الفصل الثامن: الربّ سيّد الحروب

الفصل الثامن

الربّ سيّد الحروب

 

هذا ما أعلنه الشعب العبرانيّ، بعد أن عبر البحر الأحمر (أو بالأحرى المستنقعات أو البحيرات المرّة)، سالمًا، ورأى على الشاطئ جُثث المصريّين الذين ارتدّت عليهم المياه بحيث لم يُفلت منهم أحد. "أنشد الربّ جلّ جلاله، الخيل وفرسانها رماهم في البحر... الرب سيّد الحروب، الربّ اسمه" (خر 15: 1)

أجل الكتاب المقدّس مليء بالعنف، وهذا أمر لا بأس به، لأنّه يساعدنا على اقتلاع العنف من قلوبنا. والأخبار عن العنف البشريّ كثيرة، وإن حاولت الشرائع أن تنظّم، والأنبياء أن يندّدوا، ومرتّلو المزامير أن يصلّوا، والحكماء أن يُعملوا حكمتهم كي يأخذوا واقع العنف في عين الاعتبار.

ولكن إن غاب العنف من الكتاب، هل يكون هذا الكتاب حقًّا صورة عن العهد بين الله والبشر؟ هل يكون هذا الكتاب كتابنا إن هو اعتبر أنّ لا عنف في التاريخ، فساعدنا أن نجعل رؤوسنا تحت الرمل كما تفعل النعامة فتعتبر أنّها نجت من الخطر؟ هنا نتذكّر أنّ الكتاب المقدّس، في عهده القديم، هو مسيرة الإنسان إلى الله. وبما أنّ الإنسان خاطئ، بل هو مجبول بالعنف، هل يكون ما يكتبه في رفقة الله محاطًا بالورود وسائر الأزهار؟

بل إنّ ما نلاحظه هو أنّ الكتاب تحدّث عن العنف وما أخفاه. منذ البداية، قال لنا إنّ الرجل يسود امرأته، وهي تنقاد له (تك 3: 16)، مع أنّها كانت منذ البدء تجاهه، كانت لحمًا من لحمه، وعظمًا من عظمه وجزءًا من قلبه، وضلعًا من أضلاعه (تك 2: 21-23). هي أقرب إلى نفسه من نفسه، ومع ذلك، اتّهمها أمام الربّ بأنّها أغوته كي يبرئ نفسه وتنال العقاب شريكة حياته (تك 3: 12).

فالعنف يحمل الخطر حين نخفيه. نكبته بعض الوقت، ولكنّه لا يُعتّم أن ينفجر. أمّا حين نكشفه بدون كذب ولا احتيال، تعلّمنا التوراة أن ننظر إليه في شرّه، وننظر إلى نفوسنا بدون مواربة، فنرى الموت يتربّص بنا، لأنّ العنف في النهاية يعود على صاحبه. في هذا المجال، نقرأ في المزامير: "الشرّ يتمخّض بالإثم، يحبل بالفساد ويلد الكذب. يحفر حفرة ويوسّعها، وفي الهوّة التي صنعها يسقط. يرتدّ فساده على رأسه، وعلى نافوخه يقع عنفه" (7: 14-17).

وما اكتفى الكتاب بأن يحدّثنا عن العنف عند البشر، بل كلّمنا أيضًا عن العنف لدى الله الذي يتصرّف كما يتصرّف الإنسان، وبقدرة لا يمكن أن يصل إليها الإنسان. فالكلام عن إله حربيّ يشكّك المؤمنين. فنقرأ مثلاً في سفر الخروج: "رفع بنو عماليق أيديهم على عرش الربّ، فسيحاربهم الربّ جيلاً بعد جيل" (17: 16). لا شكّ في أنّ الخبر الأساسيّ، هو أنّ الحرب دامت طويلاً بين القبائل العماليقيّة التي أقامت في أدوم وبين القبائل العبرانيّة في جنوب فلسطين. ولكن بما أنّ قضيّة كلّ شعب هي قضيّة إلهه، جعل الكتابُ قضيّة العبرانيّين المارّين في البرّيّة قضيّة الله. تلك هي النظرة التي تعرفها جميع الشعوب المستصعفة، فتعتبر أنّ الله بجانبها ويحارب الآخرين.

أمّا سفر يشوع، فيرينا أنّ الربّ هو الذي ينظّم الحرب من أعلى سمائه. فيشوع هو قائد يأتمر بأمر الله. قال الربّ ليشوع: "لا تخف ولا ترتعب، خذ معك جميع المحاربين، واصعد إلى عاي. فأنا أسلمتُ إلى يدك ملكها وشعبه ومدينته وأرضه. فتفعل بعاي وملكها كما فعلتَ بأريحا وملكها" (8: 1-2). وماذا فعل يشوع ورجاله في أريحا؟ "قتلوا بحدّ السيف جميع ما في المدينة من رجال ونساء وأطفال وشيوخ، حتّى البقر والغنم والحمير" (6: 21). أمّا في جبعون، فالربّ هو الذي هزم الأعداء، ورماهم بحجارة (= البرَد) عظيمة من السماء، فهلكوا. وكان الذين هلكوا بحجارة البرَد أكثر من الذين قتلهم بنو إسرائيل بالسيف" (10: 11). وهذا العمل لم يتمّ في الخفاء، بل شهدت له الشمس التي "وقفت" كما يقف الشاهد على جبعون، وشهد له القمر على أيلون، فعرف الكون كلّه بما فعل الربّ في ذلك اليوم.

لا نريد أن نتحدّث عن فنّ أدبيّ يجعل الله يفعل كلّ شيء، والإنسان لا يفعل شيئًا. ولا نريد أن ننسى أنّ يشوع أمضى الليل كلّه صاعدًا من الجلجال، وهجم عليهم بغتة فهزمهم (10: 9-10). وأخيرًا، إن كان الشعب يقيم آمنًا في أرضه، فلأنّ الربّ منحه هذه النعمة، بل حارب عنه بواسطة قوى الطبيعة. ومع ذلك، تبقى لغة العنف حاضرة، ولا نستطيع أن نتهرّب منها، مع العلم أنّ نصّ يشوع دوِّن في زمن الفرس، ساعة كانت كلّ شعوب المنطقة تحت الحكم الفارسيّ، فلم يكن لها استقلال ولا جيوش.

أمام هذا الواقع، لماذا لا نتبع مرقيون فنلغي العهد القديم بكلّ بساطة، لأنّ إلله كما يقل شوقي، إله يلتذّ بالدم؟ ولماذا لا نتبع التيار الغنوصيّ الذي شدّد على معرفة باطنيّة لا ترتبط بالتقليد الرسوليّ، ففصل بين العهد القديم والعهد الجديد؟ فلكلّ عهد إلهه. إله العهد القديم هو إله الشرّ، هو الإله الخالق الذي ارتبط بالمادّة وما فيها من انحطاط بالنسبة إلى عالم الروح. أمّا إله العهد الجديد هو إله الخير، وقد أراد أن يخلّص الإنسان من براثن المادّة ليرفعه إلى إلألوهة.

في الواقع، ما زال اليهود يقرأون العهد القديم ويفسّرونه، والمسيحيّون يقرأون العهد القديم والعهد الجديد معًا، ويقولون: جذور العهد الجديد هي في العهد القديم. فإن ألغيت جذور الشجرة تأذّت. ولهذا، يبقى الانطلاق الأساسيّ للأناجيل والرسائل وأعمال الرسل والرؤيا، قراءة متفهّمة للعهد القديم. أمّا العهد القديم فيستضيء بالعهد الجديد ويجد فيه كامل معناه. في هذا المجال نقرأ ما قاله بولس الرسول إلى أهل رومة: "جميع ما كُتب من قبل إنّما كتب لتعليمنا، ليكون لنا الرجاء، بالصبر وتعزية الكتب" (10: 11).

ويشدّد المجمع الفاتيكانيّ الثاني على أهميّة العهد القديم بالنسبة إلى المسيحيّة، فيقول: "إنّ كلّ ما دبّره الله في العهد القديم يستجيب لقصد إلهيّ يدور حول مجيء المسيح، مخلّص العالم، وحول ملكوته المسيحانيّ. فالعهد القديم تهيئة له، وتنبؤ عنه، وتعريف به تعريفًا رمزيًّا. ويواصل آباء المجمع المسكونيّ مشدّدين على وحدة العهدين: "وعليه فإنّ الله، واضع الأسفار المقدّسة بعهديها، القديم والجديد، ومُنزل الوحي فيها، قد رتّبها بحكمة، فكانت أفكار العهد الجديد دفينة في تضاعيف العهد القديم، بينما اكتسبت أفكار العهد القديم معاني واضحة في ضوء العهد الجديد" (الوحي لإلهيّ 15-16).

من أجل هذا، لا نترك العهد القديم، بل نعمل على فهمه والتأمّل في نصوصه، ونعرف أنّنا نجد فيه مسيرتنا إلى الله، كأفراد وشهوب، حين لا نقرأه قراءة حرفيّة ونسقط أفكارنا المسبقة على نصوصه وأخباره، سواء كانت سياسيّة أو عقائديّة أو إيديولوجيّة. كما نفهم أنّنا لا نجد فيه الحقيقة الكاملة، بل تمتمات تتوضّح شيئًا فشيئًا لتصل بنا إلى الإنجيل. وهنا نقدّم تشبيهًا بسيطًا. فأنا كإنسان بدأت حياتي طفلاً وصرت، صبيًا وشابًّا وكهلاً، فهل أتنكّر لطفولتي بعد صرت قريبًا من السبعين؟ فطفولتي هي الأساس ولولاها لما وصلت إلى ما وصلت الآن. والغنى الذي فيّ الآن يجد ذروته في أيّام الطفولة، وأحلامه في زمن الصبا، ومشاريعه في انطلاقة الشباب. وهذا ما نقول عن مراحل تدوين العهد القديم الذي انتهى قبل مجيء المسيح بخمسين أو ثلاثين سنة. فتأمّل الإنجيليّون في نصوصه قبل أن يكتبوا شهادة الكنيسة عن يسوع الذي "هو بهاء مجد الله وصورة جوهره وحافظ الكون بقوّة كلمته" (عب 1: 3).

ونعود بعد هذا التوسّع لنتحدّث عن إله الوداعة في الكتاب المقدّس، لا عن إله العنف. فقوّته تقوم في أنّه يريد أن يسيطر على العنف الذي في العالم وفي الإنسان. ففي الصفحة الأولى من سفر التكوين، نرى العالم في الفوضى، في التوه والبوه، ونسمع عجيج المياه وهيجان البحار وقوّة الرعود والبروق التي "ستتغلّب" في يوم من الأيّام على مشروع الله، فتطوف وتغرق الأرض ولا تعود تترك عليها نسمة حياة من البشر والبهائم. ولكنّ روح الربّ هو هنا (تك 1: 2). وريحه العاصفة تعمل بكلّ قوّتها. هذا الروح يرفّ على المياه ليُخرج منها كلّ حياة ويمنع عنها ما تحمله من موت. فقال المزمور: "بكلمته صُنعت السماوات، وبنسمة من فمه كلّ أفلاكها... قال فكان كلّ شيء، وأمر فصار كلّ موجود" (33: 6، 8).

بقوّة كلمته صنع الله الكون. قال للنور: "كن، فكان النور". وبحنان يده صنع الإنسان، وعلّمه كيف يفلح الأرض ويزرعها. هو يعرف أنّ العنف موجود. ولهذا، بدأ فأعطى البشر أن يأكلوا الخضر والبقول، "كلّ بذر وكلّ شجر يحمل ثمرًا" (تك 1: 29). ولن يسمح بأكل اللحم إلاّ بعد عنف الطوفان: "كلّ حيّ يكون لكم طعامًا" (تك 9: 3). وأراد حتّى في ذلك الوقت أن يضع حدًّا للقتل، فهدّد وتوعّد: "من سفك دم الإنسان، يَسفك الإنسان دمه، وعن دم كلّ إنسان أطلب حسابًا من أخيه الإنسان، فعلى صورة الله صنع الله الإنسان" (آ 6-7).

ولكن حين نقرأ النصّ الكتابيّ، نفهم أنّ الله هو الذي سبّب الطوفان، كما فعل الحرب مع يشوع، وكما نعتبره اليوم محاربًا معنا على أعدائنا الذين هم في النهاية إخوتنا ومخلوقون على صورة الله مثلنا. هنا نتذكّر أنّ الكتاب المقدّس يعود بالأمور كلّها إلى الله الذي هو العلّة الأولى، وينسى الإنسان الذي خلقه الله حرًّا. في الواقع، الطوفان يدلّ على عنف البشر بعضهم مع بعض، على ما يقول الخبر: وفسدت الأرض أمام الله وامتلأت عنفًا. ونظر الله إلى الأرض فرآها فسدت لأنّ كلّ بشر أفسد سلوكه فيها" (تك 6: 11-12). وتشاور الله مع نوح البار، بل أعلن ما سوف يحصل: "جاءت نهاية كلّ بشر. فالأرض امتلأت عنفًا على أيديهم" (آ 13). أما هذا الذي حصل في الحرب العالميّة الثانية التي تركت وراءها ستّين مليون قتيل، والخراب الذي لا يقدّر؟ وإذ يواصل النصّ الكتابيّ: "وها أنا أهلكهم مع الأرض"، يدلّ على أنّ هذا الشرّ الذي يحدث يرتبط في النهاية بالله الذي خلق الإنسان حرًّا، فخاطر حين خلق. ولكنّه في النهاية، سيّد التاريخ والأحداث، وهو سيعيد بناء الأرض مع نوح وبنيه. فيقول لهم كما في البدء: "أنموا واكثروا واملأوا الأرض" (تك 19: 1).

هنا نودّ أن نقرأ حول سدوم وعمورة، المدينتين اللتين "دمّرهما" الله بالنار والكبريت. أيّ عقاب مريع هو عقابهما، مع أنّ إبراهيم توسّل من أجلهما! قيل إنّ الربّ لا يعاقب لكي يعاقب، بل لكي يؤدّب. ولكن ما هذا التأديب الذي يُفني سكّان مدينتين: دمّر الوادي وجميع سكّان المدن، ولم يترك حتّى نبات الأرض (تك 19: 27). وهكذا عاد ذاك المكان إلى العدم. نستطيع أن نفهم النصّ بهذه الصورة إن قرأناه كأنّه تقرير صحافيّ على ما حصل في يوم من الأيّام. ولكن مثل هذا التقرير لا يرى عمل الله، ولا يسمع كلماته، ولا يعرف نواياه. فنحن في الواقع أمام تأمّل في ما حدث في الأجيال الغابرة. فالأجيال القديمة تحدّثت عن بركان أصاب المدن القريبة من البحر الميت الذي سُمّي كذلك لأنّه ما عاد يحمل حياة. فأراد الكاتب الملهم أن يستخلص العبرة من حدث نمرّ أمامه كباحثين في طبقات لأرض، أو كسيّاح. أمّا هو فتساءل: لماذا النار والكبريت؟ وربط الأمر حالاً بالله. إذا كان العقاب مريعًا، فهذا يعني أنّ الخطيئة كانت خطيرة جدًّا. تحدّث عنها بولس الرسول في الرسالة إلى رومة: "استبدلت نساؤهم بالوصال الطبيعيّ الوصال غير الطبيعيّ، وكذلك ترك الرجال الوصال الطبيعيّ للنساء والتهب بعضهم شهوة لبعض. وفعل الرجال الفحشاء بالرجال ونالوا في أنفسهم الجزاء العادل لضلالهم" (1: 26-27). هذا ما نسمّيه اللواط، نسبة إلى الناس الذين عاش بينهم لوط، ابن أخي إبراهيم. الكاتب الملهم لم يدرس التاريخ الجغرافيّ. فهدفه أن يُلقي كلمة الله في حياته وفي حياة شعبه. لهذا قدّم لهم العبرة: مثل هذه الخطايا تحمل دمارها في ذاتها. فالكتاب المقدّس الذي كُتب بعد الأحداث، لا يعود إلى الماضي إلاّ لكي يتعلّم منه من أجل المستقبل. وإن هو ذكر ما حصل لسدوم وعمورة، فلكي يفهم المؤمنين تصرّفات يعيشونها في أيّامه فتحمل إليهم الدمار والخراب. والله الحاضر بواسطة الملاكين حاول أن ينجّي لوطًا كما سبق له ونجّى نوحًا. فمهما كان الشرّ كبيرًا، تبقى بقيّة ينطلق منها الربّ لكي يبني ملكوت السلام والمحبّة، لا ملكوت الحرب والبغض والعنف. ولكنّه يطلب مساعدة الإنسان.

في النهاية ما هو مشروع الله الأخير؟ هنا يقدّم لنا العهد القديم "الأحلام"، فيقول أشعيا مثلاً: "يسكن الذئب مع الحمل، ويبيت النمر بجانب الجدي، ويرعى العجل والشبل معًا، وصبيّ صغير يسوقهما، وتصاحب البقرة الدبّ ويبيت أولادهما معًا، ويأكل الأسد التبن كالثور. يلعب الرضيع على وكر الأفعى، ويضع يده في مكمن الثعبان. لا يسيء أحد ولا يفسد أينما كان في جبلي المقدّس، لأنّ الأرض تمتلئ من معرفة الربّ، كما تملأ المياه البحر" (11: 6-9).

أين يقع هذا الجبل؟ حيث تلتقي السماء بالأرض، فينزل الربّ على الأرض ليوقف عنف البشر الذين يريدون أن يُلغوا الله ويلغوا إخوتهم. هذا ما حدث في برج بابل، حيث ما عاد الناس يتفاهموا، فراح كلّ واحد في طريقه. وهذا ما نكتشفه في أيّامنا. نسأل شخصًا: أهلك من الشمال، فكيف وصلت إلى الجنوب؟ فيجيب: قتل جدّي شخصًا وهرب... وهناك التهجير الذي يقول فيه أشعيا أيضًا: "يسكنون في الأرض وحدهم" (5: 8).

جبلُ الله "موضع" فيه تسيطر معرفة الله، جبل الله هو جبل الخلق حيث نرى جميع الحيوانات تمرّ أمام آدم فيعطيها أسماءها يُعلّمها السلام. وهو الفردوس الذي عاش فيه آدم وحوّاء. وكانا عُريانين، ومع ذلك ما خاف الواحد من الآخر. أمّا بعد الخطيئة فتبدّلت الأمور كلّيًّا. جبل الله هو جبل نوح، حيث دخل في السفينة الواحدة، بما فيها من رمز إلى الخلاص (هي تحمينا من الغرق)، ودخل معه جميع الحيوانات. حين شاهدنا ذلك في الأفلام، إبتسمنا. أيُعقل كلّ هذا بين الحيوان؟ بل أيعقل بين بشر "يصهل كلّ واحد على امرأة قريبه" (إر 5: 8) هذا مستحيل على البشر. ولكن الربّ ما زال يؤمن بالسلام ويقدّمه للقريبين (أي نحن وجماعتنا) وللبعيدين الذين يمكن أن يكونوا أعداءنا بعد أن صار الإنسان ذئبًا للإنسان كما تقول فلسفات تريد أن تنسى الإنسان.

هذا الإله الذي حسبناه إله العنف تجسّد، صار طفلاً وضيعًا. جُعل في القماطات، فصار ضعيفًا جدًّا. ومن قلب ضعفه أنشد الملائكة حول ميلاده: "المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام". هذا الإله دخل إلى مدينته على جحش ابن أتان، لا على جواد ومركبة حربيّة. جاء وديعًا متواضعًا، فجمع العنف كلّه في ذاته، عنف اليهوديّ من خلال هيرودس وعنف الوثنيّ من خلال بيلاطس، أصلحهما، لا حين قتلهما، بل حين مات عن كلّ إنسان. وهكذا صار سلامنا بعد أن أعطانا سلامًا لا يقدر العالم أن يعطيناه.

الربّ سيّد الحروب، كلام صحيح. ولكن حربه من نوع آخر. قاد الشعوب القديمة إلى المسيح، لكي يجمع في شخص ابنه كلّ ما في السماء وما على الأرض. وهو يقود الشعوب اليوم، رغم حروبهم وعنفهم، إلى العمل معًا ليخلقوا أرضًا جديدة وسماوات جديدة، يزول منها الموت والحزن والصراخ والوجع.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM