أجيء لأجمع الشعوب 66:18 - 21

أجيء لأجمع الشعوب

66:18 - 21

يُعتبر أش 66:18 - 24 كملحق لأشعيا الثالث (ف 56 - 66). على مستوى النبيّ، يتميّز عن المقاطع الشعريّة السابقة بنثره الذي ينقصه بعضُ الإيقاع. أمّا على مستوى المعنى، فهو يتكيّف مع السياق فيقدّم نتائج مجيء الله، الذي يطمئن المؤمنين (آ 18 - 23) ويقلق الأشرار (آ 24). أمّا آ 18 - 21 فتشدّد على أنّ مجيء الله يتمّ من أجل خير جميع الأمم. ثلاث مرات يرد لفظ «الأمم» (ج و ي م) فيدلّ على وجهة اهتمامات الله.

1 - علامة مجد الله (66:18)

أنا عالم بأعمالهم وأفكارهم،

وأجيء لأجمع كلَّ الأمم

وكلّ الألسنة،

فيأتوا ويروا مجدي.

الربّ الذي قيل عنه في آ 15 إنّه يأتي (ها هو الربّ في النار يأتي)، يقول هو الآن عن نفسه: أجيء. من جهة، هو يرغب في أن يكون بنفسه موضوع أفكار المؤمنين به وتصرّفاتهم. ومن جهة ثانية، لا يريد أن يأتي فقط لكي يعاقب، بل بشكل خاص لكي يجمع شمل. لا شمل بني اسرائيل وحسب، بل شمل البشريّة كلّها: الأمم والألسنة. ثبّت هذا النبيّ مواعيد أشعيا الثاني (45:23: أقسمتُ صادقا) والنظرات الواسعة لدى المدوّن الكهنوتيّ في تك 10، فقدّم عبارة تضمّ جميع شعوب الأرض. ولغات الكون ستصبح معروفة لتدلّ على المرمى الشامل للمونوتاويّة (عبادة الله الواحد) الحقيقيّة: فالاله الواحد لا يمكن أن يكون إلاّ إله جميع البشر. فما أحقر اعتداد الانسان، مهما كان عظيماً، إذ يريد أن يسيطر على الكون كلّه: وحده الله يقدر أن يجمع رعيّة البشريّة المشتّتة، ويصالحها بالرغم من انقساماتها.

من جهة، نجد في الكتاب عجرفة «الكبار» الذي يعتبرون أنّهم يسودون العالم. ومن جهة ثانية، هي قوّة الله المتسامي التي تعمل لكي توحّد البشريّة. في الخطّ الأوّل، نقرأ دا 3:4 - 7 ساعة اجتمع الناس لعبادة تمثال نبوخذ نصر:

4 فلما اجتمعوا ووقفوا أمام التمثال، هتف منادٍ بصوت شديد:

«أمرتكم، أيّها الشعوب من كلّ أمّة ولسان،

بأنّكم عندما تسمعون صوت البوق... تقعون ساجدين لتمثال الذهب...

6 ومن لا يقع ساجداً، ففي الحال يُلقَى في وسط أتون نارٍ متّقدة.

7 فما إن سمع جميع الشعوب من كلّ أمّة ولسان... حتى وقعوا ساجدين لتمثال الذهب.

وفي يه 3:8، يروي الراوي أنّ أهل البلدان استقبلوا أليفانا، رئيس جيش نبوخذ نصر «بالأكاليل والاهازيج والطبول».

ولكنّه مع ذلك كلّه، دمَّر معابدهم، وقطع أشجارهم المقدّسة، لأنّه قرّر تحطيم جميع آلهة تلك الأرض، حتّى يُجبِر الأمم على عبادة نبوخذ نصر وحده، وعلى المناداة به إلهاً دون سائر الآلهة.

في الخط الثاني الذي يتطلّع إلى الله الواحد وعمله في الشعوب نقرأ في 4:1 - 2:

1 وفي الآتي من الأيّام،

يكون جبلُ بيت الربّ

في رأس كلّ الجبال.

يرتفع فوق التلال،

فتجري إليه الشعوب.

2 تنطلق أممٌ كثيرة ويقولون:

«لنصعد إلى جبل الربّ،

إلى بيت إله يعقوب،

حيث الربّ يرينا طرقه

فنسلك فيها جميعاً».

وفي أش 56:6 - 8، يقول النبيّ عن الربّ: الغرباء الذين ينتمون إليه، سيجيء بهم إلى الجبل المقدّس ليفرحوا. فأبواب أورشليم لا تُغلق فتنحصر في شعب وفي بضع قبائل. أبوابها مفتوحة بحيث يأتي إليها الأمم (60:11) من كلّ مكان فينالون البركة (زك 14:16 - 19). فالربّ يدعو جميع الشعوب، ويُعدّ لهم مأدبة عامرة. حينئذ يهتف الجميع قائلين:

25:9 هذا هو إلهنا.

انتظرناه وهو يخلّصنا.

هذا هو الربّ الذي انتظرناه،

فلنبتهج ونفرح بخلاصه.

عندئذ يكتشف البشرُ بفضل شعب توحّد في شهوده، قوّة الاله الحقيقيّ الذي يوحّد البشريّة ويصالحها. يسمعون ما يقوله أصحاب الارادة الصالحة: «نذهب معكم، فنحن سمعنا أنّ الله معكم» (زك 8:23). كلّ هذا يكون بداية التجمّع الكبير الذي فيه تلتئم جميعُ الأمم: هي تتوحّد مع الربّ وتعرفه في أورشليم. «هم سكّان الأرض من كلّ أمّة وقبيلة ولسان وشعب» (أربعة أقطار الكون). يقال لهم: «خافوا الله ومجّدوه! جاءت ساعة الدينونة، فاسجدوا لمن خلق السماء والأرض والبحر والينابيع» (رؤ 14:6 - 7).

إذن، ستأتي جميع الأمم إلى أورشليم، وترى فيها مجد الله. وزنه في العالم. اسمه وشهرته (ك ب و د). ترى قدرته التي بها يعمل ليتغلّب على الشرّ ويقيم الخير، لكي يستمرّ عمله رغم الذين ينكرونه، ويجمع الذين يعترفون به مخلّصاً لهم. هذا المجد الذي استشفّه موسى فقط (خر 33:18 - 23: أجعلك في فجوة الصخر وأغطّيك بيدي حتى أمر... فتنظر ظهري، وأمّا وجهي فلا تراه) سيراه العالم كلّه.

يظهر مجدُ الربّ،

ويراه جميعُ البشر معاً (40:5).

عليكِ يُشرق الربّ،

وفوقك يتراءى مجده (60:2).

هذا المجد الذي يتجلّى، يكشف قدرة الله على حساب الأشرار الذين حاولوا أن يقاوموها عبثاً. ولكنّها تكون خيراً للمؤمنين الذين ارتضوا أن تحملهم. ونحن نستطيع أن نكتشف هذا المجد عبر «علامات» لا لبس فها، هي ما حدث لمصر في زمن الخروج (خر 10:2؛ مز 78:43).

وإذ أراد الربّ أن يجعل كلّ أمم الأرض تدرك مجده، وضع في وسطها، على جبل صهيون (خر 5:5: أورشليم جعلتها في وسط الأمم) «علامة» أو «راية».

نقرأ عن العلامة في 44:25 (أبطلتُ علامات الكذّابين)؛ 55:13:

عوض العلّيق ينبت السرو،

وعوض القرّاص ينبت الآس،

هذا يكون للربّ اسماً

وعلامة دائمة لا تنقطع.

ونقرأ عن الراية في عد 2:2 (راية كلّ سبط)؛ مز 74:4 (رفعوا راياتهم). أمّا أشعيا فيتحدّث عن الراية حين يكون الكلام عن تجمّع الشعوب في أورشليم. في 5:26 تحدّث النبيّ عن الربّ:

رفع راية لأمّة بعيدة،

وصفر لها من أقاصي الأرض،

وها هي تسرع وتأتي على عجل.

11:10 وفي ذلك اليوم،

يرتفع أصل يسّى

رايةً للشعوب،

تطلبه الأمم،

ويكون موطنه مجيداً.

11 وفي ذلك اليوم

يعود الربّ فيمدّ يده

لافتداء بقيّة شعبه

الذين بقوا في أشور ومصر

وفتروس وكوش وعيلام

وشنعار وحماة،

وفي جزر البحر.

12 ويرفع راية في الأمم،

لجميع منفيّي اسرائيل

ويضمّ مشتّتي يهوذا

من أربعة أطراف الأرض.

18:3 يا جميع سكّان العالم وقاطني الأرض!

إذا رُفعت الرايةُ على الجبال فانظـروا

وإذا نُفخ في البوق فاسمعوا.

هنا، لا تحدّد الرايةُ بدقّة، غير أنّ السياق يُفهمنا أنّنا أمام شيء ثابت ومستمرّ، وهو يدلّ على بلبلة لدى الأشرار، تجد امتدادها في عنادهم (آ 24:دودهم لا يموت). كما يدلّ أيضاً على جماعة المؤمنين الثابتين اللامتزعزعين مثل خليقة جديدة (آ 22، السماوات الجديدة تدوم). وكما أنّه في نهاية أشعيا الثاني، نجح الخروج نجاحاً حاسماً، فقامت جماعة محرّرة، وصارت علامة دائمة (55:13، راية مخلّدة)، كذلك في نهاية أشعيا الثالث ستصبح نهاية الدينونة الأخيرة علامة لا تفنى، وبفضلها تقوم جماعة موحّدة.

2 - بعثة ورسالة (66:19)

وأجعل بينهم آية،

وأبعث ببعض من ينجو منهم

إلى الأمم

ترشيش وفوط ولود

توبال، ياوان والجزر البعيدة

الذين لم يسمعوا بصيتي (ما يُسمَع عني)

ولا رأوا مجدي،

فينادون بمجدي بين الأمم.

إنّ فرع يهوذا الذي رُفع راية للشعوب (11:10) لا يُرى الآن ومن كلّ مكان. فالأمم البعيدة التي تُركت وشأنها، قد تبقى جاهلةً إلى زمنٍ يُعيد المآثر التي أجراها الله وسط بني اسرائيل. لهذا سيُرسل الربّ من أورشليم، إلى هذه الشعوب البعيدة، مرسَلين (ربّما من قبيلة يهوذا). يُدعون «الناجين». ليسوا الناجين من الأمم المدعوّين للتوجّه إلى الاله الحقّ (45:20)، بل الناجون من بني اسرائيل الذين دُعوا للتوجّه إلى الأمم والمناداة بالمخلّص الوحيد. هم جزء من هؤلاء العباد الأمناء الذين سيُفلتون من العقاب المحفوظ لإخوتهم عابدي الأصنام (آ 14 - 17). ومهمّتهم لدى الغرباء، تقابل دور عابد الربّ الذي هو نور الأمم (49:6).

أمّا مجال رسالتهم فالعالم كلّه. وإذ أراد النصّ أن يقدّم رسمة ملموسة عن مختلف الجهات التي سينطلقون فيها، قدّم هنا نموذجاً عن الشعوب الغريبة التي تنتظر. فبين ألف بلد، يزورون ترشيش أي جنوبي غربي اسبانيا. فوط ولود «المشتهرين برَمي السهام»، وسكّان ساحل افريقيا عند البحر الأحمر، من السودان إلى الصومال. وتوبال جنوبي البحر الأسود، وياوان أي المدن اليونانيّة ومستعمراتها البحريّة مع مجموعة الجزر.

هذه الأمم ما رأت يوماً ولا سمعت ما لم يره انسان ولا سمعه (آ 8): فعمل الله الحيّ أقوى من كلّ قوى الموت. وبالرغم من هذه القوى، أقام شعبَ مؤمنين يتوحّد في النهاية. والذين انطلقوا من أورشليم حدّثوه عن مجد الله، عن الثقل الذي يشكّله في العالم.

3 - صعود إلى أورشليم (66:20)

ويأتون بجميع إخوتكم

من كلّ الأمم

تقدمة للربّ

على الخيل والمركبات والهوادج

وعلى البغال والهجان

إلى جبلي المقدّس، أورشليم.

يقول الربّ،

كما جاء بنو اسرائيل

إلى بيت الربّ

بالتقدمة في إناء طاهر.

وصل مثلُ هذا البلاغ، فما استطاع الناس سوى أن ينطلقوا من كلّ مكان إلى المدينة التي نعمت إلى هذا الحدّ برضى الربّ. وقال الربّ لأهل أورشليم: سوف يأتون بجميع اخوتكم، لا الإخوة القريبون الذين ما عادوا يقدرون أن يروكم (66:5)، بل الإخوة البعيدون الذين يرغبون كلّ الرغبة في أن يروكم. وسُخِّرت كلّ أنواع النقل لتنظيم قوافل مذهلة تلتقي كلّها على الجبل المقدّس، في صهيون. والغرباء الذين يحملون «الاخوة» يحملونهم باحترام ويقربونهم تقدمة للربّ، كما يقدّم بنو اسرائيل في إناء طاهر تقدمة ليتورجيّة في بيت الله الذي هو «بيت صلاة لجميع الشعوب» (56:7؛ مر 11:17).

4 - كهنة جاؤوا من الغرباء (66:21)

ومن هؤلاء اتّخذُ كهنة،

اتخذ لاويين، يقول الربّ،

حمل الغرباء أشخاصاً مكرّسين للربّ، فتنقّوا حين لامسوا حِملاً مقدّساً، مثل آنية الهيكل التي يجب أن تكون نقيّة لكي تحمل القربان. وهؤلاء الغرباء الذين يقدّمون قرباناً مقدّساً، يُتموّن عملاً كهنوتياً (لا 2:2 - 8). هذا يعني أنّ الله يختار كهنة من بينهم. ذاك هو موقف وإن لم يكن النصّ صريحاً في هذا المجال. واعتبر آخرون أنّ الربّ يختار للكهنوت يهوداً عادوا من الشتات، وما كانوا لاويين ولا من نسل صادوق. وهذا لعمري تطوّر كبير تجاه عز 2:62 (لم يجد بعض الكهنة سجل أنسابهم، فحرموا من الطعام المقدس) أو نح 7:64 (حُرموا من الكهنوت). في هذه الحالة، يبقى الغرباء خدّاماً للشعب الكهنوتيّ (61:5 - 6).

أو أن الربّ يدعو إلى الكهنوت بعض هؤلاء الغرباء المهتدين الذين عملوا الكثير لتسهيل عودة القوافل اليهوذاويّة دون أن يفرضوا عليهم نسباً يرتبط بقبائل اسرائيل. وهذا أيضاً يكون تطوّر عظيم: في هذه الحالة لا تستأثر بالكهنوت قبيلةٌ أو أمّة، ولكن جميعُ أمم الأرض تستطيع أن تبلغ إلى الكهنوت.

على المستوى التاريخيّ، وحدهم أبناء الأمم الكهنوتيّة استطاعوا أن يمارسوا الخدمة المقدّسة، بعد المنفى. أمّا السياق الأدبي، فيعتبر أنّ الكهنوت مفتوح أيضاً للغرباء الذين اهتدوا إلى الربّ الاله. فالنصّ يقول: «حتى منهم». حتّى من هؤلاء الغرباء. وهكذا لا يكون الكهنوت محصوراً محتكراً في فئة دون سائر الفئات. إذا كان الهيكل في أشعيا بيت صلاة للجميع، فلماذا لا يُؤخذ الكهنة من الجميع، لا من قبيلة يهوذا العائشة عملياً بجوار الهيكل.

الخاتمة

القراءة المسيحيّة لا تتردّد في الأخذ بالخيار الثاني. جميع الشعوب يقدرون أن يمارسوا الكهنوت. فأبو ربّنا يسوع المسيح الذي مات على الصليب، في أورشليم لكي يجمع أبناء الله المشتّتين، يريد دوماً أن يوجّه أعمال البشر وأفكارهم فيدعوهم إلى معرفة حبّه الغافر بحيث نعيش في رفقته. هو يريد، ويقدر أن يجمع كلَّ الأمم وكلّ الألسنة. غير أنّ عمل المصالحة هذا، كلّف الابن الحبيب حياته. فالحمل الذي يحمل ويرفع خطايا العالم ليوحّد أبناء الله المنقسمين، هو الحمل المذبوح الذي تدلّ جراحُه على استمراريّة حبّه (رؤ 5:9؛ 7:9).

وحين نقبل أن نتصالح كأبناء أب واحد، وكاخوة لأخٍ بكرٍ مات على الصليب، نقبل أن نتألّم فنصلب أنانيتنا. غير أنّ هذه الأخوّة التي حرّكها حبُّ الآب وفتحها يسوع الابن بآلامه، فقتلت غريزة الانتقام، تبقى الشرط الذي لا شرط بعده.

هكذا تصير الكنيسةُ السائرة نحو الملك، وسط الأمم، بقدرة الربّ، علامةً تُرى، وخميرةَ وحدة، وجماعة جاذبة، وعائلة مفتوحة، ونقطة انطلاق لرسل يعرفون الفرح فيأتي الغرباء البعيدون إلى الله ويكونون كهنة بين كهنة ومؤمنين في كنيسته بحيث لا يعود من فرق بين يهوديّ وغير يهوديّ، بين قريب وبعيد. لم يعُد هناك غريب، بل صرنا جميعاً قريبين بدم المسيح. صرنا كلّنا أبناء البيت بالإيمان الذي في يسوع ال

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM