المقدمة
يسوع هو الشخص الأساسيّ في هذا السفر الذي يحمل اسمه. نقرأ في عد 13: 16 أنّ اسمه كان هوشع، فبدّله له موسى وكأنّه يوجّهه في طريق جديد. يشوع صار في اليونانيّة "يسوع" (عب 4: 8). وهكذا صار يشوع صورة بعيدة عن يسوع. هو أدخل شعبه إلى أرض الموعد. ويسوع إلى الملكوت الذي تدشّن في رسالته ويتمّ في عودته.
تروي الأسفار الخمسة أنّ يشوع كان خادم موسى، فعاش في ظلّه. صعد معه إلى الجبل برفقة الشيوخ (خر 24: 13)، وحين تسلّم موسى الوصايا قبل أن يكسر اللوحين اللذين في يده (خر 32: 17). اعتاد يشوع أن يقف قرب الخيمة وكأنّه يحرس موسى من عيون الفضوليّين. كما تمرّس في عمله كقائد حربيّ، ساندته صلاة موسى، في محاربة بني عماليق (خر 17: 8-16).
حين عرف موسى أنّه مائت ولا يدخل أرض الموعد، خاف على المستقبل. فقال له الربّ: "خذ يشوع بن نون، فهو رجل فيه روح الله، وضع يدك عليه" (عد 27: 18). فعل موسى كما أمره الربّ ووافق ألعازار الكاهن والجماعة على هذه التمسية، فصار يشوع خلفًا لموسى. بل سوف نراه في هذا السفر يقوم بالأعمال التي قام بها موسى: كما عبر موسى البحر عبر يشوع النهر...
إرتبط سفر يشوع بشخص يشوع، فنسب إليه كلّ الأعمال البطوليّة التي رواها الكتاب. ولكن حين نقابل هذا السفر مع سفر القضاة، نفهم أنّ "أعمال البطولة" توزّعت على أكثر من شخص. وجاء الكلام وكأنّنا أمام حرب منظّمة شبيهة بما عرفته الشعوب القديمة الآتية من مصر أو بلاد الرافدين. فحين نقرأ هذا السفر نقابل يشوع مثلاً مع الإسكندر المقدونيّ بسرعة فتوحاته. لا شكّ في أنّ النصّ يشدّد على عمل الله في الدرجة الأولى، بحيث لا يبقى للشعب سوى أن يقطف الثمار. ولكنّ ورود اسم يشوع بهذه الكثرة (حوالى مئة مرّة)، يجعلنا نفكّر أنّنا أمام شخص يتفوّق على جميع الذين حوله. وسرعة فتوحاته تذكّرنا بملاحم عرفها العالم القديم، مع ذكر للملوك والمدن ذكرًا سريعًا. لا ملك يقف في وجه يشوع. بعد أن أطاح بواحد وعشرين ملكًا (12: 24). ويرد أسماء المدن العديدة التي كان يشوع يلامسها، فدخلت تحت سلطته. إذن، بدا عمل هذا البطل بشكل "نزهة"، انطلقت من الوسط إلى الجنوب، قبل أن تصل إلى الشمال. وهكذا تمّ احتلال فلسطين بيده، مع أنّنا نعرف أنّه بقي الكثير لشاول وداود، كما قال الكتاب أكثر من مرّة: هذه المدينة أو تلك لم تخضع لبني إسرائيل.
عن يشوع يتكلّم سفر يشوع في "احتلاله" لأرض الموعد، وتقسيمه الأرض بين القبائل قبل موته. في قسم أوّل (ف 1-12) يرسل هذا "البطل" من يستكشف الأرض، فتستقبلهم امرأة زانية راحاب، ستكون أوّل الداخلين في الإيمان بالله الواحد. ويعبر بنو إسرائيل الأردنّ، مع يشوع، كما سبق لهم وعبروا البحر مع موسى. يد الربّ هي التي تفعل، وساعة يكون الخطر أكثر ما يكون. "الأردنّ طافحٌ من جميع شطوطه" (3: 15). هو انتصار على الشرّ من خلال المياه، بانتصار غلبة على آلهة الكنعانيّين. ولكنّ هذه ستكون طويلة، والأصنام ترافق حياة المؤمنين بحيث يحاولون إرضاء الله دون أن يُغضبوا الآلهة الذين يقدرون أن يمنعوا عنهم المطر والخصب، مثل بعل مثلاً.
بدأت المسيرة روحيّة أكثر منها حربيّة. فعبور النهر جاء بشكل تطواف دينيّ فيه يكون الربّ في المقدّمة. وكذا نقول عن "احتلال" أريحا، أو بالأحرى وضع اليد على ما بقي من أريحا بعد أن كانت مدمّرة قبل وصول يشوع بمئة سنة. ولكنّ البداية البداية كانت ختان الشعب والتزامه بالعهد بينه وبين الله. ثمّ الاحتفال بالفصح بعد أن كاد الآتون من البرّيّة ينسونه. فيبدو أنّهم ما عادوا يمارسونه بعد خطيئة العجل الذهبيّ (خر 32: 1ي).
دخل يشوع في وسط البلاد فقطع الشمال عن الجنوب. وبعد الإقامة في أريحا ووضع اليد على عاي، وجب عليه أن يواجه حلفًا برئاسة ملك أورشليم. ثمّ كانت معركة جبعون (ف 10). فالجبعونيّون أرادوا الدخول في عبادة الله الواحد بعد أن سمعوا أخبار هذا الإله، فلجأوا إلى الحيلة. التجأوا إلى يشوع وسوف يدفع عنهم شرَّ حلفائهم القدماء الذين اعتبروهم خونة. هو انفتاح على "الغرباء"، ولكنّه انفتاح محدود، لأنّ الجبعونيّين ظلّوا مؤمنين من الدرجة الثانية، بل تساووا مع العبيد في وضعهم. ولكنّ عملهم في الهيكل من تأمين الحبّ والماء، جاء يرفع من قيمتهم، بانتظار أن يحقّ للخصيان أن يقيموا "في بيتي وفي داخل أسوار مدينتي" (أش 56: 3-5).
دخل بنو جبعون في العهد. أمّا عاكان فخرج هو وأهل بيته. وضع يده على ما هو ملك الله. الله هو القائد "الحربيّ" والغنائم كلّها له. ولكنّ عاكان أخذ الفضّة والذهب (7: 20)، فناله عقاب مريع هو وأهل بيته. وفي خاتمة الكتاب، تُدعى جميع القبائل، سواء التي رافقت يشوع، أو التي كانت مقيمة في البلاد ووضعت نفسها تحت راية واحدة، سوف تُدعى للدخول في عهد مع الربّ: "خافوا الربّ واعبدوه... انزعوا الآلهة... اختاروا لكم من تعبدون" (24: 14-15). وكان جواب الشعب" حاشا لنا أن نترك الربّ ونعبد آلهة غريبة" (آ 16).
وواصل يشوع "زحفه" إلى الجنوب. فواجه حلفًا برئاسة ملك حاصور. فقُهر الملك وأحرقت المدينة بالنار. وقدّم ف 12 لائحة بالملوك الذين غُلبوا والمدن التي تمَّ احتلالها. وكلّ مرّة كان يخاف يشوع أو الشعب، كانوا يسمعون صوت الله: "تشدّد وتشجّع" (1: 5، 9). فالله مع يشوع (آ 5، أكون معك) كما كان مع موسى، وهو من يهب النصر لشعبه وإن تركه "يساعده" لكي يفهم أنّ عليه دورًا أن يقوم به، لا على مستوى حرب بسلاح النحاس والحديد، بل على مستوى جهاد من نوع آخر في ترك الآلهة الوثنيّة والتعبّد للإله الواحد.
والقسم الثاني (ف 13-21) من سفر يشوع اهتمّ بتقسيم الأرض بين القبائل مع أنّ الاحتلال لم يتمّ بعد، كما اهتمّ بتعيين مدن الملجأ ومدن اللاويّين. والخاتمة (ف 21-23) جاءت مثلّثة: عادت قبائل شرقيّ الأردنّ إلى أرضها، بعد أن دلّت على تضامنها مع غربيّ الأردنّ (ف 22). أوصى يشوع ما أوصى حين اقتربت ساعة موته (ف 23). وانتهى كلّ شيء في عهد شكيم (ف 24) حيث وُضع نصُب سيكون الشاهد على بني إسرائيل "لئلاّ يُنكروا إلههم" (24: 27).
فسفر يشوع الذي تجمّعت موادّه منذ الوصول إلى تلال موآب والاستعداد للدخول إلى الأرض، أي منذ القرن الثالث عشر ق.م.، سوف يصل إلى الكتاب في صورته النهائيّة، في زمن المنفى أو بعد العودة من أرض بابل إلى أرض فلسطين. فكما عبر الشعب مع موسى البحر الأحمر فصاروا في الحرّيّة في عبادة الله الواحد. وكما عبروا نهر الأردنّ وأعطيت لهم هذه الأرض "الصالحة" التي فيها يستطيعون أن يجتمعوا حول الله الحاضر في وسطهم، هم سيعبرون الفرات مرّة أخرى، كما فعل إبراهيم، ويعودون إلى الأرض جماعة من المؤمنين، لا من المحاربين، فينبذون عادات الكنعانيّين وأعيادهم وممارساتهم وآلهتهم. لهذا كانت الحرب المقدّسة. أسلوب الكلام أسلوب الحرب. ولكنّه أسلوب وحسب، لأنّ العائدين من المنفى أضعف من أن يعلنوا الحرب. بل يُذكر أنّهم استغنوا عن الخيل فقطعوا مفاصل أرجلها، وعن العربات فأحرقوها (11: 9). سلاحهم اسم الربّ. وبهذا السلاح "يقتلون" كلّ نفس، ويدمّرون المدن. ما عرفوا أن يميّزوا الخاطئ من الخطيئة، فقتلوا الخطأة معتبرين أنّهم بهذه الطريقة يُلغون العبادات الكنعانيّة التي ظلّت تستهويهم أجيالاً عديدة. ولكنّ هذه العبادات هي في قلب بني إسرائيل والعجل حملوه معهم من برّيّة سيناء. هي طريق الانعزال بحيث يحرم المؤمن نفسه من الاتّصال بالأشخاص لأنّهم نجسون، ومن غنى هذا البلد لأنّه مكرّس لله. فالله هو من يعطي ويسمح لهم بأن يغنموا الغنائم والبهائم (8: 2).
فسفر يشوع أوّل كتاب في التاريخ الاشتراعيّ. هذا التاريخ الذي يضمّ أسفار يشوع والقضاة وصموئيل والملوك، كُتب في ضوء سفر التثنية مع فكرة وحدة الشعب حول المعبد الواحد، ذاك الذي يختاره الله لسكناه: الجلجال، شيلو، شكيم. فالخيانة تعاقب كما كان الأمر بالنسبة إلى عاكان. والانقسام يدفع القبائل إلى الحرب: فكيف تنفصل تلك التي تقيم شرقيّ الأردنّ عن قبائل غربيّ الأردنّ وتبني مذبحًا خاصًّا بها، غير ذاك الذي يجمع "كلّ" بني إسرائيل بقيادة يشوع، وخصوصًا بقيادة ألعازار. فهذا "التاريخ" تأثّر أيضًا بالتقليد الكهنوتيّ، لأنّ الكاهن الأعظم كان "الملك" في الشعب، تحت الاحتلال الفارسيّ، حين جاء سفر يشوع في صيغته النهائيّة. وهكذا خضع يشوع لألعازار، كما سبق لإبراهيم وقدّم لملكيصادق العشر من كلّ ما جاء به.
ويعتبر التقليد اليهوديّ أنّ سفر يشوع يعدّ أوّل "الأنبياء الأوّلين" أو "السابقين" على أن يكون أشعيا وإرميا وحزقيال والاثنا عشر الأنبياء اللاحقين. كلمة الله هي التي توجّه الأحداث. والمسيرة هي مسيرة دينيّة في رفقة الله. لهذا، يمكن أن يموت يشوع ويُدفَن (24: 29-30). يمكن أن يموت ألعازار بن هرون (آ 33). غير أنّ مشروع الله يتواصل. هو وعدَ وهو يفي. وعد بالأرض وها القبائل وصلت إلى الأرض وأقامت فيها بحسب إمكاناتها الضعيفة تجاه مركبات الكنعانيّين وخيلهم. نجد أنّ هذه الأرض ستكون المحكّ لأمانة الشعب لله، جوابًا على أمانة الله للشعب. إن كان الشعب أمينًا أقام بسلام في أرض تخصّ الربّ مع سائر الشعوب. وإلاّ طُرد من أرضه، وهذا ما حصل مرّة أولى حين ذهب الشمال بعاصمته السامرة، إلى المنفى الأشوريّ، والجنوب بعاصمته أورشليم إلى المنفى البابليّ. فهذه الأرض أعطاها الربّ. ولا بدّ من وضع اليد عليها، والإقامة فيها. في هذا الإطار نفهم لماذا وضع سفر يشوع لائحة بالمدن والقرى. فكلّ موضع عزيز على قلبه، وفي كلّ موضع وطئت قدما الله فتقدّس هذا الموضع وأعطيَ لشعب يجب أن يكون مقدّسًا، أي مكرّسًا لخدمة الله وعبادته قبل كلّ شيء.
ذاك هو سفر يشوع الذي اعتبره التقليد المسيحيّ أوّل الكتب التاريخيّة، لأنّه يروي تاريخ الله، لا تاريخ البشر، فينطلق من الأحداث ويُلقي عليها نور الإيمان، غير باحث عن الأسباب السياسيّة والحربيّة والاجتماعيّة. وهو كتاب نبويّ حيث يشوع يواصل عمل موسى، ولا يقوم بعمل لم يأمر به موسى. وأخيرًا هو كتاب اشتراعيّ لأنّ ما قيل بشكل مجرّد في سفر تثنية الاشتراع وجد تطبيقًا في هذا السفر كما في أسفار القضاة وصموئيل والملوك: عطيّة الأرض ترتبط بالأمانة لله. ووحدة الشعب حول ملك واحد وهيكل واحد، هي الإطار من أجل جماعة تمهّد الطريق لملكوت الله الذي يدعو إليه يشوع آخر، هو يسوع المسيح.