أورشليم، مركز الكون
2:1 - 5
«يكون في الأيام الآتية». هذا النص الذي يرد أيضاً في نبوءة ميخا، يجعلنا في تقليد الصعود إلى أورشليم. هي هجمة الشعوب، لا من أجل القتال والدمار، بل من أجل التجمّع حول الربّ. في الماضي اعتادوا الحجّ وتقديم الذبائح. وذلك منذ زمن يوشيا وإصلاحه سنة 622. أمّا في هذا النصّ الأشعيائيّ، فلا كلام عن هجمة حربيّة ولا عن حجّ دينيّ. والشعوب لا تجتمع لتحاصر المدينة، ولا لتقوم بشعائر العبادة. بل هم لا يأتون للاهتداء إلى ديانة الله الواحد. ما يطلبونه هو تعليمٌ يساعدهم على اتّخاذ القرار السياسيّ: نزع السلاح وإحلال السلام. لهذا جاؤوا إلى أورشليم، إلى حيث يقيم الربّ، ليتعلّموا فن السياسة الجديد الذي فيه «لا يتعلّمون الحرب من بعد». حينئذ يستطيع الربّ أن يجيء. ونقرأ نصّ أشعيا (2:1 - 5):
1 هذا الكلام سمعه آشعيا بن آموص في رؤية على يهوذا وأورشليم:
2 يكون في الأيام الآتية،
أن جبل بيت الربّ
يَثبت في رأس الجبال،
ويرتفع فوق التلال.
إليه تتوافد جميعُ الأمم
3 ويسير شعوب كثيرون
يقولون: «لنصعد إلى جبل الربّ،
إلى بيت إله يعقوب.
يرينا طرقه فنسير في سبله.
من صهيون تخرج الشريعة،
وكلمة الربّ من أورشليم.
4 الرب يحكم بين الأمم،
ويقضي لشعوب كثيرين،
فيصنعون سيوفهم سككاً
ورماحهم مناجل
فلا ترفعُ أمّةٌ على أمّة سيفاً
ولا يتعلّمون الحرب من بعد.
5 فيا بيت يعقوب تعالوا،
لنسير في نور الربّ.
1 - سياق النصّ
بعد عنوان (آ 1، كلام أشعيا) يصحّ أن يكون مقدّمة لما في ف 2 - 4، نقرأ في ف 2 وحدتين مميّزتين. في الأولى (آ 2 - 5) موضوع كلامنا: انتصار السلام في أورشليم، مدينة السلام. في القسم الثاني (آ 6 - 22): انتصار الله الذي يحطّ تشامخ الانسان فيعرف وضعه كانسان ضعيف يحتاج إلى قدرة الله، وخاطئ لا يقدر أن يستغني عن قداسة الله.
كان عنوان أول في 1:1: رؤية أشعيا. وها هو عنوان ثان مع بعض التبديل: «الكلمة التي رآها أشعيا». هي بدت أمام عينيه بحيث يستطيع أن يقرأها. بل هو من خلال الكلمة «رأى» وجه الربّ كما في الهيكل (6:1 ي). يبدو أنّ هذا العنوان في 2:1 يقدّم عدداً من الأقوال النبويّة التي وُجدت مبعثرة قبل أن يضمّها جامعُ الكتاب في إحدى المراحل.
هي نظرة إلى المستقبل: الأيام الآتية. منذ الآن، يتطلّع النبيّ إلى البعيد، بقلب يعمر بالإيمان، فيعلن انتصار أورشليم وهيكلها. فجبل الربّ الذي لا يصل إلى ألف متر فيبدو صغيراً بالنسبة إلى حرمون، يرتفع فوق سائر الجبال، فوق التلال. يُشرف عليها، بحيث تنظر إليه نظرةَ الحسد:
لماذا، أيّتها القمم العالية،
ترصدين جبل الربّ بازدراء،
والله ارتضاه له مقاماً؟
بل إلى الأبد يسكنه الربّ (مز 68:17).
اعتادت القبائل أن تذهب كلّ منها إلى معابدها الموزّعة في البلاد. سواء القبائل الاسرائيليّة أو الاسماعيليّة أو الأدوميّة، أمّا الآن، فهناك معبد واحد اختاره الله لسكناه: هيكل أورشليم. إليه يحجّ المؤمنون ثلاث مرّات في السنة. واعتادت شعوب الشرق أن تأتي إلى القمم العالية التي هي أول موضع تطأه قدما الربّ: إلى جبل أرز الربّ جاء غلغامش. وأهل أوغاريت راحوا إلى الشمال، إلى جبل صافون، جبل الأقرع، الذي يُشرف على المدينة. وتطلّعت فلسطين إلى جبل حرمون. هو مقدّس، ويحرّم على الانسان والبهيمة الصعود إليه.
أمّا الآن فتبدّلت الأمور. لا صعود إلى حرمون ولا إلى أرز الربّ، بل لا صعود إلى جبل سيناء. فمن جبل سيناء جاء الربّ وأقام في جبل صهيون. وإلى هناك تأتي القبائل، بل الشعوب الكثيرة من جميع أقطار الأرض. يسعون للصعود ليلاقوا وجه الربّ. يشجّع بعضهم بعضاً. هم يحتاجون أول ما يحتاجون إلى التعليم. يحتاجون أن يعرفوا طريقاً يسيرون فيها، بعد أن سيطرت الحرب في كل مكان، وجاء الحديد أفتك من النحاس والبرونز: السيف يقتل بسرعة. والعربات تسحق الضعفاء الذين ليس لهم من يدافع عنهم. تعبت الشعوبُ من الحرب، فهل من يعلّمها طرق السلام؟ هم لا يتعلّمون من البشر الذين يعتبرون أن الحرب شرط لاحلال السلام. بل من الربّ. وما كان للهدم، يتحوّل للبناء. وما كان للقلع، يصبح للغرس. وما كان للموت، يصير أداة من أجل الحياة.
ويأتي النداء الأخير. قد يكون النبيّ وجّهه إلى الأمم، ثمّ وجّهه إلى بيت يعقوب. فيجب على سكّان أورشليم أن يعوا مسؤوليتهم: الشعوب أتت من أقاصي الأرض، وهم نائمون لا يتحرّكون. الشعوب الغريبة تدعو بيت يعقوب ليصعدوا أمامهم أو معهم. هنا نتذكر المجوس الذين جاؤوا يسألون عن الموضع الذي فيه يُولَد «ملك اليهود». مضى المجوس إلى بيت لحم حيث رأوا الطفل. أمّا رؤساء الكهنة وكتبة الشعب، فما تحرّكوا من مقاعدهم.
2 - قراءة النصّ
أ - في الأيام الأخيرة (2:2)
الأحداث المذكورة هنا تقع في الأيام الأخيرة (ا ح ر ي ت، أخر). في نهاية الأيام، في الآتي من الأيام، في المستقبل. ونستطيع القول: بعد عدد من الأيام. هذا لا يعني أنّه لن يكون شيء بعد ذلك. بل يكون عصر جديد، وتبتدئ حقبةٌ جديدة. نقرأ هذه العبارة تسع مرات في الأدب النبوي:
بعد ذلك يرجع بنو اسرائيل
ويطلبون الربّ إلههم
وداود يكون ملكاً لهم.
يلجأون إلى الربّ (الاله)
وإلى جوده في آخر الأيام (هو 3:5)
وفي الآتي من (آخر) الأيام
يكون جبلُ بيت الرب (مي 4: ؛ رج أش 2:2)
وفي آخر الأيام،
تتبيّنون ذلك بياناً (إر 23:20؛ رج 30:34؛ 48:47؛ 49:35).
وتصعدون على شعبي اسرائيل
كسحابة تغطّي الأرض.
يكون ذلك في الأيام الآتية،
حين أجيء بكم على أرضي
لتعرفني الأمم، فأمام عيونهم
أظهر بكم قداستي (حز 38:16؛ رج دا 10:34)
ونقرأ «ا ح ر ي ت. هـ ي م ي» في تك 49:1 (بفم يعقوب) وفي عد 24:14 (بفم بلعام) وفي تث 4:30: «وإذا نزل بكم ضيق، وأصابتكم هذه الأمور كلّها، في آخر الأيام، ترجعون إلى الربّ إلهكم، وتسمعون لصوته». هذا ما قال موسى للشعب وهو يتطلّع إلى المستقبل القريب أو البعيد. وينتهي سفر التثنية (31:29) بتحذير من موسى: «فأنا أعلم أنكم بعد موتي، ستَفسدون وتحيدون عن الطريق التي أوصيتكم بها، فينزل الشرّ بكم في آخر الأيام إذا فعلتم ما هو شرّ في نظر الرب حتى تكدّروه بأعمال أيديكم».
قالت السبعينية: «في نهاية الأيام». في الواقع، بعد عدد من الأيام. حينئذ تأتي مرحلة الخلاص الأخيرة، الزمن المسيحاني كما في أش 2:2.
في الزمن الاسكاتولوجي، في زمن النهاية، جعل النبيّ جبلَ بيت الرب يقف ثابتاً على قمم الجبال وفوق التلال. لسنا هنا أمام نظرة مثاليّة يقدّمها النبيّ فلا ترتبط أيّ رباط بالموقع الحقيقيّ لهيكل سليمان الذي هو في سفح جبل الزيتون. إذن، هذا الجبل يُشرف على المعبد. بل إن هذه النظرة المثاليّة تتسجّل عميقاً في تاريخ الديانات. فهي تجد موقعها بالنسبة إلى التقاليد الكنعانية حول الجبل، الذي هو مقام الآلهة الذي يكون في الشمال، حيث تشرق نجوم الدبّ الأكبر، ومن حيث يأتي النور. ونحن نجد آثاراً لهذا المعتقد في نصوص العهد القديم. فملك بابل المؤلّه عبّر عن اعتداده بأن يجلس وسط الآلهة على جبل جماعة الآلهة الموجود في أقصى الشمال:
كنتَ تقول في قلبك:
سأصعد إلى أعالي السماء
وأرفع فوق كواكب الله عرشي.
أجلس على جبل الآلهة
هناك في أقاصي الشمال،
وأرتقي أعالي السحاب،
وأكون شبيهاً بالعليّ (أش 14:13 - 14)
وفي أحد المزامير، امتدح أحد الشعراء جبل صهيون على أنّه الجبل الحقيقيّ في الشمال:
الربّ عظيم وله التهليل
في مدينة إلهنا، في جبله المقدس
الجميل الارتفاع وبهجة كل الأرض.
في أقصى الشمال جبل صهيون،
مدينة الملك العظيم (مز 48:2 - 3)
أمّا أش 2:2 فلا يجعل جبل الآلهة على مستوى الجبل المقدس في صهيون. فصورة أعلى قمّة يُقيم عليها الآلهة ترتبط بموضوع ميتولوجيّ لجبل سكن الاله. وكان حزقيال صدى لإشعيا حين صوّر أيضاً، في رؤية، الهيكل الجديد على جبل رفيع جداً. قال:
وفي رؤية من رؤى الليل،
جاء بي إلى أرض اسرائيل،
ووضعني على جبل شامخ جداً (حز 40:2).
ويتابع زك 14:10 فيتحدّث عن أورشليم التي ترتفع وتثبت في مكانها. فلا شيء يضاهيها. بل يصبح ما حولها سهلاً إن لم يكن وادياً.
مهما تكن الرنّة الميتولوجيّة الكنعانيّة في أش 2، ينبع من هذا النصّ أنّ الارتفاع الطبيعيّ للمعبد يدلّ على تسامٍ روحيّ. فإلى جبل صهيون تتقاطر الأمم. غير أنّ هناك جديدين في هذا القول النبويّ: أولاً، لا يبدو هيكل أورشليم فقط معبد القبائل الاسرائيليّة، بل موضع تجمّع الوثنيين. ثانياً، يؤكد النص على الطابع الشموليّ لديانة الربّ، بحيث تغيب الخصوصيّة اليهوديّة.
2 - يسير شعوب كثيرون (2:3)
فإلى جبل صهيون تأتي الشعوب كما في حجّ، في الفرح. ويشجّع الحجّاجُ بعضُهم بعضاً فيقولون: «تعالوا نصعد إلى جبل الربّ، إلى بيت إله يعقوب». استعاد النبيّ هنا بعض الكلمات من بداية نشيد المراقي أو الصعود إلى المدينة وإلى الهيكل:
فرحتُ بالقائلين لي
إلى بيت الربّ نذهب.
تقف أقدامُنا هناك،
في أبوابك يا أورشليم (مز 122:1 - 2)
ولكن يجب أن نلاحظ عبارة «إله يعقوب» في سياق الكلام عن حجّ الأمم إلى أورشليم. لا يقول النبيّ إنّ الشعوب تأتي إلى صهيون لتلتقي بإيل عليون (الاله العلي) الذي دعاه ملكيصادق (تك 14:18، 22)، والذي هو إله كنعان القديم. ولا لتلتقي الربّ الملك (مز 48:3) الذي رآه النبيّ في الهيكل (6:1 ي). كلا. هم لا يأتون إلى أورشليم لأنّه موضع قديم فيه كانت العبادة الكنعانيّة، بل ليجدوا فيه إله يعقوب. أي إله القبائل الذي دلّ على قدرته من خلالها. بهذه العبارة، أراد النبيّ أن يُبرز شرعيّة المعبد المشترك لدى القبائل التي أقامت في المدينة اليبوسيّة (يبوس هو اسم أورشليم قبل أن يحتلّها داود، 2 صم 5:6).
والأمر الجديد في حجّ الأمم هذا يكمن في غيابٍ تامٍ لتقادم المؤمنين. إذن، لسنا بالدرجة الأولى في حجّ يتوخّى الاحتفال بشعائر العبادة. فيجب أن نشدّد كيف أن النظرات التي يُعبّر عنها هذا القول النبويّ، تختلف عمّا في مقطع آخر من نبوءة أشعيا نقرأه في 18:7.
في ذلك الزمان،
تقدّم عطايا لربّ الأكوان
ويحملها الشعب الطوالُ الجرد،
الشعب الذي يهابه القريبُ والبعيد
الأمّة القوية الجبّارة الخطى،
التي تقطع الأنهار أرضها،
إلى مقام اسم الربّ القدير،
في جبل صهيون.
يتحدّث النبيّ الذي أعاد قراءة أشعيا في خط 2:2، عن أهالي النوبة (أفريقيا)، الذين يهتدون إلى الربّ، ويقدّمون التقادم الذي تقدّمها قبيلة يهوذا في أورشليم. ثمّ، لا تجيء هذه الأمم من أقاصي الأرض لتنذر للربّ نذراً:
انذروا وأوفوا للربّ إلهكم،
قدّموا هدايا للاله المهيب،
يا جميع الذين حوله (مز 76:12).
كما لا تجيء لتمتدح الربّ كما في مز 96:7 (قدّموا للربّ مجداً وعزة)؛ 122:4 (ليحمدوا اسم الربّ، حسب فرائضه لهم). كلهم جاؤوا ليحتكموا إلى الربّ، ويخضعوا لسلطانه، ويستنيروا بأنواره (رج مز 7:9). في هذا المعنى نفهم ألفاظاً تفوَّه بها الحكماء: الطريق، السبيل. وهكذا لا يشدّد أش 2 على نعمة (وبركة) ترتبط بالحج، بل على تعليم جاء الناس يطلبونه. وطبيعة هذا التعليم تتوضّح في آ 3: «فمن صهيون تخرج الشريعة، وكلمة الربّ من أورشليم».
هذا ما يدلّ عليه التوازي بين الشريعة (ت و ر ه) والكلمة (د ب ر). فالشريعة هي قول من عند الربّ. وهي في تث 17:11 قولة يتلفّظ بها الكهنة حين يكون خلافٌ يُعرض عليهم. أمّا هنا فاللفظ يتخذ معنى عاماً، فيدلّ على التعاليم والمبادئ الخلقيّة من خلال قرار الكهنة. هذا دون أن ننسى الوجهة القانونيّة كما في آ 4: يحكم بين الأمم، يقضي للشعوب.
ج - الربّ يحكم بين الأمم (2:4 - 5)
لجأت الأمم إلى سلطة الهيكل لتجد من يحكم بينها في خلافاتها. هذه النظرة الاسكاتولوجيّة ليست مجرّد مثال، ولا هي بدون أساس في واقع الأمور. بل هي تتسجّل حقاً في نظام لم يكن حكراً على هيكل أورشليم. ففي معابد الشرق القديم، كانوا يقدّمون الأقوال العرافيّة حول هذه المحاولة الحربيّة أو تلك. ذاك كان وضع دلفوي في اليونان، كما يروي هيرودوتس (1:53 - 55)، ومعابد كثيرة في الشرق. يكفي أن نذكر الحدث الذي فيه اضطُهد ميخا بن يملة حين قال الحقيقة لآخاب (ملك اسرائيل) ويوشافاط (ملك يهوذا. يسأل الأنبياء: «أأذهب إلى راموت جلعاد للقتال أم لا»؟ فأجابوا: «اذهب، لأن الربّ يسلمها إلى يدك» (1 مل 22:6).
وهذه النظرة إلى دور الله كالديّان الذي يقضي في الأرض، ليست منعزلة في العهد القديم. فنحن نقرأها في الأقوال الموجّهة على الأمم لدى النبيّ عاموس: «زأر الربّ من صهيون، من أورشليم أسمع صوته» (عا 1:2). وسوف يقول يوء 4:16 في المعنى ذاته:
يزأر الربّ من صهيون،
ومن أورشليم يطلق صوته،
فترتعش السماوات والأرض،
ويكون الربّ حمى لشعبه.
وتحكيم الرب الذي يخضع له الشعوب. يُوقف الحرب بين الأمم. وقد عبّر النبيّ عن هذه النظرة من خلال الصور: يتحوّل العتاد العسكريّ إلى عتاد سلم من أجل زراعة الحقول. ذاك هو «العصر الذهبيّ» الذي تحدّثت عنه الشعوب القديمة. تجاوز قولُ أشعيا منظار هو 2:20:
وأقطع لها (= العروس) عهداً
في ذلك اليوم،
مع وحش البرية وطيور السماء
وزحافات الأرض،
وأكسر القوس والسيف
وأدوات الحرب
وأجعلها تنام في أمان.
كما تجاوز زك 9:10 الذي جاء في وقت متأخّر:
سيقضي على مركبات الحرب
في افرائيم،
والخيل وأقواس القتال
في أورشليم
ويتكلّم بالسلام للأمم،
ويكون سلطانه من البحر إلى البحر،
ومن النهر إلى أقاصي الأرض.
يتوقّف هذان النبيّان عند دمار عتاد الحرب في البلاد. أمّا قول أشعيا فيرتدي الشمولية، ويجعلنا في زمن النهاية، في الاسكاتولوجيا. وينتهي هذا المقطع الأشعيائي بنداء يُطلقه النبيّ إلى بيت يعقوب، أي إلى شعب اسرائيل نفسه «ليسيروا في نور الربّ». هذه الطريقة في الكلام عن الربّ، تحمل معناها فيها، ونحن نقرأها في 10:17:
ويكون نور اسرائيل ناراً،
وقدّوسهم لهيباً
فيحرق شوكَهم في يوم واحد،
ويأكل عوسجهم.
وكما تقول آ 3: تصعد الأمم إلى بيت إله يعقوب «لتسير في طرقه». فمن الطبيعيّ إذاً أن يقدّم الربّ على أنّه نور الحجّاج، ولا سيّما أبناء الشعب المختار، الذي يتلقّى دعوة خاصة بأن يسير في نوره. ذُكر موضوع الله النور أكثر من مرّة في المزامير (97:11؛ رج 27:1؛ 37:6). ويسوع سمّى نفسه نور العالم بحيث إنّ من يتبعه لا يمشي في الظلام، بل يكون له نور الحياة (يو 8:12).
الخاتمة
بعد أن نجد الإطار الذي قيل فيه هذا النصّ النبويّ، نطبّقه على حياتنا المسيحيّة.
إنّ الحجّ الذي يشير إليه أشعيا هو حجّ عيد المظال (أو: الأكواخ). لا يوضح أشعيا هذا الأمر، ولكن زكريا يتطلّع إلى هذا العيد الذي فيه «يأتي جميع الناجين من الأمم إلى أورشليم» (زك 14:16). وذلك ليسجدوا أمام الملك، ربّ الأكوان. هذا العيد الشعبيّ عيد منفتح على شعوب الأرض. هو يختلف عن عيد الفصح الذي يُزعج المصريين في عبادتهم للاله الكبش «كنوب». وعيد المظال عيد الفرح الذي يشبه أعياد ديونيسيوس مثلاً التي كانت تتمّ في الخريف، أي في زمن القطاف. وهكذا يقع العيد «اليهوديّ» والعيد «الوثنيّ» في الوقت عينه. ويقول تث 16:14: الغريب يستطيع أن يشارك في عيد المظال، لا في عيد الفصح.
وقد يكون أشعيا أو أحد تلاميذه (وهذا هو الأصحّ) قد شهد هذا العيد الشعبيّ الذي فيه يصعد الحجّاج إلى أورشليم، سنة بعد سنة، فاستشفّ من أجل الحقبة الاسكاتولوجيّة، تجمّعاً كبيراً للشعوب في أورشليم التي صارت المدينة العاصمة للبشريّة كلّها فلعبت دور التطهير بحيث لا يدخل أيّ نجس إلى المدينة المقدّسة. في زك 14:17 جاءت الشعوب في عيد المظال لكي تطلب من الربّ الاله ماء السماء من أجل غلاّتها الآتية. فطقس استسقاء الماء، الذي فيه كانوا يمضون إلى عين سلوام فيأتون بالماء ويصبّونه أمام مذبح الربّ، كان يُمارس كل يوم في طقوس العيد. وشدّد رابي عقيبة (+ 135 ب م) على معنى هذا الطقس الذي يتوخّى نوال المطر: «احملْ سكيبَ الماء في عيد المظال، بحيث تكون القطرات بركة لك. فالذي لا يأتي إلى عيد المظال، لن يكون له مطر».
ولعبت الأنوار دوراً كبيراً في عيد المظال، بحسب شهادة متأخّرة، شهادة المشناة (القرن 2 ب م) في سوكه: «ما من رواق في أورشليم إلاّ وأنار ضوء المصباح». ولكن لا شيء يمنع أن تكون العادة قديمة. ففكرة الربّ نور شعبه في نهاية أش 2:1 - 5، قد يكون مصدرها ليتورجية العيد. أمّا استفاد يسوع من عيد المظال ليدلّ على هويّته، أنا نور العالم؟
أجل، يسوع هو النور الذي ينير كل انسان أتى إلى العالم بنور جديد، وهو يتفوّق على هيكل أورشليم (يو 2:13 يا). أمّا الهيكل الذي بناه، الكنيسة، فيستطيع أن يلعب دور الحكَم بين شعوب الأرض المختلفة، فيوحّدها في حبّ السلام الذي لا يمكن أن يأتي إلاّ من الله.