الفصل التاسع عشر: جدعَون والأدب اليهودي القديم


الفصل التاسع عشر
جدعون والأدب اليهودي القديم


انطلق سفر القضاة من عناصر تاريخيّة هامّة، فقدّم »ملحمة« أرادت أن تبرز تعليمًا دينيٌّا: عبدَ اسرائيلُ الأصنام، فعاقبه اللّه وأرسل إليه الأعداء يستعبدونه. فصرخ الشعب، فأرسل اللّه لهم مخلّصًا يحمل إليهم التحرير. أمّا المخلّص الذي نتحدّث عنه الآن، فهو الخامس بين القضاة الاثني عشر. وكما فعلت البيبليا، كذلك فعل التقليد اليهودي، فأبرز التعليم الدينيّ في حياة جدعون. أمّا نحن فنتوقّف عند أربع محطّات: الوضع في الشعب قبل جدعون، أصول جدعون، ظهور الملاك والذبيحة، محنة الجزّة واختيار المقاتلين.
1- وضع الشعب قبل جدعون (قض 6: 1-6)
»وعمل بنو إسرائيل الشرّ في عينيّ الربّ، فأسلمهم إلى قبيلة مديان«. ذاك هو وضع الشعب قبل أن يتدخّل جدعون البطل ويحمل الخلاص إلى المضايَقين. ولكن الربّ لا يعاقب حتّى النهاية، بل هو من يرحم، كما قال نشيد دبّورة (قض 5).
قال رابي أبا بن كَهانا باسم رابي يهودا بن الفاي: كُتب قبل النشيد (قض 4:1): »وعاد بنو إسرائيل فعملوا الشرّ«. وبعد النشيد قيل فقط (قض 6:1) »وصنع بنو إسرائيل الشرّ«. هل كان ذلك للمرّة الأولى؟ كلا. ولكن النشيد محا كلّ ما سبق (نش ربه 4:2).
هذا الانقطاع في الخطيئة لَم يمنعه من العودة بشكل عبادة أوثان (قض 3:7). فحسب كتاب العاديات الذي نُسب إلى فيلون، انجذب بنو إسرائيل بسحر شخص اسمه عود وهو كاهن وساحر مدياني. هذا أراد أن يبيّن أن التوراة لا نفع منها، فجعل الشمس تظهر في ملء الليل. هذا أمر يسمح به اللّه ليعرف عمقُ محبّة شعبه له:
دُهش الشعب وقال: »هذا ما يستطيع أن يفعل آلهة مديان، ونحن ما كنّا نعرف«. لقد أراد اللّه أن يمتحن إسرائيل ويرى إن هو ظلَّ في آثامه. تركهم يفعلون وسارت المغامرةُ مسيرتها: ضلّ الشعب وأخذ يعبد آلهة المديانيّين (34: 1-5).
هذا الشِرك ارتدى شكلاً خاصٌّا في الهاغادا (أو أخبار) المعلّمين، حيث نعرف أن بني إسرائيل عبدوا صورتهم الخاصّة كما انعكست في الماء. من جرَّاء هذا الجحود، كان العقاب الإلهيّ:
قال اللّه: أسلمهم إلى أيدي المديانيّين، لأنَّهم بأيدي المديانيّين ضلّوا«. فسلّمهم إلى أيديهم، وبدأ المديانيّون يستعبدون بني اسرائيل.
ويقول المؤرّخ يوسيفوس إن المديانيّين كانوا أصحاب حيلة: كانوا يمارسون السلب والنهب فقط في الصيف، ويتركون بني إسرائيل يفلحون حقولهم في الشتاء، ويأخذون هم المحاصيل في الوقت المناسب (العاديات 5: 213). وأبرز المعلِّمون إبرازًا الخرابَ الذي خلّفه بنو مديان. وبدأوا فبيّنوا أن مديان هو، مع عماليق، العدوّ التقليدي لاسرائيل. فقاربوا بين قض 6: 3، 33 و7: 12، حيث رأينا شيوخ موآب ومديان يطلبون من بلعام لكي يلعن إسرائيل (خر ربه 27: 5 حول خر 18: 1). واجتياح الأعداء للأرض كان ثقيلاً (قض 6: 1-2)، فذُلَّ بنو إسرائيل (قض 6: 6) فما عادوا يقدرون أن يقدّموا الذبيحة الخاصة بالفقراء (لا 14: 21؛ مدراش مز 106: 43).
ما معنى: »تشوّهوا في ذنبهم« (مز 106: 43)؟ هذا يعني أنّهم صاروا فقراء وسط شعوب العالم، لأنّه قيل (قض 6: 6): »وافتقر إسرائيل جدٌّا بسبب مديان«. ما معنى: »افتقر اسرائيل«؟ اختلف رابي اسحق ورابي لاوي في هذه النقطة. قال الأوَّل: »كانوا فقراء في الأعمال الصالحة«. وقال الآخر: »لم يكن لهم ما يقدّمونه ذبيحة حسب ما نقرأ في لا 14: 21: »فإن كان فقيرًا ولم يكن له...«.
بهذا العقاب ظهر اللّه منطقيٌّا مع الالتزامات الموجودة في التوراة، حيث ازدهار الشعب يرتبط باستقامته (تت 11: 13-17). ولهذا فالمدراش الذي يشدِّد على صيغة المخاطب »قمحك، خمرك، زيتك« (أنت)، يُبرز التعارض بين هذه الكلمات وقض 6: 3، حيث أفلتت محاصيلُ الأرض من يد بني إسرائيل وصارت بيد الأعداء، مع أنّ هذه الأقوال تتوافق مع أش 62: 8-9: »لن أعطي حنطتك طعامًا لأعدائك« (سفري تث 42).
ونستطيع أن نعود إلى الوراء، أبعد من زمن القضاة، إلى زمن إقامة الشعب في كنعان، ساعة وهب الربّ لبني إسرائيل كلّ ما يمتلكون من فضّة وذهب وحقول وكروم ومدن، لكي يتفرّغوا لدراسة التوراة. أخذ الربُّ هذا الغنى من شعوب العالم وأعطاه لشعبه. ولكن شعبه نجّس الأرض بسلوكه السيِّئ:
نجّسوها بحرم عاكان (يش 7)، فهكذا كُتب: »دخلتم فنجَّستم أرضي« (إر2: 7). هذا يعني: بحرم عاكان. »وجعلتم من ميراثي رجسًا« (إر 2: 7). هذا يعني صنم ميخا (قض 17). وماذا فعل لهم القدّوس تبارك (اسمه): نفاهم من أرضهم، لأنّه قيل (تث 29: 27): »فاقتلعهم الربّ من أرضهم«. ما معنى »اقتلعهم«؟ هذا يعني أن قوّتهم ضعُفت: كانوا يزرعون ويتعبون، فتأتي شعوب الأرض وتأخذ غلاّتهم، لأنّه كُتب (قض 6: 3-4): »وكانوا إذا زرعوا يصعد إليهم المديانيون والعماليقيّون وأهل الصحراء ويهاجمونهم. كانوا يخيّمون على أرضهم ويُتلفون غلّة الأرض« (تنحومة قدوشين).
2- أصول جدعون (قض 6: 11)
كان جدعون ابن يوآش من عشيرة أبيعازر (قض 6: 11) من قبيلة منسى (قض 6: 15). إذن، تحدّر من يوسف، وبه من يعقوب وراحيل (تك 30: 22-24). لهذا، كانت مكانته كبيرة مع الأبطال الذين جعلوا ليئة وراحيل مشهورتين:
أعطى اللّه كلاٌّ منهما ليلتين: ليلة فرعون (خر 12: 29) وليلة سنحاريب (2 مل 19: 35) لليئة، وليلة جدعون (قض 7: 9) وليلة مردخاي لراحيل كما قيل (اس 6: 1): »في تلك الليلة، ما استطاع الملك أن ينام«.
وننتقل من راحيل إلى يوسف. أورد الكتاب أن إخوته سمعوا خبر أحلامه فرأوا فيه الطموح، وطرحوا عليه الأسئلة التالية: هل تملك حقٌّا علينا؟ أو هل تمارس حقٌّا السلطة علينا (تك 37: 8)؟ هذا التكرار له معناه في نظر من يتنبّه إلى أقلّ التفاصيل في النصّ: يعني ملكين، يربعام وياهو، وقاضيين، يشوع وجدعون اللذين يكونان من نسل يوسف.
كان يشوع من بني إفرائيم (عد 13: 18). لهذا كان توازٍ بينه وبين جدعون، انطلاقًا من بَركة يعقوب. حين أعلن أبو الآباء: »الملاك الذي خلّصني من كلّ شرّ يبارك هذين الغلامين«! (تك 48: 16)، فهذه الأقوال أشارت إلى يشوع وجدعون. فكلاهما تحدَّرا من يوسف، وكلاهما نعما بظهور ملائكيّ (بش 5: 13-14؛ قض 6: 12). ولفظُ غلام (ن ع ر) الذي نقرأه في تك يوافق عمر هذين البطلين حين قاما بما قاما به من أعمال. وحين أضاف يعقوب: »يُدعى عليهما اسمي«، لمّح إلى ظهور الملاكين اللذين نعم به يشوع وجدعون بسبب خر 23: 31 حيث يعلن الله عن الملاك الذي يقود إسرائيل: »لأن اسمي عليه«.
ونعرف أيضًا أن افرائيم وهو الابن الثاني (لا البكر). نال البركة قبل منسّى، رغم معارضة يوسف (تك 48: 17-20). شرحُ هذا الأمر غير العاديّ هو تاريخيّ ويدلّ على عناية اللّه. لهذا قال المدراش في معرض شرحه لما في جا 12: 11: »كلمات الحكماء كالمناسيس«.
لا نقرأ »المناسيس« بل »حين التفوّق« (ك. د. ر ب ن ر ت). حين قرّر يعقوب أن يكون التفوّق لافرائيم، جعل القدوس تبارك (اسمه) كلمته ثابتة مثل مسمار يغرز جيدًا، وقال: بما أن يعقوب قرّر أن يكون افرائيم الأول، فأنا من جهتي أهبه الأولويّة في كلّ شيء: فيما يخصّ القضاة والأعلام والملوك والتقدمات. وفيما يخصّ القضاة، هناك أوّلاً يشوع الذي كان قاضيًا وقيل عنه في عد 13: 8: »من قبيلة افرائيم، يشوع بن نون«. وبعد ذلك أتى جدعون بن يوآش الذي كان من قبيلة منسّى (عد ربه 14: 4 حول عد 7: 48).
ونجد اللائحة عينها بالنسبة إلى الأعلام (عد 2: 18، 20) والملوك (يربعام قبل ياهو) والتقدمات حين تكريس الهيكل (عد 7: 48، 54). أمّا بالنسبة إلى الأعلام، فعَلمُ منسّى الذي يُنبئ بالحروب والانتصارات التي يحوزها جدعون:
على علم قبيلة منسّى نُسج رُغُم، في عودة إلى النصّ: وقرناه قُرنا رغم. رُغُم تلك هي ألوف منسّى« (بت 33: 17). هذا ما يشير إلى جدعون بن يوآش الذي كان من قبيلة منسّى.
هذا التفسير يستند إلى مباركة موسى لبني يوسف: »فآلاف منسّى« موجودة في تاريخ إسرائيل، ساعة انتصر جدعون على زباح وصلمناح اللذين كان جيشهما 135000 مقاتل حسب قض 8: 10-11. هذا ما نجده في ترجوم نيوفيتي حول تث 33: 17:
كما أنّه يستحيل أن نفلح مع أبكار البقر وأن نستعبد قرني الرغم، هكذا يستحيل أن يُستعبَد بنو يوسف. سيُرفعون ويعظَّمون، ويتفوّقون على كلّ أمم الأرض، حين يخرجون من القتال على أعدائهم وعلى خصومهم فيقتلون الملوك والأمراء: مثل ربوات الأموريين الذين قتلهم يشوع بن نون الذي كان من قبيلة افرائيم، وآلاف المديانيّين الذين قتلهم جدعون بن يوآش الذي كان من قبيلة بني منسّى.
3- ظهور الملاك والذبيحة (قض 6: 11-24)
إن يوسيفوس الذي لا يذكر شيئًا ممّا يقابل قض 6: 17-40، يترجم بطريقته التدخّل العلويّ الذي به يبدأ خبر جدعون: لم يعد الرسول الإلهيّ ملاكًا كما يقول الكتاب، بل خيالاً له منظر شاب (العاديات 5: 213). ثم يعلن جدعون بعد التحيّة: »حقٌّا، هي علامة مميّزة عن رضاه أن استعمل معصرة بدلاً من بيدر« (4: 213). فغرابة المكان تدلّ على أمر حسن. وردّة الفعل الضعيفة لدى جدعون (قض 6: 15)، هي دلالة على المستوى الخلقي للمدعوّ:
قال جدعون: من أنا وما هو بيت أبي لكي أمضي وأهاجم المديانيّين؟ فقال له الملاك: قد تظنّ أنّ طريق اللّه تشبه طريق البشر. البشر يطلبون مجد العالَم وغناه، واللّه الخيرَ والصلاح. والآن، شدّ حقويك والربّ يكون معك. فأنت من اختارك لتنتقم من أعدائه كما أمرك« (كعب 35:5).
مع أنّ هذه الكلمات تشير إلى صموئيل حين مسح داود، إلاّ أنّ التشديد ليس على الضعف (مع أنّ جدعون ليس بالعظيم على المستوى الاجتماعي) بل على الإنسان البار. لهذا، نعذره إن هو طلب علامة تؤكّد له الحضور الإلهيّ (قض 6:17). فموسى فعل مثله (خر 3:12-11). هذا ما نكتشفه في صلاة جدعون:
لا يغضب سيّدي إن قلتُ كلمة (تك 18:30). فها موسى، أوّل جميع الأنبياء، قد طلب من الربّ علامة فأُعطيتْ له. وأنا من أنا سوى ذاك الّذي اختاره الربّ؟ ليُعطِني علامة لأعرف أنّه يقودني (كعب 35:6).
»وأتى ملاك الربّ وجلس تحت البطمة« (قض 6:11). هنا يُذكر يهوه صباؤوت. إن كان اللّه قد دُعي بهذا الاسم في النص الملهم، فلأنّه يحقّق مشيئته وسط الملائكة، حين يرغب في ذلك، ويُجلسهم، لأنّه كُتب (قض 6:11): »وجاء ملاك الربّ«. ومرّات يجعلهم معًا، لأنّه قيل في اش 6:2: »وقف فوقه السرافيم«. وأيضًا في زك 3:7 »أعطيك مسالك بين الواقفين هنا«. بعض المرّات يظهرون بشكل امرأة لأنه قيل (زك 5:9): »وإذا بامرأتين خرجتا والريح في أجنحتهما« (خر ربه 25:2 حول خر 16:4).
وبسبب كلام الملاك: »الربّ معك أيُّها الجبّار«، تماهى جدعون مع داود الّذي نسب كلّ انتصاراته إلى قدرة اللّه. بما أنّ اللّه مع جدعون، فقد تعلّم فنون الحرب وانتصر على أعدائه. هنا نقرأ حاشية عن مز 144:1: »مبارك الربّ صخرتي، علّم يدي القتال وأصابعي الحرب«.
ما كنتُ أعرف فنّ الحرب، ولكن اسم القدُّوس (ليكن مباركًا) علّمني. وهكذا قال شاول لداود (ام 17:37): »اذهب، ليكن الربّ معك«. ونقرأ أيضًا في قض 6:12: »الربّ معك أيُّها الجبّار«.
أوّل ردّة فعل عند جدعون، هي أنّه نسي نفسه وتطلّع إلى شعبه فقال: »إن كان الربّ معنا (نحن) فمن أين يأتي ما يحصل لنا«؟ الربّ الّذي خلّص شعبه من عبوديّة مصر، أتراه نسي شعبه؟ وتقول الأخبار إنّ الربّ نادى جدعون ليلة الفصح، وذلك بعد أن تلفّظ بالأقوال التالية:
أين هي كلُّ عجائبك؟ أين هي المعجزات الّتي أجراها اللّه لآبائنا في تلك الليلة، حين ضرب أبكار المصريّين وأخرج إسرائيل بقلب فرح؟ (قض 6:13). في هذا المجال يقول راشي: »ليلة أمس دعاني أبي لأتلو الهلال، وسمعت كيف خرج إسرائيل من مصر«. وبما أنّ جدعون رافع هكذا عن قضيّة إسرائيل، قال له القدُّوس تبارك (اسمه): يجب أن أتجلّى له في مجدي... والقدُّوس تبارك اسمه قال له: بما أنّك تشجّعتَ ورافعتَ عن قضيّة إسرائيل، فبك سوف يخلص.
وهناك من ينسب إلى رابي يهودا ابن رابي شلوم هذه الحاشية:
في أيّام جدعون، كان إسرائيل في ضيق. رغب القدُّوس، تبارك (اسمه) أن يجد من يرافع عنه، فما وجد، لأن هذا الجيل كان فقيرًا بالطاعة للوصايا وبالأعمال الصالحة. فما إن وجد اللّه في جدعون من هو أهل ليرافع عن قضيّة إسرائيل حتّى ظهر له الملاك، لأنّه قيل (قض 6:14): »وجاء إليه ملاك الربّ وقال له: »امضِ بهذه القوّة الّتي هي قوّتك«، أيّ بقوّة الاستحقاق الّذي نلتَه حين رافعتَ عن قضيّة أبنائي.
وننهي هذا القسم بكلام عن تواضع جدعون وذلك في تفسير مز 22:7: »وأنا دودة لا إنسان«.
هكذا يمنح القدُّوس تبارك (اسمه) الأبرار العظمة، ساعة يعتبرون نفوسهم كلا شيء. قال إبراهيم (تك 18:27): »أنا تراب ورماد«. وقال موسى وهرون (خر 16:7): »من نحن«؟ وقال داود (مز 22:3): »أنا دودة لا إنسان«. وقال شاول (1 صم 9:21): »أنا من بنيامين أصغر قبائل إسرائيل«. وقال جدعون (قض 6:14): »أنا الأصغر في بيت أبي«. أمّا الأشرار فيتكبّرون حين يمنحهم اللّه العظمة. والشاهد هو فرعون (خر 5:2) وجليات (1 صم 17:10) وسنحاريب (2 مل 18:35) ونبوخذ نصر (دا 3:15) وبلشصّر (دا 5:23) وحيرام ملك صور (حز 28:2
4- محنة الجزة واختيار المقاتلين
أ- محنة الجزة (قض 6:40-33
إنّ الشرط الّذي وضعه جدعون في 6:37 يوافق تث 13:2: »إذا قام في وسطك نبيّ أو حالِم حلمًا وأعطاك آية أو أُعجوبة«.
إن أعطاك آية في السماء، حسب الكتاب (تك 1:14): »لتكن آيات«. أُعجوبة على الأرض، حسب الكتاب (قض 6:37): »إذا سقط الندى على الجزّة وحدها وكان على الأرض حولها جفاف«.
ونورد هنا دور اللّه في الضربات الّتي تصيب البشر:
أخذ جدعون يمتحن اللّه بالجزة، لأنّه كُتب (قض 6:39): »دعني أُجرّب هذه المرّة بجزّة الصوف«. وكُتب: »ليكن هكذا« (قض 6:38). في هذا المقطع لا يضمّ القدُّوس اسمه. قال: العالَم كلّه يكون في ضيق وأنا ألا أضمّ اسمي؟ فقد كُتب (مز 5:5): »لستَ إلهًا يرضى بالشرّ فتستقبل الشرّير لديك«. ولكن حين طلب جدعون (قض 6:39): »ليكن على الجزّة وحدها جفاف«، قال القدُّوس تبارك (اسمه): بما أنّ الندى يسقط والناس يبتهجون، أضمّ اسمي لأنّه قيل (قض 6:40): »فصنع اللّه هكذا في تلك الليلة«. وكذلك حين تنبّأ إرميا بكلام تعزية، ضمّ إليها اللّه اسمه، لأنّه قيل (إر 2:2): »هذا ما يقول الربّ: أَذكُر من أجلك تقوى صباك«. ولكن حين قال إرميا أقوال توبيخ، كُتب (إر 1:1): »كلمات إرميا«. ونقول الشيء عينه عن موسى: ساعة كانت الخطب تتوالى مع »وكلّم اللّه موسى«... حين تدخّل اللّه لكي يوبِّخ، كُتب (تث 1:1): تلك هي أقوال موسى...
ونقرأ أيضًا في هذا الإطار:
قال القدُّوس تبارك (اسمه) لجدعون: قرّرتُ أن »أكون ندى لإسرائيل« (هو 14:6). وأنت تقول (قض 6:37): »ليكن جفاف على كلّ أرض إسرائيل«. هل هذا يكون حقٌّا؟ كلا، لن أفعل هكذا. فما كُتب في هذا المقطع: »وصنع اللّه كذلك«، بل: »كان كذلك« (قض 6:37): هذا حصل في ذاته. ولكن حين قال جدعون (قض 6:39): »ليكن جفاف على الجزّة وحدها«، نقرأ ما يلي (6:4): »وصنع اللّه كذلك في ذاك اليوم«. لماذا؟ لأنّه كُتب: »أكون ندى لإسرائيل«.
ب- اختيار المقاتلين (قض7:8-1
تتميّز نسخة يوسيفوس حين يتكلّم عن تجنيد الجيش للحرب بعدّة أُمور. في الاختيار الأوّل، أُبعد الخائفون (قض 7:3). هذا ما لَم يقله يوسيفوس، بل أضاف تفصيلا: حين روى جدعون خبر الجزّة انضمّ إليه عشرة آلاف مقاتل واستعدّوا للقتال. هذه الحاشية الدفاعيّة والبنّاءة تسبق خبر ظهور إلهيّ في الحلم حيث اللّه.
كشف لجدعون مَيل الطبيعة البشريّة إلى حبّ الذات، والرفض الّذي فيها للقيمة السميا. وكيف أنّ المحاربين لا ينسبون النصر إلى اللّه، بل يحسبونه نصرهم، لأنّهم يشكّلون جيشًا عديدًا يقدر أن يحارب العدو (العاديات 5:115، 217
والملاحظات حول الميل إلى الشر تتكرّر في العاديات البيبليّة. هناك إشارة خلقيّة، ولكن مع مرمى لاهوتيّ. أمّا الآن، فهدفُ تقليل عدد الجيش هو أن يعلّم المقاتلين أنّ النصر تمّ بفضل العون الإلهيّ. هذا هو القول التقليديّ، وقد تمّ النصر »عند الظهر، ساعة الحرارة قويّة«. وكانت مجموعتان: واحدة راكعة (أو ممدّدة) تشرب فتتمهّل لكي تروي عطشها. والثانية، تشرب بعجلة. أبعِد الأولون مع أنّهم ظهروا في الخارج وكأنّهم يستعدّون. أمّا الآخرون (300) »فرفعوا الماء، بخوف ورعدة، في أيديهم إلى شفاههم«. وهذا يعني أنّ اللّه حاز النصر.
وقال المعلّمون إنّ الرجال الّذين ركعوا ليشربوا أُبعدوا عن الجيش. هذا لا يعني أنّهم لم يكونوا أقوياء، بل توخّى الكاتب أن يُبرز عمل اللّه. كانوا عبّاد أصنام فعبدوا صورتهم في الماء. أمّا الّذين لحسوا الماء بيدهم، فهم أسلاف المؤمنين.
خاتمة
تلك نظرة سريعة إلى ما يقوله الأدب اليهودي عن جدعون. همُّه همَّان: أن يُظهر عظمة اللّه وحضوره وهو يعمل مع »أبطال، يختارهم لكي يخلّصوا لشعبه. ثمّ أن يقدّم تعليمًا خُلقيٌّا يستند إلى لاهوت تدخّلِ اللّه في حياة البشر. من أجل هذا، يعود إلى النصوص المختلفة في البيبليا فيقرّبها بعضها من بعض ليكون له معنى جديد، ولا سيّما إذا لَم يفهم النصّ للوهلة الأولى. وهكذا يستنير نصّ بنصّ من أجل بناء الجماعة. ففي النهاية، هذا هو الهدف الأساسيّ لشعب تشتّت منذ المنفى البابليّ، سنة 587، وما عاد يعرف له استقلالاً. فكانت له كتابات المعلّمين وغيرها سراجًا يضيء له الطريق ويحفظ فيه شعلة الإيمان في قلب الظروف الّتي يعيش فيها.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM