الفصل التاسع:شكيم والعهد في يشوع

الفصل التاسع

شكيم والعهد في يشوع

 

شكيم الملكة التي لا تاج على رأسها في فلسطين، كما قيل عنها، حدّد مكانها منذ سنة 1903 قرب البلدة العربيّة بلاطة، على سفح جبل عيبال. هذا ما تقول النصوص البيبليّة واللابيبليّة. فحين أسّس الإمبراطور وسباسيانس سنة 72 ب.م. نيابوليس (نابلس الحاليّة) اعتبر أنّ الموضع الذي اختاره هو حيث كانت شكيم. ولكنّه أخطأ لأنّ شكيم البيبليّة حدِّد موقعُها في الطرف الشرقيّ للوادي. هي تبعد 67 كلم إلى الشمال من أورشليم، على ملتقى طرق عامّة في منطقة جبليّة. فالطريق الآتية من أورشليم، من الجنوب إلى الشمال تصل إلى شكيم ومن هناك تتفرّع إلى اثنتين، وإلى الغرب من أورشليم، هي طريق تعبر الوادي حيث نيابوليس، فتصل إلى السهل الساحليّ مرورًا إلى الجنوب من مدينتي السامرة (سابسطة) ودوتان. وطريق ثالثة إلى الشرق تسير في وادي الفرغة إلى وادي الأردنّ حيث يحدّد موقع ترصة، عاصمة يربعام الأوّل. تأمّنت المياه لشكيم من جبل غزريم. وفي الحقبة الرومانيّة، وصلت المياه إلى السهل ممّا أمّن زراعة ناجحة. فما انقطعت المنطقة من السكن قرونًا من الزمن وقرونًا.

ماذا يقول الكتاب عن شكيم؟ والحفريّات؟ وفي النهاية، كيف نقرأ أش 24 في كلام عن العهد قطعه يشوع الآتي من الخارج مع المقيمين في الداخل، على مثال ما سيكون بين العائدين من المنفى سنة 538 ق.م. والذين لم يتركوا أرض فلسطين.

 

1-     شكيم في الكتاب المقدّس

تُذكر شكيم أوّل ما تذكر مع إبراهيم (أبرام) الآتي "إلى أرض كنعان". قال تك 12: 6: "إجتاز أبرامُ في الأرض، إلى بلوطة مورة، في شكيم". هناك تراءى الربّ له، وهذا ما جعل المكان مقدّسًا. غير أنّ أبرام ما نصب فيه خيمته، كما فعل في بيت إيل (آ 8). هي سنديانة مورة أي ذاك الذي يرى. ونال أبرام الوعد بأرض تُعطى له "ساعة السكّان مقيمون فيها". هناك بنى إبراهيم مذبحًا. ولكنّ النصّ لا يقول إنّه دعا باسم الربّ (يهوه). نشير هنا إلى أنّ طرق القوافل تمرّ في شكيم وتصل إلى دمشق. وكانت لإبراهيم علاقات مع دمشق عبر أليعازر (تك 15: 2)، أقرب المقرّبين إليه والذي كاد يكون "وريث البيت" لولد يولد اسماعيل ثمّ إسحق. منذ القرن التاسع ق.م.، دعا الكتبة الطريق "بلد الحمار". وهي تسمية قديمة تعود إلى تحوتمس الثالث (القرن 15) الذي صوّر الحمار على المسلّة الثالثة. فهذه الطريق تمرّ في يسّاكر الذي دُعي في تك 49: 14: "الحمار الصنم". أمّا والد شكيم حسب 34: 2، فاسمه "ح م ور" (الحمار) الذي قد يكون من الحوّيّين أو الموريّين. ونستخلص هنا أنّ أبرام مرّ في شكيم، في القافلة. من أين أتى هذا التقليد؟ من دورة يعقوب حيث الوعدُ بعطيّة الأرض كغلّة "إله أبيه إبراهيم". قال له الربّ: "الأرض التي أنت قائم عليها احسبها لك ولنسلك" (تك 28: 13).

وارتبطت شكيم بيعقوب، كما سبق وارتبطت بأبرام. وذلك في تقليدين. في الأوّل، جاء مسالمًا. وهناك اشترى قطعة أرض ونصب خيمته (تك 33: 18-19). كان هناك شبه اتّفاق بين يعقوب وشكيم (تك 34: 16-19: نعطيكم بناتنا ونأخذ بناتكم، ونقيم معكم ونصير شعبًا واحدًا). وفي التقليد الثاني، كلام عن نزاع بين أبناء يعقوب وأهل شكيم. نجد التقليد المسالم ساعة "طُمرت الآلهة الغريبة التي في أيديهم والحلق الذي في آذانهم تحت البطمة التي عند شكيم" (تك 35: 4). ثمّ نحن نرى قطعان يعقوب ترعى آمنة في شكيم (37: 12). إلى هناك مضى يوسف يسأل عن إخوته. والتقليد المحارب نقرأه في تك 48: 22. قال يعقوب ليوسف: "أعطيتك شكيم التي أخذتها من يد الأموريّين بسيفي وقوسي". هو يرتبط بما فعله الأخوان شمعون ولاوي: "في غضبهما قتلا بشرًا، وفي نقمتهما عرقبا ثورًا" (تك 49: 5-7). في هذا التقليد الحربيّ، لجأ بنو يعقوب إلى بيت إيل (تك 34: 31؛ 35: 3). وفي التقليد السلميّ، أقاموا في شكيم وهناك "نصبوا مذبحًا" (ي حرب: قد يكونون رفعوا نصبًا بشكل مذبح). أمّا السريانيّ فقال: "أقام مذبحًا" (تك 33: 20).

هنا بدت نظريّة حول العلاقة بين يعقوب وإسرائيل، والعهد الذي قام بين المجموعتين. جاء بنو يعقوب من شرقيّ الأردنّ، وبنو إسرائيل من الجنوب، وتجاه هذه النظريّة، قال آخرون انطلاقًا من مدوّنات شلمناصر الثالث بأنّ قبيلة "سمارال" أقامت قرب شكيم، ساعة يعقوب هو اسم أموريّ، جاء من الجنوب بحماية والده إسحق (تك 27). أمّا إسرائيل الآراميّ (تث 26: 5) فخرج من جلعاد مثل عشيرة ماكير، على ما تقول مسلّة مرنفتاح في القرن الثالث عشر. فإسرائيل هذا عبر الأردنّ عند مخّاضة يبّوق وأقام قرب شكيم، فأتيح له أن يبني مدبحًا على اسم "إيل، الوهي يسرائيل". أمّا الطقس الذي قاموا به من غسل الجسم وتبديل الثياب، فيعود إلى العالم الآراميّ في تطهير يسبق فعل العبادة (تك 35: 2: تطهّروا، بدّلوا ثيابكم: رج خر 19: 10). في هذا الموضع التقى يعقوب مع إسرائيل، شكيم مع بيت إيل، إيل إله إسرائيل مع إيل بيت إيل.

وعاد التقليد المسالم إلى عهد (بريت) مع موضع مقدّس: بعل بريت كما في قض 7: 33؛ 9: 4). إيل بريت في قض 9: 46، كما في النصوص القبل اشتراعيّة التي أمّها الآباء مثل إيل عولام، إيل شدّاي، إيل عليون، بل إيل قنا (إله الغيرة) في خر 34: 14. لسنا هنا فقط أمام معاهدة بين القبائل. بل في معبد من المعابد، فنكون في بداية فدراليّة بين القبائل الفلسطينيّة في زمن مسلّة مرنفتاح.

في هذا الإطار، نرى القبيلتين منسّى وأفرائيم تقيمان وإن بشكل متقطّع في شكيم. فجدعون الأبيعزريّ وابنه أبيمالك حاولا إقامة الملكيّة قرب شكيم (قض 9: 6). ويردبعل، والد جدعون، كان على علاقة طيّبة بأسياد شكيم. هذا بالنسبة إلى منسّىز في ما يتعلّق بأفرائيم، فهي قبيلة يشوع. دُفن في تمنة حارس (قض 2: 9) التي صارت تمنة سارح. لئلاّ يرتبط هذا المدفن بالإله الشمس.

لا نتحدّث عن التفاسير اللاهوتيّة للتقاليد الليتورجيّة المتعلّقة بشكيم. غير أنّ الموضع كانت له هيبة كبيرة لدى بني إسرائيل. وكان موضع حجّ في أيّام هوشع (هو 6: 9)، وإن كان الكهنة يرتكبون الفجور في الطريق إليه.

لا ذكر لشكيم في كتاب صموئيل. ففي حبرون جاء شيوخ إسرائيل يقطعون عهدًا مع داود (2 صم 5: 1-3). ولكن حين شاخ داود، وثار أبشالوم، كان صراع في الجلجال، بعد عودة الملك (2 صم 19: 41-44). فإسرائيل الذي يشكّل عشر حصص بالنسبة إلى يهوذا بحصّتين، اعتبروا نفسه مغبونًا لسبب يهوذا. وكانت ثورة شبع بن بكري (2صم 20: 1) البنيامينيّ. هتف رجاله: "لا نصيب لنا مع داود ابن يسّى، كلُّ واحد إلى خيمته، يا إسرائيل". وستعود هذه الصرخة بعد موت سليمان والجدال مع خليفة الملك، رحبعام، في شكيم (1 مل 12: 1). لمّا صار يربعام ملكًا، "رمّم" شكيم في جبل أفرائيم (آ 25) دون أن يُقيم فيها، بل في فنوئيل، شرقيّ الأردنّ، حيث يظهر أوّل مرّة اسم "إسرائيل" في تك 32: 28-32. ما ذكرت شكيم بين المدن التي احتلّها شيشانق. هذا يعني أنّها خسرت قيمتها الستراتيجيّة وبقيت مدينة زراعيّة.

أمّا يربعام الأوّل، فجعل عاصمته الثانية ترصة، بعد أن عرّضت فنوئيل للهجمات الآراميّة. وسوف ننتظر عمري الذي سيبني السامرة. وهكذا لم يعد ملوك إسرائيل إلى شكيم التي خسرت أهمّيّتها السياسيّة واكتفت بأن تكون مدينة لاويّة ومكان ملجأ (يش 20: 7؛ 21: 21). لم تُذكر شكيم مع المدن المذكورة في إصلاح يوشيّا ولكن أهلها جاؤوا، بعد سنة 587 ق.م.، مع أهل شيلو والسامرة، فقرّبوا التقادم والبخور على المذبح المدمَّر. وسيكون ابن سيراخ قاسيًا بالنسبة إلى عبادة السامريّين في جبل جرزيم فقال: "القوم الأغبياء الساكنون في شكيم" (سي 50: 26). لم يذكر العهد الجديد شكيم. ولكن أقرب موضع إليها هو سيخار القريبة من بئر يعقوب (يو 4: 4-5) حيث التقى يسوع بسامريّة مضت تبشّر أهل قريتها وتدلّهم للتعرّف إلى من هو المسيح (آ 25)، إلى "مخلّص العالم" (آ 42).

 

2-     شكيم في الحفريّات

بدأت الحفريّات في شكيم منذ سنة 1913، في تل بلاطة، على يد فريق ألمانيّ لبث يعمل هناك حتّى سنة 1934. ولكن سنة 1943 دمّر بيتُ رئيس الفريق فضاعت مخطوطاته ومعه كلَّ ما لم ينشره. في سنة 1951، عاد فريق أميركيّ حتّى سنة 1973. سنة 1972، مات رئيس الفريق وما كان بعد قدّم النتائج النهائيّة. هذا ما يدلّ على الصعوبات التي رافقت التعرّف إلى هذا الموقع من الناحية الأركيولوجيّة.

في العصر الحجريّ والبرونزيّ (4000- 3000 ق.م.) وُجدت الفخّاريّات. بعد ذلك كان هيكل بشكل برج مع الباب الشرقيّ والباب الشماليّ الغربيّ، وبداية قلعة (أكروبول). وُجدت بيوت، ولكن لا أسوار تحيط بها. وتُركت المدينة سحابة مئة سنة (1540-1450). ثمّ أعيد بناؤها مع الهيكل. سنة 975، دمِّرت على يد شيشانق ثمّ أعيد بناؤها مع أسوار. ثمّ دمّرت سنة 750 ق.م.

ماذا نستخلص من هذه النظرة السريعة؟ في الحقبة الكلكوليتيّة (انتقال من الحجريّ إلى البرونزيّ)، توالى وجود مخيّمين من أنصاف البدو، قرب الينبوع مع الفترة الثانية من الحقبة البرونزيّة المتوسّطة، تأسّست أوّل مدينة محصّنة حوالى سنة 1900: معبد في الهواء الطلق، مبانٍ عامّة، ساحات مبلّطة مع مصارف للمياه. في زمن الهكسوس (1750-1650) امتدّت المدينة امتدادًا واسعًا، فبني بالحجارة سورٌ مضاعف بعد أن استند إلى منحدر خفيف. وكان سور آخر يحيط بالأكروبول (القصر) والهيكل. وبين سنة 1650-1550، امتدّت المدينة فوصلت إلى سفوح جبل عيبال: هيكل عظيم، قلعة. أمّا سمك الحائط فكان 5,5 أمتار. لحق بالمدينة أكثر من دمار، قبل أن تترك سنة 1550، على مدى قرن من الزمن.

مع البرونز الحديث، خفّت أهمّيّة المدينة. وترك سور الهكسوس وبني سور أقلّ سماكة، وكان الهيكل صغيرًا. ربّما في زمن القضاة (قض 9: 4: هيكل بعل بريت) في نهاية هذه الحقبة، دُمِّرت المدينة بشكل عنيف. ثمّ أعيد بناؤها في زمن يربعام لتدمَّر من جديد. في الزمن الفارسيّ، صارت قرية صغيرة. وأخليت من السكّان. أعيد بناؤها في الحقبة الهلّينيّة. وفي النهاية دمّرها يوحنّا هرقانس فأخليت بشكل نهائيّ.

دُعيت شكيم في اللغة المصريّة: ش ك م م. أو ش ك م و. وذلك في مدوّنة خوسابك الذي تحدّث عن احتلال المدينة بيد سيسوتريس الثالث (1878-1843)، كما في نصوص اللعنات في القرن 19. لعبت دورًا كبيرًا في زمن تلّ العمارنة بفضل الأمير لبايا، الذي سيطر على جبال فلسطين الوسطى. هي في البيبليا، مدينة كنعانيّة وحمور بن شكيم الحوّيّ تزوّج بإحدى بنات يعقوب (تك 33: 19). احتلّت القبائل المدينة بالحيلة أو بالقوّة (تك 34: 25-30)  وأعطيت لأفرائيم.

في القرن الثالث عشر، ذُكر موقع شكيم في الجبال، في برديّة أناستازي الأوّل، في القرن 13. طرح الكاتبُ سؤالاً عن طرق أرض كنعان: "كيف نصل إلى جبل شكيم" س ك م م ة ولكن أقدم مدوّنة تعود إلى سنة 1800، فتذكر "س ك م م" مع عدد من المدن الأسيويّة. اسم أميرها اسم ساميّ يرتبط بالإله هدد: أ ب ش د و د. أي: "هدد يعطي سمنًا". في المسلّة الأسيويّة لامنحمات الأوّل، لا تذكر شكيم مع مدن أخرى. فالمسلّة تشوّهت وضاع بعض أجزائها. هو الجنرال خوسوباك (في عهد سيسورس الثالث) الذي وضع يده على المدينة كما على منطقة واسعة في جنوب سورية حيث أخذ سلبًا كبيرًا. وما جعل الجيش المصريّ يهرب من شكيم، فوعورة المنطقة الجبليّة. فشيشانق الأوّل مثلاً مرّ في ترصة التي كانت العاصمة في وقت من الأوقات، لا في شكيم.

وفي الرسائل حول شكيم، التي تركها أمينوفيس الرابع في عاصمته الموقّتة في العمارنة، تُثبتُ هذا القول. ذُكرت أرض شكيم مرّة واحدة (رسالة 289). ولكن اسم رئيسها (خ ز ن. ل ب ي و) ذُكر 14 مرّة. ومرّتين في بعض الرسائل. بعد موته، ربّما قتلاً، تابع ولداه عمله، اسم الأوّل موت – بعل، الذي هو اسم كنعانيّ. قبل أن لبايو يسلّم شكيم لعابيرو. ولكنّ الأمر يبدو صعبًا. ولكن يبقى أنّه تعاهد (مع ولديه) مع عابيرو وملك جازر، ضدّ فرعون. وسوف يهاجم مجدّو ويجعل القلق لدى ملك أورشليم.

 

3-     العهد في شكيم

نبدأ هنا فنشير إلى اختلافات بين النصّ العبريّ (الماسوريّ = عب) ونصّ السبعينيّة (سب) والترجوم (تر) أيضًا. في آ1: "وجمع يشوع أسباط إسرائيل في شكيم. فقالت سب: "في شيلو". في آ 5: "وضربتُ مصر كما فعلت". في سب + سر (سريانيّة): "بمعجزات صنعتها فيما بينهم". في شع (شعبيّة لاتينيّة): بأيات كثيرة ومعجزات. ويتابع النصّ في آ 5: "بعد ذاك أخرجتكم". سب: "بعد ذاك أخرجت آباءكم" (آ 6). وتتابع آ 6: "أخرجت آباءكم من مصر". في آ 7: "صرخوا إلى الربّ" (عب، تر، سر). في سب: "صرخنا". وجاء اقتراح: "صرختم". في آ 12: "أرسلت... الذعر، أو اليأس. في سب +شع: الزنابير. أمّا الملوك فهم في العبريّ مكان وفي السبعينيّة 12 ملكًا.

إنّ ف 24 هو فصل اشتراعيّ. نقرأه على ضوء سفر التثنية. وهو يتوجّه إلى أولئك الذين توجّه إليهم ق 23: "إلى جميع شيوخ بني إسرائيل ورؤسائهم وقضاتهم وقادتهم" (23: 2). إنّ تلاوة "النؤمن" القديم يقدّم عناصر مستقلّة عن أسفار موسى الخمسة. وإن جاءت في النسيج عينه. هو تقليد عباديّ مستقلّ يتوافق مضمونه في جزئه الأكبر، مع الأحداث الواردة في البنتاتوكس. ولكن مع ألفاظ خاصّة.

في البداية: يهوه إله إسرائيل (آ2). عبارة ترتبط بمعبد شكيم (تك 33: 20؛ يش 8: 30). هي عبارة، فيها تماهى يهوه مع الإله الكنعانيّ الساميّ: إيل. هي تسمية قديمة جدًّا. وقدّمت لنا تلاوة النؤمن هنا تطلب من الشعب المجتمع أن يختار. من جهة، الآلهة التقليديّين لدى الآباء (إبراهيم، إسحق، يعقوب) حين تركوا بلاد الرافدين، هؤلاء الآلهة الذين يرافقون مؤمنيهم في تنقّلاتهم، ويستعدّ للتمازج مع الآلهة المحلّيّين، في تسامح يميّز الديانة المتعدّدة الآلهة (حز 200: 7؛ 3: 1 ي). ومن جهة ثانية، يهوه الذي هو أيضًا صار منذ الآن إله الآباء، يتبعهم في تنقّلاتهم مع اختلاف نجده في اعتراف الإيمان: هو اعتراف إعلانيّ يؤوّن للجماعة الملتئمة مآثر الله الماضية (هي صيغة المتكلّم المفرد، أنا)، فتعلن أنّه وحده الإله. لهذا فحلّ تلفيقيّ يضمّ عناصر من هنا وهناك ليس ممكنًا. لهذا، فالخيار هو: أو، أو. ذاك سيكون موقف إيليّا على جبل الكرمل (1 مل 18: 21): إن كان الربّ... إن كان البعل. أي الإله المحلّيّ، في المنطقة. لأنّه كان أكثر من بعل، وكان تحديد جغرافيّ: الآلهة التي في عبر النهر. فالآلهة يمارسون سكنهم في هذه المنطقة لا تلك لذلك وجب على المسافر أن يضع نفسه في مهابة العبد الذي يمضي إليه. في آ 14، نجد آلهة مصر. قد يكون هؤلاء العبرانيّون السائرون في الصحراء قد نسوا يهوه وتعلّقوا بالآلهة المحلّيّة، أو ضمّوا آلهة إلى إلههم في ما يُسمّى مجمّع الآلهة (بانتيون). هذه النظرة نقرأها في حياة الشعب. في 1 صم 26: 19 يقال: من بدّل منزله جعل ربّه إلهًا آخر غير الذي عبده من قبل. "إذهب إلى حيث واقعيّة ممّا كان عليه في البنتاتوكس (أسفار موسى الخمسة): هي إشارة سريعة، تلميح في تك 31: 19ي (سرقت راحيل أصنام أبيها). وفي آ 53، ينضمّ الربّ إلى إله وثنيّ: إله إبراهيم وإله ناحور. وإذ لا يتكلّم البنتاتوكس عن آلهة مصر، فيشوع يذكر تلك الآلهة المعبودة هناك. لا نجد حكمًا على الماضي. بل هي ملاحظة تعطي الممارسة الدينيّة في ذلك الزمان. فوضع المنفيّين الذين توجّه إليهم التاريخ الاشتراعيّ، هو هذا الوضع الذي نجده هنا. أمّا الممارسة الدينيّة المعروفة فتعني التوزيع الجغرافيّ للآلهة. ذاك كان النظام الطبيعيّ للأشياء في المجال الدينيّ. ولكن هذا لا يمكن أن يدوم بعد أن تدخّل الله فحطّم هذا النظام: دعا الله إليه إبراهيم وطلب منه أن يهاجر إلى أرض مجهولة (تك 12: 1ي؛ 15: 1ي). وحمّله وعدًا يصل إلى البشريّة كلّها.

فالخيار يقوم في التعلّق بإله شخصيّ يرافق مؤمنيه حيث يمضون، ولا سيّما حين يهاجرون باسمه. هذا أمرٌ لم تسمع به أرض كنعان، بل وُجد فقط لدى البدو الرحّل. فالمهاجر يعبد الإله الذي يأتي إلى بلده. ولا يُسمح لإبراهيم أن يعبد الربّ والآلهة المحلّيّة. فهذا مستحيل استحالة جذريّة. ثمّ كان دمجٌ بين إله سيناء الذي عُرف في الخروج، وإله الآباء. ثمّ إنّ اعتراف الإيمان يبرز تتمّة المرحلة الأولى من الوعد: إسحق ويعقوب وعيسو. ثمّ مع يعقوب ونسله، يتمّ الوعد بنسل كبيرٍ: حقّق يهوه القسم الأوّل، وهذا ما يؤكّد تحقيق الباقي.

في آ 4-5، تتواصل النظرة التاريخيّة مع إضافات هنا وهناك: كيف ضرب الله مصر، في نسخة أولى. ثمّ تحدّد سائر النسخات. والنصّ يبدو تارة معاصرًا للقارئ "أرجعتكم" أنتم، أيّها السامعون اليوم والقارئون (آ 5). ثمّ تحدّثت آ 6 عن "آبائكم" أنتم، الواقفون قرب "عزرا" قارئ التوراة، والمترجم الذي ينقل إلى الآراميّة ما يُتلى في العبريّة.

أمّا آ 8-10، فشدّدت على الطابع الحربيّ في عبور الممالك الواقعة شرقيّ الأردنّ. تطلّع شعبُ إسرائيل إلى الوراء بعد أن أقام في الأرض، فدهش للمعجزة التي يرى اليوم نتائجها. وطلب الكاتب من "الجالسين" في المنفى، أن يعرف أنّ المعجزة يمكن أن تكون اليوم، شرط أن يؤمن الشعب بحضور الله في وسطه، وأن يحفظ وصاياه ويعمل بها.

ودعا يشوع الشعب لكي يأخذ قراره (آ 14 ي): "هنا انتقل النصّ فجأة من كلمة الله المباشرة (= اعتراف إيمانيّ) إلى كلمة الإنسان. في الكرازة، رأى الشعب أنّ الدخول إلى الأرض يعني بحسب النظرات الدينيّة القديمة، يفرض عليه أن يترك الآلهة التقليديّين ويأخذ بآلهة الأرض. ذاك هو الخيار الموضوع أمام الشعب المجتمع: من جهة مجموعة يوسف بقيادة يشوع. ومن جهة ثانية، عناصر كنعانيّة، مثل نسل ليئة الذي اتّخذوا قرارهم، وهم ينتظرون من الآخرين أن يعملوا مثلهم: التزام من أجل الربّ يجعل الفئتين جماعة واحدة، رغم الاختلافات التي تفصل بينهما. وقرار يوافق الواقع الدينيّ الحاصل، يجعل القطيعة بين فئتين بدأتا تعيشان معًا. ودعوى يشوع لا تترك مجالاً للتفلّت ولا المساومة. أو تفعلون مثلنا بعد أن شاهدتم ما فعل الله لنا ثمّ لكم من أعمال عجيبة. أو تأخذون اتّجاهًا آخر. حينئدٍ تنتهي العلاقات بيننا وبينكم.

بدا الربّ هنا غير مرتبط بأرض محدّدة، بل تصل يده إلى المسكونة كلّها. من أجل هذا، قسم الأراضي بين الشعوب: لأدوم، لعمّون، لموآب، ليهوذا، لإسرائيل، للفلسطيّين. هكذا يحقّق مخطّطه في التاريخ. إنّ الخيار بينه وبين آلهة كنعان ومصر وبلاد الرافدين يبدو ممكنًا. ولكنّ الشكل الذي قدّم فيه يشوع الخيار، يجعل مثل هذا الموقف عبثًا، لمن يختار الخطيئة تجاه النعمة، وعبادة الحجر والخشب تجاه الإله الحيّ. هو خيار نقرأه في الوصيّة الأولى من الوصايا العشر: أنا هو الربّ إلهك، لا يكن لك آلهة غيري. وهذا السؤال الذي طرحه يشوع، طرحه أيضًا الكتاب الاشتراعيّ على المنفيّين: أمانة يهوه أو مساومة مع مردوك. عودة إلى أرض الموعد أو اندماج بالمجتمع الرافدينيّ.

هنا ظهر بنو إسرائيل بشكل مجموعة اثنتي عشريّة، حيث كلّ قبيلة تخدم المعبد شهرًا من أشهر السنة الاثني عشر.

وكان جواب الشعب في ذاك الوقت (آ 16-18). وسيكون في كلّ احتفال بتجديد العهد، وعدًا للالتزام الذي اتّخذه تجاه الربّ من أجل أعماله في الماضي للآباء، فصار الأبناء معاصرين لها من خلال الليتورجيّا. وعى الشعب أنّه لا يختار إلهًا جديدًا بعد أن ترك إلهًا قديمًا، بل هو يلغي جميع الآلهة ويقوم بخيار أساسيّ يجعله يخرج من عالم تمتزج فيه الأصناميّة باللادينيّة، ليدخل في مخطّط الله الخلاصيّ من أجل البشريّة كلّها. يخرج الإنسان حينذاك من صور خارج الواقع إلى التاريخ. يخرج من إطار جغرافيّ محدّد حيث يسود هذا الإله أو ذاك، لكي يدخل في كونٍ يسيطر عليه ربّ لا موضع له محدّدًا لأنّ الكون كلّه موضعه.

ويتاصل الحوار في آ 19-22 بين يشوع والمجتمعين: الإيمان بالربّ هو وحده الإيمان. هكذا يتّحد المؤمن بالإله القدّوس. فالمسافة لا محدودة بين الله والمخلوق. وحين أعلن الشعب التزامه، قال يشوع: من تجاوز هذا الالتزام حكم على نفسه. يكون هو قد حكم على نفسه.

ويتنهي يش 24 باحتفال (آ 23-24). أبعدت الآلهة الغريبة. أخذوا القرار وها هم ينفّذونه. ولا خوف من انتقام هذه الآلهة. كما كان الوثنيّون يظنّون... كان هذا الطقس قديمًا جدًّا في معبد شكيم. والتقليد الإلوهيميّ يربطه بيعقوب (تك 35: 1-4) حيث أبيدت الآلهة الغريبة وسائر التعويذات. انطلق بعض الشرّاح من هذا النصّ ليتحدّثوا عن تطواف من شكيم إلى بيت إيل ساعة سقط معبد شكيم عن مقامه.

ذاك كان كلامنا عن معبد شكيم، وعن مدينة شكيم. قدّم لنا الكاتب الملهم صورة عن العهد الذي كان يتجدّد عامًا بعد عام، فالتقى بما كان البابليّون يفعلون في عيد أكيتو، عيد رأس السنة. ومع مثل هذا العهد، سيخبرنا سفرُ القضاة أنّ القبائل كانت تترك بسرعة الإله الحيّ، وتجري وراء البعل والعشتاروت. هذا الوضع السيّئ عرفوه بعد موت يشوع والشيوخ الذين عرفوا ما صنع الربّ لإسرائيل. مات الشهود الأوّلون، أما يجب على أبنائهم أن يكونوا بدورهم شهودًا على عمل الله؟ مثل هذا النصّ كانت تقرأه الكنيسة على المؤمنين الذين يستعدّون لاقتبال العماد المقدّس. قال أوريجانس: "في البداية، حين استعدّوا لكي يعطوكم مبادئ الإيمان الأولى، قالوا لكم بحقّ: الآن، خافوا الربّ واعبدوه باستقامة. وحين يحاولون أن يقنعوكم بعبادة الأصنام، يُقال لكم: إنزعوا الآلهة التي عبدها آباؤكم. أمّا الآن، فلا سبيل إلى أن نكلّمكم مثل هذا الكلام. فأنتم تقولون: حاشا لنا أن نترك الربّ الإله ونعبد الآلهة الغريبة. فالربّ الإله هو إلهنا. فمن تعدّى على معاهدة قُطعت مع بشر يقترف جرمًا يجعل خلاصه في خطر، فماذا نقول عن الذين يُنطرون فيلغون العهد الذي قطعوه مع الله، ويعودون إلى إبليس بعد أن تنكّروا له حين اعتمدوا. حينئذٍ نقول لهم ما قاله عالي الكاهن لولديه: "إن خطئ أحد إلى إنسان نصلّي من أجله. ولكن إن خطئ إلى الربّ فمن يصلّي لأجله"؟

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM