مصير عابد الربّ 52:13-53:12

مصير عابد الربّ

52:13-53:12

اعتادت الكنيسة أن تقرأ هذا النشيد الرابع من أناشيد «عابد الربّ» (الأناشيد الثلاثة الأولى: 42:1 - 7؛ 49:1 - 6؛ 50:4 - 9) في الأسبوع المقدّس، يوم الجمعة العظيمة. هذه الأناشيد تقع في «كتاب التعزية» أو ما يُسمّى «أشعيا الثاني» (ف 40 - 55). هناك انشداد بين الذلّ والخلاص، يمرّ عبر هذا الكتاب فيصل هنا إلى ذروته: هناك موت انسان بريء. ولكنّ موته لم يكن عبثاً. بل اتّخذ معنى عميقاً. والكنيسة رأت في هذا النشيد سرَّ الفداء الذي تمّ لنا في المسيح.

1 - قراءة مسيحيّة للنصّ

ورد أش 53:4 في مت 8:17: «أخذ عاهاتنا وحمل أوجاعنا».

وقال 1 بط 2:22 - 25: «هو الذي لم يقترف خطيئة، ولا وُجد في فمه مكر. هو الذي كان يُشتَم ولم يردّ الشتم، يتألّم ولا يهدّد، بل يفوِّض أمره إلى الذي يقضي بالعدل. وقد حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة، لكي نموت عن الخطيئة فنحيا للبرّ. هو الذي بجراحه شفيتم لأنّكم كنتم ضالين، وأمّا الآن فرجعتم إلى راعي نفوسكم وحارسها». هذا المقطع استلهم أش 53:4 - 9، 12، فكان نشيداً في الكنيسة الأولى.

ونقرأ في سفر الأعمال حواراً بين وزير مملكة الحبشة، وفيلبس أحد السبعة. كان الوزير في مركبةٍ يقرأ في أشعيا النبيّ. فقال الروح لفيلبّس: «اقترب، والزم هذه المركبة». فبادر فيلبّس، وسمع الحبشيّ يقرأ في أشعيا النبيّ. فقال: «هل تفهم ما تقرأ»؟ فقال: «كيف أستطيع إن لم يُرشدني أحد». وطلب إلى فيلبس أن يصعد ويجلس معه. وكان الموضع الذي يقرأه من الكتاب، هذا (أش 53:7 - 8): «كشاةٍ سيق إلى الذبح، وكحمل صامت أمام الذي يجزّه، هكذا لا يفتح فاه. في مذلّته ألغيَ قضاؤه، وأمّا مولده فمن يصفه؟ لأنّ حياته قد انتزعت من الأرض» (أع 8:28 - 33). ما فهم وزير الملكة، فسأل عمّن يتكلّم النبيّ. حينئذ انطلق فيلبس من هذه الكتابة فبشَّره بيسوع (آ 35).

عاد العهد الجديد إلى هذا النصّ فرأى فيه وجه يسوع المتألّم. ومثله فعل الترجوم أو ترجمة البيبليا إلى الأراميّة، ونصوص يهوديّة أخرى: رأوا في هذا «العابد» المسيح المنتظر. ولكنّ تيارات أخرى رفضت هذا التطبيق. والوزير الحبشيّ اعتبر أن النبيّ يتكلّم عن نفسه، كما كان الأمر بالنسبة إلى موسى في نهاية سفر التثنية (ف 32 - 33). وهكذا توزّع تفسيرُ هذا النصّ في أكثر من اتجاه لدى المفسّرين المسيحيّين بسبب تنوّع أناشيد عبد الربّ. أمّا التفسير اليهوديّ التقليديّ منذ القرن الثالث أو الرابع ب م. فرأى في هذا الشخص السريّ شعب اسرائيل نفسه: خضع لعار الهزيمة والمنفى في بابل. ثمّ سمع كلمة الفداء من إلهه الذي مسح كورش (45:1) فانتصر على بابل وحرَّر شعب الله على عيون جميع الأمم.

2 - من هو هذا العابد المتألّم

لا شكّ في أننا نجد في هذه الفصول من أشعيا حيث يندرج 52:13 - 53:12 كلاماً عن اسرائيل - يعقوب على أنّه «عبد» الربّ يهوه الذي يتكلّم بفم النبيّ.

41:8 وأنت، يا اسرائيل عبدي،

يا يعقوب الذي اخترته.

ويُنادَى هذا العبد الذي يبدو كأعمى لا يرى ما يفعله الله، كحامل بلاغ أصمّ لا يَسمع ما يُقال له. فكيف يوصله؟

42:18 أيّها الصمّ اسمعوا!

أيّها العميون انظروا وأبصروا!

19 من كان أعمى إلاّ عبدي،

وأصمّ كرسولي الذي أرسلتُه؟

من كان أعمى كالذي اخترتُه،

أو أصمّ كعبد الربّ

20 ينظر طويلاً ولا يلاحظ،

ويفتح أذنيه ولا يسمع

لهذا جاء الإرشاد ملحّاً من أجل السماع:

 

44:1 فاسمع يا يعقوب عبدي،

يا اسرائيل الذي اخترته.

2 أنا الربّ الذي صنعك،

ومن الرحم كان نصيرك.

لا تخف يا يعقوب عبدي،

اسرائيل الذي اخترته.

21 إذكر هذا يا يعقوب،

يا اسرائيل عبدي:

أنا جبلتك عبداً لي،

ولن أنساك أبداً.

22 محوتُ كالسحاب معاصيك،

وكالغمام جميع خطاياك.

إرجع إليّ يا اسرائيل،

فأنا الربّ افتديتك.

23 إندفعي بالترنيم أيّتها الجبال

الربّ افتدى يعقوب،

وفي اسرائيل تمجَّد.

وإذا كان الله اختار كورش «فمن أجل عبده يعقوب واسرائيل مختاره» (45:5). وفي النهاية، «عبيد الربّ» هم سكّان صهيون:

كلّ سلاح يُشهَر عليهم لا يَصلح،

وكلّ لسان يَشهد عليهم لا يصدَّق.

وهكذا مال عددٌ من الشرّاح إلى اعتبار العابد في ف 53، على أنّه اسرائيل الذي أذلّه الله ثمّ مجّده. ولكنّ عدداً أكبر رفض هذه النظرة. لا بسبب الأسلوب أو الألفاظ، لا سيّما وأنّ عدداً من الصور والكلمات نجدها في ف 40 - 55، وهذا ما يساعدنا على تفسير النشيد الرابع بشكل منهجيّ. بل هناك عدم توافق وتلاؤم بين اسرائيل وعابد الربّ في ف 53. هذا العابد بارّ، بريء، لا عيب فيه ولا خطأ. أمّا اسرائيل في ف 40 - 55 فهو أعمى وأصمّ. ذنوبُه أتعبت الربّ (43:24: خطاياك، آثامك، معاصيك). هو عنيد. رقبته «عضل من حديد، وجبهته مصنوعة من نحاس» (48:4). طُرد بسبب ذنوبه وخياناته (50:1). ثمّ إنّ سمات عابد الربّ سمات شخص فرد، لا جماعة. هو مريض. والبرص مرضه. هذا العابد مات، ووُضع في القبر، وكان له نسل كبير. هذا لا يُقال عن الشعب، ولهذا نستبعد اسرائيل التاريخيّ من هذا النشيد، كما نستبعد جماعة الأبرار أو «البقيّة» التي لبثت أمينة للعهد.

هي ملاحظة أولى. والملاحظة الثانية: لا ترتبط هذه القصيدة، بسهولة، بما سبقها وبما يليها من سفر أشعيا. لهذا اعتبر عددٌ من الشرّاح أنّ في هذا الجزء من الكتاب سلسلة من القصائد مشتركة في روحها ولغتها دون ارتباط أدبيّ فيما بينها. وهذا الأمر يصحّ بشكل خاص في قصائد أخرى تشخّص العابد (لا تتكلّم عن موته) بحيث بدت قريبة ممّا في ف 53 (42:1 - 7؛ 49:1 - 9أ؛ 50:4 ي). ولكنّها ليست وحدها. واعتبر شرّاح آخرون أنّ هذه القطع المختلفة جُمعت في لوحة كبيرة تصف العودة من المنفى بشكل تطواف كبير من بابل إلى صهيون، بعد أن دعاهم الربّ وسار في المقدّمة. ويبقى النشيد الرابع وحدة أدبيّة تتميّز بقوّة عن سياقها المباشر: الخروج من بابل (52:12) والوصول إلى صهيون التي كثُر عددُ سكّانها فجأة بحيث وجب عليها أن توسّع خيامها (54:1 ي).

3 - هذا العابد نبيّ وملك

إذا كان لهذه القصيدة موضوعٌ خاص بها، يبقى أنّ العابد يقاسم شعبه مصيره إلى حدّ بعيد. فهو «عبد يهوه» مثل اسرائيل. هذه العبارة عُرفت في الشرق القديم. فعابدُ الاله أو الملك المؤلَّه، هو خاضع يقرّ بأنّ هذا الاله (أو هذا الملك) هو رئيسه الأعلى، الذي يقدّم له عبادة ويؤدّي لها خضوعاً. فالأمراء الصغار في كنعان كانوا عبيد فرعون المؤلّه، وكانوا يسجدون أمامه حتّى سبع مرات، كما تقول نصوص تل العمارنة. وأناسٌ عديدون في الشرق القديم حملوا أسماء تعلن أنّهم عبيد الاله الشفيع. وملوك اسرائيل، مثل داود (2 صم 3:18) وحزقيا (2 أخ 32:16) كانوا «عبيد الربّ» مثل الآباء (ابراهيم، اسحق، يعقوب) وموسى والأنبياء. كان البابليون يعبدون بال ونبو. وعبد بنو اسرائيل الخائنون آلهة أخرى (تث 7:16؛ 29:17) أو البعل بأنواعه (2 مل 10:18). أمّا اسرائيل وعبد الربّ (ف 53) فاعترفا بالربّ على أنّه الإله الوطنيّ الذي يجب له الخضوع والعبادة.

شارك العابد في وضع اسرائيل مشاركة وثيقة. ولكنّ منذ 49:6 قيل إنّ رسالته رسالة خلاص تجاه اسرائيل وقبائله (اسباط يعقوب، والباقون من بني اسرائيل). إذن، هو مسؤول، مهمّته أن «يحمل» ثقل الشعب نفسه. وعلى موسى وقعت مهمّة «حمل» ثقل الشعب (عد 11:17)، ودُعيَ في تلك المناسبة «عبد الربّ» (عد 2:7). والحال، اعتُبر موسى نبياً (تث 18:15). وتسلّم أنبياء، مثل حزقيال، مسؤوليّة قيادة الشعب (3:4 - 17). من هنا، فكّر الشرّاح أنّ العابد شخص نبويّ، ففكروا بإرميا، هذا الوجه المتألّم خلال حصار أورشليم (التي سقطت سنة 587)، الذي هُدِّد مراراً بالموت، فقال عن نفسه ما قيل عن العابد في أش 53:7: «حمل يُقاد إلى الذبح» (ار 11:18).

غير أنّ الأنبياء لم يكونوا وحدهم في حمل مسؤوليّة الشعب ومقاسمته مصيره. وجاء من شدّد في هذه السنوات الأخيرة على التضامن الوثيق بين الرئيس وشعبه، في عقليّة الشرق القديم. كما تكلّموا عن «الشخصيّة المتضمّنة» (أي آدم يتضمّن كلّ البشر. يعقوب يتضمّن القبائل الاثنتي عشرة). وهذا يصحّ بشكل خاص في الملوك: في 2 صم 24 نرى أنّ ذنب داود جرَّ عقاباً ثقيلاً على الشعب. وعى داود هذا الأمر وطلب أن يحمل بيتُه وحده ثقل الذنب، فغفر الله بعد أن طلب الملك وطلب معه النبيّ. وتوقّفت الضربة بفضل ذبيحة تكفير.

وآخر من قاسم هكذا ذنوب شعبه، وحمل مسؤوليّته، كان حسب إر 22 - 23، يوياكين الملك الصغير. فبعد حُكم دام ثلاثة أشهر، أُخذ سبياً إلى بابل. ويلفت نظرنا تقارب بين ألفاظ استعملها إرميا ليصوِّر مصير هذا الملك الصغير، وألفاظ نجدها في الكلام عن عبد يهوه. أسلم للذين طلبوا حياته. اقتُلع من الأرض التي وُلد فيها لكي يمضي إلى أرض غريبة حيث يموت. «احتقر». صار شيئاً غير مرغوب فيه، وسُجّل بين الذكور الذين لا نسل لهم، الذي لم يعرف النجاح. ونقرأ إر 22:24 - 28:

24 وقال الربّ لكنيا بن يوياقيم ملك يهوذا:

«لو كنت خاتمي في يدي اليمنى لنزعتك

25 وجعلتُك في أيدي الذين يطلبون حياتك

والذين تخاف منهم.

26 ولقذفتك أنت وأمّك

إلى أرض غير التي ولدتما فيها

وهناك تموتان.

27 والأرض التي تشتاقان الرجوع إليها

لا ترجعان إليها.

28 أوعاءٌ مكسورٌ لا نفع منه

هو الرجل كنيا؟

أو أناء لا يرغب فيه أحد؟

ما باله قُذِفَ هو ونسله

وألقوا في أرض لا يعرفونها؟

هذا الملك رأى تشتّت خرافه (23:1 - 2). فقيل فيه وفي أمثاله:

ويل للرعاة الذين يبيدون،

ويبدّدون غنم رعيّتي.

ونلاحظ في الخط عينه أنّه إن كان حزقيال، نبيّ المنفى، «يحمل خطايا اسرائيل» فهو أيضاً ذاك الذي يُعطي داودَ الآتي لقب «ناسي»، أي ذاك المسؤول عن الشعب، الموكَّل عليه، مثل موسى. نقرأ حز 4:4 - 6 بلسان الربّ:

«قم، تمدَّد على جنبك الأيسر فأجعل إثم بيت اسرائيل عليه... وفي انقضائها، عُد قُم وتمدّد على جنبك الإيمن، فتحمل إثم يهوذا أربعين يوماً، لأنّي جعلت كلّ يوم بسنة».

إذا كانت بعض سمات وجه العابد تتلاقى مع سمات يوياكين (أو كنيا) بحسب إرميا، غير أنّ المسافة تبقى بعيدة بينهما لكي يتماهيا. فلا إرميا ولا كتاب الملوك يجعلان من الملك الصغير الانسان البار البار، الذي يبرّر شعبه. بل إن قرأنا بتنبّه أش 53، وإن تذكّرنا أنّه يعود إلى صور ملوكيّة ونبويّة، فهو يطلب أن يُترجَم من أجل المستقبل، من أجل الزمن الآتي. فوجه العابد صورة ملكيّة نبويّة، داوديّة. نقرأ في 2 صم 23:1 - 2:

1 كلام داود بن يسّى،

كلام الرجل السامي المقام،

كلام الذي مسحه إله يعقوب،

كلام مرنّم اسرائيل العذب.

2 «روح الربّ تكلّم فيَّ،

وعلى لساني كلمته».

نجد أنّ هذه الصورة تُسقِط على المستقبل، على خلاص شعب اسرائيل، خلاصاً ينضمّ إلى خلاص الأمم. لم يكن هذا العمل مهمّة أيّ ملك من ملوك أورشليم. ولكنّ عمانوئيل (= الله معنا) الذي تسلّم عرش داود في 9:6، وجب عليه أن يخلّص الشعب السالك في الظلمة بحيث يجعله يرى نوراً عظيماً (9:1)، فيحمل إليه السلام ويمنحه الفرح الذي يناله من يقتسم الأسلاب. هي صوَر نجدها في ف 53 مع صورة «فرع يسّى» (11:1)، ولكنّ في لغة مختلفة.

كلّ هذه الاشارات تجعلنا نقول إنّ عابد الربّ في أش53، ليس بملك، بل وجود داوديّ آتٍ، تسلّم، شأنه شأن داود وسائر الملوك، مسؤوليّة شعبه. عرف الذلّ كما عرفه شعبُه وسط الأمم. سُحق بثقل خطاياه فمات. ولكنّ شاء الله فارتبط هذا الموت بذبيحة تكفيريّة أعطته سلالة جديدة (عكس يوياكين). وأعطيَ السلطان بأن يشفع من أجل الخطأة.

4 - تأمّل شعري في عابد الله

يبدو أش 52:23 - 53:12 في أربع مراحل: الله يعلن أنّ عابده الذي ذُلّ في الماضي، يتمجّد الآن، يتعالى (52:13 - 15). ثمّ تعبّر الشعوبُ عن دهشتها أمام هذه الرفعة. إن كان هذا المحتقر قد أُعيد إليه اعتباره، فلأنّه هو البار (53:1 - 6). في آ 7 - 10 يتابع النبي اعتبارات في امتداد ما قالته الجموع حول براءة العابد وصبره، ويتمنّى أن يقبل الربّ هذا السخاء ويجازيه، ويجعل هذا الألم مثمراً. وأخيراً يتجاوب الله مع هذا النداء فيؤكّد النِعم التي ينالها هذا العابد، بعد الآلام التي يتحمّلها، فيجتذب إليه الجموع ويبرّرها برارة (53:11 - 12).

أجل، ضمن عشر آياتٍ رُسم مصير عبد الربّ في حوار بين الله والنبيّ وجموع لم تحدَّد هويّتها، مع مواضيع مثل «شكل بشريّ»، الجموع، العظماء، النجاح، السماع، الاحتقار، الخطايا، الصمت، التشفّع. هو تأمّل يعود فيه الفكر إلى ذاته ليتحرّى السرَّ في أعماقه.

أ - وقال الربّ (52:13 - 15)

13 ها عبدي ينتصر (ينجح)

يتعالى ويرتفع ويتسامى جداً.

14 كثير من الناس دُهشوا منه:

كيف تشوّه منظره كانسان،

وهيئته كبني البشر.

15 والآن تَعجَب منه أممٌ كثيرة،

وسدَّ الملوك أفواههم في حضرته

لأنّهم يرون غيرَ ما أُخبروا،

ويشاهدون غيرَ ما سمعوا.

تبدأ القصيدة (آ 13) بهذا الاعلان المظفّر. وسوف تنتهي في كلام عن الانتصار. إنّ فعل «ش ك ل» يدلّ على النجاح السياسيّ عبر المهارة والذكاء (44:18). وهذا ما نسبه إر 23:5 إلى فرع داود البار، وعلى ما تمنّته حواء حين رأت الشجرة (تك 3:6). إنّ نجاح النبيّ هذا هو صعود حقيقيّ شدّد عليه ثلاثة أفعال: تعالى، ارتفع، تسامى. ورافق الفعل الأخير الظرف: جداً. فالعابد يُقيم الآن في الأعالي، فيتعدّى طموحات العظماء المتكبّرين، كما يقول أشعيا:

2:11 عيونهم المتشامخة انخفضت،

وانحطّت مكانتُهم الرفيعة،

والربّ وحده يتعالى

في ذلك اليوم الآتي

12 يوم تكون قدرةُ الربّ

على كلّ مستكبر متعالٍ

وكلّ مترفِّع فينحطّ.

مثل هذا الموقع لا يليق إلاّ بالله الذي يتعالى بقضائه ويتقدّس بعدله، وبالذين يدعوهم الله. ولكنّ قبل هذا النجاح النهائي، هناك مرور في الضيق وفي العذاب بحيث لا يعود يُعرَف عابد الله (آ 14 - 15).

دُهش الذين رأوا انحدار عبد يهوه (حز 26:16؛ 27:35). هو صورة عن صهيون المدمّرة. والجموع هم الأمم التي تعتبر نفسها «كبيرة» وهكذا دلّ هذا الكلام على سرّ سقوط شعب الربّ أمام بابل والأمم.

ب - دهشة الجموع (54:1 - 6)

1 من صدّق ما سمعنا به؟

ولمن تجلّت ذراعُ الربّ؟

2 نما كنبتةٍ أمامه (أمام الله)

وكعِرقٍ في أرض قاحلة.

لا شكل له فننظر إليه،

ولا بهاء ولا جمال فنشتهيه.

3 مُحتقَر، منبوذ من الناس،

وموجع، متمرِّس بالحزن،

ومثل من تحجب عنه الوجوه،

نبذناه وما اعتبرناه.

4 حمل عاهاتنا وتحمّل أوجاعنا،

حسبناه مصاباً،

مضروباً من الله ومنكوباً.

5 وهو مجروح لأجل معاصينا،

مسحوق لأجل خطايانا.

سلامُنا أعدّه لنا،

وبجراحه شُفينا.

6 كلُّنا كالغنم ضَللنا،

مال كلُّ واحد إلى طريقه.

فألقى الربّ عليه إثمنا جميعاً.

نفهم هذا الكلام انطلاقاً من 52:10:

كشف الربّ على عيون الأمم جميعاً

ذراعه المقدّسة،

فرأت جميعُ أقاصي الأرض،

خلاص إلهنا.

هي ذراع الربّ المنتصرة التي تكشف قداسته للأمم. الجموع تتكلّم. وقد يكونون الملك والأمم الوثنيّة. «من» صدّق؟ حرفيا: من آمن؟ وحده عبدُ الربّ آمن، الآخرون دُهشوا وتوقّفوا عند الدهشة. وكيف نستطيع أن نؤمن حين نرى مثل هذا الانقلاب لدى العبد: بعد أن ارتفع وارتفع، انحدر الآن وانحدر. صار فرعَ شجرة قُطعت في أرض خربة، في صحراء لم تزهر بعد. ولكنّ من يؤمن، يعرف أنّ الأنهار تنفتح على الروابي، والينابيع في وسط الأودية، بحيث يُصبح القفر بحيرة ماء والأرض القاحلة ينابيع مياه (41:18). هذا العابد صار مريضاً، أبرص، فوجب عليه أن يغطّي وجهه كما تفرض عليه الشريعة.

قالت الجموع: أذقناه العذاب. وها هو الآن يرتفع، بحيث نعرف نحن بدورنا العذاب. هذا يعني أنّ ما نحتمله وجب علينا أن نتحمّله بسبب شرورنا. فهمت الجموعُ في النهاية ما عمله الربّ الذي جعل عابده يتألّم عن الخطأة فيحمل خطاياهم. نستطيع في تطبيق أوّل أن نرى العابدَ في المنفيين، وفي الجموع أهلَ بابل التي نالت «اللعنات» بفم الأنبياء.

47:1 إنزلي واقعدي على التراب،

أيّتها البكر، يا ابنة بابل!

أقعدي على الأرض بدل العرش،

يا ابنةَ الكلدانيّين!

فلا أحد بعد اليوم

يدعوك المرهَفة المغناج.

2 خذي الرحى واطحني الدقيق،

إنزعي حجابك وشمّري الثوب،

واكشفي عن ساقك واعبري الأنهار.

3 لتنكشف عورتُك ويظهر عارك،

فأنا أنتقم (أعاقب) ولا يعيقني أحد.

سُحق الشعب، ذُلّ، بدا كأسير طُعن بالرمح فسقط في ساحة الوغى. ولكنّ هذه المحنة تعيد السلام والشفاء. ضلّت الخراف، نسيَتْ كلام الوحي الالهيّ الذي يمنح الرجاء والخلاص للشعوب والجزر البعيدة، أي الأمم الغريبة (51:4 - 5). تشفّع العابد من أجل شعبه، مثل ملك بابل الذي أمسك بيد الاله في عيد تثبيت المصائر، مثل إرميا الذي تشفّع لدى الله (ار 7:25) أو مثل عبيد الملك الذين يتشفّعون لديه (إر 36:25). استعدّ هذا العابد أن يتلقّى الضربات عن الآخرين: حمل أوجاعنا، أخذ عاهاتنا. أيمكن أن يكون من يفعل هذا انساناً من الناس؟ وفي أيّ حال، هل يستطيع أن يبرّر الجموع إن كان هو خاطئاً؟ وحده يسوع الذي كان بلا عيب. الذي ما استطاع أحد أن يثبت عليه خطيئة (يو 8:46)، يستطيع أن يبرّر الخطأة ويشفع من أجل الكثيرين.

ج - كلام النبي (53:7 - 10)

7 ظُلِمَ وهو خاضع،

وما فتح فمه.

كنعجة تساق إلى الذبح،

وكخروف صامت أمام الذين يجذونه،

لم يفتح فاه.

8 بالظلم أُخذ وحُكم عليه.

ولا أحد في جيله اعترف به.

إنقطع من أرض الأحياء،

وضُرب لأجل معصية شعبه.

9 وُضع مع الأشرار قبره،

ولحدُه مع الأغنياء،

مع أنّه لم يمارس العنف،

ولا كان في فمه غشّ.

10 رضيَ الربّ أن يسحقه بالأوجاع،

ويُصعده ذبيحة إثم،

فيرى نسلاً وتطول أيامه

وتنجح مشيئة الربّ على يده.

العابد هو الضحيّة الصامتة (42:2) وإرميا نبيّ عناتوت، وهو أيضاً الذبيحة التي تكفّر. بسبب الاكراه، بسبب العنف، ضاع حقّه. القوّة الغاشمة هي التي عملت ضدّه، ولكنّه رأى في كلّ ذلك إرادة الله. كان يوياكين صورة بعيدة عنه. هو المسؤول عن شعبه، عن جيله. اقتُلع من أرض الأحياء. هذا العابد قبِلَ الذلّ. وقيل مرتين أنّه لبث صامتاً. مثل حمل المنفى، أي الجماعة، وإرميا الحمل الآخر الذي أخِذ إلى الذبح، مع أنّه بريء (ار 11:19). أما في أشعيا، فالحمل صابر، قابلٌ بوضعه وهو صامت. هل سكت عن ضعف ولأنه لا يقدر أن يفعل غير ذلك؟ كلا. بل هو اقتنع أنّ الله يتكلّم عنه، يدافع عنه، كما في مز 38:14 - 16. قال المرنّم عن نفسه:

14 وأنا كأصمّ لا يسمع،

كأخرس لا يفتح فمه.

15 كأيّ انسان لا سمْعَ له،

ولا في فمه عتاب.

16 رجائي أنت يا ربّ،

فاستجب لي يا إلهي.

وبانتظار جواب الربّ، جاءت العاصفة فجرفت حبيب الله. اقتُلع كشجرة مزروعة في الأرض. صار كأنّه ميت. والسبب تمرّد اخوته وخطيئتهم. بل وُضع في القبر، وعرف الظلمة. قبره مع الأشرار، أي مع البابليّين. هو العار رافقه في حياته، ويرافقه في مماته. دُفن، لا دفنة كريمة مع آبائه، بل في أرض شرّيرة، في أرض غريبة. وهذا مع أنّه لم يمارس العنف، ولم يتعامل بالغشّ. هو يرمز إلى البقيّة الباقية التي عادت من المنفى، وأخذت تعاتب الربّ:

44:18 هذا كلّه وقع علينا،

وما نسيناك ولا خُنَّا عهدك.

19 قلوبنا لم ترتدّ إلى الوراء،

ولا مالت خطواتنا عن بيتك.

20 فلماذا سحقتنا في القفر،

وكسوتنا بظلال الموت؟

21 إن نسينا اسم إلهنا،

أو بسطنا أكفّنا لإله غريب،

22 أفلا يكشف الله ذلك،

وهو من يعرف خفايا القلوب؟

لا، ما سار عابد الربّ في خطّ العالم الوثنيّ. لهذا يستطيع أن يلتفت إلى الله ويطلب منه أن يقبله، أن يجازيه على أمانته وصبره وسط المحن.

د - صوت الله (53:11 - 12)

11 يرى ثمرة تعبه،

ويكون راضياً.

وبوداعته يبرّر عبدى كثيراً من الناس،

ويحمل خطاياهم.

12 لذلك أعطيه نصيباً مع العظماء،

وغنيمة مع الجبابرة.

للموت بذل نفسه،

وأحصي مع العصاة

وهو الذي شفع فيهم،

 

وحمل خطايا كثيرين.

التزم الربّ وهو يفي بالتزاماته. وعد ابراهيم بأن يكون أمّة كبيرة، قويّة (تك 18:18)، فوفى بوعده. وقال لموسى: «أجعلك أمّة أعظم وأقوى». وهكذا كان. وبناء على وعد الله، أعطيَ داود «اسماً عظيماً كأسماء العظماء في الأرض». وها هو عبد الربّ يرث كلّ هذه المواعيد. ولكنّ إن اجتذب إليه ربوات الربوات، فلأنّه أفرغ ذاته حتّى الموت حين حمل خطايا البشريّة. ونلاحظ ثلاث مرات وجود هذا العابد مع الخطأة، لا مع الأبرار. وقد حمل خطايا الجموع وما اكتفى بخطاياه وخطايا آبائه. وما اكتفى بالتشفّع لأبناء شعبه، بل اهتمّ بالبشريّة كلّها، مثل ابراهيم حين تشفّع من أجل سدوم.

الخاتمة

نشيد عابد الربّ الرابع، قد يشير إلى يكنيا، إلى إرميا، أو إلى الشعب في المنفى. ولكنّ ما يقال هنا لا يمكن أن ينطبق على البشر مهما كانت برارتُهم. وإذ نحن ننشد هذا العابد، لا نستطيع إلاّ أن ننشد يسوع المسيح الذي تحدّث عنه سفر الأعمال حين قال إنّ الله مجّد فتاه، فأقامه من بين الأموات وأرسله ليحمل البركة إلى البشريّة كلّها (أع 3:26).

في هذا المجال، نلاحظ قرب العهد الجديد من نصّ أشعيا الثاني. هذا الشخص وُلد، نما، عمل الخير، تألّم، مات بفعل خطايا الجموع ولأجل خطايا الجموع. ودُفن، وفي النهاية مُجّد. ترافق الضعف مع القوّة، والبراءة مع الاضطهاد، والألم مع الصبر، والاتّضاع مع الارتفاع، والموت مع القيامة.

ذاك هو المعنى الأخير لأناشيد عبد الربّ الأربعة. قد نجد لها تطبيقات بشريّة تقدّم هذه الصورة أو تلك. أمّا الشخص الذي يحيط بهذه الأناشيد من كلّ وجوهها، ويعطيها مدلولها الكامل، فلا يمكن أن يكون سوى يسوع الذي عبّر عن حياته وآلامه وموته في لغة عابد الربّ: «ها نحن صاعدون إلى أورشليم، وابن الانسان يُسلَم إلى رؤساء الكهنة والكتبة، فيحكمون عليه بالموت، ويدفعونه إلى الأمم ليسخروا به، ويجلدوه ويصلبوه، وفي اليوم الثالث يق

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM