ليتكّ تشق السماوات 63:16-64:7

ليتكّ تشق السماوات

63:16-64:7

عاد الشعب من المنفى فوجد بيوته خراباً، وأرزاقه قد وضع عليها الغرباء يدهم. فأحسّ بالبؤس والشقاء. لهذا رفع صلاته إلى الله. ذكّره بالماضي: سمع صراخ شعبه في عبوديّة مصر، فأشفق وصنع. فماذا يفعل الآن وهو في الأعالي؟ أتراه أغلق السماء لئلاّ يرى ولا يسمع؟ نسيَ المؤمنون ابراهم ويعقوب. ما لهم أبٌ سوى الله. فإن كان الربّ أباهم، فلماذا حالتهم مزرية إلى هذه الدرجة؟ موقف الله يحيّرهم. وقاحةُ الأعداء تسحقهم، ووضعهم يسير نحو الكارثة. أما يريد الربّ بعدُ شعباً له، ينشد عظائمه في الكون؟ وهم لا يريدون شخصاً يرسله الله من العلاء. فقد يئسوا من البشر، بل يئسوا من العظماء. إنّهم يريدون أن ينزل الله نفسه ويحمل إليهم الخلاص. ها هم اعترفوا بخطاياهم واستعدّوا لهذا المجيء. وانتظروا أن لا يصبر الربّ بعد، أن لا يبقى ساكتاً.

1 - سياق النصّ

كان أشعيا الثاني (ف 40 - 45) قد أعلن للمنفيّين أنّ عودتهم إلى أورشليم ستكون خروجاً جديداً:

أفتح الأنهار على الروابي،

والينابيع في وسط الأودية

وأنمي الأرز والسنط في البريّة،

والآس وأشجار الزيتون،

وأُطلع السنديان في الصحراء

لينظر البشر ويعلموا جيداً

أنّ يد الربّ صنعت ذلك (41:18 - 20).

في مثل هذه العودة، تتمّ المواعيد التي أعطيت للآباء ابراهيم واسحق ويعقوب. ويندهش العالم كلّه حين يرى حبّ الله الظافر من أجل شعبه. حينئذ «يقف الملك، ويسجد الرؤساء من أجل الربّ الذي دلّ على أمانته» (49:7). الشعوب أنفسهم «يحملون أبناءك» (= يا أورشليم) في معاطفهم، ويأخذون بناتك على أكتافهم. الملوك يتبنّونك والأميرات ترضعك. إلى الأرض، يسجدون أمامك» (49: 22 - 23). حينئذ تهتف أورشليم هتاف الفرح، فتنسى آلامها الماضية، ويتحقّق رجاؤها العميق. «يملك الربّ على جبل صهيون» (52:7). «عريس صهيون يكون خالقها، اسمه ربّ الأكوان» (54:4). والكون كلّه يقرّ أنّ لا مساويَ لله الذي اختار أورشليم حصّة له. ذاك هو البلاغ المليء بالرجاء الذي أنعش إيمان المنفيين: فالله لا يترك شعبه. وهو سوف يتجلّى قريباً حين يحرّره.

في سنة 538، بدت المواعيد وكأنّها تتحقّق: سمح كورش للمنفيّين بالعودة. وانطلقت سنة 537 قافلة أولى فوصلت إلى أورشليم. غير أنّ هذه العودة لم تكن مهرجاناً عظيماً كما قال أشعيا الثاني. فقد صوّر لنا عزرا وحجاي الصعوبات التي لاقاها هؤلاء من قِبَل السامريّين والمحتلّين الجدد الذين وضعوا يدهم على الأرض. فعارضوا بعنف كلّ محاولة لإعادة بناء الهيكل (عز 4:61). وكانت صعوبات أخطر كنتيجة عدم الإيمان وحسّ المشاركة لدى الذين وصلوا إلى أرضهم: عجّلوا فبنوا بيوتاً لهم، وما اهتمّوا بإعادة بناء الهيكل (حج 1:9). ثمّ حلّ الجفاف فجعلت الحياة الاقتصاديّة منهارة (حج 1:11). حلّ ضياع عميق بالشعب فقالوا: «أين هي مواعيد الربّ؟ ألا يشعر بكلّ ذلك؟ هل يسكت لكي يذلّنا إلى النهاية؟ هل يد الربّ قصيرة للخلاص» (59:1)؟

في هذه الظروف، وقبل سنة 521 وإعادة بناء الهيكل (60:30)، أراد أحدُ تلاميذ أشعيا أو تلميذ أشعيا الثاني أن لا يترك تعليم معلّمه يضيع، فكيّفه مع الوضع الجديد. وحاول أن يوقظ الرجاء لدى الشعب. أمّا قلبُ تعليمه ففي أقوال خلاص (ف 60 - 62) تُعلن قيامة أورشليم الساطعة. فبعد مقطع جليانيّ متأخّر (63:1 - 6: من هذا الآتي من أدوم)، بدأت صلاة مزموريّة (63:7 - 64:11) أخِذ منها النصّ الذي نتأمّل فيه.

 

هو نواح جماعيّ يتلفّظ به «الإمامُ» خلال احتفال ليتورجيّ. يبدأ مليئاً بالعاطفة وينتهي عند صرخة المرنّم الذي يئس أمام «خرائب ما اعتُبر أحبَّ شيء إلى الشعب» (64:11). هذا الألم العميق مرّ من الأمل إلى المرارة والضيق، في منطق لا يعرف المنطق الذي تعوّدنا عليه، منطق القلب الذي لا تخضع كلماته للفعل المنسّق.

ومع ذلك، نستطيع أن نميّز قسماً أوّل (63:7 - 14) فيه يذكر المرنّمِ نعمَ الربّ ومآثره الماضية، وجواب الشعب الذي كان تارة تمرّداً وثورة، وطوراً توبة واهتداء. وهناك قسم ثانٍ (63:15 - 64:8) يتوسّع فيه المتشكّي مع العناصر التالية:

- 63:15 - 16: نداء واثق إلى الله.

- 63:17 - 19 أ: تشكّي يحاول أن يكون الباعث لتدخّل الله.

- 63:19 ب - 64:8: إقرار بالخطايا ووضع الربّ أمام مسؤولياته: أتصبر يا ربّ على هذا كلّه وتسكت؟

2 - نداء إلى الله (63:16 - 19)

ذكّر المصلّون الله بمحبّته. فماذا ينتظر أن يفعل، أن يتدخّل؟

أ - الله أبونا وفادينا (آ 16)

يبدأ النصّ فيتذكّر أبوّة الله وأمومته. وجاء الكلامُ قوياً لأنّ المؤمن اشتكى من ابراهيم الذي ترك أولاده، ومثله فعل يعقوب (أو: اسرائيل) الذي تخلّى عن الذين ولدهم:

أنت يا ربّ أبٌ لنا!

فابراهيم لا يعرفنا

ويعقوب لا يتعرّف إلينا.

أنتَ يا ربّ أب لنا،

وفادينا منذ الأبد. هذا اسمك!

فمع أنّ فكرة أبوّة الله قديمة (خر 4:22؛ هو 11:1)، فتسمية الله على أنّه الأب، نادرة في العهد القديم. والسبب الخوفُ من الرنات الميتولوجيّة التي تحملها الديانة الكنعانيّة. وهذه التسمية لا تظهر إلاّ في الحقبة المنفاويّة ساعة زال خطر العدوى من معابد كنعان. هنا فقط يُدعى الله «أبانا» (ار 3:4، 19؛ تث 32:6؛ ملا 1:6). أمّا في زمن المسيح فقد طالب اليهود بقوّة، بأبوّة ابراهيم. قالوا ليسوع: «إنّ أبانا ابراهيم» (يو 8:39).

والربّ هو وليّ (ج أ ل) شعبه، والمدافع عن خير الفرد والمجموعة، ولا سيّما الفقراء واليتامى والأرامل. فإن بيع رجل عبداً، يفتديه أحدُ أقاربه الذي يمارس تجاهه حقّ الافتداء، يتولّى أمره (لا 25:47 - 49). وعلى الوليّ واجب انتقام الدم (2 صم 3:22 - 27). بعد ذلك، سوف يُدعى الربّ «وليّ شعبه» (أي 19:25؛ مز 9:13؛ 19:15). إذن، يُفرَض عليه أن يتدخّل «ليفتدي» أخصّاءه ويحرّرهم.

ب - شكوى وصلاة (آ 17)

لماذا أضلَلتنا يا ربّ،

بعيداً عن طرقك

وقسّيت قلوبنا

فابتعدتْ عن مخافتك؟

إرجع من أجل عبيدك،

من أجل أسباط ميراثك

هذه الآية التي تتوسّع في النواح، تبدأ بسؤال (لماذا) يتكرّر في التشكّيات. ولا سيّما في آ 18. ويتضمّن النواح هنا عنصرين اثنين:

أولاً: شكوى على الله (آ 17 أ)

لا شكّ في أنّ شعب يهوذا يقرّ بخطيئته. ضلّ، ابتعد عن طرق الربّ. غاص في الخطيئة. وما كانت خطيئته عابرة بحيث عاد عنها سريعاً. بل تقسّى قلبُه فعارض مخافة الله. هذه العبارة المتأخّرة في الفكر اليهوديّ، هذه المخافة دلّت على موقف من الاحترام يقفه المؤمن الذي يعيش بحبّ معرفة الله.

ثانياً: الصلاة والباعث على الصلاة (آ 17 ب)

«إرجع من أجل عبيدك». إنّ طلب «العودة» والرجوع يتوجّه عادة إلى الانسان لكي يميل عن خطيئته، ثمّ يميل إلى الربّ (إر 3:22؛ 4:1). أمّا الطلب هنا فينطبق على الله: ليلتفت من السماء وليبدّل موقفَه تجاه شعبه. ليحوّل نظره ويتطلّع نحو شعبه. هذا ما يقوله مز 80 فيتحدّث عن توبة وتوبة: توبة الله وتوبة الانسان. «أرجعنا إليك يا الله، وأنر بوجهك علينا فنخلص» (آ 4). وما الذي يدفع الربّ لكي يرجع إلى شعبه؟ لا برُّ الانسان، بل أمانةُ الله لمواعيده، لعهده. إرجع يا ربّ، وأرجعنا إليك.

ذُكرت ثلاثة ألفاظ فدلّت على مناخ العهد: عبيد، قبائل، ميراث. منذ أشعيا الثاني صار لقب «عبد الربّ» اللقب الأسمى لشعب اسرائيل:

وأنت يا اسرائيل عبدي،

يا يعقوب الذي اخترته

من نسل ابراهيم خليلي،

يا من أخذتُه من أقاصي الأرض،

ودعوتُه من أبعد أطرافها.

وقلتُ له: «أنت عبدي»

واخترته وما رفضته (41:8-9)

وجاءت صلوات أخرى فأعطت باعثاً مشابهاً على تدخّل الربّ، ولكن في عبارة مختلفة:

مع أنّ أثامنا تشهد علينا،

فلأجل اسمك ساعدنا يا ربّ.

ابتعدنا عنك مراراً

وإليك خطئنا (إر 14:7)

نعترف بشرِّنا وإثم آبائنا،

لأنّنا يا ربّ خطئنا إليك.

لا ترفضنا إكراماً لاسمك،

ولا تشوّه عرشك المجيد.

أذكر ولا تنقض عهدك معنا (آ 21)

ونقرأ في حز 20:9، 14: «حميتهم لئلاّ يلحق العار إثمي». وفي اش 48:9:

لكرامة اسمي أبطئ غضبي،

وأردّ عنك لئلاّ أقطعك.

فاسرائيل هو مُلك الربّ الخاص، وشعبُ ميراثه (تث 4:21). وفي تث 9:26، 29، صلّى موسى فقال:

أيّها الربّ السيّد،

لا تهلك شعبك الذين أخذتهم

وافتديتهم بعظمتك

وأخرجتهم من مصر بيدك القديرة...

هم يا ربّ شعبك الذين اخترتهم لك،

وأخرجتهم بقوّتك العظيمة وذراعك المرفوعة.

وتمتدّ الشكوى من قبل «ميراث الربّ» (أش 26:19؛ 2 صم 20:19) بشكّل تساؤل أليم: لماذا تنجّست الأرض ودُنّس الهيكل (آ 18)؟ لماذا تنجّس الشعب نفسه (آ 19 أ).

ج - شعبك المقدّس (آ 18 - 19)

18 منذ قليل من الوقت،

طردتَ الشعب مقدسك،

مقدسك داسه مضايقونا.

19 من زمن بعيد صرنا

كالذين لم تكن لهم سيّداً،

والذين لم يُدعوا باسمك.

ليتك تشقّ السماوات وتنزل،

فتميد الجبال من وجهك.

قال الشعب للربّ: هذا الذي دعوته شعبك (آ 8)، شعبك المقدّس (62:2)، ورث الأرض المقدّسة لزمن قصير جداً. فالمضايقون جاؤوا سريعاً وسحقوا مقدسك (ار 51:51؛ مر 11:10؛ 2:7؛ مز 79:1). مقابل هذا، منذ زمن بعيد نحسّ أنّك تركتنا، تخلّيتَ عنا. صرنا أولئك الذين لا تريد أن تكون عليهم ملكاً. أولئك الذين لا يحملون اسمك، ساعة يجب أن نحمله لندلّ على أنّك سيّدنا وفادينا والمحسن الذي يغمرنا بعطاياه، بحيث تحسدنا جميعُ الأمم (تث 28:1 - 14). وهكذا فاسم الاله الحقيقيّ لم يفرض نفسه (64:1)، بل صار منسياً، والحضور صار غياباً. أمّا الذين يصلّون إلى الله هنا، فصلاتهم تعني أنّ الله ليس «ميتاً» ولا غائباً. فإن كانوا يشتكون منه، فلأنّهم يعرفون أنّه الحيّ ويحتفظون بأمل لا شيء يزعزعه، بأنّه سيتدخّل ساعة هو يشاء.

ويتمنّون أن يكون هذا التدخّل مجيئاً في شخص الله. هم يرون الله بسير إلى لقاء العالم. انتصاره ظاهر. ترافقه عاصفة تهزّ الجبال ونار تحرق الأرض، بل المحيط بوسعه. فمن لا يخاف من هذا الإله؟

3 - ليت الله يتدخّل (64:1 - 8)

أمام وضع مأساويّ مثل هذا، وحده تدخّلٌ عظيم من قبل الله يخلّص الشعب. منذ زمان طويل ترجّى اسرائيل تجلّياً عجيباً لإلهه. هتف له، ناداه:

أشرق الله علينا.

إلهنا يجيء ولا يصمت.

قدّامه نار آكلة،

سعيرها يمتدّ حوله.

ينادي السماء من فوق،

والأرض حين يدين شعبه (مز 50:2 - 4)

يا ربّ، اخفض سماواتك وانزل،

إلمسِ الجبال فتصير دخاناً

أبرقْ ببروقك فتشتّتهم.

أرسلْ سهامك فتدحرجهم (مز 144:5 - 6).

ويتجدّد هذا النداء هنا بقوّة كبيرة، فيطلب ظهوراً إلهياً، تيوفانيا:

ليتك تشقّ السماوات وتنزل،

فتميد الجبال من وجهك!

أ - التيوفانيا (آ 1)

مثل نار توقد الهشيم،

وتجعل الماء تغلي

ليعرفَ معادوك اسمك،

وترتعد الشعوب من وجهك.

نجد هنا ما يميّز كلَّ تيوفانيا في الكتاب المقدّس:

- الله يسكن السماء التي تبدو مثل قبّة جامدة (خر 24:10). يجب أن تمزّق. لا نجد في أيّ مكان آخر صورة «التمزيق» تطبّق على السماء.

- طلبوا من الله أن ينزل. هو اللفظ المعروف في التيوفانيات (مز 18:10؛ خر 3:8؛ 34:5). ففي الميتولوجيات القديمات، اعتُبر الاله ساكناً في الأعالي. وهو ينزل على الأرض بواسطة الجبل أو الزقورة التي هي برج عالٍ بُني لهذه الغاية (تك 11:1 ي).

- أمام هذا الظهور، تميد الجبال، تذوب، ترتعش. فالهزّات الأرضيّة هي جواب الخليقة التقليديّ أمام تجلّي الله المتسامي.

ارتجّت الأرضُ وارتعشت،

وتزعزعت أسسُ الجبال

ومادت من شدّة غضبه.

تصاعد دخانٌ من أنفه،

ونارٌ آكلة من فمه،

وجمرٌ متّقد ولهيب.

أزاح السماوات ونزل منها.

والضباب الكثيف تحت قدميه (مز 18:8 - 10).

فتجلّي الله على جبل سيناء يتمّ وسط البروق والزلازل (خر 19:19: اهتزّ الجبل. صوت الله مثل قصف الرعد). وذكرت أيضاً دبورة النبيّة أنّه «لما خرج الربّ من سعير رجفت الأرض، وارتعشت السماوات. وذاب السحاب ماء، وسالت الجبال أمام الربّ» (قض 5:4 - 5؛ رج حب 3:6).

كلّ هذا الوصف يعود إلى التقاليد القديمة حول التيوفانيّات، وكان أشعيا الثاني صدى له. ووراء كلّ هذه التقاليد، يبرز تجلّي الربّ في سيناء، الذي لبث في ذاكرة بني اسرائيل الدينيّة، التيوفانيا الأساسيّة. وهكذا طلب النبي من كلّ قلبه، أن يتجلّى الله تجلّياً خاصاً ليخلّص شعبه. فبما أنّ الضيق الذي يحلّ باسرائيل عظيم جداً، جاءت النداءات ملحّة لجوجة: ليتك تشقّ السماوات.

ب - الله تدخّل وسوف يتدخّل (آ 2 - 4)

2 حين نزلتَ فيما مضى

وعملت أعمالاً رهيبة

لم نكن ننتظرها،

مادت من وجهك الجبال.

3 من الأزل لم تسمع أذُن،

ولا رأت عينٌ إلهاً غيرك

يصنع ما يصنع للذين يرجونه.

4 تُرحّب بمن يصنع البرّ فرِحاً

ويذكرك في طرقك.

ها أنت غاضب لأنّا خطئنا،

وفي طرقك لنا الخلاص إلى الأبد.

نستطيع أن نقابل العبريّ مع اليونانيّ، الذي يقول: «يأتي للقاء الذين يمارسون البرّ، ويتذكّرون طرقك. ها أنت غاضب ونحن كنّا خطأة. من أجل هذا ضللنا». ترك اليوناني آ 2 ب (حين نزلت فيما مضى، مادت من وجهك الجبال). قد تكون هذه الآية حاشية أخذت من آ 19 (في الشعبية، 64:1). رأى اللاتينيّ أنّ هذا التمنّي صار واقعاً. وجعل الأفعال في الماضي، أمّا اليونانيّ فجعلها في المضارع لتدلّ على الآتي النبويّ. وفي آ 4 تضمّنت الشعبيّة كلاماً يثق بالربّ (نخلص). أمّا السبعينيّة اليونانيّة فقرأت إقراراً بالضلال (لهذا ضللنا). مهما يكن من النصّ الأصليّ الذي تشوّه، من الواضح أنّ الشعبيّة تشدّد على تحقيق ما تمنّاه المؤمن من خلاص، فقالت: الله تدخّل وهذه هي نتيجة تدخّله. أمّا السريانيّة البسيطة فتبعت العبري.

شدّدت آ 3 على الطابع الخارق لمآثر الله. هو موضوع متواتر في أشعيا الثاني: «لا إله سواه. لا إله يساويه» (40:18، 25؛ 43:11؛ 44:6؛ 45:5، 21). وهو يستعدّ ليجري معجزات جديدة تتفوّق على القديمة (43:18) التي كانت مريعة (تث 10:21؛ مز 106:22). الله في جوهره، هو الذي فعل والذي سوف يفعل.

وتتجاوب آ 4 مع آ 2 ب فتدلّ على عمل الله: جاء يُعين الذين يرجونه. ومن هم هؤلاء؟ الشعب الأمين الذي حافظ على ثقة بالله لا تتزعزع رغم المحن التي مرّ فيها.

لا نستطيع أن نفهم هذه الآيات بسهولة، وقد وردت في تشكّ مليء بالحزن. فتدخّلُ الله يُعلن أنّه حاضرٌ الآن. أمّا ما سبق من الصلاة المزموريّة، فهو في صيغة الماضي، أو هو موضوع أمل في المستقبل. هي حاشية تركها «كاتب تقيّ» حين تشكّك من جرأة الطلب: «ليتك تشقّ السماوات». فصحّح: ما زال الله يلاقي في شعبه مؤمنين يمارسون البرّ ويتذكّرون شرائعه. إنّ هي إلاّ عبارات ترتبط بعالم الحكمة. وقد أضافها الكاتب حين رأى أنّ ما تمنّاه قد تحقّق فعلاً.

ج - اعتراف بالخطايا (آ 5 - 6)

5 كنّا كلّنا كشيء نجس،

وفضائلنا كخرقة دنسة،

فذبلنا جميعاً كالورقة،

وآثامنا حملتْنا كالريح.

6 وما بقي أحدٌ يدعو باسمك،

ولا يتحرّك ليتمسّك بك.

حجبتَ وجهك عنّا،

وتركتَنا نذوب في يد آثامنا.

من انقطع عن الله، انقطع عمّا هو ثابت ومتين، عن الحياة. واستند إلى الباطل، إلى الريح (7:9 ب). هو موضوع تقليديّ حول الباطل الذي تحرّكه الخطيئة. حين ينقطع الانسان عن الله، يُقتل ويموت.

ويُفسَّر غضب الله ولامبالاته الحاضرة بخطيئة الشعب الذي تمرّد منذ زمان قديم. وها هو اسرائيل يعيش الآن المراحل الكبرى التي توزّعت في خبرة الشعب منذ الخروج من مصر: خبرة الخطيئة، خبرة غضب الربّ وعقابه، خبرة طلب الغفران ونوال الغفران من الربّ. ذاك هو الوضع في سفر القضاة: من الخطيئة إلى العقاب، ومن التوبة إلى الغفران. الجماعة تعيش الآن مرحلة التوبة. ولكنّ الكاتب يعرف في إيمانه، أنّ الله لا يتخلّى عن شعبه.

د - نداء إلى الله (آ 7)

والآن يا ربّ، أنت أب لنا.

نحن طين وأنت جابلنا.

وجميعنا من صنع يديك.

هنا توجّه الكاتب مباشرة إلى الله ونبّهه لكي يتدخّل، لا بسبب استحقاق اسرائيل، بل لأنّه «أبو اسرائيل». هو لقب قرأناه في 63:16 ب. إنّ لقب الأب يجعلنا نفكّر حالاً بصورة الجابل (29:16؛ تك 2:7؛ إر 18:6) الذي هو الله الخالق. وبعد التذكير بالعلاقات الخاصة التي تربط الربّ بشعبه، تطلّع الكاتب إلى المدن المقدّسة، المدمَّرة، إلى أورشليم التي صارت خراباً. إلى الهيكل الذي أحرقته النار (آ 8 - 10). وأنهى نداءه بصرخة أليمة شابهت نداء أيوب: هل تبقى ساكتاً حين ترى ذلّنا (آ 11)؟

الخاتمة

هو ألم أمام الضيق الحاضر المتأتي من الخطيئة. هو نداء يطلب تدخّل الله الذي لا يستطيع أن يتأخّر. ذاك هو مدلول هذا المقطع. والجماعة المسيحيّة تقرأ، وهي تعرف في إيمانها أنّ الله أجاب على ندائها القلق الذي تفوّه به النبيّ: شقّ السماوات، وجاء إلى خاصته لكي يخلّصهم. كما تعرف في إيمانها أنّ هذا ليس مجرّد تذكير بالماضي. فالربّ سيأتي. لهذا دعاها الانجيل إلى السهر، وقال لها بولس الرسول: «تنتظرين وحي ربّنا يسوع المسيح» (1 كور

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM