الفصل الثامن عشر: وفي تلك الأيام لم يكن ملك

الفصل الثامن عشر

وفي تلك الأيام لم يكن ملك

تلك هي عبارة الكاتب الملهم حين روى خبرًا جاءه من التقليد، فتحدّث عن معبد بناه رجل اسمه ميخا، بمعاونة أُمّه، في جبل افرائيم. بدأ هو يكهن فيه، إلى أن جاءه لاويّ لا يُذكَر اسمُه، فطلب منه أن يكون عنده »مشيرًا أو كاهنًا«، فقبل لأنّ الأحوال كانت سيّئة. هكذا يستطيع أن يؤمّن ذاك الذي لا يقدر أن يعتاش في المدن اللاويّة التي حدّدها يشوع لهذه القبيلة الكهنوتيّة. ولكن الحال لم تدم طويلاً. فقبيلة دان التي كانت في الجنوب، طُردت فبحثت عن موضع لها ومعبد. فمضت إلى الشمال وأقامت عند منابع الأردن، عند بانياس (قيصريّة فيلبّس). وإذْ احتاجت إلى كاهن »وصنم«، أخذت صنم ميخا وكاهنه، وطردت السكّان من مدينة اسمها لايش وسمّتها دان باسمها. هذا هو الخبر بتفاصيله. كيف نستطيع أن نقرأه الآن كما هو في ف 17-18 من سفر القضاة؟

1- من بيت إيل إلى دان

في هذا الخبر، صُنع التمثال في بيت ميخا، وحُمل إلى دان في الشمال(1). كان بيت ميخا إلى الشمال من بيت إيل. هذا يعني أن خاتمة سفر القضاة تلتقي مع البداية حيث نقرأ: »وصعد بنو يوسف أيضًا إلى بيت إيل، وكان الربّ معهم، واستطلعوا تلك المدينة وكان اسمها قبلاً لوز« (1:22). وهكذا بدأت خطيئة بيت إسرائيل (قبائل الشمال) في بيت إيل، وانتهت في دان. وفي الحالين تمّ القتل والدمار. وهذا ما ستعيشه قبائل الشمال العشر حين يأتي الأشوريّون سنة 732، ثمّ 722، فينهون حكم هذه المملكة ويجلون سكّانها ويُحلّون محلّهم قبائل غريبة تحمل معها أوثانها. ولكن أترى كانت القبائل العبرانيّة أفضل منها؟ كلا. بدأ الانحراف في الماضي، وجاءت ذروته مع يربعام الأوّل (922-901) الذي فصل الشمال عن الجنوب. وإذ أراد أن يمنع المؤمنين من المجيء إلى أورشليم، بنى معبدًا في شمال مملكته، وآخر في جنوبها، في دان وفي بيت إيل. يقول الكتاب: »صنع عجلين من الذهب، وقال لشعبه: لا حاجة لكم بعد الآن بالصعود إلى أورشليم. هذه آلهتكم التي أخرجتكم من مصر. ووضع أحدهما في بيت إيل، والآخر في دان، وبهذا الأمر قادهم إلى الخطيئة« (1 مل 12:30-28).

2- عبادة الأصنام

مفتاح الخبر هو عبادة الأصنام. منذ البداية، صنع ميخا صنمًا وجعله في معبد خاص (17:4). وفي النهاية، جُعل هذا الصنم في معبد مدينة دان (18:31-30). وصنع أيضًا ميخا »أفودًا وترافيم« (17:5) سيُذكران خمس مرّات، في حين يُذكر الصنم ثماني مرّات. أجل، فعل ميخا ما لم تفعله قبيلة افرائيم وغيرها من القبائل اللواتي اجتمعن حول المعبد الواحد (يش 24). وما كان فقط صنم واحد قاد المملكة الشماليّة إلى الدمار، بل أصنام حتّى في هيكل أورشليم، في زمن يوياقيم (إر 7:18-17). أيكون حظّ مملكة الجنوب بعاصمتها أورشليم، أفضل من حظّ مملكة الشمال بعاصمتها السامرة؟

ذُكِر الصنم في سفر القضاة، في 3:19، 36، فرمز(2) إلى السيطرة الغريبة بحيث تكون الأرض ملك مولك، لا ملك الربّ. أمّا صنم ميخا فرمز أوّلاً، لا إلى الضيق الخارجيّ، بل وإلى ابتعاد الشعب عن إله العهد. وذُكر الأفود في خبر جدعون. فبدا أنه غرض عبادة جعل الشعب ينجذبون إلى آلهة كنعان (8:27)(3). وهكـذا قادهم الأفود إلى البعل (آ 33). أمّن ميخا المعبد ثمّ الأفود، وهذا يعني أنّه خضع لآلهة كنعان بواسطة أُمّه. حرّم سفر التثنية ذلك، فقال: »ملعون من يصنع تمثالاً منقوشًا أو مسبوكًا ويضعه في الخفاء، فهو رجس عند اللّه لأنّ يد بشر صنعته« (27:15)، واستُعمل الأفود والترافيم في العهد الملكيّ لمعرفة إرادة اللّه. ولكن الملوك رفضوا كلام اللّه، وطلبوا الكلام الذي يريدون (1 مل 22:، 12، ميخا بن يملة). لهذا السبب دعا صموئيلُ »الترافيمَ« »عبادةَ أصنام« (1 صم 15:23). واعتبر زك 10:2 أن لا معنى لها. لهذا، أبعدها يوشيا، والد يوياقيم، عن أرض يهوذا، وأعاد العمل بكتاب الشريعة (2 مل 23:24).

3- عبادة الصنم والبحث عن الاطمئنان

نجد هنا أربعة أشخاص: والدة ميخا، ميخا، اللاويّ، الدانيّون. ومع كلّ شخص يكون الصنم هو المحور.

أ- والدة ميخا

ضاعت بعد أن مات زوجها الذي لم يذكره النصّ. ففي ذاك المجتمع، كان الترمّل خسران حظوة وعيش كريم (را 1:21-20؛ اش 54:4). فقد كانت الأرامل عرضة للمضايقة والاستغلال (اش 10:2-1). لا اسم لهذه المرأة، كما لا اسم للأُمّهات الأربع اللواتي يظهرن في سفر القضاة (أُم سيسرا، أُم شمشون). بدت هذه الأُمّ غنيّة وصاحبة مركز اجتماعي مثل أُمّ سيسرا (5:28)، لا مثل أُمّ أبيمالك (8:31) وأُمّ يفتاح (11:1). فالمال الذي تملك (17:3)، يجعلها تقابل نخبة الفلسطيّين (16:5)، والنساء اللواتي يتحدّث عنهنّ الأنبياء (عا 4:1؛ اش 3:23-16). وثروتها تناقض الأجر الزهيد الذي أعطته للاوي (17:10). ولكن هذه المرأة صارت ضعيفة بعد أن فقدت زوجها، وها هي الآن تفقد مالها، بعد أن سرقَهُ منها ابنُها.

بحثت هذه المرأة عن الطمأنينة، فخالفت الإيمان البسيط الذي تعيشه أُمّ شمشون(4). علاقتها باللّه علاقة حساب وتجارة وقحة. لا شكّ في أنّها أعطت ابنها اسمًا يرتبط بالربّ: ميكاياهو: من مثل يهوه، مثل الربّ؟ قد يحمل الاسم البركة، وقد يحمل اللعنة إن كان الابن سارقًا كما هو وضْعُ هذا الابن (17:2). ثمّ هي كرّست الفضة للربّ لتُبعد عن ابنها اللعنة (آ 3). ولكن حين وُجدت الفضّة، أبقتها لنفسها وصنعت من الباقي صنمًا (آ 4). هكذا أمّنت على حياتها حين صنعت الصنم. أرادت أن تطمئنّ لمستقبلها ومستقبل ابنها، خطئت تجاه اللّه ودفعت ابنها لعبادة الآلهة (تث 13:7-6). ولكن ضاعت هذه الطمأنينة التي بحثت عنها حين سرق الدانيون صنمها وأخذوا معه اللاوي، الموظّفَ عندها.

ب- ميخا

هو رجل إيمان إن تذكّرنا اسمه. ولكن همّه في حياته رخاء واطمئنان. وظّفَ كاهنًا لدى صنم جعل فيه ثقته. في وقت من الأوقات، اغتنى حين سرق مال أُمّه (17:2). فبدا مثل عاكان الذي دفن الفضّة في الأرض (يش 7:21). إنّه رمز مرض عميق في المجتمع، في الأرض المقدّسة، في زمن هوشع (4:2) وإرميا (7:9). أعاد الكنزَ المسلوب، لا توبةً عن شرّ فعله، ولا شفقةً على والدته الأرملة، بل خوفًا من نتائج لعنة أُمّه عليه. وهكذا فشل في أوّل محاولة لامتلاك المال.

ولكن حين وظّف اللاوي كاهنًا عنده، كشف الباعث الأساسيّ في تصرّفه: »علمتُ الآن أنّ الربّ أحسن إليّ، لأن لي كاهنًا من اللاويّين« (قض 17:13). هدفه واضح: تأمين رفاهيّته دون حاجة إلى الطاعة للّه. ومع أنّه ظنّ أنّ الربّ يعطيه الغنى، سوف يدعو الأصنام »آلهتي التي صنعتُها« (18:24). ويتحدّث عنها الراوي فيقول: »ما صنع ميخا وكاهنه« (آ27). ويتحدّث عن »صنم ميخا المسبوك« (آ31). صوِّر ميخا كصانع الآلهة، ساعة أطلق إرميا في اذن سامعيه: »هل يصنع البشر لأنفسهم آلهة وما هي آلهة« (16:20)؟ ولكن ضاع كلّ شيء مع مجيء الدانيّين، فما بقي شيء لميخا من ديانته. قال الربّ للقبائل في زمن يفتاح: »إذهبوا واستغيثوا بالآلهة التي اخترتموها. فلتخلّصْكم هي من ضيقكم« (10:14). وجاء صدى هذا الكلام في إر 2:28 »فأين الآلهة التي صنعتموها لكم، يا بني يهوذا، وهم على عدد مدنكم؟ فليقوموا لإنقاذكم في الزمن الرديء«. فآلهة يمكن أن تُسرَق ليست حقٌّا بآلهة.

ج- اللاوي الباحث عن لقمة عيشه

دور اللاويّين يقوم في الخدمة كممثّلين للشعب في العبادة العامّة والوطنيّة، وإقامة القداسة، التي يشيرون إليها، في الأُمّة، والمحافظة على العهد والعلاقة بين اللّه والأُمّة(5). أمّا اللاوي في هذا الخبر، فهو رجل انتهازيّ يستعدّ أن يعمل أيّ شيء ليكون له موقع أفضل له ولنسله.

هذا اللاويّ هو غريب لا مكان له يقيم فيه (17:8). ولكن يشوع وهب اللاويّين موضعًا دائمًا يقيمون فيه، مع وسائل العيش لهم (يش 31:3). كان في بيت لحم (17:7)، وها هو يمضي إلى افرائيم. في سفر يشوع، ما كان للاّويّين أرض للقبيلة، فكانوا يخدمون كمفسّرين لتعليم العهد ويشدّدون على صدق عملهم الذي لا ينحصر في قبيلة من القبائل، بل يصل إلى جميع القبائل. أمّا في سفر القضاة، فبدا هذا اللاويّ مرتبطًا بضيافة كلّ من يعطيه مكانًا يقيم فيه، »ويملأ يده« أي يجعله كاهنًا، فيجعل في يده ذبائح يقدّمها ويأخذ منها حصّته (17:5، 12).

ووجد اللاويّ الوقحُ الشيء الذي رغب فيه حين وظّفه ميخا. وبدلاً من أن يعمل كممثّل للّه في تفسير تعليم العهد، كان بالأحرى شبيهًا بالكهنة الذين يصوّرهم النبي ميخا المورشتي: »كهنتها يعلّمون بالأجرة« (مي 3:11). ولمّا سُئل اللاويّ هنا، أجاب: »صنع لي ميخا كذا وكذا، واستخدمني، فصرتُ له كاهنًا« (قض 18:4). سألوه كلمة من عند اللّه (آ5)، فأعطى كلمة من عنده، لا من عند اللّه: »سيروا بأمان، فالطريق التي أنتم سالكون فيها يرعاها الربّ« (18:10). مثل هذا الكلام يذكّرنا بالأنبياء الكذبة في زمن إرميا: »حتّى النبيّ والكاهن يطوفان في الأرض ولا يعرفان ماذا يفعلان« (إر 14:10). لهذا، قال الربّ القدير: »لا تسمعوا لكلام الأنبياء الذين يتنبّأون لكم ويخدعونكم. هم يتكلّمون بما يتراءى لهم، لا بما أقول أنا الربّ« (إر 23:16). يقولون لكم: سلام، لا يصيبكم أذى (آ17).

استعمل اللاويّ أفضل استعمال دَورَه لكي يؤمّن ازدهارَ مَن يعمل عنده (17:13). وسوف يتركه ساعة يُطلّ عملٌ أفضل لدى الدانيّين. هنا يقول فيه الكاتب ثلاثة أقوال (18:20). الأوّل، خطاب قلب الكاهن: فرح. وما قيل شيء عن صدقه تجاه ميخا، ولا عن اهتمامه بأن يسأل الربّ. الثاني: أخذ معه كلّ أغراض العبادة، فبارك ما سرقه الدانيّون من عند ميخا، ودلّ على أهميّة الأصنام في وظيفته. الثالث: دخل في وسط الشعب بحيث قادهم إلى عبادة الأصنام واستعدّ أن يباركهم في كلّ خطوة يخطونها حتّى لو كان ضرب الشعب الهادئ بالسيف وإحراق مدينتهم (18:27). مثل هذه الأعمال البربريّة لا ترتبط باللّه، بل بالأصنام التي نتعبّد لها فتستعبدنا.

وأبقى الكاتب بعض السخرية إلى الآخر. فهذا اللاويّ التائه الذي لا اسم له، استعدّ أن يمارس تجارته مع من يدفع له أكثر، مع أنّه يتحدّر مباشرة من موسى (18:30). هنا نعرف اسمه. هو يوناتان بن جرشوم بن موسى (خر 2:22؛ 18:3). ولكن الكاتب جعله بالأحرى من سلسلة منسّى (687-642 ق م) الملك الكافر (2 مل 21) أو الكاهن المارق الذي كان أوّل خادم لمعبد جرزيم(6). ويقول النصّ: »إلى يوم سبيهم« أي 722. هذا يتضمّن عبادة العجل الذهبيّ التي نظّمها يربعام، أوّل ملك حكم في مملكة إسرائيل، في الشمال، في معبد دان (1 مل 12:30-29) والتي كانت سبب سقوط مملكة الشمال (2 مل 17:16). فعبادة الأصنام لدى اللاويّين بحثًا عن موقع كهنوتيّ مميَّز، قاد إلى الكارثة بحيث بانت البركة التي يمنحونها ملتبسة وخطرة. »الطريق التي أنتم سالكون فيها يرعاها الربّ« (18:6)، تلك الطريق قادت مملكة السامرة إلى السبي والضياع، كما دفعت الملك يوشيا (640-609) إلى إصلاح جذريّ حصر العبادة في هيكل أورشليم، وهدم سائر المعابد التي جعلت عبادة البعل مع عبادة الربّ، فقال إيليّا للشعب: »إلى متى تعرجون بين هذا الفريق وذاك« (1 مل 18:21).

د- الدانيون المشركون يبحثون عن أرض

الأرض هي الموضوع الأساسيّ في قض 18. ونحن نقرأ اللفظ عشر مرّات: آ 2، 7، 9، 10، 14، 17، ..30. هو مناخٌ متوازٍ مع خبر الخروج والاحتلال مع »مزحة«: فهناك مسيرة الخروج بدون سيناء، والإقامة في الأرض بدون عهد. فبدلاً من سيناء هناك بيت ميخا مع صنمه وكاهنه عابد الأوثان. وبدلاً من العهد، هناك أرض هادئة تُسلَب من شعب مسالم، وتستند إلى مبدأ القوّة من أجل الحصول على الحقّ. والمزحة الأخيرة هي أنّ عبادة العجل في دان كانت السبب في سقوط مملكة الشمال (2 مل 17:16). وهكذا صارت دان الباب للقوى الأشوريّة المجتاحة في الزمن الذي عاش فيه كاتب هذا النصّ. هنا نقرأ إر 4:16-15 والكلام عن غزو يهوذا: »صوت مخبر من دان بالبليّة، ومنادٍ بها من جبل افرايم: أنذروا الأمم! أخبروا أورشليم! المحاصرون قادمون من أرض بعيدة«. كلّ هذا يرتبط بخطيئة الشعب وما استحقّه من عقاب. لهذا يواصل إرميا: »من دان يُسمَع نخير خيل العدوّ، وعند صوت صهيل جيادهم ترتجف الأرض. يأتون، يأكلون الأرض بما فيها والمدينة وسكّانها« (إر 8:16).

يبدأ الخبر في كلامٍ عن قبيلة دان التي لا أرض لها، فطلبت »مكانًا للسكن« (18:1). فهي نالت أرض ميراث في الجنوب كما قال سفر يشوع (يش 19:46-40، 48). ولكنّها خسرتها بسبب الضيق الذي حلّ بها من قِبَل الأموريّين (1:34)، وربما الفلسطيّين. لهذا سيطرت المرارة في نفوسهم (1 صم 30:6) وصاروا أهل غضب (قض 18:25)(7). وبما أنّهم القبيلة الوحيدة التي لا مكان لها تقيم فيه، استعدّوا لكي يطالبوا ببركة دينيّة تجعلهم يحتلّون بالعنف أرض الآخرين دون حساب حقّ المقيمين فيها.

وتطلّعوا إلى الأرض ورغبوا فيها. أرسلوا من يجسّها (18:2، 14، 17)، يتعرّف إليها، ويدرس إمكانيّة أخذها بالقوّة العسكريّة. كلّ هذا يذكّرنا بما فعل العبرانيّون حين كانوا في البرّية (عد 13:20-17). هذا يعني حكمًا على احتلال لايش التي ستصير مدينة دان، وحكمًا على الطريق التي فيها دخلت القبائلُ بقيادة يشوع إلى أرض كنعان. أمّا التقرير الذي حمله الجواسيس، فيُشبه ما قيل عن أرض الموعد: بلاد واسعة (18:10؛ رج خر 3:8). أرض صالحة جدٌّا (18:9؛ طيّبة، خصبة. رج تث 1:25؛ 4:22)، هي هديّة من الربّ بعد أن سلّمها إليكم (18:10؛ رج يش 1:3). وعبارة »مكان لا يعوزه شيء في الأرض« (18:10)، تذكّرنا بوصف مماثل لأرض كنعان بما فيها من غنى: »أرضَ حنطة وشعير وكرم وتين ورمّان، أرضَ زيت وعسل، أرضًا لا تفتقر فيها إلى خبز تأكله ولا تتحسّر فيها على شيء« (تث 8:9-8).

هذا يعني أبعد من وفر مادّيّ. هو يعني غنى على المستوى الاجتماعي بسبب البرّ الذي يسيطر في الأرض، والبحث عن السلام. ولكن الأرض التي احتلّتها قبيلة دان لم تكن عطيّة من اللّه »بسبب شرّ سكّانها« (تث 9:5-4). فلا يقال عنها ما قيل عن الأموريّين وإثمهم (تك 15:16)، ولا ما قيل عن الكنعانيّين السائرين في طريق الموت بحيث لا يقتدي بهم الداخلون إلى الأرض (لا 18:5-3). بل جاء التقرير يتحدّث عن صلاح الأرض وخصبها، وعن شعب »آمنين، هانئين« (18:7)، شعب »مطمئنّ« (آ10)، شعب »هادئ مطمئنّ« (آ27). ثلاث مرّات قال النصّ إنّنا أمام شعب مسالم يعيش في مناخ من الثقة والاطمئنان. »وكانوا بعيدين من الصيدونيّين ولا علاقة لهم بأحد« (18:7). لا علاقة سياسيّة مع شعب التجّار الذين قد يضيّقون على الناس. ولا علاقة دينيّة مع فساد عبادة الأوثان وما يرتبط بها من مجون.

في عين الدانيّين، هذا الشعب الهادئ المطمئنّ كان هدفًا سهلاً، وأرضهم غنيمةً تؤخذ. هذا ما قاله الجواسيس. وما الذي يُنجح المحاولة؟ صنمٌ يؤخذ مع كاهنه. وهجمة وحشيّة على شعب آمن في لايش. لا حاجة إلى عون الربّ، ولا لكتاب الشريعة (يش 1:8) من أجل النجاح. قال الربّ ليشوع: »أنا الربّ إلهك معك حيثما توجّهتَ« (آ9). أمّا قبيلة دان، فمعها صنمٌ سلبته من بيت ميخا، في أرض افرائيم.

ولكنّ نظرةَ الكاتب الملهَم جاءت شاجبة لهذا التصرّف. فالدانيّون »الوثنيّون« الباحثون عن أرض، انتهى أمرهم في المنفى. لهذا قال قض 18:30: »إلى يوم سبيهم«. فالنتيجة النهائيّة لمثل هذا الاحتلال، هي المنفى للشعب والدمار للأرض. فالعلاقة الوثيقة في آ 30 بين »الصنم المسبوك« الذي أخذه الدانيّون و»السبي من الأرض« يكرّر التجذّر في عبادة الآلهة الغريبة في الأرض الصالحة (تث 6:19-17؛ 11:17-16؛ يش 23:13-12، 16). أمّا اللاويّ فما قال شيئًا من هذا لقبيلةٍ ولا حذّرَ الدانيّين. فهمّه تجارةٌ رابحة مع صنمه. وأصناميّة الدانيّين تشبه كلّ أصناميّةٍ في العالم القديم، وفي العالم الحاضر: ينظر الإنسان إلى الحقّ من منظاره الخاصّ، وفي إطار منفعته، وإن دُفِعَ إلى استعمال العنف والقتل وتدمير البلاد. بركةٌ نالها الدانيّون من لاويٍّ مع صنمه، ما قادتهم في طريق يرعاها الربّ (18:6)، بل قادتهم إلى الدمار وقادت معهم مملكة الشمال كلّها(8).

خاتمة

كانت القبائل بلا مَلك، فسارت في طريق الفوضى. على المستوى الدينيّ، كان يعمل كلّ واحد ما يروق له. يبني معبدًا. يجعل فيه صنمًا. يستأجر كاهنًا يعطيه الأجر البسيط. وكلّ هذا من أجل التجارة والربح. على المستوى السياسيّ، كلّ واحد يتدبّر أمره عائدًا إلى العنف والقتل، بحيث يتضايق الضعيف ويخسر كلّ ماله. إذن، لا بدّ من ملك. فماذا أضاف وجودُ الملك؟ قادَ مملكةَ إسرائيل، مملكة الشمال إلى السبي سنة 722 ق م. وقاد مملكة يهوذا، مملكة الجنوب إلى بابل سنة 587. فما يكون الحلّ؟ لا ملك سوى اللّه، والملك الأرضيّ يعمل باسمه، يقوم مقامه، ويكتب لنفسه »نسخة من هذه الشريعة... فتكون عنده ليقرأ فيها كلّ أيّام حياته، حتّى يتعلّم كيف يخاف الربّ إلهه« (تث 17:19-18). »لم يكن ملك لإسرائيل«. إذن، لا بدّ من ملك، ولكن لا كما حاول بنو إسرائيل أن يفعلوا فتشبّهوا بالأُمم الّتي جاورتهم، لا بالسيف والعنف، لا بعبادة الأصنام وطلب المنفعة والغنى، بل بسلام يقيمه الربّ ذاك »الملك العزيز، الذي يُجري الاستقامة، ويقيم العدل والحقّ« (مز 99:5-4). عندئذٍ تبتهج الأرض وتفرح البحار (مز 97:1). ويفرح الصدّيقون وينشدون، وترى شعوب الأرض خلاص اللّه الذي لا خلاص بعده.

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM