القسم الثامن:دعوة التلاميذ الأوّلين

دعوة التلاميذ الأوّلين
4: 12- 23

الشعب الساكن في الظلمة أبصر نوراً عظيماً.
إتّبع متّى مرقس فجعل بداية كرازة يسوع بعد توقيف يوحنا المعمدان والقائه في السجن، ولكنّه اهتم وحده بتبرير اختياره للجليل تبريراً لاهوتياً. فاستعاد بصورة احتفالية كلمات (زبولون، نفتالي) خرجت من زمان بعيد من الاستعمال العادي. حقاً إن متّى يكتب تاريخاً مقدساً بكلمات قُدسية. وإذ أراد أن يُبرز الشمولية التي نستشفّها في نص أشعيا، أشار فيما بعد إلى الجموع التي وصلت إليها كرازة المعلم، هذه الجموع الآتية من سورية والمدن العشر وأورشليم وعبر الاردن. وينتهي الإيراد الكتابي بهذه الكلمة التي تشكّل برنامجاً للكنيسة: "أشرق نور عليهم". هذا النور سينقله التلاميذ إلى العالم (5: 14).
وبعد هذه الإجمالة القصيرة عن الكرازة الأولى في الجليل، وفيها نداء إلى التوبة لأن ملكوت السموات اقترب، يقدّم لنا متّى المدعوّين الأوّلين، شهود المعلّم الأوّلين، مجموعتين من الصيادين. نصّ موجز إلى آخر حدود الإيجاز وهو يُبرز لنا الكلمة الحاسمة: تعالوا واتبعوني (سيروا ورائي) وأنا أجعلكم صيّادي بشر. دعوة لم تُعرَف من قبل. كان للمعلم اليهودي (رابي) تلاميذ ينشّئهم على تفاصيل الشريعة. أما يسوع فيطلب تعلّقاً بشخصه، ويقدّم نفسه كمحور نظرة جديدة.
أجعل منكم صيّادي بشر. في العهد القديم، أقام الله أشخاصاً كأنبياء أو ملوك. واتخّذ يسوع المبادرة عينها. فكلمته السامية تحوّل حياة هؤلاء الشبان، وتجعل من صيادين بسطاء عاملين في تحويل العالم، لأنهم قبلوا أن يتركوا كل شيء ليتبعوه.
بعد موت يوحنا الذي ظنّ عدد من الناس أنه إيليا، إستعاد يسوع كرازة أشعيا، إستعاد البشرى التي تتجاوب وآمال الفقراء والمضطهدين. هتف: "توبوا، فإن ملكوت السموات هو هنا". وهذا الإعلان عن قُرب ملكوت الله، يجعل الناس يتطلّعون إليه على أنّه المسيح المنتظر.
ولكنّه لا يقدّم نفسه كمسيح ملكي، ولا كالامبراطور الروماني الذي ترافقه القوة والمجد. لقد جاء في البساطة والفقر، في خشونة رجل من الجليل وعامل لا يعرف المواربة في كلامه. غير أن عنفه ضد الاغنياء والقلوب اليابسة والمقتدرين واصحاب السياسات والمرائين، يتجاوزه صبرٌ تجاه البائسين والمرضى والمحتقرين والعائشين على هامش المجتمع، يتجاوزه تجرّد خاص أمام المال والسلطة.
لا يأتي ملكوت الله بشكل دولة قوية ومستقلة. ولكننا نستشفّه مُلكاً مؤسَّساً على الإيمان والمحبة وسط تلاميذ يسوع، مُلكاً يقيم في قلوبهم أولاً ثم في جماعتهم الأخوية. دستور هذا الملكوت التطويبات. وشريعته المحبة المتبادلة والمغفرة والرحمة. سلاحه صليب يسوع. ولن يكون لجنوده سلاح إلا إيمانهم وعطية الروح القدس. نحن أمام ثورة يحرّكها يسوع، فننتقل من مملكة زمنية إلى ملك روحي، من قوة متكبرّة إلى خدمة أخوية.
ومثال الملكوت حسب الإنجيل، نجده في يسوع الذي يغسل أقدام تلاميذه ويعطي حياته حتى نهاية العطاء. بالنسبة إلى كل معمّد، إن ملكوت الله يأتي كل يوم أو يبتعد بقدر تعلّقه بالمسيح واهتمامه بخدمته وخدمة الاخوة.
هل نعيش في القلق والاضطراب من ذاك اليوم العظيم والرهيب الذي أعلنه الانبياء؟ كلا، فالرسول يؤكد: "ملكوت الله هو برّ وسلام وفرح في الروح القدس". ويتمنَّى لتلاميذه: "ليُعطكم إله الرجاء ملء الفرح والسلام ليفيض الرجاء فيكم بقوة الروح القدَس". في هذا الرجاء نستطيع أن نردّد كلّ يوم ما علّمنا يسوع من كلام: "ليأت ملكوتك"!
اعتُقل يوحنا فبدأ يسوع رسالته، وقال كما قال نسيبه: توبوا فقد اقترب ملكوت السموات. وهكذا تسلّم يسوع الشعلة من يد آخر الانبياء. أُوقف يوحنا ومُنع عن الكلام، فأعلن يسوع كلمة الله بصورة عامة. لا انقطاع بل استمرارية، ولكن يسوع يذهب أبعد من يوحنا. كرز يوحنا في البريّة، أما يسوع فراح الى المدن، الى حيث يتجمّع الناس. أجل، مرّ يسوع في مدننا، مرّ في قلوبنا. ماذا كانت ردّة الفعل عندنا؟ علّم تلاميذه مهنة جديدة: يصطادون الناس لا من أجل الموت، بل من أجل الحياة، من أجل انطلاق في البحر الواسع. هذه هي المهمّة الملقاة على عاتق التلاميذ، هل نحن معنيّون بها؟

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM