كمن تعزّيه أمّه أعزّيكم 66:10 - 14

كمن تعزّيه أمّه أعزّيكم

66:10 - 14

جاء ف 66 قريباً من ف 65 بسمات مماثلة عديدة، فتحدّد موقعُه في الوقت عينه، في العقود الأولى التي تلت العودة من المنفى، سنة 538. قد نكون سنة 520، حين دعا حجاي وزكريا سكّان أورشليم لإعادة بناء الهيكل. كانوا قد وضعوا الأسس منذ العودة، ولكنّهم أوقفوا العمل بسبب معارضة أهل السامرة وتقاعسهم الخاص. نبّههم النبيّ إلى ضلال يمكن أن يقعوا فيه إن هم اكتفوا بزيارة الهياكل وإقامة الطقوس فيه، على حساب المتطلّبات الروحيّة الإيمانيّة، والفرائض الخلقيّة. ولكن بقيَ بعض المؤمنين الذين يجب أن نحضّهم تجاه الذين تركوا الإيمان، وحاولوا أن يعيشوا بحسب الظروف. وانقسام الجماعة واضح خصوصاً بالنسبة إلى الهيكل وشعائر العبادة. فمن مارس عبادات منحطّة يعاقب. أمّا عباد الله فيهلّلون في صهيون بعد أن تجدّدت. إلى هؤلاء يصل نداء التعزية ويتكرّر فعل «فرح» أكثر من مرّة.

ونقرأ النصّ الكتابيّ (66:10 - 14)

10 إفرحوا مع أورشليم،

وتهلّلوا بها يا جميع محبّيها.

ابتهجوا فيها ابتهاجاً

يا جميع النائحين عليها.

11 فترضعوا (من حليبها)

وتشبعوا من ثديها المعزّي

وتمصّوا حليب مجدها

وتتنعّموا

12 لأنّ هذا ما قال الربّ:

«ها أنا أبسط السلام عليها،

مثل النهر،

ومثل جدول فائض

غنى الشعوب.

فترضعون وتُحمَلون في الأحضان،

وتدلَّلون على الركبتين.

13 كانسانٍ تعزّيه أمّه

أعزّيكم أنا

وفي أورشليم تتعزّون.

14 تنظرون فتبتهج قلوبكم

وعظامكم تزهر كالعشب

فيعرف (الجميع) أنّ يد الربّ مع عباده

وأنّ غضبه على أعدائه.

1 - من النواح إلى الفرح

إذا أردنا أن نفهم هذه القطعة التي قرأنا (آ 10 - 14)، نبدأ ونقرأ ما سبقها في آ 8:

من سمع بمثل هذا الأمر؟

من رأى شبيهاً له؟

أَتُولَد أرضٌ في يوم واحد،

أم تخرج أمّةٌ في لحظة،

حتى تلد صهيون بنيها،

(وتخرجهم) قبل مخاضها؟

فجماعة الربّ أو أورشليم المقدّسة، حُرمتْ من أولادها الذين مضوا إلى المنفى، فبدت وكأنّ الربّ تخلّى عنها، رماها جانباً، حين هو أرسل لخيرها هذه المحنة الرهيبة. اعتبرت بألم عميق الوضع الذي إليه أوصلتها خطاياها، كأنّه ترمّل وعُقم، ابتعدت عن الربّ عريسها، فكيف تستطيع أن تلد له بعدُ أولاداً؟

ولكنّ الربّ الذي لا يطلّق عروسه أبداً، أعادها إليه: ففي سنة 538، انتهى المنفى، وبدأت العودة إلى الأرض المقدّسة. سنة 546 - 539، سمعت كلام أشعيا الثاني في ف 54: أيّتها العاقر، التي لم تعرف أوجاع الولادة. ما عُدتِ بلا أولاد، ما عُدتِ مهجورة. بنوك أكثر من التي لها زوج (آ 1). وسنة 537 - 520 أعاد أشعيا الثالث الكلام عينه في ف 62:54:

4 لا يُقال له من بعد: هجرها أهلها،

ولأرضك من بعد: أرض خراب

بل يُقال: هي موضع سروريّ،

وأرضك تكون مخصبة،

لأنّ الربّ يُسرّ بك،

وبما في أرضك من خصب.

5 فكما يتزوّج الشاب بكراً

يتزوّجك بانيك،

وكسرور العريس بالعروس،

يفرح بك الربّ إلهك.

أمّا أش 66 فجعلنا في العقدين الأولين اللذين تلَيا العودة. ثمّ وصلت قوافل أخرى بدورها، إلى أسوار صهيون. إنّ تقاطر أبناء أورشليم صار فجأة من الأهميّة بحيث قُوبل بشعب جديد وُلد من حشا المدينة الأم.

مثلُ هذا التجمّع للأبناء المشتّتين، جعل الفرح يملك في صهيون والبهجة. هذا ما ينشده مز 122:1

فرحتُ بالقائلين لي

إلى بيت الربّ نذهب.

وفي مز 126:1 عندما ردّ الربّ زهوة صهيون،

كنّا كالحالمين.

2 فامتلأت أفواهنا ضحكاً،

وألسنتنا ترنيماً.

وقيل في الأمم:

«الربّ صنع معهم صنيعاً عظيماً»!

3 حقّاً صنع الربّ معنا،

صنيعاً عظيماً فصرنا فرحين.

وجاء الوقت لإنشاد نشيد آخر، تعوّد المؤمنون أن ينشدوه في الهيكل.

مز 122:6 أطلبوا السلام لأورشليم.

قولوا: «ليسعد أحبّاؤك،

7 ليكن السلام في أسوارك

والسعادة في قصورك»!

8 إكراماً لإخوتي ورفاقي،

أدعو لك بالسلام.

ما أنشِد من نشيد في شعائر العبادة، ردّده أشعيا الثالث بكلمات قريبة. إفرحوا مع أورشليم. ساعة كان المتردّدون المرتابون يقولون للمؤمنين: «لا نرى مجيء البهجة التي وُعدتم بها» (آ 5)، تنطلق البهجة كالرعد. جميع الذين أحبّوا أورشليم ولبسوا الحداد عليها، دُعوا إلى الفرح والتهليل بسببها. وذلك كما فعل الله معها، بعد الخير الذي صنعه لها وبها للعالم.

2 - أورشليم أم مرضع

فهذه الأم التي هي عاصمة الإيمان بالله الحقّ في العالم، والحياة الخلقيّة النابعة من هذا الإيمان، هي أفضل مرضع. إنّها تغذّي ما لا حدود لهم من ربوات المؤمنين الذين ولدَتْهم بعد أن رضعت حليب الأمم (آ 16) لتغتني بغناهم. وتجد الآن نفسها كفوءة بأن ترضع أولادها الذين لا يُحصون. أو بأن تغنيهم بما فيها من غنى.

عبر هذه الأم، سالت ماويّة الحياة الالهيّة في البشر: هي أمّ مرضع تعدُّ الطريق للمسيح. وقد صارت الكنيسة المرضع التي تواصل المسيح وتحفظ المؤمنين أحياء. فأورشليم أمّنا الكنيسة تمنح الشبع والتنعّم والمجد والعزاء لنا. بعد أن تعزّت هي، شرعت تحمل التعزية التي تنعم بها نعمةً من عند الربّ.

اعتاد أشعيا الثالث على الكلام عن الحداد على أورشليم وشعبها.

57:18 رأيت طرق (الشعب)

ولكنّي سأعافيه وأهديه،

وأردّ العزاء له وللنائحين عليه.

60:20 شمسُك (يا أورشليم) لا تغيب من بعد،

والقمر لا يُصاب بالنقصان،

لأنّ الربّ يكون نورك الدائم،

وتكون أيام مناحتك انقضت.

61:3 لأعزّي جميع النائحين في صهيون،

وأمنحهم الغار بدل الرماد،

وزينة الفرح بدل الحداد،

وبدل الكآبة رداء التسبيح.

ولكن زمن النواح انتهى. هذا ما قاله أش 51:3:

الربّ يعزّي صهيون،

يعزّيها على كلّ خرابها،

ويجعل قفارها كعدن،

وصحراءها كجنّة الربّ

فيعود إليها الفرح والسرور،

وتنطلق بالحمد وصوت النشيد.

وسيقول الربّ لمدينته المحبوبة في 60:15:

كنتِ مهجورة، مكروهة،

لا أحد يعبر فيك،

والآن أجعلك فخر الدهور،

وبهجة الأجيال والأجيال.

3 - من الدمار إلى السلام

ويعود السلام إلى أورشليم مثل نهر جارف، مثل أمواج البحر (48:18)، ومجد الأمم مثل وديان طافحة. أطفال هذه المدينة الأمّ يُحمَلون في الأحضان. هم يأتون من مكان بعيد بعد أن يكونوا قد تعبوا من طول الطريق (60:4). فالربّ يهتمّ بهم بعد أن تجمّعوا في المدينة المقدّسة. تدلّعوا على الركبتين، فأحسّوا أنّهم محبوبون كولد تعزّيه أمّه، بل أكثر من ذلك (49:25: لو نسيَت أم، فالله لا ينسى)، لأن الربّ نفسه يقيم في أورشليم ويعزّيهم فيحسّون بالتعزية ويتشجّعون.

لا تستطيع أورشليم بعد اليوم أن تقول: ما من أحد يعزّيني. في الماضي صوّرتها في مراثي إرميا كما يلي:

1:2 تبكي بكاء في الليل،

ودموعُها على خدّيها،

لا معزِّيَ لها

من جميع محبّيها.

كلّ خلاّنها غدروا بها،

وصاروا لها أعداء.

9 سقوطها كان رهيباً،

ولا معزّي لها.

أنظر يا ربّ إلى مذلّتي،

لأنّ العدوّ انتصر

وتندب أورشليم حظّها في آ 16 - 17:

16 فها أنا أبكي،

وعيناي تسكبان الدموع.

المعزّي الذي ينعشني،

ابتعد كثيراً عنّي.

بنيّ فقدوا كلّ شيء،

والعدوّ تغلّب عليّ.

17 بسطت صهيون يديها،

ولا معزّي لها،

أمَرَ الربّ على بني يعقوب

أعداءً من كلّ صوب،

فصارت أورشليم بينهم

كشيء كلّه نجاسة.

ولكنّ هذا كلّه زال. لقد وجدت أورشليم العزاء الحقيقيّ في اهتمامات الله الذي هو أبٌ وأمّ معاً، في صبره وغفرانه. وهكذا نالت منه عزماً يتجدّد، فعرف أولاد الربّ حسنات الله بحيث لا شيء يجعلهم يقنطون، فيندفع قلبهم ولا يتراجعون. وبسبب هذا الفرح، تتجدّد عظامهم، تزدهر مثل العشب في أيّام الربيع. فالربّ يقدر أن يصنع الخير الكثير للذين يرتضون خدمته، بحيث يكتشفون معجَبين يده الفاعلة وطبيعة حبّه المعطاء. أجل، الله أب يتطلّب لأنّه صالح. وأم لا تني تحبّ رغم عقوقنا، فنقدر أن نلجأ إلى حضنها مهما تُهنا في ضلالاتنا.

الخاتمة

حين نقرأ أش 66 و2 كور 1:3 - 7 حول التعزية التي ننالها من الله، نتمسّك بقدرة الله المتجدّدة الذي يحنو علينا حنوّ الأم. الربّ هو هنا، وهو يعزّينا. في قلب المحن وعبر الموت نجد السلام الحقيقيّ، السلام الذي يقدر الله وحده أن يعطيه فيصالحنا معه ومع جميع البشر بسلام يدلّ على حبّ الربّ الأمين، العنيد في أمانته. وهذا الحبّ المغرَم هو الذي حمل يسوع إلى الصليب، فنال لنا السلام بصليبه. وأخيراً هذا السلام الذي يمنحه يسوع والذي يتجاوز كلّ سلام في العالم (يو 14:27)، قد تسلّمناه فنكون رسلاً همّهم حمْلُ سلام فيه يتصالح البشر مع الله بانتظار أن يتصالحوا بعضهم مع ب

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM