الخليقة الجديدة
43:16-25
حين نقرأ ف 43، نكتشف تنقّلاً من الاتهام إلى التعزية. فبعد حكم الربّ على الآلهة الكاذبة، نسمع إعلانين للخلاص يرتبطان بالمضمون، وبعبارة تقديميّة: وهذا ما قال الربّ. «فتحتُ في البحر طريقاً» (آ 16) وفي النهاية تتحوّل البريّة إلى موضع تجري فيه الأنهار. وهذه المسيرة في القفر تُفهم المؤمنين مرّة أخرى أنّ الله هو الذي يزوّد شعبه بالماء، فكيف ينسون هذا الاحسان؟ وكيف يتصرّفون مثل الفريسيين فيمنّنون الله لأنّهم قدّموا له الذبائح، وأسكروه بالبخور. لهذا يدعوهم الله إلى المحكمة: هاتوا برهانكم.
بعد مقابلة بين الماضي والجديد، نتحدّث عن تاريخ الخلاص: وحده الاله الحقيقيّ يعد بالخلاص ويُتمّ وعدَه: أنا، أنا الربّ، ولا مخلّص غيري.
ونورد النصّ الكتابيّ (13:16-25):
16 وهذا ما قال الرب:
«فتحتُ في البحر طريقاً،
وفي المياه العاتية مسلكاً
17 لمركبات العدوّ وفرسانه،
لجنوده ورجاله الأشدّاء.
فسقطوا جميعاً ولا قيام،
وكفتيلة خامدة انطفأوا.
18 ولكن ما لنا ولذكر ما مضى،
وللقديم والتفكير فيه.
19 ها أنا صانع جديداً
فينشأ الآن، أفلا تعرفونه؟
في الصحراء أشقّ طريقاً
وفي القفر أجري الأنهار .
20 وحوشُ البريّة تمجّدني،
الذئاب وبنات النعام،
لأنّي أجريتُ مياهاً في الصحراء،
لأسقي شعبي، مختاري،
21 الشعب الذي صيّرته لي،
فيحدّث ويهلّل لي.
22 ولكنّك، يا يعقوب، لم تطلبني،
فهل تعبت منّي، يا اسرائيل؟
23 فما جئتني بشاة محرقاتك،
ولا أكرمتني بتقدمة،
ولا أتعبتك بحرق البخور.
24 شاةً لم تشترِ لي بالفضّة،
ومن شحم ذبائحك لم تُروِني،
بل أنت ألزمتَني بخطاياك،
وأتعبتني كثيراً بآثامك.
25 أنا، أنا الماحي معاصيك،
وخطاياك لا أذكرها لأجلي.
1 - بين الماضي والقديم
إنّ مجمل نصّ أشعيا حول التعارض في آ 18 - 19، بين الماضي والجديد، ينطبع بطابع الهدوء. قابل الربّ الخروج من مصر مع موسى، بالتحرّر الجديد من المنفى البابليّ. ولكن إن إردنا أن ندرك بُعد هذا المقطع، يجب أن نجعله في مجموعة مواضيع أبرزها سفرُ التثنية وتوسّع فيها الوحي البيبليّ كلّه. هذا ما نقوم به لنحرّك تفكيراً واسعاً حول معنى الخلاص، واستعداداً كاملاً للسرّ الفصحيّ.
أ - الخلق والخلاص
نستطيع أن نقدّم هذا الموضوع في وجهات مختلفة نوجزها كما يلي: إنّ أول خبرة إيمانيّة لدى الآباء وشعب اسرائيل، هي خبرة إله حيّ يحمل الخلاص. في هذا السياق، يتوقّف الإيمان بالله الخالق عند قدرته التي تبيّن امكانيّة الخلاص. بل إنّ الخلق هو الخطوة الأولى في تاريخ الخلاص. وهو بالتالي، منذ الآن، عمل خلاصيّ.
بين أسفار العهد القديم، يبدو أشعيا الثاني غنياً جداً بالنسبة إلى هذا الموضوع. لا شكّ في أنّه يكون من الصعب أن نحدّد فيه بدقّةٍ، العلاقةَ التي تربط الإيمان بالله الخالق، مع يقين تدخّله على أنّه المخلّص. فهي تعرّجات غامضة لا نستطيع مراراً أن نحيط بها. ومع ذلك، نستطيع في مجمل السياق أن نلاحظ، لا وحدة عميقة بين الخلق والخلاص فقط، نجدها عبر العهد القديم كلّه، بل أيضاً تدرّجاً أكيداً ينطلق من خلق الكون إلى خلق الشعب المختار، وخلق العالم الاسكاتولوجيّ أي اجتياح النهاية في العالم. فالربّ هو «خالق السماوات، والإله الذي جبل الأرض» (45:18). وتدخّل الله هذا يتّخذ معنى جديداً في العبور الدراماتيكيّ من الخلق إلى الخروج:
استفيقي، يا ذراع الربّ،
استفيقي والبسي الجبروت،
استفيقي كما في القديم،
كما في غابر الأجيال.
أنت التي قطعت رهب،
وطعنتِ التنين طعناً.
وجفّفت مياه البحر،
مياه الغمر العظيم،
فجعلت أعماقه طريقاً
ليعبر فيه المفتدون (51:9 - 10).
هنا أيضاً الله الذي خلق يعقوب هو الذي جبل اسرائيل (43:1).
إنّ أش 43 كلّه يُنشد عمل الله منذ الخروج، ويستعيد استعادة حرفيّة موضوع الخلق. غير أنّ آ 16 - 21 تشكّل فيه الذروة، لأنّها تدلّ على تدرّج حاسم. فشعب الله هو «شعبي، مختاري» (آ 20)، «الشعب الذي جبلت» (آ 21). وكان القول السابق قد انتهى عند آية موازية لهذا القول:
أنا الربّ قدوسكم،
خالق اسرائيل وملككم (آ 15).
والآن ينفتح أمام هذا الشعب مستقبلٌ يُنسيه الماضي. هو الزمن الاسكاتولوجي.
ب - الخلاص والاسكاتولوجيا
ما قلناه حتى الآن بيّن أنّ تاريخ الخلاص يتطلّع نحو المستقبل. فأشعيا الثاني يُلهم بقوّةٍ ديناميّةَ التاريخ هذه. ويبقى أن نحدّد الموضوع الاسكاتولوجيّ وندركه في تشعّباته. هذا ما نقوم به فنجعل هذا النصّ في سياقه، ونكمّله بما يحمل إليه العهد الجديد من عمق التفكير.
فكرتان تبرزان في النصّ: الطابع الفريد للاسكاتولوجيا كتحقيق للمستقبل، والمشاركة الاجماليّة في هذا الواقع الجديد. فأشعيا الثاني يتطلّع بلا شكّ إلى «الجديد» الذي بدأ يطلّ برأسه، بحيث نراه منذ الآن (آ 19 أ): هي العودة من المنفى التي بدأ العبرانيّون منذ الآن يُبصرون طلائعَها. هو عمل قدرة الله يتحقّق بوساطة كورش، الملك الوثني الذي صار في يد الله وسيلة خلاص.
ونحن نُفقر بعد هذا القول، بل لا نتعرّف إلى قوّة التعبير في التعليم النبويّ بشكل عام، إن حصرناه في رؤية هذا الوقت الخاص. مثل هذا التجاوز يفرض نفسه لأكثر من سبب: كثافة خاصة في أقوال أشعيا الثاني مع الاتجاه الشموليّ. إدراج عمله الأدبيّ في سياق تاريخ الخلاص. خبرة متجدّدة لإيمان اسرائيل في رفقة أحداث هذا التاريخ. لهذا يتضمّن «الجديد» مع المعنى المباشر الملموس، معنى آخر بعيداً ولا محدوداً. كما يندرج في الزمن يتجاوزه. ويعبّر عن خبرة وحي الله، ويجعلنا نستشفّ الخبرة النهائيّة.
وبرزت وجهةٌ ثانية مهمّة في وصف العودة (آ 19 ب - 20). فالشعب كلّه، وهنا تتجلّى الشموليّة عند أشعيا الثاني، يشارك في النصر مع طبيعة تحوّلت وتجمّلت. هذه الفكرة التي سوف يتوسّع فيها أشعيا الثالث توسّعاً خاصاً (65:17)، انتشرت في كلّ الأدب البيبليّ، ولا سيّما عند الأنبياء: بهذا يكون الكون متّحداً اتّحاداً حميماً بالانسان، سواء كان خاطئاً أو مخلَّصاً.
ج - الزمن الاسكاتولوجيّ والعهد الجديد
عاد نصّان من العهد الجديد، بشكل صريح، إلى النصّ الأشعيائيّ الذي نقرأ: «إن كان أحد في المسيح، فهو خليقة جديدة. زال القديم والجديد هو هنا» (2 كور 5:17). «حينئذ أعلن الجالسُ على العرش: ها أنا أصنع كل شيء جديداً» (رؤ 21:5).
تستعيد هاتان الآيتان المتكاملتان مواضيع أُثيرت في أشعيا. فمجيء المسيح حوَّل الانسان تحويلاً جذرياً بحيث جعل منه خليقة جديدة. وهذا التحوّل ما زال نبتة صغيرة، كما في الكون الذي يتضامن مع الانسان (روم 8:19 - 23). إذن مجيء المسيح لا يضع حدّاً للانشداد نحو النهاية، وإن هو دشّن منذ الآن الأزمنة الأخيرة. ففي نهاية التدخّل الحاسم لله الحيّ وأبي يسوع المسيح، وتجديد كلّ شيء في الروح القدس، يصبح هذا التحوّلُ تاماً ومطلقاً، لا ناقصاً ونسبياً (رؤ 21:1 - 5).
وعند منعطف هذا التطوّر، يبرز المسيح القائم من الموت الذي يستبق التتمّة ويكون سببها. وهكذا يتجلّى السرُّ الفصحيّ في ملء عظمته كمركز لتاريخ الخلاص.
2 - سرّ الخلاص
ونضيف هنا بعض الملاحظات البسيطة التي نستنتجها ممّا قلناه سابقاً. هي لا تهتمّ بمسائل تقنيّة، بل تتوخّى ادخال دراسة شخصيّة وعميقة لهذا الموضوع المركزيّ من أجل فهم الكتاب المقدّس.
نستطيع أن نتطلّع إلى سرّ الخلاص كمخطّط رسمه الله، كتحقيق هذا المخطّط وإسقاطه على الزمن، كامتداد مبادرة الله بالنسبة إلى البشر. فالاله الحيّ، الواحد في ثلاثة أقانيم، وربّ التاريخ، قد تصوّر قصد الخلاص هذا بفعل حرّ من حبّه.
إنّ وحدة العهدين تجد مركزها في المسيح. فهو النموذج الأوّل الذي يُلهم مخطّط الله، والدليل الذي يوجّه ديناميّته، والعامل على تنفيذه. وتأوينُ السرّ يتطلّع دوماً إلى النهاية التي فيها يجد تمامه النهائيّ. لهذا تقوم ميزتُه الأولى في نظرة تاريخيّة إلى الزمن، إلى نظرة أصيلة وفريدة في محيط البيبليا. نحن أمام حركة متموّجة تتذوّق الزمن الحاضر، وتتذكّر الماضي، وتنشدُّ بشكل خاص إلى المستقبل. ثمّ إنّ الزمن مدعو إلى الزوال ليترك المكان للنهاية.
من هنا يُولَد انشداد بين التاريخ وما وراء التاريخ، بين العالم الحاضر والعالم الآتي. لا شكّ بوجود تواصل بين العالمين، ولكنّنا في الواقع نبلغ إلى حقيقة جذريّة، جديدة، ما كنّا لنتوقّعها.
والتفكير في متقبِّلي سرّ الخلاص، يساعد على فهم هذه الفكرة فهماً أفضل. فقد قدّم أشعيا الثاني اللقاء بين الله والانسان كاختيار ونداء. فاسرائيل هو شعب اختاره الله. وعاد النبيّ إلى مجانيّة الاختيار أكثر من مرّة. فحريّةُ مخطّط الله تبقى عظيمة، والمخطّط يبقى سرّياً سرّياً (40:12 - 13). لهذا، فما يحصل وإن تجلّى بشكل جزئيّ، يبقى في العتمة ولا يُرى، كما أنّه لا يكشف بعد عن غناه الذي لا يضاهيه غنى.
هنا نفهم لماذا كان من أهم مواضيع أشعيا، الإيمان الذي هو تعلّق لامحدود بالاله الأمين، الذي ننتظره وننتظره ولا نضع عليه شرطاً. وصورة الله الحيّ هذه والعلاقات التي يُقيمها مع الانسان، تُبرز الأصالة الجذريّة في الديانة الموحاة. وهكذا نفهم الحرب المتواصلة على الأصنام. فطرقُ الله وتدخّلاته ليست صنيعة يد الانسان، كما هو الحال في الديانات المجاورة. بل هي تفرض نفسها عليه كسرّ الأسرار.
والمستقبل الاسكاتولوجيّ الذي يحيط بالانسان والكون الذي يعيش فيه، يندرج في هذا المنظار. وتتسجّل النصوص المذكورة في العهد القديم والعهد الجديد في الخطّ عينه. وهي تقول إنّ الخلاص حاضر منذ الآن، وإن يكن في أشكال وأنماط تختلف باختلاف أزمنة التاريخ. عندئذ لا نعود ننتظر وعد الله إلى ما لا نهاية. بل هو يتحقّق كلّ مرّة يتدخّل فيها الله. غير أنّ كلّ مرحلة من مراحل تاريخ الخلاص تفترض أن نبقى مشدودين يوماً بعد يوم نحو النهاية.
هذا يسري على العهد القديم، ولكن لا تُبانُ حقيقتُه إلاّ في العهد الجديد، وقد فهمته الكنيسةُ الأولى فهماً فريداً. ففي فترة الانتظار هذه، على الانسان أن يعمل ويعمل بإيمان ساهر ومتنبّه، وهدفه الوصول إلى عالم متحوّل. في هذا المجال، يبقى العهد الجديد حيث قيامة المسيح شهادة حيّة للعالم الاسكاتولوجيّ، يبقى صامتاً أو يكتفي بعبارات غامضة كما عند القديس بولس (جسد روحاني، 1 كور 15:44)، أو برموز مبهمة يصعب فكّها، كما في سفر الرؤيا.
هو عالم تخلّص تخلّصاً تاماً من الخبرة البشريّة، لهذا ينحصر الرجاء المسيحيّ في فقر مدقع في ما يستطيع أن يدركه في الحال ويُسقطه. ولكن يبقى هذا الرجاء غنياً بقدر ما ينفتح على «سيادة» الله الحيّ الذي يتجاوز كلّ انتظار لدى الانسان.
الخاتمة
جاء تاريخ الخلاص بشكل عهد (54:10؛ 55:3). أو كما يقول أشعيا الثاني في أحد مواضيعه، هذا التاريخ يسير حسب تقابل النداء والجواب. الله يدعو الانسان لكي يختار بين الإيمان واللاإيمان، بين القبول والرفض. وقد رأى سامعو كلام أشعيا نفوسهم يُلامون لوماً قاسياً لأنّهم تركوا الله: إنّ خبرتهم كمنفيّين لم تخرجهم بعد من هذه الحالة، حالة الرفض والتمرّد. غير أن الله يغفر لهم. ذاك هو المدلول الاجمالي في 43:22 - 28.
نحن هنا في إطار التمرّد والغفران الذي يُوجز بشكل نمطيّ كلّ تاريخ اسرائيل، كما ينطبق على تاريخ البشريّة حتى نهاية الأزمنة. في هذا الاطار، الله نفسه ينسى الخطايا ويغفر (آ 25). هذا هو الجديد. هذا هو الخروج الجديد والتحرير الجديد الذي يجعل من الانسان خليقة جديدة، بحيث تدخل الخليقة كلّها في ملء النهاية.
بدأ يسوع هذا العمل على الأرض (مر 2:1 - 12). وهو عمل يواصله الله الحيّ حتى نهاية الأزمنة، في الكنيسة وفي الكون. في هذا قال بولس في روم 11:32:36: «لأنّ الله جعل البشر كلّهم سجناء العصيان حتى يرحمهم جميعاً. ما أعمق غنى الله وحكمته وعلمه! وما أصعب إدراك أحكامه وفهم طرقه... فكلّ شيء منه وبه إليه، فله المجد إلى الأبد. آم