تقديم
«اسمعي أيتها السماوات». هكذا يبدأ سفر أشعيا، فيستشهد الله بفم نبيّه، السماوات والأرض. هو في محاكمة مع شعب اختاره لكي يحمل اسمه. مع أهل أورشليم وسكّان يهوذا. السماوات تستعدّ أن تسمع، والأرض أن تصغي لكلام الربّ. أمّا مملكة داود، فلا. الثور عرف ذاك الذي اقتناه واهتمّ به. والحمار شكر صاحبه الذي أمّن له الطعام، «أمّا بنو اسرائيل فلا يعرفون، وشعبي لا يفهم شيئاً» (1:3).
ونحن اليوم، نودّ أن نقرأ نبوءة أشعيا، سواء كتبها هو نفسه أو تلاميذه. نتأمّل في كلماتها التي تتجاوز شخصاً من الأشخاص مهما كان دوره كبيراً في حمل كلمة الله. وهي كلمات تتجاوز شعباً من الشعوب مهما ارتفع مقامُه في تهيئة طريق الرب وميلاد المخلّص يسوع المسيح.
كلام الربّ قيل في الماضي، لأنّه ارتبط بأحداث من تاريخ البشر. ولكنّ كلام الربّ حاضر دوماً. سمعه معاصرو أشعيا، وسمعه أبناؤهم سحابة 200 أو 300 سنة وأضافوا إليه، وأعادوا صياغته. ونحن نسمعه اليوم وكأنه دوّن من أجلنا. فكلام الله الذي نحصره في زمن معيّن وفي أرض معيّنة وفي لغة محدّدة وفي أشخاص دون سواهم، مثل هذا الكلام لا يدلّ على حضور الله في العالم. بل يجعل منه صنماً يخصّنا دون سوانا، وكلامه لنا لا لغيرنا. ما عاد الانسان يرتبط بالله، بل أراد أن يربط الله به ويجعله «خادماً» لمآربه وبغضه واستغلاله للآخرين.
كلا ثمّ كلا. كلام الله هو هو أمس واليوم وإلى الأبد. ولهذا أردنا أن نتأمّل في نصوص أشعيا. نقرأ النصّ وقد سعينا إلى سرد النصوص العديدة بحيث لا يعود الكتاب المقدّس باتّساعه الذي يتجاوز الألفي صفحة، مغلَقاً علينا، فنخاف ولوجَ معانيه العميقة.
ما كتبه أشعيا أو قاله، وجَّهه إلى معاصريه في النصف الثاني من القرن الثامن. على المستوى الخارجيّ، هي الحرب تهدّد أورشليم كما تجتاج مدن يهوذا فلا تترك نوراً في بيت ولا زرعاً في حقل. ما كان ردُّ أشعيا؟ النور آتٍ والأمل لم يَعُد بعيداً. وعلى المستوى الداخلي، هو ظلم يحسّ به الفقراء الذين يصبحون معوزين في أرضٍ يريدها الرب لجميع أبنائه. يضمّ الأغنياءُ حقول المساكين إلى حقولهم، كما فعل أخاب بكرم نابوت اليزرعيلي. ويستولون على بيت شخص استدان منهم بعض المال فما استطاع أن يفيه. فتدخّل أشعيا بقساوة: ويل للذين يضمّون بيتاً إلى بيت، ويل للذين يدعون الشرّ خيراً والخير شراً. وأراد هؤلاء أن يحملوا الذبائح والتقادم لكي «يكفّروا» عن خطاياهم. فكان الجواب: «إن بسطتم أيديكم للصلاة أحجب عينيّ عنكم، وإن أكثرتم من الدعاء لا أستمع لكم» (1:15).
والموقف الذي نأخذه: الله هو القدوس، ويَطلب من أورشليم القداسة. الله هو القدير، ويدعو المؤمنين إلى الثقة به رغم جميع المظاهر. فماذا ينتظرون لكي يعودوا إليه؟ أمّا تعلّموا بعدُ من الأحداث أنّ يد الرب هي التي تعمل، أنّ فمه يتكلّم، أنّ قلبه يحبّ ويستعدّ أن يغفر فيطهّر شعبه بجمرة يرسلها عن مذبحه؟
أمّا نحن فنقرأ، ونتأمّل، ونتعلّم. ولا نسمح بأن يكون كلام النبي هذا علماً يضافُ إلى علم، بل نداء يتوجّه إلى كل واحد منا كما توجّه إلى أشعيا. قال الرب: من أرسل؟ من يكون لنا رسولاً (6:8)؟ فأجاب أشعيا: «ها أنا فأرسلني». يا ليت هذا الكلام يكون جواب كلِّ واحد من