميت العارف بالجميل " و"العروس البائسة": كان غنيّ في سفَر. فرأى غرباء يسيئون معاملة جثّة رجل كان لهم مدينًا ببعض المال. دفع الدين ودفن الرجل دفنة كريمة. ولمّا افتقر ذاك الغنيّ، اتّبع نصائح عبد سرّي فتزوّج بابنة رجل غنيّ. أمّا العروس البائسة فقد تزوّجت خمس مرّات، وكان أزواجها يموتون ليلة العرس بواسطة حيّة تخرج من فمها. وقُتلت الحيّة على يد عبدٍ كشف عن نفسه أنّه روح الميت. لا شكّ في أنّ لسفر طوبيّا علاقات بالأدب الشعبي، ولكنّه يصل إلى بعد ديني عميق.

ثانيًا: تك 24 وسائر المراجع البيبليّة
نجد في طو مناخ تقاليد الآباء. وهو يذكّرنا بصورة خاصّة بمهمّة عبد إبراهيم الذي ذهب يطلب زوجة لابن سيّده إسحق (تك 24). نرى الموازاة بين الخبرين في بنية الحدث، وعادات مماثلة، ورباطات موضوعيّة وتلميحات. ويقع الخبران في إطار عيلة صغيرة على مفترق حياة الأب. غير أنّ طو يبدو أكثر تشعّبًا لأنه مزج خطوطاً إخبارية متعدّدة.
ويرتبط كاتب طو بأخبار تظهر أنّ نجاح العيلة والشعب يرتبط بالأمانة والطاعة كما حدث لإبراهيم. يورد طو 1 :6 عا 8: 10 ويؤوّل تك 18:2-20. أمّا تفسيره للمنفى فيرتبط باللاهوت الاشتراعي. وبمختصر الكلام، لا يُقرَأ طو إلاّ في جوّ كتابي.
3- الفنّ الأدبيّ للكتاب
بُني طو بناء جيّدًا فتحلّى بصفة أدبية ظاهرة. التضمينات عديدة والأخبار محبوكة. نحسّ وكأنّنا في دراما تترتب فيها اللوحات داخل كل فصل من الفصول. هناك فنّ الحوارات والطابع الحيّ للصور والدقّة السيكولوجية للوجوه.
ولكن ما هو الفنّ الأدبي لهذا الكتيّب؟ هل هو مدارش لأنّه يعود إلى الأسفار المقدّسة؟ ولكنّه تعليم وخبر، فسمّي خبرًا إرشاديًّا أو تعليميًّا.
طوبيّا هو خبر إرشادي بشكل قصّة. يلجأ الكاتب إلى الخدعة الأدبية ليقدّم إرشادًا وتعليمًا. وجعلنا في إطار يساعدنا على إعطاء محنة المنفى تفسيرًا لاهوتيًا، واخترع أشخاصاً يقدّمون لنا صورة عن المؤمن الحقيقي. إذا أردنا أن نقرأ النصّ قراءة تاريخية نلاحظ أمورًا غير معقولة، وغير مضبوطة، ولكنّنا حينذاك نخسر البعد الروحي للأشخاص والعبرة العميقة للنصّ. طو هو مثل يه قصّة لاهوتية. واهتمامه الإرشادي يجعله قريبًا من الأدب الحكمي: يتضمّن أقوالاً مأثورة وأمثالاً حيّة قريبة ممّا نجده في خبر يوسف (تك 37-50).

4- متى كتب الكتاب ومن كتبه
جاء سفر طوبيّا بعد زمن المنفى وهو يفترض آخر الطبقات الأدبية في البنتاتوكس. أمّا الممارسات التي يتحدّث عنها، فقد توسّعت تدريجيًا بعد المنفى. والنظرة اللاهوتية جاءت بعد ذلك. نحن لا نجد قبل المنفى الدور المعطى للملاك رفائيل.
ومن جهة ثانية، جاء طو قبل الحقبة المكابية. فنحن لا نجد فيه أيّ أثر للاضطهاد الديني الذي قام به أنطيوخس الرابع أبيفانيوس، ولا أيّ عداء للوثنيين. والرجوع إلى المنفى وإلى الهيكل في 14: 4- 6 لا يفرض علينا تاريخًا سابقًا للقرن الثاني ق م. قال الشرّاح القدماء: دوّن بين سنة 350 وسنة 170. وعاد البعض بطوبيّا إلى ما قبل الزمن الهلّنستي (مع الإسكندر الكبير). فالنصّ (5: 15) يتحدّث عن عملة داريوسية. ولكنّ قرب طو من سي يجعلنا نفترض أنّه كتب حوالي سنة 200 ق م.
بما أنّ الخبر يجرِي بين نينوي وأحمتا، قال البعض إنّ الكاتب هو من الشتات الشرقي. ولكنّه لم يكن دقيقَا في الحديث عن جغرافية تلك المنطقة. لهذا قال بعض العلماء: كان الكاتب من فلسطين. وقالت غيرهم: بل كان من مصر وكل هذا يبقى مجرّد افتراض.

د- التعليم في سفر طوبيّا
1- طرق الله رحمة وحقّ
لا يعطي طو تعليمًا نظريًا عن الله. فالوحدانية التي عرفها اليهود بعد المنفى أمر مفروغ منه. غير أنّ الكاتب يهتمّ بأن يبيّن كيف يكشف الله عن نفسه في علاقته بالإنسان. والنظرة إلى الله هذه تجد تعبيرًا مكثّفًا لها في بداية صلاة طوبيط الأولى (3: 2). هناك "الطرق " و"الأعمال "، التي تدلّ على مخطّط الله من أجل البشر لا يفتأ الرب يرشد البشر في وجودهم وحياتهم. إنّه معهم في الطريق.
طرق الله هي رحمة وحقّ. ونقرأ كلمة "صدقة" التي تحدّد ممارسة تضامن بشري. فالكلمة تعود إلى "حسد" العبرية التي تعني أيضاً الأمانة والصدق والنعمة. فعله طوبيّا هو إلى رحوم (3: 11) يتحنّن على أبنائه (8: 17)، إله الأمانة والحقّ، سند للمؤمنين وعادل في كلّ أعماله. إنّه الإله الذي يعاقب ويصفح (3: 9؛ 11: 15؛ 13: 2، 5، 9). وهذه الصفات التي تخصّهْ وحده تصبح واقعًا في حياة البشر، لأنّه يستطيع أن ينجح مشاريعه. إنّه يمنح "النعمة والسلام " (7: 11)، "النعمة والخلاص " (17:8).
لا يتدخّل الله مباشرة في أمور البشر، ولكن بواسطة ملاكه رفائيل. هذا شيء خاصّ بسفر طوبيّا وسيفتح الدرب أمام توسّعات مستقبلية عن الملائكة. ينتمي رفائيل إلى عالم السماء (3: 16- 17؛ 12: 11- 5) حيث يلعب دور المتشفعّ أمام مجد الله. أمّا تجاه البشر فهو يتّخذ وظائف تعود إلى الله. إنّه المرشد والقائد: "سيرافقه ملاك صالح ويكون سفره ناجحًا ويعود سالمًا" (22:5). معنى اسمه: الله يشفي. إنّه يعمل لخير البشر، فيخلّصهم من محنة المرض، ويربط الشيطان فلا يؤذيهم. ويعطينا الكاتب تحديدًا عن طبيعة الملائكة في 12: 16- 21.
وإنّ الصلوات التي تتوزع طو مملوءة بكلمات تدعونا لنحتفل بعمل الله المجاني والخيّر. ونكتشف أيضاً وجه الله في كلام المباركات.

2- السلوك في طرق الله
طوبيّا هو مثال الإنسان الذي سلك في طرق البرّ والحقّ (3:1) فاعترف له الناس بذلك (7:7 ؛ 9: 6). وموضوع الطريق والسفر يساعدنا على توحيد الخبر وربط أحداثه بعضها ببعض. وقد عوّدتنا التوراة، ولاسيمّا تث، على عبارة "سار في طريق الرب ". فهي تعود بنا إلى السلوك العامّ في حياة أمينة كل الأمانة لله. وطوبيط وأفراد عائلته هم صورة حيّة عن تصرّف ينتظره الكاتب من يهودي صالح في عصره.
ومع طو ستتكوّن عواميد ثلاثة في العالم اليهودي، الصلاة والصدقة والصوم. يشير 2: 4 سريعًا إلى الصوم. ولكنّه يشدّد على الصدقة في الخبر (3:1، 16؛ 2: 14 ؛ 14: 2 - 7، 10، 11)، وفي الأقوال الحكمية (7:4، 8، 10، 11، 16). وحين يذكر رعوئيل طوبيّا يشير إلى الصدقة (7:7). وينصحنا طو بالصدقة "التي تنجّي من الموت وتطهّر من كل خطيئة" (8:12- 9).
وتمثّل الصلاة مكانة مرموقة في الكتاب: صرخة في الضيق واستغاثة (3: 2- 6، 13 – 15؛ 8: 5- 7). أناشيد شكر ومباركة (8: 15- 19؛ 14:11- 15 ؛ 6:12؛ 13: 1- 9). فمن خلال صلوات مقولبة عرفها زمن ما بعد الجلاء، نكتشف مناخًا من الصلاة في محيط تبدو فيه العلاقة بالله طبيعية. الله يسمع طلبات مؤمنيه ويستجيبها. والصلاة تحتفل بأعمال الله وتخبر عنها.
وينصحنا طو بالأعمال الصالحة ولاسيمّا بالواجبات تجاه الموتى. فالأقوال التي يعطيها طوبيط لابنه تبدأ بطلب دفنة لائقة له ولامرأته حنّة (4: 3- 4). وإنّ خسران ماله وعماه يرتبطان بقيامه بهذا الواجب المقدّس (17:1- 19؛ 2: 7- 8). إنّ طوبيط يسير بحسب ما تعلّمه من التقليد (12:14-13).
والسلوك في طرق الله يعني حفظ الشريعة حفظاً دقيقًا. هناك فرائض أشرنا إليها. وستزيد التدوينات الأخيرة: الحجّ إلى أورشليم، دفع العشور (1: 6- 8). وهكذا نذهب أبعد ممّا يطلبه البنتاتوكس. ثمّ إنّ الزواج بين طوبيّا وسارة، يُعقد بحسب شريعة موسى.

3- الزواج والتضامن في العائلة
إنّ طو، شأنه شأن تقليدات الآباء، يجري في جوّ عائلي مُعطًيا للعلاقات بين الآباء والأبناء وجهًا مثاليًا. يهتمّ الوالدون بأبنائهم (18:5- 22؛ 10: 1- 13). ويُظهر الأبناء احترامَهم لوالديهم (7:10 ب- 9؛ 14: 11 ب- 15). نحن نرى هنا كيف تمارَس الوصايا العشر (خر 12:20؛ تث 16:5).
ويمتدّ هذا التضامن إلى العلاقة الموسّعة. فردّات الفعل عند رعوئيل (7:7- 9) كما عند جبائيل (9: 6) تدلّ على عمق العواطف وحرارتها. كل واحد منهم يتقيّد بالتزاماته تجاه أقاربه.
يُعقد الزواج في هذا المجتمع داخل العائلة، والحق يعطى أوّلاً للقريب الأقرب. إنّ هذا الباعث يحدّد تطور الخبر. حين قبل طوبيّا أن يتزوّج سارة رغم صعوبات تبدو منيعة، أظهر أمانته للشريعة وإيمانه بكلام المرسل الإلهي (6: 1- 18). فالطاعة للشريعة تستحقّ أن نخاطر بحياتنا (رج7: 11 ب- 13).
ويتضمّن طو تعليمًا عميقًا عن الزواج. نال طوبيّا زوجة بحسب الشريعة، ولكنّه تصرّف بدافع المحبّ (6: 18). وينظر الكاتب إلى اتّحاد طوبيّا بسارة لا من زاوية الأولاد الذين سيجيئون وحسب، بل من زاوية علاقة الرجل بالمرأة. طو هو تفسير تك 2 بطريقة تختلف عن نشيد الأناشيد. وأمّا نصّ تك 2 فيرد في صلاة العروسين ليلة زفافهما (8: 5- 7).

4- مستقبل الفرد والأمّة
نجد فكرة الموت في الكتاب مع تطوّر في النظرة إلى الآخرة كما عرفها زمن ما بعد المنفى. حين يموت الإنسان "يصبح ترابًا" (3: 6). وإن أرادت سارة أن تموت، فلكي لا تسمع من بعد كلام التعيير (3: 10). ثمّ إنّ واجب دفن الأهل دفنة لائقة أمر لا جدال فيه. ولكنّ طولا يقول شيئًا عن رجاء بحياة في الآخرة.
إنّ طو بعيد عن النظرة الإسكاتولوجية والمسيحانية. إلاّ أنّ الفصلين الأخيرين يتضمّنان رؤية نبويّة عن التاريخ تنبئ بتوسّعات جليانية لاحقة. سينتهي زمن المنفى، وسيُعاد بناء أورشليم والهيكل بأبّهة عظيمة فيدومان إلى الأبد. وسترتدّ شعوب الأرض كلّها ويجتمعون في أورشليم. لا يقول طو أيّ شيء عن الحياة الأخرى، ولكنّه يضع أمله في مستقبل الأمّة.

II- سفر يهوديت
أ - بنية سفر يهوديت
يقسم السفر إلى مجموعتين كبيرتين. يصوّر القسم الأوّل (ف 1- 7) حملات أليفانا العسكرية وردّة الشعب اليهودي على هذه الحملات. ويشكّل دخول يهوديت على المسرح وشيخوختها وموتها إطار القسم الثاني (ف 8- 16).

1- القسم الأوّل: اليهود بوجه السلطة الوثنية
كان نبوكد نصّر في عاصمته نينوى، ففكّر بمخطط يتسلّط فيه على الأرض كلّها. بدأ فأخضع أرفكشاد ملك ماداي، وعاصمته المحصّنة أحمتا (1: 1- 16). رفضت أمم الغرب الخضوع، فتبرّر تدخّل الأشوريين. وسلّم نبوكد نصّر الأمر إلى أليفانا القائد الأعلى لجيوشه (2: 1-13). وتقدّم اليفانا حتّى وصل إلى بيت فلوى، فوجد اليهود نفوسهم في حالة ميئوسة (2: 4 1- 7: 32). وتتسجّل الاحداث حسب الرسمة التالية:
- قام اليفانا بحملة واسعة فتغلّب على الأمم المتمرّدة، ووصل التهديد إلى اليهود (14:2-10:3).
- سمع إسرائيل بالخبر فخاف جدًّا. وأمر يواكيم شعبه بالاستعداد للحرب (4: 1-15).
- كان أحيور العمّوني في مخيّم الأشوريين، فنصحهم بألاّ يهاجموا بني إسرائيل إذا كانوا أمناء لإلههم. هذه الخطبة تحذّر كل مجابهة مع إله إسرائيل. غضب أليفانا على أحيور وطرده من المخيّم (5: 1- 6: 11).
- استقبلت بيت فلوى أحيور الذي عرّفها بقرار مجلس أليفانا. حينئذ رفع الشعب صلاته إلى الله (16: 12- 21).
- وولّدت استعدادات أليفانا الخوف لدى بني إسرائيل (7: 1- 5).
- بدأ أليفانا يحاصر بيت فلوى ويقطع المياه عن المدينة. لم يبق للشعب أمل بالنجاة، فطب من شيوخ المدينة أن يستسلموا. وينتهي هذا القسم في جوّ من الذهول (6:7- 32).
إنّ التحليل العميق يبرز المقابلات بين هذه المقاطع المختلفة: في تصوير الحرب، في الاستعدادات لها... يلعب أحيور دورًا واصلاً، فيؤمّن الانتقال بين مخيّم الأشوريين وبيت فلوى، ويطرح مشكلة الكتاب اللاهوتية. ونُلاحظ تقدّم الخبر. انطلقت الجيوش الأشورية لاحتلال الكون فدمّرت كل شيء في طريقها، ولكنّها تحتاج إلى الحيلة لتُخضع مدينة فلسطينية صغيرة ومجهولة. ويتطوّر موقف الشعب حسب الظروف. من روح المقاومة إلى روح الاستسلام.

2- القسم الثاني: يهوديت تخلّص شعبها
- يقدّم لنا الكاتب بطَلته في بضع آيات. هي أرملة من قبيلة منسّى، تقيّة وحافظة للشريعة. لهذا فهي جديرة بأن تتدخّل من أجل شعبها. أمّا جمالها فسيَكون ورقة رابحة في يدها من أجل إتمام مهمّتها (8: 1- 8).
- علمت يهوديت بالخبر فقرّرت أن تخلّص شعبها (9:8- 8:10). وحين التقت بشيوخ المدينة نددّت بجبانة الذين يريدون أن يجرّبوا الله، وهم لا يفهمون أنّ الله يجرّبهم. بدا الشيوخ وكأنّهم يثقون بصلاتها لا بعملها، ولكنّهم تركوها تتصرّف (9:8- 36). وبعد صلاة طويلة، استعدّت يهوديت للتدخّل "لمجد بني إسرائيل ولعظمة أورشليم " (10: 1-8).
- وتركت يهوديت بيت فلوى برفقة خادمتها (9:10- 10).
- يقع المشهد المركزي في المخيّم الأشوري بين يهوديت وأليفانا (10: 11- 13: 10 أ). وصلت يهوديت إلى مخيّم أليفانا بواسطة طلائع الأشوريين ثمّ بواسطة حرس القائد العام. أعجب أليفانا بحكمتها وامتدحها أعظم مديح (10: 20- 12: 4). واستعدّت يهوديت، وهي في أرض العدوّ، للعمل بالصلاة والمحافظة على قواعد الطهارة (12: 5- 9). وجاءت وليمة أليفانا فكانت المناسبة لها لتقوم بعملها الخلاصي من أجل شعبها (20:10-10:13 أ).
- وعادت يهوديت وخادمتها إلى بيت فلوى، وهي تحمل رأس أليفانا (13: 10 ب-11).
- نفذّت يهوديت مشروعها بأن تدمّر العدوّ (13: 12- 16: 20). أبرزت أمام أهل بيت فلوى الأسلاب التي حملتها في جوّ من المديح والمباركة، وعرضت مخطّطها. وسبّب الحدث ارتداد أحيور الذي اختُتن وقُبل في بيت إسرائيل (13: 12- 14: 11). أمّا المشهد التالي فيَحدث في المخيم الأشوري. رأى العدوّ أليفانا ميتًا فأخذه الرعب وهرب. فهاجم بنو إسرائيل الأشوريين. وتبدأ حفلة التعظيم بمجيء رئيس الكهنة (يواكيم) ومجلسه في بيت فلوى، وتنتهي بأناشيد الفرح في أورشليم (8:15- 16: 20).
- وكانت يهوديت معروفة في حياتها وظلّت معروفة في بيت فلوى حتّى مماتها. ولم يعد هناك من يرعب بني إسرائيل في أيّام ييوديت ولا بعد موتها بسنين كثيرة (16: 21- 25).
- إنّ هذه المقاطع تنسج في ما بينها رباطات لغوية ومواضيعية عديدة. نجد في الطرفين معلومات عن يهوديت. هي تصلّي من أجل النجاح في 9: 1- 14، وتعلن هذا النجاح في 13: 14- 16. باركها عزيا في 8: 35 و 18:13-.2. تدخل الحرس قبل المشهد المركزي وبعده. أمّا موضوع جمال يهوديت وتأثيره فيملأ كل هذا القسم، كما كان موضوع الخوف مسيطرًا على القسم الأوّل.
وهناك علاقات بين قسمَيْ الكتاب. هناك مخطّط نبوكد نصّر (القسم الأوّل) ومخطّط يهوديت (القسم الثاني). ينتهي كل قسم بجوّ من الخوف. في القسم الأوّل خاف بنو إسرائيل، وفي القسم الثاني ارتعب الأشوريون وهربوا. وهناك وجه أحيور الذي يبرز في البنية العامة. وكانت شجاعة يهوديت الأرملة معاكسة لخوف رجال بيت فلوى (ف 1- 7). وإنّ الله قد خلّص شعبه بيدها.

ب- سفر يهوديت والتاريخ
1- المسألة التاريخية
يبدو يه وكأنّه خبر تاريخي. يعطي تواريخ محدّدة (1: 1، 13؛ 2: ا)، ويشير إلى حقبات من الزمن (16:1؛ 3: 10 ؛ 7: 20). وهناك أسماء أشخاص نقرأها في أمكنة أخرى: نبوكد نصّر، أليفانا، يوياكيم، عزيا. كما نعرف المدن المذكورة: نينوى، أحمتا، تفنيس، دمشق، صيدون، صور، أورشليم. ولكنّ هناك تواريخ غير مضبوطة، أسماء أشخاص أو أمكنة لم نقدر على التعرّف إليها ولاسيمّا مدينة بيت فلوى. وهناك بعض تفاصيل غير معقولة: (8:3؛ 7:4).
ولسنا بحاجة إلى أن نكون من المؤرّخين الكبار لنرى الأمور التي تشوّه التاريخ. فنبوكد نصّر كان ملك البابليين لا الأشوريين. وقد اعتلى العرش (سنة 605) بعد سقوط نينوى (612 ف م). والسنة الثانية عشرة لملكه تجعلنا قبل المنفى. وهناك عدد من الممارسات تفترض إطارًا يلي زمن المنفى. لم نجد ملكًا اسمه ارفكشاد. أمّا أحمتا فلم يحتلها نبوكد نصّر بل كورش. وإنّ لائحة الأمور غير المعقولة تدلّ أنّ هدف الكاتب لم يكن هدفًا تاريخيًا.

2- محاولات وجود حل
- افتراض تدوينات متتالية. فالمعطيات التي بدت أوّلاً متناقضة صارت نتيجة تدوين على مراحل عديدة، ضمّت أمورًا من الزمن السابق للمنفى، من الزمن الفارسي ومن الزمن اليوناني.
- استعمل الكاتب أبطاله كأرقام تعود إلى شخصيّات تاريخية. وقال أصحاب هذه النظريّة إنّ نبوكد نصّر يدلّ على أنطيوخس الرابع أو بومبيوس القائد الروماني أو الإمبراطور ترايانس.
- مزجت وثيقتان: خبر تاريخي عن حرب ملك وثني في الشرق، تبعها احتلال في الغرب (ف 1- 3) وهو أشور بانيبال أو ارتحششتا الثالث أوخوك (358- 338). أمّا خبر الخلاص الذي قامت به يهوديت فهو طويل جدًّا (ف 4- 16) ويتضمّن عناصر يونانية كثيرة.

3- عودة الأخبار إلى العناصر التاريخية
وهكذا اكتشفنا تنوّعًا في العناصر التي استعملها الكاتب، كثير منها يعود إلى الزمن الفارسي. هناك أسماء معروفة في تلك الحقبة: يهوديت، أليفانا، يوغا، يواكيم. ونجد كلمات من أصل فارسي: عمامة (كيداريس في 4: 15)، حكام (ساترابيس في 5: 2)، سيف (اكيناكيس في 13: 6).
وجدت أوستراكة أرامية من الزمن الفارسي مع الكتابة التالية: يهوديت بنت فلوى. وفي أوستراكة ثانية من الزمن الفارسي وجدت في مصر نقرأ: يهوديت بنت.
ولكن رغم كل هذا يعود يه إلى الزمن الهلّنستي وبوجه التجديد إلى الأزمة المكّابية. نحن نقابل موقف وأعمال يهوديت مع صلاة يهوذا المكّابي في 2 مك 23:15- 24. وهزيمة الأشوريين في يه 14- 15 تذكرنا بهزيمة نكانور في 1 مك 7: 44-50. والسلام الذي امتدِّ طويلاً بعد موت يهوديت يعكس حكم سمعان في ا مك 14. وإنّ نصّ يه 3: 8 يفترض دا 3: 4، 7. وعيد حنوكة (التدشين) هو قاسم مشترك بين دانيال وكتاب المكابيين.
أراد الكاتب أن يقسم الأحداث إلى اثني عشر شهرًا من حنوكة إلى حنوكة. ومن المعقول أن تكون سنوات ملك نبوكد نصّر اصطلاحية ومأخوذة من نصّ دانيال في السبعينية. أما يكون يه قد دوّن ليُقرأ في عيد حنوكة كما يقرأ سفر أستير في عيد الفوريم؟
وهناك عناصر تعود بنا إلى زمن الحشمونيين ولاسيمّا المدن التي لم يحتلّها بنو إسرائيل قبل يوحنّا هركانس (134- 104). أمّا النداء الموجّه إلى السامرة (4: 4) فيدلّ على أنّ تلك المقاطعة كانت قد ضمّت إلى أرض اليهودية (نهاية القرن 2 ق م).

ج- تأليف سفر يهوديت
1- قراءة ثانية للأسفار المقدّسة
يجمع الكاتب المعطيات التاريخية الضئيلة مع قراءة للنصوص البيبلية. قد لا نجد مراجع واضحة، ولكنّنا نجد العديد من النماذج. ونُعطي بعض الأمثلة.
إنّ نشيد الخروج (خر 15) قد أثّر في نشيد يهوديت (ف 16) وصلاتها (9: 2- 14). نستطيع أن نقابل يهوديت مع راعوت ومع أبيجائيل (1 صم 25: 1- 25). تذكّرنا طقوس التوبة بما فعله أهل نينوى (يون 3). وخطبة أحيور وارتداده يذكّراننا بما فعلته راحاب (يش 2، 6: 22- 25). واللجوء إلى الحيلة أمر معروف في التوراة: يعقوب ورفقة (تك 27)، شمعون ولاوي ضدّ شكيم (تك 34)، تامار (تك 38)، أهود (قض 3: 12- 30)، ياعيل (قض 4- 5). وخبر الحرب يذكّرنا بيوشافاط (2 أخ 20).

2- الفنّ الأدبيّ
إنّ الاهتمام بالفنّ الأدبي يساعدنا على فهم تعليم يه. فالسخرية تلعب دورًا هامًّا في بدء الكتاب وفي نهايته. كما نلاحظ فجوة أو تعارضاً بين وضع معطى وكلمات أو أعمال غير موافِقة ترافقه. فالأشخاص لا يفعلون ما ننتظره منهم. يهوديت هي امرأة جميلة ومرغوبة، ولكنّها تعيش في العزوبيّة منذ ترمّلها. هي غنيّة، ولكنّها تعيش حياة بسيطة. يستطيع أليفانا أن يحتلّ الغرب، ولكنّه يفشل أمام بيت فلوى المدينة الصغيرة. حسب أنّه يقدر ان يسيطر على أرملة ليس لها من يدافع عنها، فإذا هي تتغلّب عليه. وإنّ إيمان أحيور الوثني بحماية الله هو أقوى من إيمان بني إسرائيل. ظنّ نبوكد نصّر أنّه سيّد الكون، ولكنّ الأحداث برهنت عكس ذلك.
وهنا نتوقف عند تحفة أدبيّة هي الحوار بين يهوديت وأليفانا. رحّب بها أليفانا: "لن يضرّك أحد، بل يحسنون إليك " (11: 3- 4). إنّ لهذه العبارة نكهة خاصّة عندما نعرف الخبر كلّه. وهناك ملاحظة ليهوديت تتّخذ معنيين حسب الحالة التي يعيش فيها الأشخاص. "صارت حياتي اليوم أثمن من كل أيّام حياتي " (18:12).
والخبر مدروس بطريقة رائعة. أخّر الكاتب دخول بطلته فأعطاها عظمة وأبّهة. والجميع ينتظرون يهوديت بقدر ما يظهر الخوف عند الشعب والضعف عند المسؤولين. ثمّ إنّ لكل بطل طبعًا مميّزًا: يهوديت أو اليهوديّة (كما نقول: مسيحية) هي نموذج الضعف البشري والألم العظيم الذي يصيب شعبها. نبوكد نصّر هو نموذج العجرفة والإفراط في سلطة تريد أن تتساوى مع سلطة الله. أحيور هو نموذج الوثني الذي يرتدّ. أمّا ردّة الفعل عند الشعب فتعكس الظروف المتبدّلة. فالبكاء في ف 4 يصل إلى قمّته في صلاة ف 9، ويتحوّل إلى نشيد شكر في ف 16.
نحن لسنا أمام تاريخ بالمعنى العلمي للكلمة، بل أمام رواية ومقال إرشادي وتعليمي. انطلقنا من درس وجه نبوكد نصّر، فرأينا تقديمًا تاريخيًا لا يهدف إلى تصوير الأحداث التي حصلت، بل إلى التشديد على مقاومة إسرائيل لكل ما يعارض الرب (أنتي يهوه). فخلاص أورشليم العجائبي سنة 701 الذي ارتبط بعمل الرب ضدّ مصرفي سفر الخروج، قادنا إلى الحديث هنا عن رواية لاهوتية: هناك إطار كرونولوجي لا يوافق حقبة معروفة في تاريخ إسرائيل، وموادّ تقليدية، وموضوع صراع الله مع الكافر.

3- متى كتب سفر يهوديت وأين كتب
يرتبط يه بالأزمة المكّابية، لهذا جاء بعدها. ولكن لا يمكن أن يعود إلى القرن الثاني لأنّ إكلمنضوس الروماني (القرن الأوّل) يورد بعضاً من نصوصه. وتتّفق الآراء على القول إنّ المخطوطات اليونانية تعود إلى أصل سامي مفقود، وقد يكون أراميًا بل عبرانيًا. أمّا إطاره فالمحنة التي قاساها الشعب خلال اضطهاد أنطيوخس الرابع أبيفانيوس. وأمّا يهوديت فترمز إلى المقاومة التي انتصرت على الضيق الذي مارسه الحكم السلوقي التوتاليتاري. وهكذا نصل إلى اهتمامات دانيال وإن بوسائل مختلفة. ويبدو أن الكاتب اليوناني عمل في زمن الحشمونيين.
عرف الكاتب جغرافية فلسطين لا جغرافية المملكة. ولهذا يبدو أنّ يه ولد في فلسطين. هل نستطيع أن نعرف إلى أيّ تيّار يهودي انتمى الكاتب؟ إنّ أفكاره الدينية تجعله بين جماعة الفرّيسيين الأوّلين، وإن أهمل أفكارًا فرّيسية هامّة مثل قيامة الموتى وأهميّة الصدقة.
لم يحتفظ القانون اليهودي بسفر يهوديت. جهله قمران ولم يذكره فيلون ولا فلافيوس يوسيفوس. تردّدت الكنيسة الأولى، ولاسيمّا الشرقية منها، بالأخذ به.
النصّ الأساسي هو النصّ اليوناني الذي هو ترجمة، كما يبدو. تمثلّه المخطوطات الكبيرة: الإسكندراني، الفاتيكاني. أمّا السينائي فمشوّه بعض الشيء. ونذكر أيضاً نصّ اللاتينية العتيقة. ويذكر إيرونيموس في مقدّمة ترجمته أنّه اهتمّ بالمعنى العامّ لا بحرفيّة النصّ، وأنّه أنهى ترجمته في ليلة قصيرة.

د- تعليم سفر يهوديت
1- سلطان إله إسرائيل على الكون كلّه
إنّ الصراع ضدّ سلطة توتاليتارية تؤلّمه نفسها هو في قلب يه. يبدأ الخبر بشكل ملحمي مع تردادٍ لألفاظ تعبّر عن "الكلية". وفي المرحلة الثانية يريد نبوكد نصر أن ينتقم من "كل الارض " (2: 1). ويعلن أنّه "الملك العظيم وسيّد كل الأرض " (2: 5) ويعتدّ بسلطان يده (2: 12). وتصل الأمور إلى حدّها حين يريد أن يفرض على الشعوب أن لا تعبد إلاّ نبوكد نصّر، وعلى كل لسان وأمّة أن تدعوه إلهًا (3: 8). ونقرأ التحدّي الكبير في 6: 2: "من هو إله ألاّ نبوكد نصّر". وينسبون إلى كلمته فاعليّة إلهيّة. وستردّد يهوديت بسخرية أمام أليفانا الهتاف: "يحيا نبوكد نصّر ملك الأرض كلّها" (11: 7). ماذا يعني هذا؟ إنّ الكاتب يشير إلى وضع اليهود أمام اضطهاد أنطيوخس الرابع أبيفانيوس.
وفي عصر الأزمة هذا، تُعلَن سيادة إله إسرائيل على كل الأرض. إنّه الرب الكلّي القدرة (بنتوكراتور) (4: 13؛ 8: 13؛ 5: 10 ؛ 16: 5، 17). إنّ الإله "المحطّم الحروب " (7:9؛ 2:16 ؛ رج خر 3:15). هو العظيم، المجيد، والعجيب بقدرته فلا يقوى عليه أحد (13:6). تقرّبه يهوديت سيدَ السماء والأرض، خالق المياه، وملك كل الخليقة (12:9؛ رج 18:13). وهي تذكّر شيوخ بيت فلوى أنّ مقاصده لا تُدرك (8: 14). هو الذي يوجّه الماضي والحاضر والمستقبل (9: 5)، ويحدّد المصير النهائي للأمم (17:16).
يبرهن أحيور للأشوريين عدم جدوى مشروعهم في تدمير شعب يكون أمينًا لإله هو مرشده منذ الأزل (5: 5- 21). فإله القدرة والجبروت هو محامي شعبه (9: 14). هو إله الوضعاء وعون المظلومين وسند الضعفاء وملجأ المتروكين ومخلّص البائسين (9: 11). أمّا انتصار الله على سلطان التضييق الوثني فسيكون خلاص شعبه.

2- تحرير بيد امرأة
واجه يه الأزمة عينها التي واجهها سفر دانيال وكتاب المكّابيين، ولكنّه اختلف عنهما فجعل من المرأة العامل البشري لخلاص الشعب. وهكذا ارتبط بتقليد دبورة وياعيل (قض 4- 5). يستغلّ الكاتب نمطيّة سفر الخروج وهو حدث مترسّخ في وجدان الشعب عبر خر 14- 15 الذي أعيدت قراءته: لقد حرّر الرب شعبه بيده، ولكن بيد موسى أيضاً. وهو يستعمل هنا يد يهوديت.
إنّ موضوع اليد حاضر في يه. نجد عبارة "في يد" في 6: 10؛ 22:7؛ 10: 5. يد شمعون مسلّحة بسيف منتقم (2:9). هناك يد نبوكدنصّر (12:2) ويد يهوديت. وبيد يهوديت يفتقد الرب شعبه (33:8) ويُتمّ مقاصده (3 1: 4). هي يد امرأة، يد أرملة (9: 9- 10؛ 13: 14- 15). وصلّت يهوديت إلى الرب لينظر إلى أعمال يديها. أمّا تأكيد أليفانا "في يدنا القوّة"، فهو جدير بالسخرية (رج خر 8:14، 16، 21، 26، 27، 30، 31).
إنّ تحرير إسرائيل بيد يهوديت هو انتصار قوّة الله في الضعف البشري. تحوّلت يهوديت إلى محاربة متسلّحة بجمالها فبدت وكأن لا سلاح لها أمام أليفانا. ولكنّ الضعف هو السلاح الأقوى حين يكون الرب عون المظلومين وسند الضعفاء. إنّه الفاعل الرئيسي في الحرب المقدّسة. ونحن نستطيع أن نُقابل يهوديت بأستير التي حرّرت شعبها هي أيضاً.

3- يهوديت رمز شعب إسرائيل
إختار الكاتب قصدًا اسم بطلته: يهوديت أي اليهودية. فهناك تماثل تامّ بين هذه المرأة وقضيّة شعبها. وهي واعية كل الوعي لما تتطّلبه هذه المقاومة (8: 21- 24). لا باعث على عملها إلاّ تعظيم أورشليم (13: 5). ويرينا إيّاها المشهد الأخير تُنشد نشيد الشكر"وسط كل إسرائيل " (15: 14). وحين أكملت مهمّتها، عادت إلى حياتها الهادئة.
ويهوديت هي رمز إسرائيل بإيمانها وحكمتها. تجاه الإسرائيليين اليائسين (7: 19؛ 8: 9)، كان موقفها موقف الثقة القويّة بالله، فدلّتهم على طريق الإيمان الحقيقية. واستطاعت أن تميّز بحكمتها مخطّط الله (8: 29)، وأن تتبنّى السلوك الواجب في هذه الحالة، وأن تجد الكلام المناسب (11: 8، 20). إنّها تجسّد الجواب الذي يجب أن يعطيه إسرائيل لأعمال الله المجانية.
ويهوديت هي أيضاً مثال الحياة اليهودية بالممارسات المُختلفة التي تقوم بها. هي تحيا ترمّلها بطريقة مثالية (8: 4- 6؛ 16: 22). اتّخذت إجراءات حكيمة لها ولقرابتها (23:16- 24). إنّها امرأة تقيّة (8: 31؛ 11: 17)، تخاف الله (8: 8) وتحافظ على الأصوام (8: 6) وطقوس التوبة (9: 1؛ رج 4: 9-10). ويضع الكاتب الصلوات على شفتيها في مراحل مهمّتها الكبيرة (9: 1- 14؛ 13: 4 ب- 5 ؛ 16: 1-17 مع الشعب). هناك مفكّرون يتحفّظون بالنسبة إلى الحيلة التي استعملتها، وهم على حقّ، أمّا التقليد فيعتبرها "قدّيسة" لأنّها حرّرت شعبها.

4- تعظيم أورشليم
يقودنا الكاتب من نينوى المتكّبرة إلى أورشليم المعظّمة عبر عمل يهوديت الشجاع. فماذا كانت بيت فلوى تمثّل رمزيًا أرض إسرائيل، فهي أيضاً المدخل إلى أورشليم، وتشكّل نقطة ستراتيجية هامّة. فلو استسلمت بيت فلوى لكانت أورشليم في خطر مع الأمكنة المقدّسة والهيكل والمذبح (8: 21- 24). لهذا تدخّل يوياكيم الكاهن الأعظم ومجلس الشيوخ منذ بداية الحرب (4: 4- 6). وفي المشهد الأخير، ينقلون العمل من بيت فلوى إلى أورشليم حيث يُنشَد نشيد الشكر وتُذبَح الذبائح (8:15- 16: 20).
استعادت صلاة يهوديت رغبات عزيا وشيخَيْ المدينة. فجعلت هدف مهمّتها تعظيم أورشليم (13: 4). ولكنّ العبارة ستطبّق على يهوديت في 9:15. وهكذا نكون بطريقة أخرى أمام تماثل بين يهوديت وشعبها. فوجه يهوديت يعود بنا إلى أورشليم التي كانت مع الهيكل الهمّ الأكبر للعائشين خلال الأزمة المكّابية.

III- سفر باروك
1- باروك سكرتير إرميا
باروك (= مبارك) هو اسم أشخاص عديدين في التوراة. وهو بصورة خاصّة اسم كاتب عاش في نهاية العهد الملكي، في أورشليم (ار 36: 32). هو ابن نيريا، وكان بقرب إرميا، بل سكرتيره الخاصّ الذي دوّن له أقواله وقاسمه اهتماماته الشخصية. ويمكننا أن نفترض أنّه كانت للاثنين أفكار مشتركة حول العلاقات مع الكلدائيين (أو البابليين الجدد). رج ار 3:42. من الممكن أن يكون سرايا الوزير شقيق باروك (ار 51: 59).
كان دور باروك كسكرتير مهمًّا جدًّا (ار 36: اي). لن ندرس دوره هنا في تكوين سفر إرميا. وإذا جعلنا نشاطه المهني خارج اهتمامنا، تبيّن لنا أنّنا لا نعرف الكثير عن حياته. ظهر مع إرميا خلال شراء حقل في عناتوت (ار 12:32- 15). سمّي كاتبًا صالحًا (ار 18:36)، واحتفظ لنا النصّ بكلمة قالها (5 3:4). تدلّ هذه الكلمة على نفسيّة حسّاسة ومتألّمة وقريبة من نفسيّة إرميا. قال باروك: "زادني الرب غمًّا على ألمي. أعييت من تنهّدي ولم أجد راحة". فوعده الرب بالنجاة: "أهب لك نفسك غنيمة في جميع الأماكن التي تذهب إليها" (ار 45: 5).
ولكن إلى أين ذهب باروك؟ بعد موت جدليا سنة 586، حمل خصوم التفاهم مع الكلدائيين بالقوّة إرميا وباروك واقتادوهما إلى مصر، إلى تحفنحيس، في دلتا النيل (ار 43: 6- 7). هناك مات باروك، على ما يبدو. هذا ما يقوله التقليد اليهودي الذي يورده القدّيس إيرونيموس في شرحه لسفر أشعيا. ولكنّ تقليدًا آخر يرتبط بأدب الرابّانيين يقول: إنّ نبوكد نصّر، قاهر مصر، قد دعا إرميا وباروك إلى بابل، وهناك مات باروك لا يبدو التقليد الثاني قريبًا من المعقول، وقد وضعه الرابّانيون ليربطوا سكرتير إرميا بالمعطيات الموجودة في سفر باروك.
نسبت كتب عديدة إلى باروك. سنتكلّم هنا عن سفر باروك كما ورد في السبعينية، ونجعل جانبًا رسالة إرميا (الفصل السادس في اللاتينية الشعبية) التي ندرسها فيما بعد. هناك ثلاثة أقسام: القسم الأوّل (1: 1- 3: 8). القسم الثاني (3: 9- 4: 4). القسم الثالث ( 4: 5 – 5 : 9 ).

2- الشهود على نصّ باروك
لا نملك سفر باروك في العبرية ولا في الأرامية. لهذا سنتكلّم على الترجمات اليونانية والسريانية واللاتينية. إذا عدنا إلى السبعينية وجدنا باروك في كل المخطوطات الكبيرة (ما عدا السينائي). وهو بين إر ومرا. وإذا عدنا إلى السريانية نجده في الهكسبلة (بين إر ومرا) مع اختلافات نصّ تيودوسيون، ونجده في البسيطة حيث يسمّى "رسالة باروك الثانية". فالأولى هي "رسالة باروك للأسباط التسعة والنصف " وهو كتاب منحول عرفته السريانية وحدها. هل نقلت البسيطة النصّ عن اليونانية أو العبرية؟ يبدو أنّها نقلته عن اليونانية. ولا نجد نصّ باروك إلاّ في اللاتينية العتيقة، لا في اللاتينية الشعبية، لأنّ إيرونيموس رذله وقال: لا يقرأ ولا يوجد عند العبرانيين.

3- اللغة الأصليّة
هناك المعايير الخارجية. يجهل القانون اليهودي سفر باروك (تلمود بابل). وهذا الغياب عند اليهود يثبّته ايرونيموس (القرن 5) وأبيفانيوس (القرن 4). في القرن 3، لم يعرف أوريجانس مخطوطاً عبريًا لسفر باروك. ولقد قالت الهكسبلة السريانية: "رُتّب باروك كله حسب السبعينية". غير ان الهكسبلة السريانية أوردت أربع اختلافات وجدتها في تيردوسيون (1: 2؛ 8:1؛ 2: 29؛ 13:4). هذا يعني ان تيودرسيون ترجم أو صحح نص باروك. وهناك مخطوط يعيدنا إلى تيودوسيون وإلى أكيلا... كل هذا يدفعنا إلى القول إنّ النصّ الأصلي قد دوّن في العبرية. ونزيد على ما قلنا وجود نشيد يهودي أورده افرام المزعوم.
وهناك المعايير الداخلية التي تدلّنا على ان النصّ الأصلي هو عبري أو أرامي. نجد أخطاء في الترجمة. ولقد حاول بعضهم أن يعيد النص اليوناني الذي بين أيدينا إلى العبرية، فكانت محاولته ناجحة.

4- استعمال باروك لدى الآباء وإدخاله في القانون المسيحيّ
هناك تفسير لباروك لدى تيودوريتس القورشي وآخر دوّنه أولمبيودور. وقد احتفظت لنا السلسلات بمقاطع من تفاسير باروك.
والإيرادات الآبائية عديدة ولا سيمّا في القسم الثاني (خاصة 3: 36- 38): "هو إلهنا ولا يُحسَب غيره تجاهه. إكتشف كل الطريق الذي يقود إلى المعرفة، ودلّ عليه يعقوب خادمه وإسرائيل حبيبه. تراءى (أو تراءت. رُئي أو رئيت الحكمة) على الأرض وعاش بين البشر". يُعتبر هذا المقطع تصويرًا لسرّ التجسّد.
كيف دخل با في لائحة الأسفار القانونية الثانية؟ أورد الآباء با باسم إرميا. وهناك سببان: الأوّل: اعتبر البعض أنّ إرميا ألّف با بواسطة سكرتيره. الثاني: وُضع با حالاً بعد إر في السبعينية، فاعتبرا كلاهما كتابًا واحدًا. ولأجل هذا عومل با كما عومل ار.

5- القسم الأوّل (1: 1- 3: 8)
القسم الأوّل نثري، يتضمّن مقدّمة تاريخية وصلاة توبة. أمّا الصلاة فتبدو مركّبة من جزئين (2: 11: فالآن). إنّ 1: 15- 2: 10 يتحدّث عمّأ أصاب أورشليم والشعب، لا عن المنفى (ما عدا 2: 4). أمّا 2: 11- 3: 8 فيتركّز كلّه على المنفى. يوافق الجزء الأوّل أناسًا يقيمون في أورشليم، والجزء الثاني أناسًا يقيمون في المنفى. وفي الواقع، هذا ما نفهمه من المقدمة. 3:1 – 4: في بابل ، 14:1: في أورشليم. قبل 11:2 يتكلم النصّ بصيغة الغائب المخاطب (أنت). كل هذا يقودنا الى افتراض : دوّنت المقدّمة التاريخية بعد الصلاة بجزئيها اللذين كانا منفصلين.
يختلف 1:1 -2 عن 3:1 – 14. فمعطيات آ 3 – 4 توافق الحالة التي نعرفها بين سنة 597 (المنفى الأوّل) وسنة 568 (المنفى الثاني). غير أنّ 8:1 وضعًا لاحقًا لسنة 586 . رج أيضاً 2:1 (حريق الهيكل) . وذكرُ جماعة كبيرة في بابل بحضور يكنيا (3:1) يبدو عنصرًا مدراشيًا . والأمر واضح في 8:1 مع الدور المعطى لباروك في قضيّة الآنية المقدّسة التي سُلبت من الهيكل.
هناك تشابهات بين جزئي الصلاة، وأهمّها العودة إلى السلطات: موسى عبدك (في الشريعة) من جهة، ومن جهة ثانية إرميا مع عبارة "عبيدك الأنبياء". بالنسبة إلى موسى والشريعة، يحيلنا با 20:1 الى تث 26:11 – 28 (رج أيضاً لا 14:26 – 39 ؛ تث 15:28 – 68). ويستعيد 23:2 لا 29:26 أو تث 53:28 يبدو با 29:2 – 35 مثل ايراد طويل للشريعة. ولكنّنا لا نجد هذا المقطع كما في البنتاتوكس ، بل نجد عناصره الرئيسية في تث 4 ؛ 28؛ لا 26. ونحن نبحث عن العهد الأبدي (با 35:2) في إر 31:31 – 33، وعن ذكر العبادة في زمن المنفى (با 32:2) في 1 مل 37:8 – 48. ثمّ إنّ نصّ 1 مل 46:8 – 53 = 2 أخ 36:6 – 39 و1 مل 33:8 – 34=2 أخ 24:6 – 25 يبدو متوازيًا مع با 29:2 – 35. فالنصّان يتوسّعان في الموضوع نفسه مع تسلسل العناصر المختلفة: الخطيئة ، المنفى والعدد القليل ، التوبة ، العبادة في المنفى ، الرجوع. أمّا العهد الأبديّ فنقرأ عنه فقط في با وار.
ويختبئ باروك ثلاث مرّات وراء سلطة "العبيد الأنبياء". ولهذا نقارب با 21:1 – 22 من إر 4:25 – 7؛ 15:35 ؛ 3:44 – 4؛ وبا 21:2 – 23 من إر 2:27 – 15؛ 7:7، 34، وبا 24:2 -25 من إر 1:8 . ونستطيع أن نقدّم نصوصاً يبدو فيها با قريبًا من تث أو إر.
تنتمي صلاة التوبة هذه الى فن أدبي يعود أصله الى الزمن الملّكي وظلّ معمولاً به بعد العودة من المنفى. أمّا النصوص القريبة من باروك فهي: 1 مل 8=2 أخ 6؛ عز 9؛ نح 1؛ 9؛ دا 9. كل هذا يساعدنا على تحديد الزمن الذي فيه دُوّن با . نحن هنا أمام صلوات وُضعت في الزمن الفارسي. وهكذا يكون با قد دوّن في الزمن الفارسي أوفي الزمن الهلّسنتي، لا في أيّام المكّابيين.

6- القسم الثاني (3: 9- 4: 4)
هذا القسم هو القسم المُبتكر في الكتاب وهو قصيدة عن الحكمة. يستعيد بطريقة شخصيّة بعض مواضيع الأدب الحكمي. لا يهتمّ الكاتب بمصير الأفراد، بل بمصير الشعب كلّه. ينظر إلى إسرائيل في الوضع الحاضر (حلّ به الشقاء لأنّه تخلّى عن الحكمة. ولكن لا ذكر للمنفى إلا في 3: 10)، وفي المستقبل (يكون السلام والحياة الطويلة للشعب إن عاد إلى الحكمة. رج 3: 4 1). وفي الماضي: نجد في 37:3- 4: 1 ملخّصاً لكل تاريخ الوحي. وهناك تماثل بين الحكمة والشريعة (تورة). فالشريعة المعطاة في سيناء والحاضرة حضورًا ناشطاً وسط شعب الله هي كالحكمة الموجودة لدى البشر تبدو الحكمة مثل شخص حي، وهي على علاقة مع بني إسرائيل.
هل نستطيع أن نتكلّم عن سكنى الحكمة في السماء؟ يجب أن لا نفصل 29:3 عن الآية التالية. تتحدّث آ 29 عن السماء والغيوم، أمّا آ 30 فتتحدّث عن البحر. إذًا، لا يريد باروك أن يدلّ على حضور الحكمة في السماء أوفي عبر البحار. هولا يهتمّ بمكان وجود الحكمة بل بواقع خاصّ وهو أنّ الإنسان لا يقدرأن يمتلكها بقواه الخاصّة. أجل، يشدّد كل هذا الجزء على أنّ الحكمة ليست في متناول أيدينا. وإذ أراد با أن يعبّر عن هذه الفكرة، عاد إلى تث 30: 12- 13 واستعمل صوره ومنظوره العميق. تحدّث تث عن الشريعة، أمّا با فماثل بين الحكمة والشريعة.
وهذا العهد بين التاريخ والحكمة يدلّ على مناخ قريب من مناخ سي 24، ولكنّنا لا نجد في با شيئًا يوازي "مديح الآباء" في سي. ثمّ إن صورة الحكمة كوسيط بين الله والعالم (تمثّل مكانة كبيرة في أم 8 وسي 24) لا تظهر في با. فإنّ با يتكلّم فقط عن بعض أعمال الخالق (3: 32 ب- 35) بتفاؤل يشبه تفاؤل أي 38. وهو يهتمّ بمعرفة الحكمة أكثر منه باعتبار حول الكون والمخلوقات، وهذا ما نكتشفه من اعتباراته حول علاقات الإنسان بالله.
يؤكّد با بقوّة أنّ وحي الحكمة محصور في أرض إسرائيل، وهو بالتالي يتعارض في 4: 4 مع حك 8:9. ولكنّ النصّين يتّفقان على القول إنّ ما يرضي الله تعرفه إرادة الله وحدها.
ويستعيد باروك في خطّ هذه النظرة المحصورة موضوعًا آخر من الأدب الحكمي هو عجز الإنسان عن الدخول في أسرار الحكمة. يتوسّع في هذا الموضوع ويطيل، فيقدّم المادّة الاساسية (3: 14- 31) ويعطي روحًا جديدة للمجموعة متأثرًا بنصّ أي 38. يقول 3: 15: لا يجد الإنسان المكان الذي تُوجَد فيه الحكمة. ويتحدّث أي 38: 12، 20 عن الذي يعرف كل شيء. وإنّ با 3: 32 يذكّرنا بنصّ أي 38: 24 حسب السبعينية. هذه النظرة الوطنية الضيّقة تتعارض مع الشمولية المعروفة في الأدب القديم. مثلاً تعارض با 22:3-23 مع 1 مل 5: 10؛ ار 7:49؛ عد 8 الذين يفترضون وجود الحكمة عند الشعوب الغريبة. وهناك تقارب بين سي 1: 10؛ 7:17 (موقف معلّل) مع با. مثلاً با 3: 34 وسي 43: 10؛ با 3:4 وسي 49: 5. هنا عبارة "ينابيع الحكمة" (با 15:3 ؛ سي ا:25) وعبارة "بئر الحكمة" (با 12:3 وسي 1: 5 في بعض المخطوطات). هل استعمل باروك ابن سيراخ؟ الأمر ممكن.
وهناك عبارات تدلّ على أصالة با. يتحدِّث مثلاً عن "وصايا الحياة" (3: 9)، فيستعيد فكرة تقول إنّ ممارسة الوصايا تقود إلى الحياة. ويتكلّم في 4: 2 عن نور الحكمة. وإذ يماثل بين الشريعة والتوراة، فهو يعود إلى الفكرة القديمة التي تقول إنّ الشريعة نور (مز 105:119؛ أم 23:6).
إذًا، نلاحظ الطابع التقليدي والمبتكر لهذه القصيدة إن من جهة الأفكار وإن من جهة التعبير. ويعود تأليفها إلى الزمن اليوناني، وقد يكون الكاتب عرف ابن سيراخ. وهذا ما يجعلنا في بداية القرن 2 ق م (رج 16:3- 17 وما فيها من تلميح إلى الصراع مع الحيوانات في الحلبة على أيّام الرومان، رج دا 2: 38). ونشير إلى أنّ الإسكاتولوجيا غائبة عن باروك. فهو ينتظر عودة الشعب إلى الحكمة (3: 14)، ولكنّ هذا ليس بحدث يهدف إلى تبديل دور الحكمة ومكانتها وهي النشيطة في الشعب منذ سيناء. وإنّ مثال حياة الشعب (3: 14) هو وجود هادئ على الأرض. أمّا الأفكار عن الشيول فهي أفكار إسرائيل القديم (3: 11، 19). كل هذه الملاحظات تقودنا إلى القول إنّ المحيط الذي دوّن فيه با سابق للثورة المكّابية (167- 164 ق م).

7- القسم الثالث (4: 5- 5: 9)
هي سلسلة من قصائد صغيرة تعلن العودة من المنفى بشكل انتصار. نجد مقدّمة (4: 5 - 9) وجزءًا أوّل عنوانه: أورشليم المشخصنة تصوّر شقاء ها لجيرانها (أو جيران صهيون: 4: 9 ب- 16) ولأبنائها (4: 17- 29). وفي جزء ثان يتوجّه الكاتب الملهَم إلى أورشليم فيعلن شقاء الأعداء الذين سيُقهرون (4: 0 3- 35) ويصوّر عودة المنفيّين المجيدة (4: 36 -9:5).
هناك كلمة تتردّد: "تشجّع " (4: 25، 26، 27، 30). هذا يربطنا بأشعيا الثاني حيث نجد هذا النداء إلى الأمل متواترًا (أش 40: 9؛ 41: 10، 13؛ 43: 1). وجوّ الفرح أمام العودة القريبة هو نفسه في أشعيا (3:51، 11؛ 52: 9؛ 55: 12، 60؛ 3:61، 10) وباروك (23:4، 29، 26؛ 5: 9).
يتطلعّ كاتب هذا القسم الثالث إلى عودة المسبيّين من بابل، ويتطلعّ أيضاً إلى عودة المنفيّين في أيّامه (37:4 ؛ 7:5). وإذ يجمع هذين المنظورين يلتقي مع نصوص أش 43: 5 ؛ 49: 12؛ إر 8:31؛ زك 7:8؛ مز 3:107.

8- وحدة الكتاب
هناك فروقات عميقة تميّز أقسام الكتاب الثلاثة التي تمثّل ثلاثة فنون أدبية مختلفة: صلاة توبة جماعية فيها يتركّز الاعتراف (1: 15- 2: 10) حول الماضي. شعب يهوذا هو المسؤول عن قطع العهد، ولهذا فالضيق الذي أصابنا هو نتيجة خطيئتنا. تعود صيغة المتكلّم الجمع في آ 15، 17 (خطئنا) إلى سكّان أورشليم، أمّا المنفيّون فمذكورون في صيغة الغائب الجمع (2: 4- 5: أخضعهم). وبعد الاعتراف التوسّل (2: 11- 3: 8) يقودنا إلى زمن المنفى: يصلّي المنفيّون فيتوجّهون إلى الله بصيغة الخاطب. فوظيفة النفي في المخطّط الإلهي هي أن يعود بالشعب إلى نفسه فيتذكّر اسم الله ويرجع عن خطيئته. وتشهد الصلاة على استعدادات قلب المنفيين. لهذا فهم ينتظرون بثقة تحقيق وعد الله (2: 34- 35).
القسم الثاني هو تأمّل في الحكمة. يتوجّه الكاتب إلى شعب إسرائيل المُشتّت في الامم. يدعوه في تحريض أوّل (3: 9- 14) إلى أن يعي أنّ سبب منفاه هو أنّه تخلّى عن ينبوع الحكمة. ثمّ يأتي توسيع (أو تأمّل) عن الحكمة التي لا نصل إليها. الله وحده يعرفها، ولكنّه يسلّمها إلى إسرائيل. فالحكمة هي الشريعة (3: 15- 4: 1). لهذا، يبدأ تحريض ثان (4: 2- 4): ليوجّه إسرائيلُ قلبَه إلى الحكمة.
وفي القسم الثالث (تحريض نبوي) يستعيد النبي تث 32، فيتوجّه أوّلاً إلى المنفيّين ليحرّضهم ويذكرهم بسبب سبيهم (4: 5- 9). وتتكلّم أورشليم (9:4- 29) كشخص حي (رج سرا 1: 1 ي) تشكو أمرها لجيرانها (آ 9 ب- 16) ثمّ تعزّي أبناءها (آ 17- 29): إد الله سيخلصهم ويقلب ألمهم فرحًا. وأخيرًا يتكلّم النبي (4: 30- 9:5) فيوجّه إلى أورشليم خطبة تحريضية تقترب مواضيعها من أش 40: 55 و 60- 62. يعلن أوّلاً عقاب الأعداء (4: 30- 35)، ثمّ يدعو أورشليم إلى الفرح مصوّرًا لها عودة أبنائها (4: 36- 5: 9).
المراجع البيبلية المستعملة هي تث وإر في القسم الأوّل، أي وسي في القسم الثاني، وأش في القسم الثالث. وهناك النظرة إلى الغريب التي تبدو مُتحفّظة في القسم الأوّل، ومعادية في القسم الثالث، ثمّ النظرة الحصرية إلى الحكمة في القسم الثاني. كل هذا دفع بعض الشرّاح إلى القول إنّنا أمام ثلاثة كتّاب لا كاتب واحد.
ولكن وعى شرّاح آخرون هذا التنوّع، وشدّدوا على وحدة الكتاب. قال أحدهم:
دوّن الكتاب مرّة أولى وأعيدت كتابته (زِيد 4: 5 ي). أمّا حركته فهي: صلاة، جواب الله، جواب أورشليم. وربط شارح آخر بداية سفر باروك بالليتورجيا التي يَحتفل بها الشعب في القرن 2 ق م: مثلاً عيد المظالّ مع الاحتفال بتجديد العهد.
ومن أجل البرهان على وحدة الكتاب نقدّم المعطيات التالية: الأفكار عن الحياة الأخرى هي هي في الأقسام الثلاثة. فالفكرة القديمة عن الشيول موجودة في 17:2 و 3: 11، 19. وينظر الكاتب إلى مستقبل الشعب في حياة هادئة على أرض الموعد. أمّا مصير الأفراد فلا يهمّه. وتهتمّ الأقسام الثلاثة بالغرباء بطريقة مختلفة، ولكنّها تتّفق أقلّه على نقطة واحدة: غياب كل اهتمام بحمل الرسالة إلى الأبعدين. ثمّ إنّنا لا نجد شخصاً مسيحانيًا في الأقسام الثلاثة. أمّا الحديث عن الحكمة في القسم الثاني فلا يأخذ بعدًا إسكاتولوجيا. وأخيرًا، إنّ الأفكار عن تأثير الخطايا على شقاء الشعب هي هي في كل الكتاب.

IV- رسالة إرميا
1- قانونيّتها
ترد رسالة إرميا كجزء من الكتاب المقدّس في أثناسيوس الإسكندراني وكيرلّس الأورشليمي وهيلاريوس أسقف بواتييه في فرنسا. ويشير بعض الآباء إلى مضمونها: قبريانس أسقف قرطاجة (آ5)، ترتليانس (آ 3 ي). وان فرميكوس ماترنوس يضمّ إلى كتابه أجزاء مهمّة من رسالة إرميا هذه.
تجعل الهكسبلة السريانية ومعظم المخطوطات اليونانية رسالة إرميا بعد المراثي، وعلى هذا المنوال يسير الآباء. ولكنّها تأتي بعد باروك في بعض المخطوطات اليونانية وفي السريانية البسيطة وفي اللاتينية العتيقة فتُحسب كأنّها ف 6 في سفر باروك. وهذا ما درجت على عمله ترجمات حديثة عديدة على خطى الشعبية اللاتينية.

2- النصّ والترجمات
لا اختلافات هامّة في نصّ رسالة إرميا الذي نجده في الإسكندراني والفاتيكاني... أمّا المخطوطة المكتوبة بالحروف الجرّارة فتتبع نسخة لوقيانس الأنطاكي. السريانية البسيطة تصرّفت في ترجمة النصّ اليوناني. أمّا الهكسبلة السريانية واللاتينية العتيقة فقد اتّبعتا النصّ اليوناني اتّباعًا متقنًا.

3- مضمون رسالة إرميا
تدلّ آ 1 على الكاتب (إرميا)، على الأشخاص الذين أرسلِت إليهم الرسالة، وعلى ظروف الرسالة: يتوجّه "النبي " إلى أبناء وطنه الذين سيسوقهم ملك بابل إلى السبي.
تتحدّث آ 2- 7 (في الشعبية 1- 6) بلغة التحريض. سيدوم المنفى حتّى سبعة أجيال: لا يتغلّب عليكم خوف الآلهة. حين تشاهدون شعائر العبادة التي تُقدَّم إليهم، جدّدوا إيمانكم بالربّ (بيهوه).
جسم الرسالة (8- 72 أو 7- 72 حسب الشعبية) هو مقال عن الأصنام التي هي باطلة وبالتالي عاجزة عن عمل أي شيء. لا يشكّل هذا الموضوع العام مادّة برهنة ما، والكاتب لا يتوسّع فيه توسّعًا منهجيًا. نحن أمام سلسلة من الاعتبارات لا رابط بينها بأسلوب مفخّم تارة ولاذع تارة أخرى. يُغطَّى الآلهة بالذهب والفضّة، وتُجعل عليهم الملابس الغنيّة، ولكنّهم لا يستطيعون أن يتكلّموا. كهنتهم يعرّونهم من لباسهم، والصدأ والسوس يأكلهم. يحملون سلاحًا ولا يستطيعون أن يدافعوا عن نفوسهم (آ 7- 14 أو 15 أ). يتلقّون كلام التجديف ولا يحسّون به (آ 15 أو 15 ب- 22). لا حياة فيهم ولا حركة (آ 23- 26). شعائر عبادتهم شائنة (آ 27- 32). لا يستطيعون أن يفعلوا شرًّا ولا خيرًا (آ 33- 39). لا كرامة لهم. يثق الناس بهم فتخيب آمالهم. وتُمارَس أمامهم أعمال لا أخلاقية (آ 40- 44). حياتهم محدودة لأنهم صنع أيدٍ مائتة. لا يعرفون كيف ينجون من أخطار الحرب (آ 45- 49). سيُنزع القناع عن عبادة الأصنام الكاذبة (آ 50 - 51). لا يستطيعون أن يهربوا من السارقين. هم أقل من الكائنات الجامدة والحيوانات والأشياء الوضيعة لأنّهم لا ينفعون في شيء (آ 52- 72).
تتكرّر هذه الاعتبارات بطريقة مملّة، ولكن تأتي عبارات تذكّرنا بالموضوع العامّ: "بهذا تعرفون أنّهم ليسو بآلهة. فلا تخافوهم " (آ 14، 22؛ 28، 64، 68). أو: "لماذا تسمّونهم آلهة" (آ 29 أ)؟ أو: "كيف نقول إنّهم آلهة" (آ 39، 44، 56)؟ أو: "أما يتّضح أنهم ليسوا بآلهة" (آ 51)؟

4- النقد الأدبيّ
نميّز في الرسالة مرجعين أخذ منهما الكاتب. الأوّل: التقليد البيبلي. لقد حارب الأنبياء ميلَ بني إسرائيل إلى العبادات الوثنية. ندّد رجال الله بهذه الضلالة ووبّخوا وهدّدوا (هو 13:4- 14 ؛ عا 4:2؛ إر 2: 5 ؛ حز 4:6- 7؛ مي 1 :7...). تتضمّن أقوال الأنبياء عناصر فكر لاهوتي سيستفيد منه الأدب الديني اللاحق. أمّا في أش 40- 55 فنجد هجومًا على العبادات الوثنية في إسرائيل، بل على الشرك البابلي: إنّ سقوط بابل وخلاص المنفيين يعلنهما أشعيا كأحداث قريبة، وهما يدلاّن على صدق أقواله السابقة وعلى قدرة ذلك الذي يقود التاريخ. ويتطلعّ أشعيا نحو الأصنام ويتحدّاها: هل تستطع أن تفعل ما يفعله يهوه (41: 21 ي؛ 45: 5- 7) ؛ ثمّ تأتي اعتبارات حول ضعف الأصنام وعجزها. مثلاً: الفنّان الذي يصنع تمثالاً (أش 40: 18- 20؛ 41: 6- 7؛ 44: 11 - 20 ؛ 46: 6). هذه التوسّعات هي تلك التي نجدها في رسالة إرميا أعني أنّ الأصنام باطلة وعاجزة. ونُلاحظ أيضاً تقاربًا بين رسالة إرميا وإر 10: 3- 16. وهكذا يتّفق أش وار ورسالة إرميا على هجومهم على عبادة الأوثان في بابل.
ولكنّ كاتب رسالة إرميا لم ينقل أش وإر نقلاً حرفيًا. فأظهر معرفة بالنظم الدينية في بلاد الرافدين حين تكلّم عن الآلهة، عن الكهنة وشعائر العبادة، عن نفسيّة المؤمنين. يقول الكاتب: يلبس الآلهة التيجان (آ 8) والملابس الغنيّة (آ 10، 19، 32، 57): ثياب أرجوان (آ 12) وكتّان (آ ا 7). يمسكون بيدهم الصولجان (آ 13) وفأس الحرب والسيف (آ 14). تتطابق هذه المعطيات مع ما تعرفه الحضارة الأشورية والبابلية والحثية.
ويقدّم الكهنة التقادم للأصنام (آ 26 ب). يبيعون مداخيل المذبح فيربحون المال الوفير (آ 27 أ). نعرف أنّ مائدة الآلهة كانت غنيّة. يحملون إليها الغنم والبقر والمعز والدجاج والسمك... والتقدمات النباتية: الحنطة، البلح، العسل، التين، الزيت... كان الكهنة يبيعون الفائض ويأخذون حتّى ملابس الآلهة. ويتشكّك الكاتب حين يرى الكاهنات في الهيكل وكنّ عديدات لدى الأشوريين والبابليين.
ويهزأ الكاتب بالوثنيّين: إنّهم يثقون بآلهتهم الذين لا يقدرون أن يقيموا ملكًا أو يعزلوه. نحن هنا أمام نظرة بابلية: الملك هو ممثّل الإله المنظور ووكيله. حين يتلّفظ الإله باسم الملك، يحدّد له مصيره ويعطيه رمز سلطانه. والآلهة لا يقدرون أن يخلّصوا أحدًا من الموت أو يعيدوا النظر إلى الأعمى (آ 35- 36 أ). كان البابليون ينشدون قدرة آلهتهم الذين "يقيمون الموتى ويشفون المرضى". والآلهة لا يستطيعون أن يخلّصوا الضعيف من يد القويّ، أو أن يحاموا عن اليتيم والأرملة (آ 35 ب، 37). كان البابليون يقولون: يحدّد الآلهة ما هو عادل وما هو ظالم. يقيمون الملوك ليحلّوا العدالة ويجعلوا النظام الأخلاقيّ سائدًا في الأرض. فقد دُعي حمورابي "لكي يخلق الحق في البلاد، ليزيل الشرّير والفاسد ليمنع القويّ من الاستبداد بالضعيف ". الآلهة مشترعون وهم بالتالي قضاة. فالإله شمش يرى كلّ شيء، وهو القاضي في السماء وعلى الأرض، وهيكله هو بيت ديّان العالم.

5- اللغة الأصليّة، كاتب الرسالة
قال بعض العلماء: اللغة الأصلية هي اليونانية وهي تتفوّق على لغة الترجمة السبعينية. ولكن يبدو أنّ اللغة الأصلية هي الأرامية أو العبرية بسبب ما نجد من تعابير سامية تتوزّع أقسام الكتاب.
ونتساءل: من دوّن رسالة إرميا؟ يدلّ العنوان أنّ كاتبها هو إرميا، كما يدلّ على الظروف التي فيها دوّنت. هناك من قال إنّ الرسالة دوّنت على يد إرميا أو على يد كاتب إسكندراني. ولكن جاء من رفض هذا الرأي وذلك منطلقًا من آ 2: "لماذا دخلتم بابل؟ فستكونون هناك سنين كثيرة وزمانًا طويلاً، إلى سبعة أجيال، وبعد ذلك أخرجكم من هناك بسلام ". فإذا كان الجيل يعد 40 سنة (7 × 40= 280 نطرحها من 538)، يكون الكتيّب قد دوّن سنة 258. ولكن كلنا يعرف الرمز المرتبط بالعدد 07 المهمّ أنّ الكاتب ينتظر عودة المسبيّين وتنظيم الشعب من جديد. هذا يعني أنّ الرسالة دوٌنت بعد عزرا الذي عاد بقافلة من المسبيّين سنة 398. ثمّ إنّ المدّة الطويلة التي يجعلها الكاتب قبل إعادة البناء في نهاية الزمن يتعارض والرجاء الحار في أيّام الفرس. هذا يعني أنّ رسالة إرميا دوّنت في الزمن الهلّيني. سقطت مملكة فارس ولم يتغيّر شيء من حالة التشتّت التي تعيشها القبائل. ففهم الكاتب أنّ المحنة الوطنية ستدوم أيضاً بعض الوقت. رأى أنّ عبادات بابل استعادت زهوها بعد فتوحات الإسكندر، فدوّن رسالته ليحذّر المؤمنين من سحر هذه العبادات. عاد إلى أقوال أشعيا وإرميا فحدّث معاصريِه عن آلهة هي "فزّاعة في أرض قثاء" وقال لهم: ستؤكل الأصنام فتكون عار البلاد. إذًا، من الأفضل أن لا يكون لنا أصنام لأنّنا نكون بمأمن من العار. تكفينا فضيلتنا.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM