صوت ينادي في البريّة 40:1 - 11

صوت ينادي في البريّة

40:1 - 11

البشرى الحلوة التي تقدّمها لنا الكنيسة اليوم، نقرأها في أشعيا الثاني (ف 40 - 66). هي فصول كُتبت في زمن المنفى (587 - 538). نقرأها فنفهم أنّ مملكة يهوذا زالت من الوجود كوحدة مستقلّة. وعليها الآن أن تكفّر عن ذنوبها في أرض المنفى.

شعب منهوب، مسلوب،

أُوقع بهم في الحُفَر،

وخُبِّئوا كلّهم في الحبوس.

يُنهَبون وما من منقذ،

ويُسلَبون ولا يُرَدّ سلبهم (42:22).

هم الآن في بابل. هم في أرض الكلدانيّين (48:20). وأورشليم وسائر المدن جاثمة وسط الدمار. أورشليم مهدّمة. ومدن يهوذا خرائب (44:28). هذا ما قاله نبيّ لم يذكر اسمه. مارس رسالته في نهاية حقبة المنفى، ساعة بدت إعادة البناء قريبة ونحن ندعوه أشعيا الثاني.

حذّر الأنبياء قبل المنفى بعقاب يصيب اسرائيل: خان الربّ وما ندم على خياناته. غير أنّ سقوط مملكة يهوذا وسنوات المنفى الطويلة حملت ثمراً، بل نضج الزمنُ لكي يستعيد الربّ عروسه الخائنة، ويعقد معها عهداً جديداً يقودها إلى مصيرها الأخير.

إذن، كانت مهمّة النبيّ الأولى إعلانَ العودة إلى فلسطين، بالصوت العالي، بالفرح، بحماس الحبّ لدى عروس تعود إلى عريسها، كما في أيام صباها (هو 2:17). هو خروج جديد سيعرفه الشعب قريباً. ويكون أعجبَ من الخروج الأوّل. فالله يكشف من جديد خلاصه في وجه جميع الأمم التي تُدعى هي أيضاً للمشاركة في بركات الله. فمُلك الله وسط البشر يفيض فيتجاوز حدود أرض الموعد الضيّقة، لكي يصل إلى جميع الشعوب الذين يرون فيه الربَّ الواحد وسيّدَ الكون.

وتطوّر فكرُ أشعيا الثاني منطلقاً من مركزين متلاصقين: عودة المنفيين من بابل، بناء أورشليم كمركز جديد لتجلّي الله. والنص الذي نتأمل فيه يُلقي الضوء على هذين الموضوعين.

 

1- نداء المنادي (40: 1 - 5)

يبدأ أشعيا الثاني، شأنه شأن هوشع وإرميا ، بخبر يروي دعوة النبي. انحصر المشهد في سماع صوت الله، أو ملاكه. وهذا الصوت يحدّد، في شكل من الاشكال، موضوعَ رسالة النبيّ.

أ - قيامة المدينة المقدسة (آ-2)

1 عزّوا عزّوا شعبي،

يقول الربّ إلهكم.

2 طيّبوا قلب أورشليم

بشّروها بنهاية أيام تأديبها،

والعفو عمّا ارتكبت من إثم.

وبأنّها وفت للربّ

ضعفين، جزاء خطاياها.

«عزّوا شعبي».صرخة النبيّ هذه تقدّم خير تقديم معنى العمل الذي كُلّف بأن يقوم به لدى شعب الله. ويلفت النظر أنّ مستوى عمله يتحدّد موقعُه مقابل عمل إرميا. فقد وجب على إرميا أن يرفع سيف النقمة على يهوذا وأورشليم، فيهدّد بدمار تام وقريب. إن لم تأتِ توبة صادقة لا غشّ فيها، ولكن إرميا كرز عبثاً. لهذا حمل المدُّ البابلي كلَّ شيء في طريقه.

بعد العاصفة والمطر، أشرقت الشمس بأجلى بهائها كما لم تُرَ من قبل. تنقّى الشعب وكفّر عن ماضٍ ثقيل، مليء بالخيانات. وهذا ما أتاح له أن ينطلق انطلاقةً جديدةً. فعبوديّة بابل، شأن عبوديّة مصر، قد انتهت. وأورشليم، مركز حضور الله وسط شعبه، ستكون أيضاً علامة أكيدة لحبّ يربط الله بشعب اختاره. والانتصار الأخير في تاريخ الخلاص لا يرتبط بالخطيئة وعقابها، بل بنعمة الله التي تخلق دوماً بدايات جديدة.

ذاك كان نداء النبيّ إلى إخوته. بدأ بالعزاء وما يرافقه من صبر. شجَّع الذين تراخت عزائمهم فما عادوا ينتظرون شيئاً بعد أن طال المنفى. «طيّبوا». حرفيا: تكلّموا إلى قلب أورشليم. فالقلب هو موضع الفكر والعاطفة والحبّ والار ادة. القلب موضع الفهم. فإن هو كان قاسياً، لا يستطيع أن يفهم. ولكنّ هؤلاء المؤمنين استعدّوا لأن يسمعوا، لأن يفهموا.

ب - العودة إلى الأرض (آ 3 - 5)

3 صوت صارخ في البرية:

هيّئوا طريقَ الربّ،

مهّدوا في البادية

درباً قويماً لإلهنا

4 كلّ وادٍ يرتفع،

كلّ جبل وتلّ ينخفض

يصير المعوجّ قويماً

ووعر الأرض سهلاً

5 فيظهر مجد الربّ

ويراه جميعُ البشر معاً

لأنّ الربّ تكلّم.

هذا الموضوع الثاني في كتاب تعزية اسرائيل، هو بلا شكّ أهمّ ما في الكتاب. فنبيّ نهاية المنفى نال مهمّة شبيهة بمهمّة موسى بأن يبني إيمان الجماعة بإله العهد، بأن يحرّك في كلّ واحد وفيهم كلّهم، الأمانة لالتزامه تجاه هذا الاله، وأن يلعب دور الدليل في الصعود إلى أرض الموعد.

النبي صوت يصرخ. يهتف عالياً. هو ينادي كبائع متجوّل، أو مثل الحكمة التي تدعو المارّين إلى وليمتها. الموضوع: الطريق من أجل خروج جديد. بل هو الربّ يرسل ملاكه فيهيّئ الطريق فيأتي الربّ ويأتي شعبه معه (ملا 3:1). وبالنسبة إلى المؤمنين، يجب أن لا يبقى عائق. عندئذ يتجلّى مجدُ الربّ أو بالأحرى وزن تدخّله حين يخلّص شعبه، هذا المجد يرونه معاً. كدت أقول بعين واحدة. معاً يرون، معاً يتكلّمون، معاً يعملون. فما تعود جماعة الراجعين شتاتاً يسير كلّ واحد في طريقه. بل جماعة حول الربّ كما في البريّة حول خيمة الاجتماع.

وهكذا لا نعجب إن وُضع في بداية أشعيا الثاني صرخة التجمّع: فالأبناء مشتّتون في وسط الأمم. والعودة إلى فلسطين سنة 538 ق م، بفضل سياسة كورش المسالمة، كانت منعطفاً حاسماً في تاريخ الشعب. ولقد كان هذا الواقع الجديد في التاريخ، برهاناً واضحاً على محبّة الربّ لشعبه الذي اختاره من أجل رسالة خاصة.

أجل، عودةُ المنفيّين هذه خروج جديد أعجبُ من الخروج الأول. الوعر في سيناء حلّ محله طريق مسهَّل لا يُعيقه عائق. والصحراء القاحلة صارت جنّة وفردوساً. أهذا بفعل الانسان؟ كلا. لأنّ البشر كعشب الطريق وزهر الحقل ييبسون ويذوون. بل بفعل الله الذي فعل كما في البد ء: فمه تكلّم. قال: ليكن نور فكان نور. وقال هنا: هيّئوا الطريق فتهيّأت الطريق. فما بقي للبشر سوى النظر إلى عمل الربّ المجيد.

فالطريق التي تقود الشعب من جديد إلى أرض البركات تكون جديرة بملك عظيم. فالربّ نفسه يسير فيها. لا، ما بقي الربّ في أورشليم ساعة مضى أبناؤه إلى السبيّ. بل هو انتظرهم على جبل الزيتون، شرقيّ المدينة. ولما ساروا سار معهم (حز 10:18 - 22)، وفي المنفى أقام معهم، وهو الآن يعود معهم. بل هو يسير في مقدّمة الراجعين.

2 - صوت منادين آخرين (40: 6 - 8)

هتف النبيّ فتردّد صوته في الوديان والجبال. بل ردّده منادون آخرون صاروا «أنبياء» مثله. فكلّ واحد مسؤول عن حمل هذه البشرى، لا ذاك النبيّ الأشعيائي وحده. ذاك الوضع هو الذي كان في البريّة مع موسى. ما كان وحده نبيّ الشعب. بل هو هتف: ليت جميع شعب الربّ أنبياء.

6 صوت يقول: إقرأ (بصوتٍ عالٍ، أعلن)

قال آخر: ماذا أقرأ (أي قرار ملكيّ)؟

كلّ بشر عشبٌ،

وكزهر الحقل بقاؤه.

7 العشب ييبس والزهر يذوي

بنسمة تهبّ من الربّ.

حقاً، الشعب عشب،

8 أمّا كلمة إلهنا

فتبقى (فتثبت) إلى الأبد

نادى الأول، فتردّد النداء كالصدى. وهتف المنادون من كلّ جهة يُعلنون ضعف الانسان وعجزه. بل يعلنون أنّه متقلّب يندفع اليوم، وفي الغد يخبو حماسه. وحدها كلمة الربّ تبقى. هي ثابتة. وعدت وهي تفي.

ما تكلّم الربّ فقط، بل هو يفعل. وما تكلّم فقط بواسطة نبيّه، بل بواسطة عدد من الناس. وهكذا اختفى النبيّ وراء الكلمة، فدعا الآخرين ليكونوا صدى الصوت الالهيّ «ليكبّروا» هذا الصوت فيصل إلى البعيد دون أن يضيعوا هويّته. جميعهم أمناء للتعليم الذي جاء من الله.

هو نداء يُعيد الثقة إلى الانسان، وإن كنا لا ننتظر شيئاً من البشر، ولا نخاف ممّا يفعله البشر. هم سريعو العطب، فكيف يخلّصون أنفسهم بأنفسهم. هم ضعفاء، فكيف يقاومون خلاصاً يقدّمه الله. أجل، ستتحقّق العودة، لأنّ هؤلاء الناس الذين من لحم ودم، الذين ضايقوا الشعب فترة من الزمن، هم كالعشب الذي يزول سريعاً بفعل نفخة من الربّ.

البشر كلّهم ضعفاء. حتّى العظماء في بابل. قال فيهم النبي (40:23 - 24):

يجعل العظماءَ كلا شيء،

وحكّام الأرض كالهباء.

ما إن ينغرسوا وينزرعوا

وتتأصّل جذورهم في الأرض

حتى يجفّوا وييبسوا

وتحملهم الريح كالقشّ.

تجاه لاثبات البشر وتقلّبهم يوماً بعد يوم، نجد متانة كلمة الله. هي تقوم أبداً ولا يمكن أن تسقط. هي خالقة، ثابتة، فاعلة. والخلاص الذي وعد به الربّ بواسطة الأنبياء، والذي يعلنه الآن في مناخ المنفى البابليّ، بدأ يتحقّق.

3 - صوت البشارة (40:9 - 11)

من هو الذي يحمل البشارة؟ لا يمكن أن يكون النبيّ الذي أخفى هويّته. فحلّ المنادون محلّه. وهنا، حلّت أورشليم مكانه فأخذت هي تنادي بالقيامة القريبة.

أ - أورشليم الجديدة (آ 9)

وأنتِ فاصعدي على جبل عالٍ

يا صهيون، يا مبشّرة (أو: يا مبشّري صهيون)

ارفعي الصوت مدوّياً،

يا أورشليم، يا مبشّرة (أو: يا مبشري أورشليم)

ارفعيه ولا تخافي.

قولي لمدن يهوذا:

«ها هو الربّ».

فأورشليم هي المدينة التي اختار ها الربّ ليجعل فيها مقامه وسط شعبه. وحضوره قوّةٌ في وجه المعادين، وعربون سلام وبركة، وذلك بالنظر إلى العهد.

الربّ اختار صهيون

واشتهاها مقاماً له:

هذه دياري إلى الأبد،

فيها أقيم لأنّي أشتهيتها (مز 132:13)

ولكنّ العهد نُقض أكثر من مرّة بسبب خيانات المدينة المقدّسة. اعتزل الربّ وتركها ومصيرها، فأصابها ما أصابها.

كيف صارت زانية،

المدينة الأمينة.

كانت عامرة بالعدل

وفيها يسكن الحقّ

أمّا الآن ففيها يَسكنُ القَتلة (1:21)

إذن، دمار أورشليم علامة تدلّ على أنّ الشعب صار وحده بعد أن حُرم من إلهه. لهذا، فمنذ بداية المنفى، ألهم هذا الواقعُ القاسي ليتورجيةَ توبة على دمار صهيون، فيها يتوسّلون إلى رحمة الله فيُطلَب منهم توبة صادقة (ار 41:5؛ زك 7:5؛ 8:19). وسفر المراثي هو واحد من هذه الليتورجيّات. وإن قرأنا أشعيا الثاني في هذا السياق الليتورجيّ، فهو يقدّم لنا معنى جديداً.

فالرجاء الذي يكمن في هذه المراثي، يشير إلى قيامة أورشليم كعلامة للعودة إلى الربّ بعد أن عرف الشعب ذلّ الهزيمة والمنفى.

أنت يا ربّ باقٍ

وعرشُك ثابت مدى الأجيال.

لماذا تنسانا على الدوام،

وتخذلنا طول الأيام؟

أعدْنا إليك فنعود

وجدّد أيامنا كالقديم (مرا 5:19 - 21)

وهذا ما يعلنه أشعيا الثاني على أنّه أمرٌ تحقّق: كفّرت صهيون عن ذنبها ووفت (آ 1 - 2). فلتخرج حيّة من قبرها، ولترمِ قيودَ أسرها بحيث لا تسقط من بعد.

أفيقي وانهضي، يا أورشليم،

أفيقي أيتها التي شربت

من يد الربّ كأس غضبه،

شربت وجرعت حتى الثمالة (51:17).

سبق النبيّ هوشع فقال (هو 2:21 - 22) إنّها عروسة الربّ: لا يمكن أن يتركها ولا أن ينساها. هل تنسى الأم رضيعها؟ كلا. ولكن وإن نسيَتْ، فالربّ لا ينسى أورشليم بعد أن رسمها على كفّه وكان الحارس لأسوارها (49:15 - 16).

إنّ قيامة مجد أورشليم يتضمّنه لفظ «البشارة» الذي يتوجّه إليها. وفعل «ب ش ر» يعني: أعلن حدثاً مفرحاً. تحدّث بالصوت العالي عن خلاص هو هنا أو هو قريب. هو الفعل المستعمل للكلام عن انتصار على شخص معادٍ (2 صم 18:19؛ 1 صم 31:9) أو عن النصرَ كما في مز 68:12- 13:

الربّ يُعطي أمراً

فيحمل البشرى كثيرون

الملوك وجيوشهم يفرّون هاربين،

ربّات البيوت يقسمن الغنائم.

في أشعيا الثاني اتخذ لفظ «ب ش ر» مدلولاً أكثر تحديداً: اعلان عودة الله الخلاصيّة في وسط شعبه، بعد السنوات الطويلة في الضيق والمنفى (52:7-9):

7 ما أجمل على الجبال

أقدام المبشّر

الذي يُسمع السلام

الذي يبشّر بالخير

الذي يبشّر بالخلاص

الذي يقول لصهيون:

ملك إلهُك.

8 صوت حرّاسك!

رفعوا الصوت، رنّموا معاً

هم يرون بأمّ العين

عودة الربّ إلى صهيون

9 اهتفي رنّمي كلّك

يا خرائب أورشليم

فالربّ عزّى شعبه،

وافتدى أورشليم.

فعودة هذا «الإنجيل»، هذه «البشارة»، هي حضور إلهيّ ناشط يُولد من جديد: الله هو هنا، يجعلنا نحسّ بقدرته الرحيمة حين ينسى خطايانا الماضية، ويدلّ على عظمته العجيبة في خلق تاريخ خلاص جديد، كما سبق له وفعل في مصر.

ب - الرب آتٍ (آ 10 - 11)

10 ها هو الربّ الاله،

بقدرة يأتي،

وذراعه تتسلّط له.

ها جزاؤه معه،

ومكافأته أمامه (تسبقه)

11 يرعى قطيعه كالراعي،

وبذراعه يجمعه

يحمل الصغار في حضنه

ويقود المرضعات.

انقلب الوضع الذي صوّرناه، وقد تضمّنته الآيات الأولى من الكتاب: «عزّوا، عزّوا شعبي». هذا يتحقّق في أعمال، وفي واقع ملموس، بيد الله. كشف نفسه للبشر في الماضي، في تاريخ شعب خاص. وهو يكشفه الآن في تاريخهم ولا يتوقّف.

* خروج جديد (آ 10)

أعلنت آ 10 الحدث، في أسلوب موجز من خلال نداء المنادي بصوته العالي: أمّا متضمّنات الواقع التاريخيّة والدينيّة، فسوف يتوسّع فيها النصّ فيما بعد (41:17 - 20؛ 42:10 - 17؛ 43:1 - 7، 16:21؛ 44:24 - 28؛ 49:7 - 26؛ 51:9-11) ولكنّه الآن أعطى نظرة إجماليّة إلى الوضع: فالربّ نفسه الذي مضى إلى المنفى مع شعبه (حز 10:18 ي)، رجع إلى فلسطين كملك منتصر وهو يحمل أسلاب العدو، أي جميع المنفيّين الذين يرافقونه في رجوعه.

وتُذكر بوضوح الملحمة القديمة، ملحمة الخروج من مصر وما تبعها من دخول إلى فلسطين: ذراعه أخضعت له كلّ شيء. وهذا الشعب الذي امتلكهم لنفسه في مصر، فانتزعهم من المضايقة الغريبة، حرّرهم الآن من التسلّط البابليّ فصاروا له. تلك هي مكافأته على عمله: شعبه المحرّر.

* الربّ كالراعي (آ 11)

أمّا الصورة الثانية عن الربّ المخلّص فقد أُخذت من حياة البدو: الربّ هو راعي شعبه. ففي عالم الشرق، الملك هو الراعي. أمّا في العهد القديم، فرئيس الشعب وحده يحمل هذا اللقب (2 صم 5:2؛ إر 22:22؛ حز 34:1 ي). لهذا أعطيَ ليهوه الذي هو سيّد اسرائيل وربّه. ولكن لا بدّ من الإحاطة بالسمة الالهيّة الحقيقيّة التي يريد النصّ أن يعبّر عنها.

إذا جعلنا جانباً حز 34:17 - 22 وإر 33:13 حيث تسيطر فكرة الدينونة، هذا اللقب يدلّ دوماً على حبّ الربّ المتنبّه والحنون تجاه الذين هم له. فالقطيع معرّض دوماً لعضّة الجوع ولأخطار الوحوش واللصوص. فعلى الراعي أن يسهر ويبحث مسبقاً عن المراعي الخضراء والمياه الباردة. هكذا يسهر الربّ على شعبه، سهراً ناشطاً (مت 4:6؛ ار 23:3؛ أش 49:9 - 10؛ مز 23:1 ي؛ 80:1 ي).

وأدرك النبيّ هوشع أفضل إدراك طبيعة الله الحميمة. وعلى ضوء أقواله النبويّة نفهم اللغة الرمزيّة عن الربّ الراعي. لا شكّ في أنّ الله لا يمتلك طابعاً لا شخصياً ومنتقماً كما آلهة الأمم المجاورة. بل هو إله مُغرم بشعبه. يحفظ حباً لا تراجع فيه للذين اختارهم أولاً، ثمّ لجميع البشر. وما ينتظر منه أمانة في حفظ الوصايا: أن يعاملوا بعضهم بعضاً بالصدق والعدل، ويُقرّوا به الاله الواحد الحقيقيّ (خر 20:1 - 21؛ تث 5:6 - 22). وإن ضلّ القطيع وخان العهد الذي قطعه مع الربّ، لا يريد الربّ موت «الخائنة» (العروس) بل توبتها، عودتها إلى الحظيرة، لكي تحيا. تلك هي صورة الله الراعي. ليس الربّ ذاك القاضي القاسي، بل العريس الذي يحبّ عروسه، والأب الذي يتألّم حين يرى خيانة أولاده.

الخاتمة

ما نأخذه من أش 40:1 - 11 هو اليقين لمجيء الله في تاريخ شعبه، وفي تاريخ البشريّة. لقد ألزم الله نفسه بأن لا يترك هذا التاريخ يسير خارج توجيهاته منذ اليوم الذي دعا فيه ابراهيم (تك 15:1 ي) ثمّ نسله (خر 19:3 -8 ) وصولاً إلى المسيح. في الماضي، وحين رأى اسرائيل نفسه في المحنة بسبب ذنوبه، تدخّل الربّ ليعيد السلام بينه وبين شعبه ويحقّق أيضاً مواعيده.

ووسط الأزمة الحاضرة، أزمة المنفى، تأكّد النبيّ أنّ الله سوف يتدخّل أيضاً اليوم وغداً. ويكفي أن يعطي شعبه علامة توبة صغيرة، كي يتجاوب الله معه. فعمل الله ليس بالعمل السحريّ الذي يتمّ بدون الانسان. وحين نشارك الله، يشعّ الخلاصُ على الأمم في رؤوس الجبال (أش 41:13 - 14؛ 43:14 - 15). وملكوت الله لا يأتي في زمن بعيد لا يدركه الانسان، بل هو دوماً هنا، الآن، كلّ مرّة يقرّ الانسان بخطيئته ويستعدّ لأن يعمل مشيئة الربّ على مستوى العدالة والقداسة. هذا ما يجب علينا أن نحقّقه في الحقبة التي أعطيَتْ لنا أن نعيشها في الت

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM