الفصل السابع عشر:موت شمشون

الفصل السابع عشر
موت شمشون

1- كيف نقرأ الكتاب المقدّس؟الكتاب المقدّس كتاب دينيّ. وهو في الوقت عينه مؤلّف أدبيّ، بل عمارة في الأدب العالميّ. وهو ككلّ مولَّف معرَّض لأنّ يفسَّر تفسيرًا سيّئًا. ينظر الباحث على نصّ يُسند موضوعه، أو يشرّح (وربّما يحكم على) سلوك أو ممارسة مع الموقف الذي يُوخَذ بالنسبة إلى إسرائيل، الدولة الحديثة التي لم تتماهَ كلّيًّا مع مملكة إسرائيل التي وُلدت في القرن العاشر ق.م. لتزول في القرن الثامن. وهكذا نبحث عن مرآة نرى فيها ذواتنا، أو نرفض هذا الكتاب على أنّه من الأمس، لا يتميّز عن سائر النصوص وقد عفّاه الزمن.

ولكنّ البيبليا هي غير ذلك، بالنسبة إلى المسيحيّين، الذين يعرفون أنّها كلام الله في لغة البشر، مهما كان في هذه الصفة من ضعف. وبالنسبة إلى سائر القرّاء ما يُدهشنا هو أنّها تبدو وكأنّها كُتبت اليوم من أجلنا، من أجل تعليمنا كما قال بولس الرسول. فمن قبل الدخول في خطاب قويّ بتدرّج ألوانه، ونظر نظرة متنبّهة إلى دقائق العبارة فيه، فهو يدعوه إلى التفكير وبالتالي إلى طرح السلوك الواجب اتّخاذه. وفي أيّ حال، قبل أن نجعل من هذا الكتاب "المقدّس" أداة لنعلن فكرة أو لنحطّم خصمًا، نتوقّف وننظر مرّتين لنعرف إن كان النصّ يقول ما نريد أن نقوِّله.

ذاك هو الوضع في مجال العنف تلك الظاهرة بأشكالها المتعدّدة، حيث الواحد يضايق الآخر. ما علينا إلاّ أن نقرأ أحداث اليوم في الجرائد. ولا ننسَ الانتحاريّين الذين كثروا في هذه الأيّام، فسال الدماء في كلّ مكان ولا سيّما دماء الأبرياء. وكلّ هذا يبدو كأنّه حرب يائسة لقتال ما نعيشه على أنّه وضع من الضيق إن كان من الصعب أن نبرّر هذه الأعمال باسم الكتاب المقدّس، أما نستطيع أن نبرّر الانتحاريّ الذي يموت من أجل قضيّة، حين نقرأ خبر شمشون في سفر القضاة؟ مات وفي موته قتل عددًا من الفلسطيّين لينزع نيرهم الثقيل على شعب كامل؟ مات "بطلاً" في غزّة. أما باركت السماء موته؟ وهكذا يبدو الله كافلاً مثل هذه الأعمال حيث القيمة المقدّسة لحياة الناس يُنكرها منطق أعمى من الردّ على العنف بالعنف. لهذا نقرأ خبر موت شمشون قبل أن نستنتج منه خلاصة سهلة وسريعة، وكأنّنا نفرض نظرتنا على الكتاب المقدّس، ولا ننتظر الضوء منه لكي نصحّح نظرتنا بما فيها من ضلال. فطيّات الخبر تخفي عناصر تدعونا إلى النقد الذي يكتشف الجيّد من الرديء، كالطير الذي ينقد الحبّ ويترك الباقي. إن لم نفصل كذلك، نقدّم لقارئ أحكامًا مبسَّطة ترى ناحية وتترك نواحي، سواء كانت الأحكام سلبيّة أو إيجابيّة.

2- بطل تناقش بطولته

جاء سفر القضاة بعد ملحمة "احتلال" كنعان بقيادة شاول. هو يروي خبر انحطاط يسير إلى انحطاط. فالشعب الذي يخلّصه قضاة يرسلهم الله الواحد بعد الآخر. بسبب الخطيئة، يعود ويسقط تحت تسلّط الأعداء وخيانة العهد بعد موت "القاضي". نلاحظ هنا أنّ الشعب بخطيئته وأخطائه وصل إلى الحالة التي وصل. وسارت الأمور بحيث إنّ الفساد الذي دخل في الشعب وصل إلى القاضي، إلى "بطل" الله. أما أعاد جدعون إلى الأصنام (8: 27) بعد أن دمّرها عند نداء الله له (6: 25). وشمشون آخر "مخلّص" في سفر القضاة يدفعنا إلى السخرية بتصرّفاته. يقاتل الفلسطيّين ويبحث عن امرأة عندهم!

لبس قوّة روح الله، فما استعملها ليخلّص شعبه، كما فعل سائر القضاة، بل ليطفئ عطش الانتقام عنده. مرّة أخِذت له امرأته، فأشعل الزرع (15: 5). ومرّة استعمل "فكّ حمار، فقتل به ألف رجل" (آ 15). نلاحظ تضخيم الخبر الشعبيّ ليصبح هذا الإنسان "بطلاً". إنّ خبر حياة شمشون سلسلة من أعمال العنف. ففي مغامراته، وبالرغم من حضور الربّ بجانبه، فهو لا يبدّل طريقه. هو لا يرى إلاّ مشاكله الخاصّة: صعوبات متكرّرة مع النساء: مع مرأة في تمنة (14: 10-20). ولكنّه سيُمنَع من الدخول عليها (15: 1). في 16: 1، صادف "امرأة بغيًّا". وبعد ذلك، كانت دليلة التي أنهت له حياته بعد أن جعلته ينقض عهده مع الربّ ويفشي بسرّه (16: 14-21). وفي كلّ مرّة، ينبت الأعداء (15: 7-8؛ 16: 1-3) الذين ينتقم منهم، ويردّ على العنف الشخصيّ بالعنف الشخصيّ (15: 1-8؛ 16: 22-30).

فذاك الذي قدّمه لنا الكتاب على أنّه "قاضٍ" (أي مخلّص) في شعبه (15: 20؛ 16: 31) لا يهتمّ أيّ اهتمام بهؤلاء الذين أرسل إليهم، ولا بالضيق الذي يحتملونه من الفلسطيّين. بل جعل أعداء له أشخاصًا من قبيلة يهوذا، بحيث إنّ من وجب عليه أن يحرّرهم، سلّموه إلى الفلسطيّين (15: 9-17). لا خلاص جماعيًّا يُحسَب في هذا الخبر. فآخر القضاة المخلّصين لا يعمل شيئًا من أجل أخصّائه كأخصّائه. بل يكدِّس الموتى فوق الموتى  16: 30) )لعجزه الجذريّ بأن يسيطر على القوّة التي فيه والعنف، وهذا حتّى مماته.

هذه النظرة الإجماليّة إلى خبر شمشون في إطار سفر القضاة، تفرض علينا أن نبتعد (كما يبتعد الإنسان حين يرى لوحة فنّيّة) بعض الشيء، ونقرأ الظروف بعين ناقدة، ظروف موته حيث انتحر، وقتل في موته أكثر ممّا قتل في حياته" (16: 30)

3- إلتباس منذ البداية

أ- سرّ شعر شمشون

الطريق الأولى التي تنتفح أمام الفكر، بل أمام المخيّلة، تحاول أن تشرح القوّة التي استعملها شمشون لكي يدمِّر الهيكل حيث يموت: هي في شعره. فهذا الشعر يرتبط، في ذاكرة القارئ، بالاختيار الإلهيّ لآخر القضاة: ففي مشهد البشارة بولادته، أوصى ملاك الربّ أمّ شمشون بأن تحفظ شعر ابنها. قال: "لا تمرّ موس على رأسه، لأنّ هذا الصبيّ يكون نذيرًا لله من بطن أمّه" (13: 5، حرفيًّا: من البطن). وما يثبت هذا الكلام اعتراف شمشون لدليلة في نهاية الخبر: "إن قُصّ شعري فارقتني قوّتي" (16: 17): جدائل شعره الثقيلة منبع قوّته التي أبانها في الأوقات الحرجة من حياته. ولكنّ هذا الشعر الذي عجّلت دليلة فحلقته بعد أن أفشى البطل بسرّه بعيدًا عن الفطنة (16: 19) عاد فنبت خلال زمن سجنه (16: 22). وهكذا استطاع شمشون أن يظهر قوّة لا عاديّة في عمل التخريب الذي كلّفه حياته. ولكن هل هذه الاستنتاجات المختلفة تفرض نفسها حقًّا، وهل تفرض استنتاجات أخرى على من يقرأ الخبر ويتمعّن فيه؟ فهذا الخبر يتعمّد أن يجعل الضباب والغموض حول شعر البطل الوافر، الغزير.

ونقرأ بتنبّه حدث اعتراف شمشون لدليلة. قدّم لها الفلسطيّون الفضّة الكثيرة لكي تعرف سرَّ قوّة شمشون: "خادعيه، واعرفي بماذا قوّته العظيمة. وكيف نتمكّن منه حتّى نوثقه ونتغلّب عليه، وكلّ واحد منّا يدفع لك ألفًا ومئة من الفضّة" (16: 5). ما أخفت عشيقة شمشون لعبتها. بل بدت صريحة جدًّا: "أخبرني بماذا قوّتك العظيمة، وبماذا تُوثَق فتُغلَب" (16: 6)؟ نقرأ فعل "ا س ر" ثمّ "ع ن ة" الذي يدلّ على الخضوع والذلّ والقهر والقسر). نحسّ في هذه العلاقة بين "الحبيبين" بعض الانحراف الجنسيّ الذي فيه تمتزج اللذّة بالعذاب (16: 19: بدأت بتعذيبه)، ونحن نلاحظ في أجوبة شمشون أنّه يلعب اللعبة عينها. في الخارج، تلفت نظرنا علاقة السيطرة أو الخضوع لدى دليلة. هما في الواقع على حافّة الوادي، والخطر يحاصرهما. وشمشون خاصّة يعتبر أنّه ينجو من الساعة الحرجة. ففي مسيرته كلّها، لعب بالنار. وهنا بنار تقودُه إلى آخرته: فالأجوبة الكاذبة التي يقدّمها لدليلة تدوّن كلّها حول مشروع الأسر والوثاق والحبال وجدائل الشعر. هدف دليلة أن تأسره، تخضعه.

ثمّ إنّ هذه الأجوبة الكاذبة تقدّم لنا أكثر من إشارة تقودنا إلى اكتشاف سرّه "هو": ارتباط القوّة بالشعر. في البداية، كان كلام عن "سبعة أوتار طريّة لم تجفّ بعد، فشدّته بها" (16: 7). هو سياق حربيّ مع الوتر والقوس، وسياق عضويّ بسبب الحياة في الحبال. بعد ذلك، أشار شمشون إلى "حبال جديدة لم تستعمَل من قبل" (آ 11)، فرمز إلى شعره كنذير، الذي هو "جديد" أيضًا. وأخيرًا، حين تكلّم في آ 13 "عن الخصل السبع في رأسي، إذا نُسجت بالنول وشدَّت بالوتد". لمّح إلى شعره الذي يُجعل في آلة النسج، التي ترتبط بعمل المرأة. كانوا يقولون: "النسجُ يمثّلُ جدل شعر حبيبين نائمين". ولكنّها أجوبة خادعة تغيظ هذه المرأة الجميلة: "ها أنت للمرّة الثالثة تخدعني ولا تخبرني" (آ 15)

غلبت شمشونَ حيلُ دليلة، فكشف لها في النهاية لعبته. كشف لها كلّ قلبه وقال: "لم تعلُ الموس على رأسي لأنّي نذير الله أنا من بطن أمّي. إن قُصَّ شعري مالت عنّي قوّتي وضعفتُ وصرتُ ككلّ إنسان" (آ 17). عاد شمشمون هكذا إلى كلمات قالها الملاك لأمّه حين بشّرها. ولكن نلاحظ أنّ جوهر العبارة الثانية (قوّة شمشون تبتعد عنه إن حُلق شهر رأسه، غير موجود في تعليمات الرسول الإلهيّ في ف 13. إن كلّمت أمّ شمشون ابنها عن دوره كنذير وعن منع قصّ الشعر، فما علاقة هذا المنع بقوّة شمشون؟ نشير هنا في شكل عابر، ونحن نقرأ شريعة النذير في عد 6: لا شيء في سلوك شمشون يدلّ على أنّه أخذ نذره على محمل الجدّ. بل يشارك في حفلات الزواج حيث يشرب الخمر ويسكر. ويأكل عسلاً من جثّة أسد".

تبقى المسألة مفتوحة لنعرف إن كانت أمّ شمشون أعطت ابنها التوصيات في هذا المعنى، أم هو استنتج ذلك في إسقاط سحريّ لوضعه كنذير. وأضاف الراويّ: وإذ تكلّم شمشون كما تكلّم، فتح كلّ قلبه لدليلة. فتح فكره، وجدانه، أعطى دليلة كلّ الحقيقة ولم يترك شيئًا في قلبه. ذاك ما وعاه عن نفسه.

"ورأت دليلة أنّه أخبرها بكلّ ما في قلبه" (آ 18أ). فدعت حالاً مواطنيها؛ وقالت لهم: "تعالوا إليّ هذه المرّة، أجل كاشفني بكلّ ما في قلبه (آ 18ب). كيف عرفت؟ هل استنتجت هذا اليقين من تجمّع الإشارات التي وصلت إليها في الأجوبة السابقة، التي كلّها تدلّ على شعره؟ وشمشون من جهته، اقتنع وهو القويّ، أنّه يستطيع مرّة أخرى أن يتخلّص من وضع خطر. لهذا ترك "عشيقته" تنيمه. "أنامته على ركبتيها". وحينئذٍ بحضور متواطئ، حلقت له شعره (آ 19أ). "وبدأت تعنيه، تعذّبه. تذلّه بعد أن فارقته قوّته" (آ 19ب). ويتساءل القارئ: "أترى الأمور تتوافق مع كلام شمشون الذي قال: "إن حُلق شعري، فارقتني قوّتي" (16: 17)؟ وقد يكون الراويّ أراد أن يجعلنا نشعر بشيء آخر. كان شمشون قد قال: "مالت قوّتي منّي، عنّي". فاستخلص الراويّ: "مالت قوّتي من عليَّ". وأبرز نظرته إلى الأمور فأضاف حين استيقظ شمشمون: "ما كان يعلم أنّ الربّ مال من عليه"، وقد خسرها شمشون حين خسر شعره، بل أمام حرّيّة الله الذي مال من عليه، عنه، كما سبق وحلّ عليه (14: 6، 9؛ 15: 14: صار عريانًا فخسر حماية الله. أمّا شعره فعربون عقد تكريس. نحن بعيدون عن عار أحسّ به حين حُلق شعره).

نذكر هنا أنّ شمشون تميّز عن سائر القضاة، فنزل الروح عليه أكثر من مرّة فعتنئيل (3: 10) وجدعون ويربعل (6: 34) نزل الروح ساعة المعركة الحاسمة (11: 29). وتنوّعت العبارة: "كان روح الربّ عليّ" (31: 10؛ 11: 29). "روح الربّ لبس" (6: 34). المرّة الوحيدة التي فيها ظهرت قوّة شمشون اللابشريّة. ولم يبقها نزول الروح، كانت حين انتزع أبواب مدينة غزّة ونقلها. هذا الصمت (لا كلام عن الروح) يهيّء القارئ لعمل الفلسطيّين الذين يجعلون من دليلة عميلهم السرّيّ.

وهكذا يُطرح السوال أيضًا: إنّ القوّة اللاعاديّة التي ترافقت مع شعر لم يُحلَق، هل هي مرتبطة بتكريسه لله، أم سطرة ذاتيّة شيّدها النذير لنفسه وشكّل من الإيحاء الذاتيّ يسيطر في وجدانه على ما يرويه الراويّ في موضع آخر؟ حين دلّ شمشون في الأوقات الحرجة على قوّة فوق بشريّة، قيل لنا إنّ الروح حلّ عليه، لبسه، ولم يكن للشعر دور في تضاعف قواه. هذا ما نقول حين مزّق شمشون الأسد الآتي للقائه (14: 6: حلّ عليه روح الربّ). وحين قتل ثلاثين من الفلسطيّين وأخذ ثيابهم (14: 9) ليدفع ما عليه، وحين قُيِّد يسلّم إلى الفلسطيّين وقبل أن يمسك فكّ الحمار (15: 14: حلّ عليه روح الربّ). ومهما يكن من أمر، حين استيقظ شمشون بعد أن قُصَّ شعرُه بان متيقّنًا بأنّه سيخرج من هذه الورطة كما حصل له في الماضي: "حسب أنّه سينقضّ في وجههم ويُنقذ نفسه" (16: 20). غير أنّ حساباته "هذه المرّة" لم تساعده. فها هو مقيّد بعد أن فُقئت عيناه وأخذ يدير الرحى في سجن غزّة. اسم شمشون يرتبط بالشمس التي تصبح مظلمة في نهاية مسرّتها، عند المساء. وكذلك شمشون. انتهت حياته في العمى وفي غياب النور.

وحالاً، "أخذ شعر رأسه ينمو من جديد، ما إن حُلق" (آ 22). هذا أمر طبيعيّ. ولكن لماذا قال الراويّ هذا الكلام: ولماذا لم يقدّم أي تفسير؟ لقد أراد بشكل غير مباشر أن يتحدّث عن عودة شمشون إلى الله، فنال النعمة والقوّة. هل هي قوّة من أصل إلهيّ حُصرت حصرًا سرّيًّا في الشعر؟ ولكنّ الشعر الذي نما لا علاقة له بالتكريس، وإن كان سرّ قوّته. أراد الراويّ أن يقول: نما الشعر، وهذا أمر طبيعيّ. ولكن هل تعود السطرة التي بناها حول شعره؟

إن ما يلي من سفر القضاة ومن 1 صم يميّز بين قوّة فوق العادة وشعر لم يُحلق فصموئيل الذي كرّس "نذيرًا" بيد أمّه، احتفظ هو أيضًا بشعره (1 صم 1: 11). ولكن الخبر لا يتحدّث أبدًا عن قوّة خاصّة لديه. وهكذا اختلف صموئيل عن شمشون، فتميّر بأمانته لله.

ب- صلاة مستجابة

تحدّث بعض الشرّاح عن شمشون الذي استعاد أنفاسه فتقوّى في النهاية، بفضل صلاته في معبد داجون، تجاه جمهور جنَّ من الفرح. عندهم الفرضيّة السحريّة إنّما الشعب فعادت القوّة بذات الفعل إلى شمشمون، كما بضربة ساحر، تحلّ محلّ الشرح اللاهوتيّ (جواب الله على صلاة شمشون). أن يكون الخبرُ أورد خيارًا بالنسبة إلى السببيّة، يدلّ على التباس. بما أنّنا أمام صلاة شمشون. فلا تحديدُ النصّ (كما سنكتشف) أغنى من وضع الشعر.

حين عُرض شمشون أمام جمهور الفلسطيّين. وُجدت كما في مرآة التصرّفات التي ميّزت الصعوبات التي مرّ فيها. قالوا: "هاتوا شمشون لنضحك عليه" (آ 25). ليأتِ فيضحكنا. ونقرأ في آ 27 أنّهم "نظروا إلى ضحك شمشون". هم ضحكوا وهو يضحك. وعلى صلاة الفلسطيّين الذين "يمجّدون إلههم" (آ 24) ويهلّلون له، أجاب شمشون بصلاة إلى الربّ: "رفع شمشون دعاءه إلى الربّ وقال: أيّها السيّد الربّ، أذكرني هذه المرّة أيضًا، يا الله، فأنتقم انتقامًا (وضعه) واحدًا لعينيّ الاثنتين، من الفلسطيّين" (آ 28) لمن تكون الغلبة؟ لا لشمشون، بل لإله شمشون. فهو القدير وليس داجون بشيء أمامه. وفي صراع إيليّا مع كهنة البعل، كان النصر للربّ الذي تسمّى إيليّا باسمه.

إنّ كلام شمشون في صلاته إلى الربّ، هي صورة عن حياته، حيث العنف يقابل العنف، والانتقام الانتقام. "لأنتقم لعينيّ" (آ 28). هذه الكلمات التي وجّهها إلى الربّ قبل أن يُسقط عواميد الهيكل على نفسه وعلى الفلسطيّين، تدلّ على أنانيّة قاتلة تجعله ينسى قضيّة الله والسلام لشعبه. قال: "لتمُت نفسي مع الفلسطيّين" (آ 30). أو كما في القول المأثور: "عليّ وعلى الفلسطيّين". هكذا كان في حياته، وهكذا هو الآن في مماته. ذاك هو منطق العنف الذي يسير إلى آخر حدود العنف حتّى قتل الذات.

هل أجاب الله على هذه الصلاة؟ لا يقول الراويّ إنّ الربّ استجاب صلاة شمشون كما سبق وقال صراحة في 15: 18-19. هناك، كاد يموت من العطش فدعا الله إلى عونه. فتدخّل الله تدخّلاً شخصيًّا، كما سبق وفعل للشعب في البرّيّة، بقيادة موسى (خر 17: 6). نقرأ في آ 19: "فشقّ الله صخرة هناك، فخرجت منها مياه فشرب ورجعت إليه روحُه فانتعش". وهكذا نجا شمشون من الموت. أمّا هنا، فلا شيء عن تدخّل الله، بل لا يقال لنا إنّ الله سمع صلاة شمشون ونحن نعرف أنّ السماع في الكتاب مهمّ كالكلام. إذا جعلنا جانبًا تدخّلاً مباشرًا من لدن الله (صرخ بنو إسرائيل إلى الربّ فأقام لهم قاضيًا، 2: 9؛ رج 3: 15؛ 6: 7؛ 10: 10، 11). فالمهمّ السماع وتقبّل الله للصلاة. نقرأ في 13: 8-9: "فصلّى منوح للربّ وقال سمع الله صوت منوح، وجاء أيضًا ملاك الربّ إلى المرأة" (رج تك 21: 16-17: صرخ إسماعيل فسمع الله: 21: 16-17: توسّل اسحق فاستجاب الربّ؛ خر 2: 23-24: صرخ بنو إسرائيل فسمع الربّ أنينهم). ولكن في موت شمشون، لا مكان للسماع ولا للاستجابة. أيكون الربّ "غسل يديه" من موت بطل ينهي حياته بقوّته، وهو يرغب في انتقام أخير؟

وسقط الهيكل على شمشون وعلى الثلاثة آلاف الموجودين فيه دون أن يكون كلام عن تورّط الله في هذه القضيّة: لا علامة تدلّ على أنّ الله استجاب الصلاة، ولا على تدخّل الله في سقوط المعبد. والراويّ نفسه لا يربط بين نموّ الشعر والقوّة الفائقة عند شمشون. بل هي المرّة الأولى في خبر شمشون حيث يُوصَف المجهود الذي قام به "البطل" من أجل مشروعه: "لمس شمشون العمودين، في الوسط، اللذين يرتكز عليهما البيت، وشدّ أحدهما بيمينه والآخر بشماله واتّكأ عليهما فسقط البيت على الزعماء وعلى جميع الشعب الذين فيه" (آ 29-30)

قدّم لنا الكاتب طريقين ارتبطا بنموّ الشعر وبصلاة شمشون. وها هو يبرز طريقًا ثالثة: قوّة شمشون وحدها، شمشون الذي سكر سكرًا سوسيولوجيّا بنموّ شعره ورغبته في الانتقام. وهكذا سقط المعبد بدون عونٍ إلهيّ. وهكذا انتهى الخبر وبرزت "مأثرة" شمشون الأخيرة، وما أعطي لنا تفسير. أين هو عمل الله، وأين عمل الإنسان؟

4- نهج ينتهي في الفشل

جعلت أمامنا من الآيات الأخيرة في ف 16، العقم في وجه شمشون. لا شكّ، وعلى مستوى من المستويات، نستطيع أن نسجّل العدد الكبير من القتلى: "أكثر من الذين قتلهم في حياته" (آ 30). ولكنّ الراويّ يكشف، في النهاية، أنّ شمشون مات بدون عقب. فإخوته هم الذين دفنوه (آ 31) إنسان عقيم (مثل أمّه، ولكنّ الربّ يفعل) وقاضٍ عقيم في رسالته. "تولّى القضاء عشرين سنة" (آ 31). ولكن لا نتيجة بعد موته، كما اعتدنا أن نقرأ عن غيره: "واستراحت الأرض" (3: 11، 30؛ 5: 31؛ 8: 28). وأوّل مرّة ترد هذه الحاشية في 15: 20، يربطها الكتاب "بالفلسطيّين". هذا يعني عجز شمشون لحلّ المشكلة الأساسيّة لدى شعبه: السيطرة على الأعداء. وفي نهاية دورة شمشون، ترك الراويّ القارئ أن يقدّر فعل "قضى" (15: 20؛ 16: 31). ولكن ما يلي من خبر يبيّن أنّ سيطرة الفلسطيّين امتدّت بعد موت شمشون. ففي 1 صم 4: 1، نعرف أنّ بني إسرائيل تمرّدوا. ونجاة الشعب ستتمّ بيد صموئيل في 1 صم 7.

إنّ خبر مغامرات شمشون هو خبر المحاولة الأخيرة التي قام بها لاختيار "قضاة" يحملون الخلاص لشعبهم ولقبيلتهم، وذلك قبل الفوضى الأخيرة التي نقرأها في الفصول الأخيرة من هذا الاسم شمشون هو "كاريكاتور" القاضي، أو صورة مشوّهة ومع ذلك، كان الله بجانب شمشون أكثر ممّا كان بجانب سائر القضاة. غير أنّ شمشون شخص لا يفكّر إلاّ في مشاكله الخاصّة. أمّا الهدف الإلهيّ فجعلُ هذه المشاكل مناسبة لتحرير الجميع (14: 4). غير أنّ شمشون فشَّل الله المرّة بعد المرّة، حتّى حين لبس الروح لباسًا. وهكذا نشهد فشل التعاون بين الإلهيّ والبشريّ. وسقوط المعبد على شمشون والفلسطيّين في خبر لا نعرف فيه المسؤول "يدلّ على سقوط نهج فيه يكون كلّهم خاسرين حتّى الله نفسه".

الخاتمة

إنّ القراءة المتنبّهة للنصّ لها وجهة خلاصيّة دائمة. فهي تمنعنا من البقاء في أفكار بسيطة، فائدتها الوحيدة بأنّها تستعمل بسهولة لتبرّر هذا أو للحكم على ذاك، في دينونة لا تأخذ الأمور بعين الاعتبار. جاء خبر شمشون متشعّبًا ولا سيّما ظروف موته مع الضربة التي فيها أنهى حياته في الدم، مع الذين معه. هل وجود قوّة الله في الشعر، هي التي أعطت شمشون أن يقوم بهذا العمل الأخير، عمل الانتقام؟ هل صلاته "كقاضٍ" استجابها الله؟ لا شيء صريحًا في هذا الموضع. فمأثرة شمشون التعيسة قد تُفسَّر بقوة حرّكها هزء الأعداء وشعر مستعاد.

مثل هذا الخبر المتشعّب يحطّم صورة مبسَّطة لموت بطوليّ باركه الله لأنّه سام عدوَّ الشعب عقابًا لا يُنسى. بل هو يفرض على القارئ أن يرى في هذا العمل صورة ساخرة عن "مخلّص" لا يخلّص سوى نفسه. هناك تدبير خلاص دبّره الله، ولكنّه انقلب هنا بعد رفض يليه رفض: رفض الشعب جيلاً بعد جيل. رفض شمشون على مرّ حياته كقاضٍ، يمارس العنف حتّى العبثيّة. فالكتاب المقدّس لا يقدّم لنا فقط مثال أشخاص نقتدي بهم أو نُعجَب، بل أيضًا تزويرًا للإنسان وتشويهًا لعمل الله. يُروى الخبر فيقرأه المؤمن وهو يتطلّع إلى الحياة اليوميّة. فيكتشف الواقع الذي يدفعنا إلى التأمّل. حين روى الكاتب كيف أنّ الأشخاص ارتطموا بحائط مسدود، دعا القارئ لكي يتنبّه إلى الطريقة التي بها يتجاوز الله مثل هذه الحيطان، بحيث يترك الناس أحرارًا في خياراتهم ولو كانت تعيسة، ويستنبط معهم أيضًا طرقًا بحيث لا يكون الموت الكلمة الأخيرة.

وفي النهاية نتذكّر أهمّيّة الشعر بالنسبة إلى المحاربين. فأبشالوم مثلاً كان "معلّقًا بالشجرة بشعره" (2 صم 18: 11). أمّا مز 18: 22 فتحدّث عن الهامة الشعراء لدى العائش في جرائمه. وأنشد موسى نشيده، فتحدّث عن قادة العدوّ بشعرهم الطويل (تث 32: 42). تلك كانت قوّة شمشون، وقد استعملها لنفسه، لا لشعبه، لعمل الانتقام لا لعمل الخلاص. لهذا دعا الله وهو في معبد داجون، ولا نعرف إن كان الله سمع له ومنحه "البركة" لكي يقتل هذا العدد من الناس المصلّين. في هذا المجال، يبدو شمشون على طرفي نقيض مع صموئيل الذي جعل كلَّ حكمته وتقواه في خدمة شعبه، فقاده من الفوضى إلى تأسيس الملكيّة.

وشمشون هو صورة عن شعبه الخائن دومًا لألهه. ما إن يموت "القاضي" حتّى يعود الشعب إلى عبادة البعل والعشتاروت. تلك ردّة تتكرّر. وشمشون نال الروح أكثر من مرّة، وفي كلّ مرّة كان يرتمي في حضن من يضيّق على شعبه، إلى أن سلّم نفسه إلى امرأة من بنات الفلسطيّين. وكانت نهاية حياته في انتحار مات فيه من مات. والشعب سيرى فناء قبيلة بنيامين تقريبًا (ف 19-21) بانتظار فنائه في سبي بابل، لولا قدرة الله التي أعادت الحياة إلى هذه العظام المائتة التي تحدّث عنها حزقيال. من جعل سليمان يضيّع المملكة بعد أن يعبد الآلهة المتعدّدة؟ نساء من عمون وموآب. وكذا نقول عن شمشون الذي انتقل من مرأة إلى مرأة، بانتظار أن تخدعه دليلة فتعذّبه قبل أن تسلّمه إلى أعدائه. وهكذا انتهت حياة شمشون في فشل ذريع مع مشروع من العنف لا يريده الله خصوصًا تجاه الأبرياء. فما انضمّ إليهم بعد أن صار واحدًا منهم. أهو مثال يحتذى؟ كلاّ ثمّ كلاّ. هو مثال سلبيّ يعلّم المؤمنين أنّ ذاك الذي حلّ الروح عليه المرّة بعد المرّة يمكن أن يكون رافضًا لهذا الروح، أو يستعمل هذا الروح لمآربه الخاصّة. أراد الله "قاضيًا" يخلّص شعبه، فنسي مهمّته التي تعني الاهتمام بالناس وحمل الخلاص إليهم. والفوضى التي عاشها ستجد امتدادًا لها في الفصول الأخيرة من سفر الفضاة. ولكنّ الحقبة الملكيّة آتية، والربّ يحاول أن يستنبط نهجًا جديدًا يجعل الشعب أمينًا للعهد، بعيدًا عن الآلهة الكاذبة. فهل تنجح الملكيّة؟ كلاّ. لهذا، انتظر المؤمنون ذاك الملك الذي "ينزل عليه روح الربّ". أنتظروا يسوع المسيح الذي هو المخلّص الحقيقيّ الذي وحده سيحمل السلام على الأرض ويُعطي الرجاء لبني البشر.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM