الفصل الخامس عشر الإنجيل بحسب متّى

الفصل الخامس عشر
الإنجيل بحسب متّى

لعب الإنجيلُ بحسب متّى دورًا كبيرًا في تقليد الكنيسة اللاهوتيّ والليتورجيّ. لقد كان أولَّ كتاب فُسِر. وعاد إليه النحّاتون والرسّامون يستقون من صوره، ولاسيّما وإنّه يستفيد من العلائق الرمزيّة بين العهد القديم والعهد الجديد.
لم يُكتب إنجيل متّى بين ليلة وضحاها. فالتناوب بين الأقوال والأعمال يدلُّ على ممارسة ليتورجيّة وتعليميّة طويلة سبقت تدوين الكتاب.
عرفت الكنيسة هذا الكتاب في اللغة اليونانيّة ونقلته إلينا بعد أن دوِّن في السنوات 80- 90 ب م. كان الكتاب قد دوّن، على ما يبدو، في اللغة الآراميّة، لغة يسوع وتلاميذه، فجاء ورثة الرسول الروحيّون وأعطوا الكتاب شكله النهائيّ في اليونانيّة.
إنجيل متّى هو أطول الأناجيل وهو يضمّ 28 فصلاً مثل سفر الأعمال. عدد كلماته 18278 وهي أقلّ من عدد كلمات إنجيل لوقا (19404) ومن أعمال الرسل (18374).
أمّا نحن فسنحاول الولوج إلى هذا الإنجيل متوقّفين على خمسة أقسام:
متّى وإنجيله
الجماعة التي انتمى إليها متّى
بنية الإنجيل بحسب متّى
طرائق متّى في تدوين إنجيله
التوجّهات اللاهوتيّة في الإنجيل الأوّل، إنجيل متّى.

أ- متّى وإنجيله
1- من هو متّى
إعتبر التقليد المسيحيّ أنّ متّى هو لاوي الذي يتحدّث عنه الإنجيل. نحن لا نقدر أن نقدّم البرهان الشافي على هذا القول، ولكنّ مصداقيّة الإنجيل لا تتبدّل. فجذوره عميقة في المحيط الفلسطينيّ حيث سارت الكنيسة الرسوليّة أولى خطاها واحتملت أوّل اضطهاداتها. لن نكون بعيدين عن الحقيقة إن أرجعنا هذا الإنجيل إلى مجموعة الاثني عشر رسولاً وبالتحديد إلى متّى (لاوي)، أقلّه في نواته الأولى التي قد تكون دوِّنت في الآراميّة. بعد هذا امتدّ عمل التدوين وشارك فيه تلاميذ رافقوا يسوع منذ البداية. يتحدّث الشرّاح عن "مدرسة القدّيس متى". يبقى أن نتعرّف إلى هذا الرسول الإنجيليّ الذي هو في أساس الأنجيل الأوّل.

أوّلاً: معطيات الإنجيل
اسم متّى يعني عطيّة الله. تذكره كلّ لوائح الرسل الواردة في العهد الجديد. نقرأ مثلاً في 10: 3: وفيلبّس وبرتلماوس وتوما ومتّى العشّار. وفي مر 3: 18: وأندراوس وفيلبّس وبرتلماوس ومتّى وتوما. وكذا نقرأ في لو 6: 15 وفي أع 1: 13. ويورد التقليد الإزائيّ دعوة لاوي ذاك العشّار أو جابي الضرائب. يقول مر 2: 14 وبينما هو سائر رأى لاوي بن حلفى جالسًا في بيت الجباية. فقال له يسوع: "اتبعني" فقام وتبعه. (رج لو 5: 27). وما شاء لاوي أن تمرّ هذه المناسبة دون أن يُولم وليمة يدعو إليها أصحابها الذين يحتاجون إلى يسوع احتياج المرضى إلى الطبيب والخاطئين إلى التوبة. يسمّيه مرقس "ابن حلفى"، أمّا الإنجيل الأوّل فيسمّيه متى (9: 9) ويذكر مهنته (10: 3). إذا تتبّعنا نصّ الإنجيل نجد أنّ موطنه كفرناحوم، وقد حمل اسمين لاويَ ومتّى، كما حمل رئيس الرسل اسمين سمعان وبطرس، وقد يكون يسوع أعطاه لقب متّى فأعطاه اسمًا جديدًا بعد أن جعل منه إنسانًا جديدًا.

ثانيًا: معطيات التقليد
اعتبر إكلمنضوس الإسكندرانيّ أنّ لاويَ هو متّى. وقال بابياس أسقف هيرابوليس (حوالي السنة 120): "إنّ متّى جمع في لغة العبرانيّين (أي اللغة الآراميّة) أقوال يسوع، وفسَّرها كلَّ واحد حسب استطاعته". نقل إلينا أوسابيوس القيصريّ هذه الشهادة كما نقل إلينا شهادة أوريجانس الذي يقول: "عرفت، من التقليد، الأناجيلَ الأربعة التي لا جدال فيها في كنيسة الله التي تحت السماء. قد كتب الأوّل حسب متّى الذي كان عشّارًا ثمّ أصبح رسول يسوع المسيح. دوّنه للمؤمنين الآتين من العالم اليهوديّ وكتبه في لغة العبرانيّين".
ولقد اهتمّ إيريناوس بتثبيت قانون الأناجيل، فقدّم تحديدًا عن زمن كتابتها. قال: "وأظهر متّى لدى العبرانيّين وفي لغتهم الخاصّة إنجيلاً مكتوبًا يوم كان بطرس وبولس يبشّران رومة ويؤسّسان فيها الكنيسة".
نقل أوسابيوس شهادة بابياس وأوريجانس وأظهر اهتمام بولس بالرسالات البعيدة. قال: "بشّر متّى أوّلاً العبرانيّين. وإذ وجب عليه أن يذهب إلى غيرهم، دوّن في لغة أجداده إنجيله فعوّض عن حضوره بالكتابة تجاه الذين يبتعد عنهم". وتحدّث إيرونيموس عن الرجال المشهورين فأعلن أنّ متّى العشّار كان أوّل من كتب لأهل الختان إنجيلاً في حروف وكتابة عبريّة. وزاد قائلاً: "إنّ النسخة العبريّة لا تزال موجودة في مكتبة قيصرّية التي جمعها الشهيد بمفيليوس باهتمام". في الواقع لم ير إيرونيموس الإنجيل بعينه ولكنّه استند إلى معلومات حملها إليه مسيحيّون من بيره، قرب أنطاكية. وقد ذكر إيرونيموس أنّه استعمل بعض نصوص من هذا الإنجيل الموجَّه إلى المتهوّدين (يهود صاروا مسيحيّين). كتب: في الإنجيل المسمّى "حسب العبرانيّين" وجدت مكان "الجوهري" كلمة "محر" التي تعني غدًا. وهكذا صار المعنى: أعطنا اليوم "خبز الغد".
إذًا، يساعد التقليد على القول بأصل إنجيل متّى الرسوليّ. ونزيد: لم يهتمّ القدماء بالأصل الأدبيّ للكتاب، بل بمضمونه التعليميّ وسلطته في الكنيسة. إنّهم يشدّدون على القيمة الرسوليّة لمتّى اليونانيّ الذي حفظ بين الأسفار القانونيّة، لا على مراحل تأليفه الأدبية.
ونزيد في إطار التقليد بعض المعلومات التي تقول إنّ متّى ذهب سنة 42 إلى الحبشة وبشرَّها، وقال آخرون بل إلى بلاد الفراتيّين أو فارس أو سورية أو مكدونية وحتّى إرلندة. وتختلف المعلومات حول موته. يبدو أنّه مات موتًا طبيعيًّا. ولكنّ الكنائس اليونانيّة واللاتينيّة أكرمت استشهاده الذي تمّ في الحبشة. نُقلت رفاته إلى كاتدرائيّة سالرنة (في إيطالية) في القرن العاشر، وعيَّدت له الكنيسة البيزنطيّة في 16 تشرين الثاني، والكنيسة اللاتينيّة في 21 أيلول، وقد صار متّى شفيع موظّفي الجمارك والصرّافين.
احتفظت لنا الإيقونات برسوم للإنجيليّ متّى وقربه شابّ، فصار رمز الإنجيل الأوّل لأنّ متّى يبدأ إنجيله بنسب يسوع البشريّ. نشير هنا إلى أن الحيوانات الأربعة قد ذكرت في حز 1: 5- 14 فطبّقها آباء الكنيسة على الإنجيليّين الأربعة فكان الإنسان رمز متّى، والأسد رمز مرقس، والثور رمز لوقا، والنسر رمز يوحنّا.
لقد شرح أوريجانس (+ 253) إنجيل متّى فبقيت لنا منه مقاطعُ عديدةٌ، وقدّمه يوحنّا فم الذهبيّ (+ 407) للمؤمنين في 90 عظة، وشرحه كيرلّس الإسكندرانيّ (+ 444). هذا في العالم اليونانيّ. أمّا في العالم اللاتينيّ فنعرف قراءة متواصلة لمتّى عند هيلاريون أسقف بواتييه (+ 367) الذي أبرز سرّ الخلاص، وَشْرحَ إيرونيموس (+ 420) ألذي أبرز البعد التاريخيّ لهذا الإنجيل. أمّا في التراث السريانيّ والعربيّ فلا نجد شرحًا قبل القرن التاسع. نذكر إيشوعداد المروزيّ لدى السريان، وأبا الفرج عبد الله ابن الطيّب الذي كتب في العربيّة "فردوس النصرانيّة" ففسّر الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد.

2- إنجيل متّى
أوّلاً: النصّ المطبوع
وصلت إلينا حتّى اليوم 15 برديّة كتبت معظمها بين السنة 200 والسنة 400، ولكنّها لا تحتوي إلاَّ مقاطع صغيرة. فلا نجد أكثر من 10% من نصّ متّى على برديّات سابقة لسنة 400.
أقدم كودكس على البرديّ يعود إلى سنة 200 وقد حفظ لنا مقطعين. الأوّل في أوكسفورد (إنكلترّا) ورقمه 64 وهو يضمّ 3: 9، 15؛ 5: 20- 22، 25- 28. والثاني في برشلونة (إسبانيا) ورقمه 67 ويضمّ 26: 7، 10؛ 14: 15، 22- 23، 31- 33.
ونُشرت برديّات سنة 1935 فتضمّنت مقاطع من ف 20، 21، 25- 26 تعود إلى القرن الثالث.
أمّا النصّ المطبوع لمتّى فهو نصّ المخطوطات الإسفينيّة العائدة إلى القرن الرابع. في الدرجة الأولى هناك النصّ السينائيّ ثمّ الفاتيكانيّ، والأقراميّ، وفي الدرجة الثانية النصّ الإسكندرانيّ الذي يعود إلى القرن الخامس.

ثانيًا: مراجع متّى وعلاقته بمرقس ولوقا
إذا قابلنا متّى مع الإزائيّين الآخرين، وجدنا أنّه قريب من مرقس فيما يخصّ الأخبار، وقريب من لوقا فيما يخصّ كلمات المسيح: هناك 600 آية (من أصل 1068 آية) مشتركة بين متّى ومرقس. لكنّ متّى لخَّص مرقس، وافترق عن ترتيب مرقس في 4: 17- 13: 58، واقترب منه بعد ف 14. وهناك 240 آية مشتركة بين متّى ولوقا. وهكذا يبقى لمتّى 330 آية خاصّة به. حينذاك قدَّم بعض الشرَّاح افتراضًا يقول إنّ متّى هو نسخة موسّعة ومحوّرة لمرقس. وما زاده متّى أخذه هو ولوقا من معين خاصّ. وهكذا نكون أمام مرجعين لإنجيل متى: إنجيل مرقس والمعين المشترك بين متّى ولوقا.
وتبقى الآيات الخاصّة بمتّى. من أين جاءت؟ هل عرف متّى مرجعًا خاصًّا به، هل عاد إلى التقاليد الشفهيّة؟ فنحن نلاحظ التقاليد عن طفولة يسوع والدور الأوّل ليوسف (ف 1- 2)، وأقوال يسوع عن طبيعة "البرّ" المسيحيّ (في خطبة الجبل) وتعليماته عن حياة الجماعة. هناك تقاليد تتّصل ببطرس (14: 28- 31؛ 16: 17- 19؛ 17: 24- 27)، وتقاليد تناقلها اليهود عن يهوذا وحراسة القبر. وهكذا يبدو لنا متّى ذلك الكاتب الذي "تتلمذ لملكوت السماوات" (13: 52) فأنمى كنزه بأبحاث طويلة وقدّم لنا اكتشافاته بطريقة خاصّة. لا، ليس متّى مقمِّشًا وجمّاعًا وحسب، إنّه مؤلّف مبتكر عرف أن يحوِّر في النصوص التي وصلت إليه لأسباب أدبيّة أو لاهتمامات لاهوتيّة.

ب- الجماعة التي انتمى إليها متّى
1- جماعة متهوّدة
الجماعة التي عاش فيها متّى هي جماعة مسيحيّين جاؤوا من العالم اليهوديّ. إنّها جماعة حيّة ينعشها متّى بحضوره ويتكلّم باسمها. وهكذا يبدو كتابُه تعليمًا يتوجّه إلى هذه الكنائس المتهوّدة. كان أصلها من الجليل، وقد تكون هجرت أورشليم بعد الاضطهاد الأوّل لتقيم في شماليّ فلسطين أو في سورية الجنوبيّة، لأنّ إنجيل متّى يذكر هذه المناطق. وتحدّث بعض الشرّاح عن قينيقية أو أنطاكية كموطن محتمل لإنجيل متّى.
حين نقرأ هذا الإنجيل، نحسّ أنّنا أمام كنيسة منظَّمة تعود إلى نفسها على ضوء حياة يسوع وتعليمه. والذي دفعها إلى عمليّة الرجوع إلى الذات هو ضرورة اتّخاذ موقف تجاه العالم اليهوديّ الرسميّ الذي خرج المسيحيّون منه. فالمشكلة التي تعترضهم هي: هل يبقون على الاتّصال بجذورهم اليهوديّة أم يسجّلون على نفوسهم هذا الانفصال الذي لا دواء له؟ ليست المسألة بسيطة. ومتّى لا يتّخذ موقفًا قاطعًا. هو يحافظ على الاتّصال لأنّ يسوع يكمِّل تاريخ شعب إسرائيل، ولكنّ هذا الإكمال يحدث انفصالاً.
كان هؤلاء المسيحيّون أمام تقليد متجذّر في إبراهيم ويعود إلى ألفي سنة تقريبًا، فهل يمكنهم أن يُلغوه دون أن يتنكَّروا لتاريخهم، فمن خصائص الشعب المختار أنّها تكفل وجود يسوع البشريّ، يسوع الذي هو المسيح وابن الله الحيّ. ويشدّد متّى على أمانة يسوع لعهد الله مع شعبه كما يظهر في الشريعة والأنبياء. هو ما جاء ليبطل، بل ليكمِّل (5: 17). هو يحفظ السبت ويحضّ تلاميذه على ممارسة الوصايا، ولكنّه يتميّز عن الرابّانيّين بطريقته الجذريّة، بسلطته القديرة ورحمته تجاه الخطأة والعائشين على هامش المجتمع.
في زمان يسوع، كان الكتبةُ اللاهوتيّين الذين يفسّرون الكتاب على ضوء تفسير الفرّيسيّين، ويدعون إلى ممارسة الشريعة ممارسة تنبع من هذا التفسير. أمّا الرابّانيّون فهم الكتبة وقد اتّخذوا هذا الاسم بعد سنة 70 ب م (الربّ هو من يسوس القوم لأنّه فوقهم وأعظم منهم)، فنقلوا التعليم في مدارسهم. اعتبروا محافظين على التقليد الشفهيّ الذي يعود إلى موسى مارًّا بالقدماء والحكماء في المجمع الكبير. واستندت سلطة الرابّانيّين إلى اتّساع علمهم وخضوعهم الدقيق لتقليد الآباء. فإذا قابلنا تعليم الرابّانيّين بتعليم يسوع نجد أنّ تعليم يسوع يثير انتباهنا بحرّيته وعمقه واتّساع آفاقه.
إنّ تعليم يسوع قد حرّر شعبه من شريعة صارت عبوديّة، لأنّ حارسيها أحلُّوا محلَّ روح الحرّيّة مجموعة من الممارسات الدقيقة التي لا فائدة منها. غير أنّ هذا التحرّر لم يكن إلغاءً للشريعة بل تتميمًا لها. إذًا، على المسيحيّ أن يعيش شريعة العهد عينها، ولكن في استعداد بنويّ توجِّهه حرّيةُ أبناء الله. فعلى الكنيسة الأولى أن تحفظ نفسها من كلّ شريعانيّة (نزعة احترام الشرع بدقّة) تنكر هذا التتميم.
فالخطر لا يزال هنا وهو حقيقيّ ساعة كتب متّى: صار اليهود مسيحيّين، ولكنّهم ظلّوا يعيشون حسب فرائض الشريعة المعمول بها في الجماعات. ولكن بعد سقوط أورشليم سنة 70 ودمار الهيكل، خاف الشعب اليهوديّ على نفسه من الزوال، فأراد أن يستعيد أنفاسه. وتجاه تدمير الأمّة، تنظَّمت حركة دينيّة بقيادة الفرّيسيّين واجتمعت في يمنية (على شاطئ البحر، تبعد 20 كم إلى الجنوب من يافا) فأعادت تلاحم الشعب الذي كاد يتفتّت. حُدِّدت الأسفارُ القانونيّة في التوراة، وفُرِضت الممارسات الجوهريّة لتمنع كلّ انحراف.
وعرفت الجماعة اليهوديّة أنّ الخطر الأساسيّ يكمن في المسيحيّين (وكانت تسمّيهم ناصرّيين). اعتبرتهم شيعة منشقّة. أرادت أن تدافع عن نفسها فحرمت استعمال السبعينيّة (ترجمة التوراة اليونانيّة التي يستعملها المسيحيّون)، ونظَّمت طقوسًا لا يمكن للمسيحيّين أن يقبلوا بها.
اقترح رابي جملائيل الثاني حوالي سنة 80 إدخال المباركة الثالثة على صلاة الصبح التقليديّة المؤلّفة من ثماني عشرة مباركة. هذه المباركة تقال ضدّ المتشيّعين (أو الهراطقة ومنهم اليهود الذين ارتدّوا إلى المسيحيّة). وهذا نصّها: "ليَزُلْ رجاء المفترين، ليتبدَّدْ السيّئون، ليتدمّر الأعداء. لتَضْعُفْ قريبًا قوّة الكبرياء وتتحطّمْ وتُذَلَّ في هذه الأيّام. مبارك أنت أيّها الأزليّ، لأنّك تحطّم أعداءك وتُذِلُّ المتكبّرين". أدخلت هذه المباركة، فامتنع المسيحيّون عن المشاركة في طقوس المجمع، ومُنعوا من وظيفة الترجمان (الذي يترجم النصوص العبريّة المقروءة في العبريّة، ويفسّرها ويؤوّنها).
وإنّنا نكتشف هذه المعارضة في خلفية إنجيل متّى. في هذا الإطار نفهم عبارة "مجامعهم" في 4: 23؛ 9: 35؛ 10: 17؛ 12: 9؛ 13: 54؛ 23: 34. صار المسيحيّون المتهوّدون غرباء في هذه المجامع، انفصلوا عن اليهود فصارت هذه المجامع مجامع اليهود، وبحثوا لهم عن مكان خاصّ يجتمعون فيه. بدأوا يجتمعون في البيوت بانتظار أن تكون لهم معابد خاصّة بهم.
ونفهم لماذا يشدّد متّى بقوّة على أنّ يسوع يتمّم الكتب. إنّه موسى الجديد الذي يجمع شعب إسرائيل في بنوّة الله. ولكنَّ متّى يبتعد أيضاً عن الفرّيسيّين الذي نظّموا نفوسهم في يمنية فشكّلوا الدين اليهوديّ الرسميّ. كان موقفُ متّى موقفًا هجوميًّا، ولكنّ موقف الكنيسة لم يكن موقفًا متحيّزًا ومانعًا لأحد. إنّه واعٍ لخطر التحيّز الموجود أيضاً في الجماعات المسيحيّة. لهذا قال للمؤمن: "يا مرائي، أخرج الخشبة من عينك أوّلاً، حتّى تبصر جيّدًا فتخرج القشّة من عين أخيك" (7: 5). وقال أيضاً: "كلّ شجرة لا تحمل ثمرًا جيّدًا تقطع وتُرمى في النار" (7: 19؛ رج 7: 21- 23). لهذا يفتح القلوب إلى المصالحة وإلى محبّة الأعداء: "أحبّوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، صلُّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويضطهدونكم" (5: 44).

2- كنيسة منظّمة ومنفتحة على العالم الوثنيّ
بدأ انفصال الكنيسة عن العالم اليهوديّ حين فتحت أبوابها لكلّ الناس من دون قيد ولا شرط. كلّ من اليهوديّ والوثنيّ يستطيع أن يدخل إلى الكنيسة. لا شكّ في أنّ الروح الشاملة وُجدت في العالم اليهوديّ، ولاسيّما عند الأنبياء الذي عاشوا بعد سبي سنة 587 ق م، فأعلنت الزمان المسيحانيّ الآتي. ولكنّ هذه الروح كانت بشكل جاذب، أي تندفع نحو المركز وتقترب منه. أجل، كان اليهود يظنّون أنّ الأمم الوثنيّة سترتدّ إلى عهد إسرائيل فتأتي وتعبد الله في أورشليم. نقرأ مثلاً في أش 2: 2- 3: "سيكون جبل الهيكل في رأس الجبال وفوق كلّ التلال فتأتي إليه جميع الأمم. يذهب إليه شعوب كثيرون ويقولون: هلمّوا نصعد إلى جبل الرب، إلى بيت إله يعقوب فهو يعلّمنا طرقه فنسلك. فيها. فمِن صهيون تخرج الشريعة ومن أورشليم تصلنا كلمة الربّ". أمّا مع يسوع فصارت الروح الشاملة نابذة، أي ابتعدت عن المركز وسارت إلى الأطراف البعيدة، فذهبت إلى الآخرين ولم تحاول أن تأتي بهم إليها. أجل، لقد أرسل يسوع تلاميذه إلى العالم كلّه، وقال لهم: "إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم" (28: 19).
أمّا الطريقة التي يقدّم فيها متّى انفتاح هذه الجماعة اليهوديّة فهي طريقة مثاليّة. يحدّثنا أوّلاً عن جليل الأمم (4: 15؛ رج أش 8: 23- 9: 10). وهذه العبارة تشير إلى الأرض التي رجع إليها شعب إسرائيل بعد المنفى. من هذا القبيل كان الجليل أرضاً مسيحانيّة يمتزج فيها الوثنيّون باليهود على مثال كنيسة متّى. وكان الجليل يمتدّ إلى صور وصيدا والجولان حيث أقام الغيورون (حزب المقاومة ضدّ الاحتلال الرومانيّ).
يبدو أنّ إنجيل متّى وُلد في هذا المكان: ترك يسوع الجليل ولكن ما زال يعود إليه خلال رسالته، وهذا الرواح والمجيء يدلّ على زمن الانسلاخ والمحنة، على زمن الاختلاء والتأمّل. وبعد الفصح سيجتمع الرسل في الجليل، على الجبل الذي دلّهم عليه يسوع (وظلّ مجهولاً بالنسبة إلينا)، ومن هناك أرسلهم إلى الأمم. لفت متّى نظر اليهود إلى هذه المنطقة الشماليّة من فلسطين، فعلَّمهم كيف يكتشفون تتمّة الكتاب في شخص يسوع المسيح.
إنّ هذه الكنيسة التي ولدت في العالم الدوديّ وانفتحت على العالم الوثنيّ بدت جماعة منظّمة كالجماعات اليهوديّة التي عرفتها. هناك نواة من التلاميذ يلتئم حولها الشعب. روح الجماعة تتحلّى بالأخوّة والمسؤوليّة والانفتاح. ليست تجمّعًا من الأبرار الحاصلين على شهادة، بل أناسًا يحاولون أن يعيشوا سعادة الملكوت البعيدة والقريبة منهم في قلب حياتهم اليوميّة.
تنظّمت هذه الكنيسة بطريقة ملموسة. فإعلان ملكوت السماء كأفق حاسم لكلّ وجود مسيحيّ، لم يُلغِ الكنيسة المؤسّسة، بل أقام فيها مجموعة منظّمة في الزمان والمكان يعيش فيها الذين قبلوا التعليم وفهموه وحاولوا أن يعيشوا منه. فيجب على الكنيسة أن تكون لليهود والوثنيّين الذين تعيش بينهم علامة حضور الملكوت وفاعليّته من أجل البشر.
بعد موت يسوع، تنظّمت مجموعات من "الناصرّيين" آمنوا بواقع القيامة. أقاموا أوّلاً في أورشليم، ثمّ انتشروا حيث انتشر الرسل والتلاميذ الأوّلون. كانوا جماعات نشيطة يوم كتب متّى، وتنظّموا في مؤسّسة نجد آثارها في الإنجيل. ولَكنّنا لا نستطيع القول إنّ كنيسة متّى تشبه كنائسنا، كما لا نقول إنّ لا تقارب بين كنيسة متّى وكنائسنا. فالثمرة موجودة في البذرة، والشجرة الكبيرة هي بنت النبتة الصغيرة.
لهذا نجد في إنجيل متى آثارًا لحياة ليتورجيّة وأسراريّة واضحة المعالم. فالعماد موجود مع عبارة ثالوثيّة (28: 19) وهو يرجع بنا إلى عماد يسوع (3: 13- 17). نحن نفهم معنى عماد يسوع وعمادنا على ضوء الموت والقيامة (27: 45- 56). والإفخارستيّا التي أسّسها يسوع في العشاء الأخير (26: 26- 30) هي جزء من تجمّع الجماعة لتأكل الخبز باسم الربّ (14: 13- 21؛ 15: 32- 39). ويرافق الإفخارستيّا تعليمُ الكلمة المستوحى من العالم اليهوديّ، كما تشهد بذلك التوسّعات المدراشيّة في ف 1- 2 وفي الخطب الخمسة. ويلمّح إنجيل متّى إلى طريقة للمصالحة تساعدنا على الاهتمام بالأخ الذي ضلّ (18: 15- 17). هذا يدلّ على وعي الكنيسة لسلطتها: فهي على خطى يسوع (9: 8) وبالسلطان المعطى لبطرس (16: 18- 20) ولجماعة الرسل (18: 18) تقدر أن تمنح غفران الله، كما تقدر أن تشفيَ (10: 1)، وأن تُعلن بشرى الملكوت (10: 7). وتبقى الصلاةُ العملَ الجوهريّ (6: 5- 15؛ 21: 22: كلّ شيء تطلبونه وأنتم تصلّون بإيمان، تنالونه)، فتشهد على حضور يسوع القائم من بين الأموات وسط أحبّائه (18: 19- 20).
وهناك مسؤوليّات داخل الجماعة تُمارَس لا بالتسلّط والاكتفاء بل بروح التواضع (18: 4)، ومن أجل الخدمة (10: 26- 28). وسيلعب الرسل دور الوسيط بالنسبة إلى الجماعة، وهذا ما نراه في بداية خطبة الجبل (5: 1) وفي الحديث عن الأمثال (13: 10- 17، 34: 35)، وقبل مشهدَي تكثير الخبز (14: 19. 15: 36: أعطى يسوع تلاميذه، والتلاميذ أعطوا الجموع).
وسيكون لبطرس مركز الصدارة، ولكنّه يبقى ملتصقًا بالرسل. يوم مشى على المياه كان مع الرسل (14: 22- 30)، وحين شهد لحقيقة يسوع تكلّم باسمهم (16: 13- 28) كلام الله وكلام البشر (16: 23). إنّه يعبّر وَسْطَ إخوته عن سلطة يسوع التي أسّست الكنيسة وما تزال تؤسّسها. إنّه مسؤول عن نموّ الملكوت الذي أوكل إليه كما أوكل إلى رفاقه. إنّه المؤمن الذي يسمع، والصخرة التي بنى عليها يسوع كنيسته (16: 18)، والمجرِّب الذي يضع حجر عثرة في طريق يسوع (16: 23) بانتظار أن ينكره (26: 34، 75). هكذا أظهر أوّلُ الرسل (10: 2) في حياته التوتّر بين كنيسة ملموسة وملكوت أعلن عنه وهو حاضر منذ الآن. وهكذا نقول عن سائر الرسل. هم ولاشكّ يؤمنون، ولكن يجب على يسوع دومًا أن يوبّخهم على قلّة إيمانهم (6: 30؛ 8: 26؛ 14: 31؛ 16: 8). ويهوذا نفسه الذي دُعي "أحد الاثني عشر" (26: 14، 47) خانه وباعه بثلاثين من الفضّة (26: 20- 25، 47- 50).

ج- بنية الإنجيل بحسب متّى
1- تصميم الإنجيل
أراد بعض الشرّاح أن يستخرجوا تصميمًا فاستندوا إلى المعطيات الجغرافيّة التي تتوزّع مراحل حياة يسوع الخاصّة والعلنيّة. فهناك التناقض بين الجليل وأورشليم. أورشليم هي المدينة المنغلقة على نفسها، أمّا الجليل فهو زمن رجاء وانفتاح. في هذا يتبع متّى مرقس. ولكن متّى سيبيِّن أنّ لمنطقة الجليل وجهين. ففي أثناء خدمة يسوع الرسوليّة، يُظهر الجليل كأنّه بلاد يهوديّة لم يكد يسوع يتجاوز حدودها. فإن ذهب إلى صور وصيدا، فهو لم يبشّر إلاّ اليهود ونهى تلاميذه عن الذهاب إلى الوثنيّين والسامريّين (10: 5- 6). ولكن، بعد القيامة، أصبح الجليل أرض الانفتاح على العالم. ففي الجليل، لا في أورشليم، ظهر يسوع الممجّد لتلاميذه وأرسلهم يبشّرون في العالم كلّه (28: 16- 20).
إنّ هذه الملاحظات الجغرافيّة ضروريّة، ولكنّها لا تكفي لتبني تصميمًا لإنجيل متّى، لأنّ للجغرافيا كما رأينا بُعدًا لاهوتيًّا. لهذا راح بعض الشرّاح يَقْسُمُون إنجيل متّى حسب الطريقة التي بها استعمل مراجعه. ولَكنّهم نسوا طريقة متّى المبتكرة، فما اكتشفوا مبدأ ترتيب موادّه. وأبرزَ شرّاح آخرون الطابع الدراماتيكي لإنجيل متّى. أبرزوا عناصر أدبيّة عديدة تتوزّع النصّ. فهناك خلاصات تبدأ مجموعة من الأحداث أو تنهيها. فنحن نقرأ مثلاً في 4: 23- 25: "وكان يسوع يسير في أنحاء الجليل، يعلّم في المجامع ويعلن بشارة الملكوت ويشفي الناس من كلّ مرض وداء". (رج 11: 10؛ 11: 20؛ 12: 15- 21؛ 14: 34- 36؛ 15: 29- 31). وهناك مجموعات من أقوال منسّقة في خطب، وهناك ملاحظات جغرافيّة.
هناك دور يوحنّا المعمدان (3: 1- 17؛ 11: 2- 19؛ 14: 1- 2؛ 17: 12؛ 21: 23- 27) والإنباءات بالالام واختلاءات يسوع (14: 3؛ 15: 21؛ 16: 4).
ولكنّ الأبحاث البنيويّة ساعدتنا على الإحاطة بهذا الإنجيل. فما يلفت انتباهنا أوّلاً هو الوجه التعليميّ، فتتناوب الأقسام الإخباريّة والخطب. فيمكننا أن نستخلص ستّة أقسام: ف 3- 4، ت 8- 9، ت 11- 12، ف 14- 17، ت 19- 22، ف 26- 28. وهناك محطّة أدبيّة مهمّة تفصل بين أقسام الكتاب. فنحن نقرأ في 4: 17: "وبدأ يسوع من ذلك الوقت يبشّر فيقول: توبوا، لأنّ ملكوت السماوات اقترب" ونقرأ في 16: 21: "وبدأ يسوع من ذلك الوقت يصرِّح لتلاميذه أنّه يجب عليه أن يذهبَ إلى أورشليم ويتألّمَ كثيرًا". وهكذا نكون في جزء أوّل (ف 4- 16) مع يسوع الذي يعلن ملكوت الله بتعليمه وأشفيته ويهيّئ الكنيسة. وفي جزء ثانٍ (ف 16- 28) نرى المعلّم الذاهب إلى آلامه يجمع التلاميذ ليكونوا جماعة الشهود للملكوت. هذا ما فعله مرقس. أمّا متّى فزاد عليه أنّه أنهى الخطب الخمس (ف 5- 7، ف 10، ف 13، ف 18، ف 23- 25) بالعبارة نفسها. فنقرأ بعد خطبة الجبل: "ولمّا أتمّ يسوع هذا الكلام، تعجّبت الجموع من تعليمه" (7: 28). وبعد خطبة الإرسال: "ولمّا أتمّ يسوع وصاياه لتلاميذه الاثني عشر، خرج من هناك" (11: 1). وبعد الأمثال: "ولمّا أتمّ يسوع هذه الأمثال" (13: 53). وبعد الخطبة الكنسيّة: "ولمّا أتمّ يسوع هذا الكلام ترك الجليل (19: 1). وأخيرًا بعد خطبة نهاية العالم، قال متّى: "ولمّا أتمّ يسوع هذا الكلام كلّه، قال لتلاميذه" (26: 1).
وهكذا نرى أحداثًا ترتبط بأقوال: يعيش يسوع مع تلاميذه وعليهم سيبني جماعة الملكوت، وإيّاهم يعني تعليمات من أجل الزمن الذي بعد الفصح. إنّ الأخبار تدلّ على تجذّر يسوع في تاريخ شعبه، والخطب تشدّد على ارتباط الجماعة الكنسيّة بحياة يسوع على الأرض. في هذا الإطار، لم يعد إنجيل الطفولة مقدّمة بل هو يأخذ مكانه في المجموعة. ثمّ إنّ خبر الالام والقيامة يرتبط بخطبة نهاية العالم.
إذًا نحن أمام تصميمين متكاملين داخل الإنجيل الواحد، تصميم من قسمين كبيرين، وتصميم من ستّة أقسام. وسنتوقّف على التصميم الثاني: إنّ الكنيسة المؤسَّسة على بطرس وجماعة الاثني عشر هي كنيسة المسيح القائم من بين الأموات، كنيسة يسوع الذي نعرفه بالإيمان، لأنّها كانت كنيسة الناصريّ، كنيسة عمّانوئيل، كنيسة المسيح الذي عاش في التاريخ.

2- اثنتا عشرة مرحلة
وهكذا نرى اثنتي عشرة مرحلة، على عدد الأسباط الاثني عشر والرسل الاثني عشر وهي تشكّل ستّة أقسام يظهر كلّ قسم بحسب الرحمة: الكلام والعمل. هذا هو التقليد اليهوديّ الذي يقرن الخبر (هاغاده) بقواعد الحياة (هلكه). هذا هو التقليد المسيحيّ الذي يحتفل بالإفخارستيّا كلامًا يسمعه، وعملاً تقوم به الكنيسة، فتتذكّر حياة الربّ وموته وقيامته إلى أن يجيء.

أوّلاً: القسم الأوّل (ف 1- 4)
"لكي يتمّ ما قيل في الأنبياء" (2: 23).
المرحلة الأولى (ف 1- 2)
نسب يسوع. تمّ التاريخ في يسوع الذي هو المسيح.
المرحلة الثانية (ف 3- 4).
هيّأ يوحنّا المعمدان ملكوت السماوات، فأعلنه يسوع، ابن الله الحبيب، في مسيرته نحو جليل الأمم.
إن مسيرة طفولة يسوع الذي وُلد بالروح القدس، تعبِّر عن مخطّط خلاص الله في التاريخ البشريّ عبر تاريخ إسرائيل. ولمّا اعتمد يسوع حقَّق بصورة عجيبة الرجاء المسيحانيّ لشعب العهد، حسب أقوال الأنبياء، بمسحة الروح القدس.

ثانيًا: القسم الثاني (ف 5- 9)
"لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماء" (5: 45).
المرحلة الثالثة (ف 5- 7).
سلطة الملكوت كما عبَّر عنها تعليم يسوع.
المرحلة الرابعة (ف 8- 9).
سلطة الملكوت كما ظهرت عبر الأشفية التي اجترحها يسوع.
وُضعت هذه الفصول الخمسة في إطار (4: 23= 9: 35) محدَّد، فدلّت على سلطة يسوع بكلماته وأعماله الخيّرة. ففي شخصه اقترب ملكوت الله حقًّا من البشر.

ثالثًا: القسم الثالث (ف 10- 12)
"حسب التلميذ أن يكون مثل معلّمه" (10: 25).
المرحلة الخامسة (ف 10).
تنتقل سلطة الملكوت إلى الرسل الذين سيلقَون ألاضطهاد.
المرحلة السادسة (ف 11- 12).
الملكوت على المحكّ: يشوع موضوع شكّ وجدال.
نقل يسوع سلطته الخاصّة إلى رسله الاثني عشر، فجعلهم مثله ودعاهم لأن يقاسموه مصيره كعبد الله المتألّم. فمعه وعلى خطاه سيجابهون المعارضة في إطار يوم الدينونة.

رابعًا: القسم الرابع (ف 13- 17)
"على هذا الصخر سأبني كنيستي" (16: 18).
المرحلة السابعة (ف 13)
سرّ الملكوت ونموّه: الأمثال.
المرحلة الثامنة (ف 14- 17).
الملكوت ينمو: خطّ سير الإيمان في الكنيسة.
تتمحور هاتان المرحلتان على سماع الكلمة الذي يصبح فهمًا. أسرار الملكوت سهلة المنال للتلاميذ. أمّا الشعب فيبقى أصمّ وأعمى، لهذا يَقُوْتُهم يسوع ويشفيهم. وفي الوقت ذاته، يكرّس وقته لتربية جماعة التلاميذ (حيث يبرز بطرس)، ولتسييرهم بصبر إلى الإيمان الحقيقيّ بابن الله.

خامسًا: القسم الخامس (ف 18- 23)
"لا يريد أبوكم السماويّ أن يهلك أحد من هؤلاء الصغار" (18: 14).
المرحلة التاسعة (ف 18)
جماعة الصغار التي يتقبّلها المسيح ويغفر لها.
المرحلة العاشرة (ف 19- 23).
الملكوت في قفص الاتّهام: الطريق إلى أورشليم والمجادلات.
ظهر يسوع كديّان الجماعة الكنسيّة التي نظّمها. هو يعيش في وسطها كأنّه "الصغير". ويحمل أيضاً الدينونة الحاسمة في قلب أورشليم حيث الصغار يتعرّفون إليه وحيث السلطات تتنكّر له فتطلب موته. في إطار من التجادل يذكرنا بمحاكمات الأنبياء للشعب على ضوء العهد، يُطرح سؤال الدخول إلى الملكوت وانفتاحه للجميع.

سادسًا: القسم السادس (ف 24- 28)
"إنّ ابن الإنسان يجيء في ساعة لا تنتظرونها" (24: 44).
المرحلة الحادية عشرة (ف 24- 25).
مجيء ابن الإنسان. النداء إلى السهر.
المرحلة الثانية عشرة (ف 26- 28).
صلب ابن الإنسان وفصح الملكوت.
يأخذ تاريخُ الكون وتاريخُ كلّ إنسان معناه من مجيء الله الحالي في يسوع المسيح. فلا نجعل مجيء ابن الإنسان في نهاية الزمن. إنّه يتحقّق بموت ابن الله وقيامته، وهو الحدث الحاسم الذي يحدّد موقع الكنيسة.

الخاتمة (28: 16- 20)
إنّ رسالة التلاميذ الشاملة تشكّل الكنيسة الشاهدة على حضور ملكوت السماوات في تاريخ الناس اليوم.
قال بعضهم: إنّ إنجيل متّى يجعلنا نكتشف في يسوع سيّد التاريخ. إنّه قد أعطى معنى لكلّ ما سبقه، منذ خلق العالم ونداء إبراهيم إلى إعلان يوحنّا المعمدان. وإنّه ربّ الكنيسة، تلك الجماعة المسيحانيّة التي أسّسها. وفي نهاية الزمن سيُعْلَنُ ملكَ العالم ومخلّصَه.

3- مضمون إنجيل متّى
وهكذا ارتبطت حياة الكنيسة بحياة يسوع بفضل هذا التناوب بين الخطب والأخبار. فالخطب تشكل تعليم الربّ لتلاميذه ودستور تأسيس الكنيسة الذي أعطاه القائم من الموت للجماعة التي أسّسها. والأقسام الإخباريّة تدلّ على مماثلة تعليم يسوع لعمله خلال رسالته على الأرض، وهي تمنعنا من أن نحسب الخطب توسّعاتٍ نظريّةً.
وسنبيّن الآن مضمون إنجيل متّى مستعيدين بالتفصيل بنية الأقسام المختلفة مبرزين بعض التطابقات الأدبيّة.

أوّلاً: القسم الأوّل: كلمة الله تكشف الابن الحبيب.
مقدمة: نسب يسوع الذي يُتمّ تاريخ شعبه (1: 1- 17).
يسوع هو المسيح ابن داود وابن إبراهيم (1: 1).
من إبراهيم إلى داود الملك (1: 2- 6).
من داود إلى سبي بابل (1: 7- 11).
من سبي بابل إلى يوسف ويسوع (1: 12- 16).
سلسلة الأجيال: 3 × 14 (1: 17).

المرحلة الأولى: من هو يسوع (1: 18- 2: 23).
هو عمّانوئيل أي الله معنا (1: 18- 25).
هو الرئيس وراعي شعبه (2: 1- 12).
هو ابن الله (2: 13- 15).
هو مخلّص أبناء راحيل (2: 16- 18).
هو الناصريّ (2: 19- 23).

المرحلة الثانية: اقتراب ملكوت السماوات (3: 1- 4: 17).
إعلان يوحنّا المعمدان (3: 1- 4).
يوحنّا ويسوع: مسيحانيّة الانتقام أو التواضع (3: 5- 15).
تنصيب الابن الحبيب مسيحًا (3: 16- 17).
يسوع والشيطان: مسيحانيّة زمنيّة أو إلهيّة (4: 1- 11).
إعلان يسوع (4: 12- 17).

ثانيًا: القسم الثاني: الابن الحبيب يعلِّمنا البنوّة والأخوّة
انتقال - الأخوّة على خطى يسوع (4: 18- 22).
- نشاط يسوع تتبعه الجموع (4: 23- 25).

المرحلة الثالثة: جماعة الأبناء (5: 1- 7: 29).
أ- مقدّمة: تعليم على الجبل (5: 1- 2).
ب- مدخل: سعادة المسيحيّين (5: 3- 12).
ج- دورهم في العالم (5: 13- 16).
د- برّ الملكوت (5: 17- 7: 22).

1- أتمّوا الشريعة في العمق (5: 17- 48).
ما معنى أن نكون أبناء الله في الحياة اليوميّة؟
المبدأ: لقد أتمّ يسوع الشريعة وأسفار والأنبياء (5: 7- 20) ومتطلّباتِها (5: 18- 19).
تبدّل في العلاقات البشريّة (5: 21- 47).
بين الإخوة (5: 21- 24) حتّى المصالحة (5: 25- 26).
بين الرجل والمرأة (5: 27- 28) مع ذلك الذي يوقع في الخطيئة (5: 18- 19) والطلاق (5: 31- 32).
احترام الكلمة المعطاة (5: 33- 37).
تجاه الشرّير (5: 38- 42).
محبّة الأعداء (5: 43- 47).
الأصل: الآب (5: 48).

2- الطابع الباطنيّ لهذا البرّ (6: 1- 18).
كيف يُتمّ ابنُ الله الواجب المثلِّث تجاه القريب، تجاه الله وتجاه نفسه؟
المبدأ: إعمل عملك أمام الآب لا أمام البشر (6: 1).
الأعمال الصالحة التقليديّة (6: 2- 18).
الصدقة (6: 2- 4).
الصلاة (6: 5- 6) والصلاة الربّيّة (6: 7- 15).
الصوم (6: 16- 18).

3- متطلّبات برّ الملكوت (6: 19- 7: 12).
كيفا يعيش التلميذ حسب الموقف المطلوب منه تجاه الله وتجاه الإخوة؟
التزام حصريّ في خدمة الله (6: 19- 34).
القرار الضروريّ: الكنز، العين (6: 19- 24).
البحث الهادئ عن الضروريّ: ثقة في الآب (6: 25- 34).
السلوك تجاه الإخوة (7: 1- 12).
لا تدينوا: القشّة والخشبة (7: 1- 5).
احترم طريق كلّ واحد (7: 6).
إسأل بثقة (7: 7- 11).
الخاتمة: القاعدة الذهبيّة تلخّص الشريعة والأنبياء (7: 12).
هـ- النهاية: ننتقل إلى العمل (7: 13- 27).
الموقف الضروريّ: طريقان (7: 13- 14).
نوعان من الأنبياء (7: 15- 20).
نوعان من التلاميذ (7: 21).
النقص: (7: 22- 23).
نتيجة الموقف: البَيْتانِ (7: 24- 27).
و- الخاتمة: تعليم بسلطان (7: 28- 29). نزول من الجبل (8: 1).

المرحلة الرابعة: عبد الله يلازم شقاءنا (8: 2- 9: 38).
ثلاث كلمات شفاء: أبرص يَطهُر (8: 2- 4).
ضابط يُستجاب (8: 5- 13)
حماة بطرس تقوم (8: 14- 15).
عبد الله- متطلّبات ممّن يريد أن يتبع يسوع (8: 16- 22).
ثلاث كلمات لها سلطان: العاصفة تهدأ (8: 23- 27).
الشياطين تُطرد (8: 28- 34).
المُقعد الخاطئ يقوم (9: 1- 8).
اتّباع يسوع: الطبيب والعريس (9: 9- 17).
أربع كلمات حياة: نازفة تخلص (9: 18- 22).
ابنة رئيس تقوم (9: 23- 26).
أعميان يريان (9: 27- 31).
أخرس يتكلّم (9: 32- 34).
انتقال: نشاط يسوع الشامل (9: 35).
الراعي والحصاد (9: 36- 38).

ثالثًا: القسم الثالث: المعلّم ينظِّم الاثني عشر رسولاً
المرحلة الخامسة: الجماعة الرسوليّة (10: 1- 11: 1).
اختيار الاثني عشر (10: 1- 5 أ).
إعلان السلام ودينونة المدن (10: 5 ب- 15).
الاضطهادات ومجيء ابن الإنسان (10: 16- 23).
تماثل التلميذ مع معلّمه (10: 24- 25).
اضطهادات التلميذ وثقة أمام الآب (10: 26- 33).
السلام أو السيف ومكافأة الاستقبال (10: 34- 42).
ذهاب يسوع (11: 1).

المرحلة السادسة: المعلّم موضوع جدال (11: 2- 12: 50).
1- أعمال المسيح: شكّ وتمييز (11: 2- 30).
سؤال يوحنّا المعمدان عن أعمال المسيح (11: 2- 6).
يوحنّا المعمدان هو نبيّ الملكوت ورسوله (11: 7- 15).
التمييز الذي تحدثه الحكمة (11: 16- 19).
دينونة المدن التي لم تهتمَّ بأعمال قدرة يسوع (11: 20- 24).
الابن يكشف عن الآب للصغار (11: 25- 30).
2- عبد الله هو رجاء الأمم وديّان الشعب (12: 1- 50).
سؤال الفرّيسيّين عن السبت (12: 1- 14).
يسوع يشفي: عبد الله والديّان (12: 15- 23).
التمييز الذي يحدثه مجيء الملكوت (12: 24- 37).
الأمم تدين هذا الجيل المعوّج (12: 38- 45).
قرابة يسوع الحقيقيّة، أن نكون تلاميذ (12: 46- 50).

رابعًا: القسم الرابع: يسوع هو مبدأ نموّ جماعة الملكوت
المرحلة السابعة: سرّ الجماعة التي تنمو (13: 1- 52).
مقدّمة: يسوع يتكلّم بالأمثال (13: 1- 3 أ).
1- سماع الكلمة وفهمها: الجموع والتلاميذ (13: 3 ب- 35).
الزارع (13: 3 ب- 9).
لماذا الأمثال (13: 10- 17)؟
شرح مثل الزارع (13: 18- 23).
نحو الملكوت.
القمح والزؤان (13: 24- 30).
حبة الخردل (13: 31- 32).
الخمير في العجين (13: 33).
الخاتمة: أمثال من أجل الجموع (13: 34- 35).
2- الملكوت ينكشف للعالم: التلاميذ والناس (13: 36- 52).
أبناء الملكوت وأبناء الشرّير، شرح مثل الزؤان (15: 36- 43).
إشتر واجمع: الكنز المخفيّ (13: 44).
الدرّة الثمينة (13: 45- 46).
الشبكة الملآنة (13: 47- 48).
الخاتمة: الاختيار النهائيّ، شرح مَثَل الشبكة (13: 49- 52).

المرحلة الثامنة: تكوين الجماعة ونموّها (13: 53- 14: 36).
1- نحو التعرّف إلى ابن الله (13: 53- 14: 36).
قلّة إيمان في بلدة يسوع (13: 53 ب- 58).
موت يوحنّا النبيّ (14: 12- 1).
بركة وعطيّة الخبز في البرّيّة (14: 13- 23).
قلّة إيمان بطرس وسجود التلاميذ ليسوع (14: 24- 33).
اعتراف بيسوع كمخلّص البائسين (14: 34- 36).
2- نحو إفخارستيّا من أجل جميع البشر (15: 1- 39).
تقليد القدماء وكلمة الله (15: 1- 9).
عثار الكلمة وعدم فهمها لدى بطرس والتلاميذ (15: 10- 20).
خبز الأولاد وإيمان الكنعانيّة (15: 21- 28).
الجموع تمجّد إله إسرائيل (15: 29- 31).
الجموع شبعت بالإفخارستيّا (15: 32- 39).
3- نحو مجيء ابن الإنسان (16: 1- 28).
آية من السماء وآية يونان (16: 1- 4).
الخبز والخمر: لقد فهم التلاميذ (16: 5- 12).
وحي الله إلى بطرس الصخرة (16: 13- 20).
أفكار البشر أو أفكار الله: تسمية بطرس الشيطان (16: 21- 23).
أتريد أن تخلّص نفسك أم أن تَهْلِكَ؟ مجيء ابن الإنسان (16: 21- 23).
4- نحو حريّة الأبناء (17: 1- 27).
تجلّى الابن فكشف عن نفسه لبطرس والتلاميذ (17: 1- 8).
ابن الإنسان المتألّم. هل فهم التلاميذ (17: 9- 13)؟
عجز عن شفاء مريض لقلّة الإيمان (17: 14- 21).
ابن الإنسان يسلَّم إلى البشر (17: 22- 23).
بطرس وضريبة الهيكل: حرّية الأبناء (17: 24- 27).

خامسًا: القسم الخامس: يسوع وَسْطَ جماعة الصغار
المرحلة التاسعة: جماعة الصغار يستقبلها الله ويغفر لها (18: 1- 19: 2).
1- الصغير هو علامة حضور الابن في الجماعة (18: 1- 20).
سؤال التلاميذ (18: 1).
صيروا مثل طفل صغير (18: 2- 5).
اهتمّوا بالصغار: مثَل النعجة الضالّة (18: 6- 14).
نتقبّل بعضنا بعضاً ونصلّي بعضنا من أجل بعض (18: 15- 20).
2- نعمة الغفران بين الإخوة (18: 21- 35).
سؤال بطرس (18: 21).
إغفر دائمًا (18: 22).
مثل الغفران (18: 23- 34).
الخاتمة (18: 35).
الجموع تتبع يسوع (19: 1- 2).

المرحلة العاشرة: جماعة الملكوت في محاكمة (19: 2- 23: 39).
1- الانقلاب الإنجيليّ: (19: 2- 20: 34).
الحبّ الصعب (19: 2- 5).
التجرّد الصعب (19: 16- 29).
النعمة التي نتقبّلها (19: 30- 20: 16).
الأمكنة في الملكوت (20: 17- 28).
عيون العميان تنفتح (20: 29- 34).
2- الإيمان بابن داود (21: 1- 27).
كيف استقبلت ابنة صهيون ابن داود (21: 1- 9)؟
التينة اليابسة وإيمان التلاميذ (21: 18- 22).
سلطة يسوع وإيمان الشعب (21: 23- 27).
3- الجواب الحاكم أمام الملكوت (21: 28- 22: 14).
إرادة الأب والابنان (21: 28- 32).
الكرّامون والابن: إنتقل الملكوت من يد إلى يد (21: 33- 46).
رَفَضَ المدعوّون المجيء إلى العرس رغم أنّ الدعوة شاملة (22: 1- 10).
الإنسان الذي ليس عليه لباس العرس (22: 11- 14).
4- العالم اليهوديّ على المحكّ (22: 15- 46).
الجزية لقيصر (22: 15- 22).
قيامة الأموات (22: 23- 33).
أعظم الوصايا (22: 34- 40).
المسيح ابن داود وربّه (22: 41- 46).
5- كشف رياء الكتبة ودينونة أورشليم (23: 1- 39).
تمييز الأعمال بالخدمة المتواضعة (23: 1- 12).
يسوع يعارض الرياء (23: 13- 32).
الحكم بدم الانبياء (23: 33- 36).
رفضت أورشليم ولكن بقي أمل (23: 37- 39).

سادسًا: القسم السادس: يسوع آت، إنّه ربّ جماعته
المرحلة الحادية عشرة: مجيء ابن الإنسان في الكنيسة والعالم (24: 1- 26: 1).
مقدّمة: كلمة عن الهيكل وسؤال من قِبَلِ التلاميذ (24: 1- 3).
1- مجيء ابن الإنسان ونهاية الزمن (24: 4- 36).
ضلال الشعب وقرب النهاية (24: 4- 14).
الضيقات العظيمة وتمييز المجيء (24: 29- 31).
علامات في السماء عن مجيء ابن الإنسان (24: 29- 31).
معرفة قرب هذا المجيء (24: 32- 35).
انتقال (24: 36).
2- آنيّة المجيء والسهر (24: 37- 25: 30).
لا نعرف زمن المجيء. إذن لنسهر (24: 37- 44).
الخادم الذي ينتظر مجيء سيّده (24: 45- 51).
الجماعة تذهب إلى لقاء العريس (25: 1- 13).
التزام الخدم عند مجيء ربّهم (25: 14- 30).
3- مجيء ابن الإنسان في المجد ليميّز الأمم (25: 31- 46).
الأمم أمام ابن الإنسان (25: 31- 33).
كلام المسيح للذين عن يمينه (25: 34- 40).
كلام الملك للّذين عن شماله (25: 41- 46).
انتقال وخاتمة (26: 1 أ).

المرحلة الثانية عشرة: الربّ يأتي إلى تلاميذه عبر الموت (26: 1 ب- 28: 15)
مقدّمة: معنى الالام: الفصح (26: 1 ب- 5).
1- جاء الفصح وابن الإنسان يُسلَم (26: 6- 56).
الطيْب في بيت عنيا ومساومة يهوذا (26: 6- 16).
الجماعة الفصحيّة وكشف الخيانة (26: 17- 30).
الجماعة المشتّتة والاتّحاد بالآب (26: 31- 56).
2- أُسِلم ابن الإنسان ليُصلَب (26: 57- 27: 44).
الاستجواب عند رئيس الكهنة ونكران بطرس (26: 57- 75).
نَدَمُ يهوذا والمُثول أمام بيلاطس (27: 1- 26).
صلبوا ملك اليهود ابن الله (27:27- 44).
جاء فصح ابن الله (27: 45- 28- 15).
3- موت ابن الله وحياة البشر (27: 45- 56).
دَفْنُ يسوع وحِراسةُ القبر (27: 57- 66).
قِيامة يسوع وَرشوةُ الحرس (28: 1- 15).
الخاتمة: رسالة الرسل إلى العالم الربّ القائم من الموت يأتي إلى العالم (28: 16 – 20).

د- طرائق متّى في تدوين إنجيله
إنّ متّى أخذ بطرائق التأليف والتفسير المعروفة في العالم اليهوديّ في القرن الأوّل ب م، ولهذا فهو يحيرّنا. فسنحاول إذًا أن نكتشف أسلوبه في الكتابة.

1- المدراش في ف 1- 2
أوّل طريقة استعملها متّى هي المدراش الذي هو في الواقع خطبة نبويّة عن طفولة يسوع.
المدراش هو تأمّل في الكتاب المقدّس. يأخذ المؤمن المعطيات الكتابيّة ويؤوّنها بالنظر إلى الحالة الحاضرة. فينتهي إلى تحريض بشكل عظة. يمكن أن يكون المدراش خبرًا تقويًّا لإفادة المؤمنين (هاغادة)، أو قواعدَ لسلوك الإنسان في حياته العائليّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة. عرفت المجامع المدراش في عهد المسيح والمسيحيّين الأوّلين. كانوا يقرأون مقطعًا من أسفار موسى ثمّ من أسفار الأنبياء ويبيّن الواعظ كيف يتمّ هذا الكتاب في حاضر الجماعة.
هكذا استعمل متّى مدراش موسى الطفل المستند إلى خر 2. نجا موسى الطفل من القتل وخلص من المياه فصار مخلّص شعبه بواسطة الحكمة والجمال اللذين وهبهما الله له. كيَّف متّى الخبر على يسوع ولكن لا في جوّ أسطوريّ. فهو يتصرّف على غير طريقة الرابّانيّين. هم ينطلقون من الكتاب المقدّس ليكتشفوا آنيَّته. أمّا متّى فينطلق من يسوع، من حياته الملموسة، من موته وقيامته فيلقي الضوء على هُوِيَّتهِ وعلى عمله بواسطة الكتاب المقدّس والتقاليد الشفهيّة التي هي امتداد له والتي يعرفها قرّاؤه. فاستند إلى الأنبياء ليعلن ألقاب يسوع المسيحانيّة: هو عمّانوئيل (1: 23؛ أش 7: 14) هو الحاكم والراعي (2: 6؛ صم 5: 2)، هو ابن الله (2: 15؛ هو 11: 1). إنّه يحمل في مصيره شعب أبناء راحيل (2: 18؛ إر 31: 15)، إنّه الناصري كما قالت الأنبياء (2: 23).

2- الخطب
أوّلاً: أسلوب الحطب
من الأساليب المعروفة في العهد القديم أن نجعلَ بطل الخبر يُلقي خطبة. فسفر التثنية يبدو بشكل ثلاث خطب يلقيها موسى على شعب إسرائيل قبل الدخول إلى أرض الموعد. وقد استعمل العالم اليهوديّ هذا الأسلوب في الأسفار الجليانيّة (المنحولة) فجعل الشخصيّات العظام يتكلّمون (آدم، أخنوخ، نوح، الآباء، موسى، إيليّا، باروك، عزرا) فيكشفون مخطّط خلاص الله عبر التاريخ، منذ بدء التاريخ إلى الأزمنة الأخيرة.
ودخل إنجيل متّى في هذا التقليد فسمىّ نفسه "كتاب نسب يسوع المسيح" (1: 1) وانتهى في "انقضاء العالم" (28: 20). إنّه في الواقع "وصيّة يسوع"، "موسى الجديد". كانت السماوات قد أُغلقت وغاب الأنبياء، فانفتحت في معموديّة يسوع (3: 16). نزل الروح القدس عليه قبل أن يفاض على التلاميذ يوم العنصرة. لقد وصل وحي الله إلى النقطة الحاسمة فَتَمَّ في يسوع الذي أتمّ بدوره الكتاب المقدّس الذي أنبأ به.
أجل، منذ موت الأنبياء، حجّاي وزكريّا وملاخي، انطلق اعتقاد في العالم اليهوديّ المتأخّر بأنّ الروح القدس أوقف أعماله على بعض الرجال المميّزين المُوْكَلِ إليهم أن يحملوا كلمة الله. كانوا يقولون: "أُغلقت السماوات". ولكن ما زال الروح ينعش تاريخ الشعب ويلهم الكتَّاب في تفكيرهم في معنى التاريخ. تزيّا هؤلاء الكتّاب بزيّ أناس عظام رُفعوا في الماضي إلى السماء. وها هم عادوا إلى الأرض "ليوحوا" في وصيّة، مسيرة التاريخ ونهايته. أمّا يسوع فدشّن انفتاح السماء وأجمل في شخصه كلّ الوحي الإلهيّ. ولمّا رُفع بدوره إلى السماء، بعد القيامة، أرسل الروح القدس الذي يعطي كلّ مسيحيّ أن يكون نبيًّا وأن يجعل من حياته شهادة للربّ.
وإذا عدنا إلى متّى، نرى أنّه وزّع تعليم المعلّم حسب تربية الجماعة. نحن أمام تعليم يساعد كلّ خليّة كنسيّة لتحيا وتنموَ. وما نلاحظه هو أنّ البعد الإرساليّ (ف 10) يسبق سرّ الجماعة النامية (ف 13) وتنظيمها الداخليّ (ف 18). وهكذا تسبق الإرساليّة استقرار الكنيسة وترتيبها. هذه الخطب هي رفيق يلازم المسؤولين عن الجماعة والمعلّمين الذين يعملون في المحيطات الخارجة من العالم اليهوديّ.
أمّا الرسالة التي أَوكل بها يسوع تلاميذه فهي أن يُدخلوا كلّ الأمم في جماعة أخوّة بالمعموديّة والتلمذة (28: 18- 20). ويسير المرسلون على خطى المسيح فيلعبون دور "الأنبياء" و "الأبرار" (10: 41- 42) لينقلوا "ككتبة تتلمذوا لملكوت السماء" (13: 52) تعاليم المعلّم الحقيقيّة.

ثانيًا: شرعة الملكوت (ف 5- 7)
تبدو خطبة يسوع على الجبل موجّهة إلى الجميع، إلى التلاميذ والشعب المجتمعين، وهي ترجع إلى مقالات الرابّانيّين الذين يتوسّعون في علم أخلاقيّ ينطلق من شرائع محدّدة. ولقد وجد بعض الشرّاح علاقة بين القسم الأوّل من خطبة الجبل (5: 17- 28) وأقسام المشناة الكبرى.
المشناة هي الدستور الأساسيّ لليهوديّة الرابّانيّة. إنّها تجميع لفرائض انطلاقًا من تقاليدَ قديمةٍ. قال الرابّانيّون: أعطى الله موسى على جبل سيناء "التوراة الشفهيّة" يوم أعطاه لوحَي الوصايا، فنقل القدماء هذه التوراة الشفهيّة التي تساوي التوراة المكتوبة أي الكتاب المقدّس والتي تكمّلها وتكيّفها على ظروف الحياة. المشناة هي ترداد الكتاب المقدّس، ولكنّ تدوينها منظّم بحيث نستخلص المبادئ الكبرى للمعرفة والعمل في شعب إسرائيل.
وهي تقسم إلى ستّة نظم أو أقسام: الأضرار (القتل، شريعة المِثل)، النساء (الحياة الزوجيّة)، الأعياد (مع السبت وخدمة الهيكل) الطهارة (قواعد الطاهر والنجس)، الزروع (مع الحديث عن العشور)، المكرَّسات (أي الهيكل وشعائر العبادة).
منذ القرن الثالث صارت المشناة دستور حياة اليهود الذين يريدون الأمانة للتوراة. أعيد تفسيرُها في المدارس فاغتنت وتنظّمت بين القرنين الثالث والخامس في نسختين للتلمود (أو الدرس): تلمود أورشليم المحافظ، وتلمود بابل المنفتح.
يستعمل متّى كثيرًا من هذه المعطيات ليبرز أقوال يسوع عن برّ الملكوت الذي يبتعد عن فتاوى الرابّانيّين المدقّقة. إنّ يسوع لا يريد أن يضع ممارسة بدل أخرى، بل ينظر بطريقة جذريّة إلى العلائق البشريّة بالنظر إلى الأخوّة التي تربط أبناء الله في خطّ حرّيّة بنويّة. ويشير إلى بعض المواقف: حوِّل الوجه الآخر، أرفض كلَّ ما يشكّك ولو كانت يدك أو عينك.
والتعليم عن الصدقة والصلاة والصوم (6: 1- 8) يذكرنا بالممارسات التقليديّة في العالم اليهوديّ (رج لا 23: 22- 27). ولكنّ يسوع لا يفرض هنا عملاً محدّدًا، وهو يرذل رياء معاصريه الذين يفضّلون نظرة الناس على نظرة الله. ما نقرأه في هذا الفصل ليس تنظيمًا على طريقة الرابّانيّين، بل عيش أبناء الله.
والتوجيهات العمليّة التي تتبع هذا التعليم (6: 19- 7: 27) تهدف إلى إعطاء نمط حياة أخويّ للجماعة المسيحيّة، وتبيّن كيف أنّ الالتزام المطلق نحو الله يفترض انفتاح الرحمة تجاه القريب وصدقًا يجعلنا نميّز العمل الذي نقوم به. إنّ الاهتمام الأوّل لعظة الجبل هو اهتمام رعاويّ.

ثالثًا: إرسال التلاميذ (ف 10)
خطبة إرسال التلاميذ الذين اختارهم المعلّم هي موسّعة عند متّى. وتبدو كمجموعة من التعليمات موجَّهة إلى الرسل لتعطيَهم روح الرسالة. نحن نجد مثل هذه التحريضات في الأسفار الجليانيّة اليهوديّة (المنحولة) التي فيها يعطي الآباء توجيهات إلى أبنائهم.
من المفيد أن نقابل بين خطبة يسوع هذه ووصيّات الآباء الاثني عشر حيث يتوجّه كلّ من أبناء يعقوب إلى أبنائه ليدعوَهم إلى اتّباع مثله، والحذر من التجارب، ومعارضة المحيط الذي يعيشون فيه، ومحاولة التحلّي بفضيلة خاصّة.
أمّا عند متّى، فالعمل الرسوليّ الواجب تحقيقه هو امتداد لعمل يسوع (10: 1= 9: 35): أن نذهب إلى الخراف الضالّة من بيت إسرائيل، أن نعلنَ اقتراب الملكوت، أن نشفيَ المرضى والمتضايقين. إنّ الإنجيليّ يعرف صعوبة الشهادة المسيحيّة، ومع ذلك يشدّد على مجّانيّة الرسالة وعلى الاضطهادات التي تنتظر التلاميذ كما رافقت معلّمهم. عليهم أن يتبعوا يسوع، أي أن يكونوا مستعدّين لأن يضحّوا بحياتهم من أجل قيام الملكوت، وهم متّكلون على الذي يرسلهم (10: 24- 25، 40).
ونلاحظ أنّ متّى لم يتكلّم عن ذهاب التلاميذ إلى الرسالة. فيسوع هو الذي ذهب أمام تلاميذه فلاقى المعارضة ودلّ رسله على الطريق. أمّا هم فسيذهبون في نهاية الإنجيل (28: 16- 20).

رابعًا: سرّ الملكوت النامي (ف 13)
تستعمل خطبة الأمثال فنًّا أدبيًّا معروفًا في الأسفار التاريخيّة والنبويّة والحكميّة. فالمثل يدعونا إلى أن نكتشف حقيقةً عميقةً وواقعًا روحيًّا بواسطة مقابلة تلفت النظر.
جمع مّتى في خطبة الأمثال سبعة أمثال تدلّ على النموّ: مثل الزارع أو نموّ الحبّة التي هي كلمة الله، مثل القمح والزؤان مع تفسيره الذي يدلّ على صبر الله. مثل حبّة الخردل ومثل الخمير في العجين اللذان يشدّدان على زخم الملكوت. أمّا مثل الكنز ومثل الدرّة فيُبرزان الالتزام الجذريّ الذي يفرضه الملكوت. ومثلُ الشبكة التي تجمع كلّ جنس يُظهر دينونة الخلاص في حياة المؤمنين.
تبدو هذه الأمثال كمدرسة تمييز، وعلى ضوئها يقدر المسيحيّ أن يختبر سماعه لكلمة المسيح. وهي تكشف قلب السامع في تقبّل التعليم. فهناك طريقتان للسماع: طريقة التلاميذ الذين يبحثون عن معنى النداء، وطريقة الشعب الذي يتوقّف عند الخبر. وهكذا يكون المثل وحيًا في العمل، يؤثّر على الذي يسمع وينفتح على معناه.
توخّت خطبة الأمثال أن تُدخل الجموع في فهم أسرار الملكوت وتساعدهم ليكونوا تلاميذ فيبحثون عند قدمي المعلم عن مضمون كلامه. إن هذا التعليم يسهّل الطريق للكنيسة لكي تُبنى وتنموَ.

خامسًا: استعدادات الجماعة (ف 18)
تتوجّه الخطبة الكنسيّة مباشرة إلى الرعاة فتساعدهم على تنظيم كنائسهم وترتيب سير العمل فيها: بأيّ روح نعيش في الجماعة؟
قابل الشرّاحُ هذه الخطبةَ بقاعدة الجماعة وهي مجموعة وثائق وُجدت في قمران في برّيّة يهوذا، قرب البحر الميت. ترتبط هذه الوثائق بالإسيانيّين الذي التجأوا إلى البرّيّة لينجوا من فساد أورشليم ومحيط الهيكل الكهنوتي. أسّسوا جماعة العهد فهدفوا إلى تهيئة الشعب لنهاية الأزمنة ولإقامة ملكوت السماوات. أمّا قاعدة الحياة فانفصال عن العالم وتنسّك في الحياة المشتركة.
ولكنّ روح الخطبة الإنجيليّة يختلف عن هذه القواعد الصارمة. فهي تقسم إلى قسمين: القسم الأوّل يبدأ بسؤال من التلاميذ، والقسم الثاني بسؤال من بطرس: نحن أمام تقبّل الصغار تقبلاً رعاويًّا، وممارسة الرحمة بين أعضاء الجماعة، بين الإخوة. ثمّ يُبرز يسوعُ عودةَ الخطأة إلى الحظيرة وممارسة المصالحة لإبعاد كلّ حرم سابق لأوانه. ونجد مثلين في هذه الخطبة: مثل النعجة الضالّة، مثل العبد القاسي القلب. يجب أن لا نضيّع النعجة، يجب أن نقاسم الآخرين غفران الله.

سادسًا: صرخة الحبّ الذي خانه حبيبه
بعد القسم الذي يتبع الخطبة الكنسيّة (ف 19- 22) نجد خطبة أخرى هي رثاء المرائين، وهي تعاكس مضمون خطبة الجبل. يحذّر يسوع جماعته من مخاطر تعليم يُفرَض عليهم من الخارج.
يقف متّى في خطّ هجوم الأنبياء (أش 7- 8) في شكل محاكمة على أساس العهد لأنّ الله يتّهم شعبه الخائن، فيبيّن يسوع متوجّهًا في حديثه إلى الكتبة والفرّيسيّين المرائين في 7 أو 8 وَيْلات. كشف لهم تمييزهم الخاطئ والهوّة بين تعليمهم وأعمالهم (رج أش 5: 8- 25؛ 10: 1- 4). يمكننا أن نحسّ بصدمة تجاه هذه الأقوال القاسية. هذا المقطع يدلّ على أنّ الإنجيل ليس تسجيلاً حرفيًّا لأقوال يسوع. فمن خلال يسوع الناصريّ الذي يهاجم الفرّيسيّين العائشين في الثلاثينات نكتشف القائم من الموت والحاضر سرّيًّا في جماعة المسيحيّين المضطهدين في الثمانينات والذين يهاجمون فرّيسيّي يمنية. ولكنّ يسوع يصيب من خلال الفرّيسيّين الرعاة المسيحيّين وهمّه الحفاظ على الروح الأخويّة في الكنائس ومعارضة تسلّط الذين يملكون السلطان والمعرفة.

سابعًا: الخطبة الجليانيّة (ف 24- 25)
تسمّى خطبةُ مجيء ابن الإنسان الخطبةَ الجليانيّة لأنّها تقدّم نظرة إلى التزام المسيحيّ بالنسبة إلى مجيء ابن الإنسان في تاريخ البشر. وتتّخذ هذه الخطبة شكل كلام عن السهر موجَّه إلى التلاميذ. وهذا ما تشير إليه الأمثلة الثلاثة (الابنان، العذارى العشر، الوزنات) التي تشكِّل القسم الثاني من الخطبة، وتدخلنا في عالم الدينونة الأخيرة حيث تنكشف آنيّة دينونة البشر.
نجد مثل هذه الرؤى عند دانيال وفي وصيّات الآباء الاثني عشر وفي رؤيا أخنوخ التي تشير إلى انتظار المسيح ومجيء ابن الإنسان.
وُلد الأدبُ الجليانيّ في العالم النبويّ، ولكنّه تميّز عنه بشيئين: حلّت الإسكاتولوجيا (أو معرفة الأمور الأخيرة) محلّ الوعظ الاجتماعيّ والسياسيّ. اتّخذت الرؤى عن الحاضر أو عن المستقبل أهمّيّة لم تكن لها في أسفار الأنبياء. ويعود هذا الأدب إلى تيّار الحكمة الذي يبحث عن بدايات التاريخ ونهايته كموضع لتحقيق مخطّط الله.
وُلدت الرؤى اليهوديّة بين القرن الثاني ق م والقرن الأوّل ب م فهدفت إلى تثبيت الإيمان والرجاء عند الجماعات اليهوديّة وإنعاشِ الانتظار المسيحانيّ. ويمكننا أن نذكر أيضاً "مزامير سليمان" التي تطبِّق على المسيح لقبَ "ابن داود". استعمل المسيحيّون الأوّلون هذه الكتب ليحافظوا على تماسك جماعتهم وقت الاضطهاد، وليجدوا فيها إعلانًا واضحًا عن يسوع المسيح.
يستعيد متّى (ف 24- 25) ف 13 من مرقس حيث تمتزج تلميحات إلى دمار أورشليم سنة 70، مرسومة بصور نبويّة رحمت دمار أورشليم سنة 587 ق م، مع ذكر لنهاية العالم وإعلان لمجيء القائم من بين الأموات في حياة المسيحيّ. دوَّن مرقس خطبته ليهدّئ الأفكار وليبعث الرجاء. وزاد متّى أمثال السهر والدينونة الأخيرة، فشدَّد على أهمّيّة الالتزام المسيحيّ الحاليّ.
ويظهر اهتمامه الأخلاقيّ والرعائيّ. فمجيء المسيح الذي ينتظره اليهود في نهاية الأزمنة هو حاضر مع يسوع في كلّ دقائق تاريخ البشر. إذن، لننتبه إليه، فيسوع يرافق البشر، منذ قيامته، في حياتهم البشرّية، وهو لا يزال يأتي. إذًا، لن نتكلّم عن نهاية العالم على أنّها قريبة، بل على أنّا ملحّة وتتطلّب عملاً عاجلاً. بما أنّ المسيح يأتي فقد اتّخذت أمامه كلُّ أعمال البشر صورة الأبديّة بالنسبة إلى أصغر إخوته.
إنّ النظرة الإسكاتولوجيّة في خطبة يسوع الأخيرة تبرز التوتّر الرسوليّ والرعائيّ عند المسؤولين في الكنيسة ليكون عملهم امتدادًا لخدمة يسوع بالسهر والأمانة في المحنة.

3- إيرادات الكتاب المقدّس في إنجيل متّى
أجل، إن متّى يغرف من كنز الكتاب المقدّس. وقد أحصى الشرّاح 43 إيرادًا من العهد القديم. ونزيد عليها 89 مقطعًا ترتبط بالتوراة وعددًا كبيرًا من التلميحات. هكذا يقف متى في صفّ الرابّانيّين، فيقرأ بتواتر النصوص المقدّسة، ويتشرّب من كلام الله فيجعله أساس فهم عمل الله في العالم.
وبين إيرادات الكتاب نشدّد على أحد عشر إيرادًا (1: 23؛ 2: 6، 15، 18، 23؛ 4: 15- 16؛ 8: 17؛ 12: 18- 21؛ 13: 35؛ 21: 5؛ 27: 9- 10) تبدأ بهذه العبارة: "لكي يتمّ ما قيل". هذه الإيرادات الخاصّة بمتّى تعود إلى الأنبياء بصورة خاصّة (ما عدا 13: 35، التي ترجع إلى مز 78: 2) وتعبّر عن نظرة خاصّة بالإنجيليّ.
يريد متّى بهذه الإيرادات أن يبيّن أنّ يسوع يحقِّق بكلمته وبأعماله ما أعلنه الأنبياء. وهذا التحقيق يتعدَّى ما كنّا ننتظر، لهذا يبدو وكأنّه كمل. فيسوع هو الذي يلقي الضوء الكامل على رجاء إسرائيل. وعلى المستوى الأدبيّ، نلاحظ أنّ متّى يحوِّر في النصوص الكتابيّة التي أخذها غالبًا من السبعينيّة اليونانيّة، ليدلَّ على غنى المسيح الفيّاض بالنسبة إلى الانتظار المسيحانيّ عند اليهود. إنّه يجعل النصّ يتفجّر، كما أنّه يبرز طابعَه الشموليّ في خطّ أشعيا النبيّ.
لا تريد هذه الإيرادات أن تبرهن بالكتاب المقدّس عن الوقائع المرويّة، بل أن تحدّد موقع الأحداث التاريخيّة في زخم تاريخ الخلاص الواحد، فتبيِّن تماسك وتواصل مخطّط الله الذي يجد آخر تعبير له في شخص يسوع.

4- تجذّر إنجيل متّى في محيطه
يختلف إنجيل متى عن الأناجيل المنحولة في أنّه يعكس العالم الفلسطينيّ الذي يتجذّر فيه. وهذا ما نكتشفه في الأسلوب كما في التأليف.
يستعمل متّى كلمات وعبارات مميّزة. هناك كلمة "راقا" (أي رأس فارغ) في 5: 22، بعل زبول (سيّد وأمير وهو لقب شيطان) في 10: 25، قوربوناس (صندوق التقدمات) في 27: 6. وهناك عبارة ملكوت السماوات لا ملكوت الله (12 مرة)، الآب السماويّ (15: 13؛ 18: 35؛ 23: 9)، الشريعة والأنبياء (5: 17؛ 7: 12؛ 22: 40).
وهناك صورة أدبيّة هي قلب العبارة. مثلاً: من أراد أن يخلّصَ نفسه يهلكها. ومن يهلك نفسه من أجلي يجدها (16: 25). وهكذا نقول عن 53:13- 58 وخطبة الإرسال. وهناك أيضاً التضمين فنعيد في نهاية المقطع عبارة قلناها في أوّل المقطع. مثلاً التطويبة الأولى والتطويبة الثامنة (5: 3 و5: 10)، عدم الاهتمام (6: 25 و6: 34)، الجموع التي يعلّمها يسوع (5: 1- 2 و7: 28- 29).
ونتوقِّف أخيرًا على معنى الأعداد وقيمتها الرمزيّة.
1= عدد الله الواحد (18: 5؛ 19: 6، 17).
2= عدد الخليقة حيث نجد الثنائيّة (8: 28؛ 9: 27؛ 26: 60) المطلوبة لصحّة الشهادة.
3= يدلّ على بنية الإنسان (روح، نفس، جسد) وتواصل الطبيعة (1: 17؛ 6: 1- 18، 31؛ 19: 12؛ 23: 20- 22، 23).
4= يدلّ على الكون بأقطاره الأربعة.
5= رقم العمل الإلهيّ: خمس خطب، خمس نماذج من المرضى شفوا في 4: 24، خمس مناطق في 4: 25، خمس علائق في 5: 21- 47. فالشريعة تتضمّن خمسة أسفار.
10= يدلّ على العمل الإنسانيّ (10 معجزات في ف 8- 9، 10 مرّات "أبوكم" في ف 5- 7، 10 عذارى في 25: 1).
7= يرمز إلى تاريخ البشر انطلاقًا من سبعة أيّام الخلق، 7 طلبات في الأبانا في 6: 9- 13، 7 أمثال في ف 13، 7 خبزات و7 سلال في 15: 34- 37، 7 شياطين في 12: 45 . 7 (أو 8) ويلات على الفرّيسيّين في 23: 13- 32.
6= يدلّ على نقص.
8= يدلّ على الملء والكمال (8 تطويبات).
12= رمز الجماعة. أسباط إسرائيل الاثنا عشر (ترد كلمة إسرائيل 12 مرّة) ونجد 12 سلّة في 14: 20 و12 مرحلة في إنجيل متّى.
وهناك أسلوب جمع الأرقام الذي استعمله متّى ليدلّ على كمال السلالة الداوديّة في يسوع. فالرقم 14 (1: 17) هو جمع أحرف داود (بحذف الألف): 4+ 6+ 4. هذا الأسلوب الذي استعمله الرابّانيّون ستتوسّع به القبلانيّة التي تفسِّر التوراة تفسيرًا حرفيًّا ورمزيًّا.

د- التوجّهات اللاهوتيّة في الإنجيل الأوّل
يتوسّع الإنجيل الأوّل في لاهوت التاريخ: الله يصنع التاريخ مع الإنسان في شخص يسوع الذي هو المسيح وابن الله وإذْ أتمَّ يسوع العهد بخضوعه التامّ لإرادة أبيه، فهو يفتح مستقبل الكنيسة والعالم على تحقيق المواعيد القديمة، ويبدِّل حاضر البشر إلى رجاء دائم.
يعرض لنا متّى مسيرة يسوع على الأرض: كيف كشف عن نفسه للجموع وهو يربِّي تلاميذه؟ كيف بنى الكنيسة وجعلها شاهدة في العالم لحضور ملكوت السماوات؟
في هذا الإطار نتحدّث أوّلاً عن يسوع المسيح الذي هو سيّد الكنيسة، ثانيًا عن كنيسة الربّ يسوع.

1- يسوع المسيح سيّد الكنيسة
الكنيسة هي جماعة تلاميذ يسوع. فيها يحضر القائم من بين الأموات فيعطيها سلطته الشاملة (28: 18- 20؛ رج دا 7: 13- 14). وكلامه "سترون منذ الآن ابن الإنسان جالسًا عن يمين القدرة وآتيًا على سحاب السماء" (26: 64) يدشِّن زمن مجيء الربّ الممجدَّ وسط البشر.
إن خُطب المعلّم وأعماله تتجذّر في حياته الأرضيّة (26: 32؛ 28: 7). إلاَّ أنّ متّى يشدِّد على أعمال القدرة والسلطان (4: 23؛ 8: 24؛ 15: 30). فالربّ يحقّق بحضوره الفاعل لدى أحبّائه أوّل نبوءة أوردها الإنجيل: "سمّي عمّانوئيل الذي معناه إلهنا معنا" (1: 23). ثمّ إنّ بطرس يجاهر بالإيمان المسيحيّ حين يقول: "أنت المسيح ابن الله الحيّ" (16: 16). قَبِل يسوع هذا الكلام على أنّه وحي من الآب لتلميذه (16: 17). واللقبان اللذان أُعطيا ليسوع في هذه الشهادة الإيمانيّة يقابلان لقب ابن الإنسان الذي قدَّمه يسوع (16: 13). فرسالته كابن الإنسان تقوم بتأليه الجماعة المسيحيّة.

أوّلاً: مسيح إسرائيل
قدّم متّى يسوع كالمسيح الذي انتظره شعب إسرائيل وأعلنه الأنبياء، فقدّم موضوعًا دفاعيًّا (21: 16، 43؛ 24: 4) ضدّ انغلاق الشعب اليهوديّ بعد سقوط أورشليم، وهكذا استعاد المسيحانيّة التقليديّة ليدلّ على يسوع.
منذ بداية الإنجيل ضمَّ متّى اسم يسوع ولقب المسيح (1: 1، 16، 18) فأعلن اعترافًا بمسيحانيّة يسوع ارتبطت بالبنوّة الداوديّة حسب نبوءة ناتان (2 صم 7: 8، 16)، وبوعد الله لإبراهيم (تك 12: 2- 7؛ 22: 16، 18). وبما أنّ يسوع هو المسيح الذي فيه يصل إلى كماله تاريخُ أعمال الله العظيمة، صار مجيئه الحدث الوحيد الذي به تتّخذ الوقائع التاريخيّة المذكورة في الكتاب كلّ معناها.
فإنجيل الطفولة يبيّن، بطريقة مدراشيّة وبواسطة الأنبياء، أن يسوع يُتِمُّ رجاء الشعب اليهوديّ. إنّه عمّانوئيل (1: 23؛ أش 7: 14) الذي يدعوه الله قائدَ شعبِه وراعِيَهُ (2: 6؛ 2 صم 5: 2) وابنه (2: 15؛ هو 11: 11)، والذي يجعل موت أباء راحيل في جوّ الخلاص (2: 18؛ إر 31: 15)، والذي يدعوه الناس الناصريّ (2: 23؛ أش 11: 1؛ 22: 6؛ قض 13: 5، 7).
حسب الإعلان النبويّ (مي 5: 2)، وُلد في بيت لحم (2: 5)، مدينة داود. فعبارة ابن داود تَرِد مرارًا عند متّى (1: 1) فيجعلها في فم يسوع (22: 42- 45) كما في فم الآتين إليه (9: 27؛ 15: 22؛ 20: 30- 31) وفي فم الجموع (12: 23؛ 21: 9- 15). فإذا كان يسوعُ المسيحَ الداوديّ فهو يرذل نظرة معاصريه الوطنيّة. وإذْ أراد أن يصحِّحها لجأ إلى صورة عبد الله (8: 17، 12: 8- 23) التي أخذها من أشعيا (42: 1- 4؛ 53: 4). كما بدَّل أيضاً لقب ملك (2: 2؛ 21: 5؛ 27: 11، 29، 42) وحوّل معناه على ضوء زك 9: 9.
ولكي يدلّ متّى على أنّ يسوع هو المخلِّص الذي وعد به الله، ملأ نصّه بإيرادات منٍ الكتاب المقدّس، وبيَّن أنّها تتمّ في يسوع. أخذ نصوصه تارةً من الأصل العبريّ، وتارة من الترجمة اليونانيّة، وتارةً من مجموعة شهادات استعملتها الكنيسة الأولى وكيَّفتها حسب نظرتها اللاهوتيّة الخاصّة. إنّها تكشف أنّ متّى أراد أن يعظِّم شخص يسوع وعمله، فأكّد أنّ كلمة الله التي عبَّر عنها الأنبياء وجدت كمالَها الذي يُتمُّ كلّ التدبير الجديد. فالله هو الذي يقود العالم نحو ملكوت السماء. يسوع هو في نهاية الوحي، في تمام ما كان وقِيْلَ. ولسنا فقط أمام تقابل بين الوعد والتحقيق. فالوعد يتجاوز حرف الوعد بكماله.
وهكذا يظهر شخص يسوع وقد أسنده الكتاب في عيون قرًّائه.

ثانيًا: إسرائيل الكامل
حين شدَّد متّى على أنّ يسوع أتمّ المواعيد المسيحانيّة التي تغذَّى بها الشعب المختار، حدّد زمنين في جماعة الخلاص: إسرائيل الناقص، وإسرائيل الكامل أو إسرائيل الحقيقيّ.
فنحن نرى توتّرًا في الإنجيل بين الذين يطلبون المسيح ويعترفون بيسوع أنّه ابن داود (9: 27؛ 15: 22؛ 20: 30- 31) ويصلون إلى النور (4: 14- 16)، وبين الكتبة والفرّيسيّين أولئك المفسّرين المألوفين للكتاب المقدّس، مع عظماء الكهنة والشيوخ أولئك الممثّلين الرسميّين للشعب الذين هم خصوم مُعلَنون ليسوع. إنّهم عميان وقوَّاد عميان (15: 14؛ 23: 16- 17، 19، 24، 26). يهزأون بملك اليهود (27: 27- 31) ويجرّبونه ويتحدَّونه بأن يبرهن أنّه ملك إسرائيل (27: 42) وابن الله (27: 40، 43). إنّهم يلعبون دور الأشرار الذين يضطهدون البارّ (حك 2: 10 – 20).
منذ البداية تنعكس الأمور: فالمجوس هؤلاء الفلكيّون الوثنيّون (تث 4: 19) يكتشفون مَلِكَ اليهود (2: 2). أمّا الملك هيرودس فيريد أن يقتله (2: 16). وفي نهاية الإنجيل، يحاول بيلاطس أن يعفوَ عن يسوع (27: 21- 24). أمّا شعب العهد فيرفض له العفو ويطلب أن يَنزل عليه دمُه الخلاصيّ (27: 25). وهكذا تبدو الآلام كتتمّة لما استشففناه في الطفولة.
وهذا ما أعلنه مثل الكرَّامين القتلة: لقد احتمل الابن، الذي هو يسوع، مصير الأنبياء (21: 39)، فأخذ على عاتقه خطيئة شعبه الخائن للعهد، وأعلن أنّه قد زال كشعب خاصّ، ووعد إسرائيل بشموليّة الكنيسة. وهكذا حين أكدَّ يسوع أنّ "ملكوت الله يؤخذ منكم ويعطى لشعب يُعطي ثمارًا" (21: 43)، أعلن دخول الكنيسة للوثنيّين الذي يتقبَّلون مجّانيّة الخلاص، ودان إسرائيل المضطهِد فكشف له رفضه وأمَل في عودته (23: 37- 39).
وتأسيس الإفخارستيّا الذي فيه يدلّ على آلامه وموته، يعطي العهدَ شكلَهُ الأخير ومضمونه النهائيّ في "الدم البريء" (27: 4) "الذي يُسفك من أجل الكثيرين لمغفرة الخطايا" (26: 28؛ رج خر 2: 8). فآلام يسوع تفسِّر وجود إسرائيل النهائيّ الكامل الذي تُشكّل جماعةُ متّى قسمًا منه، والذي يشكّل بواكيرَه الضابطُ والجنودُ على الجلجلة (27: 54). إنّهم، وسط جماعة القدّيسين القائمين من الموت، يعلنون لاهوت يسوع الذي يبدو موتُه ظهورًا إلهيًّا (27: 551- 54). لقد صار مسيحُ إسرائيل مسيحَ الأمم (12: 21). فحقَّق بركة إبراهيم (تك 12: 3)، وأشرق نورُه على "جليل الأمم" (4: 15) الذي يمثّل العالم الوثنيّ العائش على حدود العالم اليهوديّ والذي منه ينطلق التلاميذ ليقوموا برسالتهم المسكونيّة (28: 19).

ثالثًا: معلّم الجماعة وربّها
يسوع هو المسيح الحقيقيّ الذي يكمِّل انتظار إسرائيل. وهو يحمل أيضاً إلى كلّ البشر ملكوت السماوات. هذا الملكوت هو قدرة شفاء وإعلان تعليم (4: 23= 9: 35). فعجائب يسوع هي علامة رسالته (9: 33؛ 11: 2- 6؛ 15: 31)، يرويها متّى بإيجاز فيُبرز دورَ يسوع. إنّه عبد الله الطائع الذي ينفِّذ إرادةَ الله الخلاصيّةَ فيحمل في جسده كلّ مرض وضعفه في البشر (8: 17؛ أش 53: 4). اتّخذ طريقَ التواضع والوداعة (12: 18- 21؛ أش 42: 1- 4)، طريق الرحمة والشفقة (9: 13- 12: 7؛ هو 6: 6)، فاهتمّ بأن يخفّف آلام المرض والمحتقرين، وبأن يغفر خطاياهم (1: 21؛ 9: 2- 6؛ 12: 31؛ 26: 28).
وهو أيضاً ربّ جماعته. أمامه يسجد كلّ طالب نعمة (8: 2؛ 9: 18؛ 15: 25؛ 20: 20؛ 28: 9، 17). به صار الدخول إلى الهيكل ممكنًا للذين مُنع عينهم (21: 10- 17)، وقدِّم الخلاصُ للوثنيّين الذين سيُخجلون اليهودَ بإيمانهم (8: 10- 12؛ 11: 22- 24؛ 15: 26- 28). فبالإيمان يضمّ يسوعُ الإنسان إلى قدرته العجائبيّة، فيؤهّله لأن يتقبّل ما لا يقدر أن يحقّقه بنفسه (8: 13؛ 9: 1، 22، 29؛ 14: 28- 29؛ 15: 28؛ 17: 20؛ 21: 21). وما فعله يسوع في الماضي لا يزال يفعله الآن، لأنّ الناصريّ الذي حمل تعاسة البشر هو ربّ الكنيسة.
يسوع هو وحده سيّدُ الجماعة ومعلّمُها (23: 8، 10). يُعلن بشارةَ ملكوت السماوات (4: 17، 23؛ 9: 35؛ 11: 1)، أي الخلاص الكونيّ الذي منحه الله لنا. ويعلِّم (5: 2) بسلطة تلفت النظر (7: 29) في المجامع (4: 23؛ 9: 35؛ 13: 54) وفي المدن (11: 1) أو في الهيكل (21: 23؛ 26: 55). يسمّيه الناس المعلِّم (8: 19؛ 9: 11؛ 13: 38؛ 17: 24؛ 19: 16؛ 22: 16، 24، 36)، بل يسمّي نفسه هو أيضاً بهذا الاسم (10: 24- 25؛ 23: 8؛ 26: 18). أمَّا تلاميذه فيسمّونه الربّ، ما عدا يهوذا الذي يدعوه "رابّي" (26: 25، 49).
ماذا يعلِّم؟ لا يعلِّم شريعة جديدة تُلغي الناموس أو تعاليم الأنبياء. تعليمه هو تتمّة إرادة الله التي يسمّيها البرّ الفائض، ويحقّقها في التزام حياته تجاه الله أبيه، وتجاه إخوته البشر. إنّه من يتبعُه (يرد فعل تبع 25 مرّة في إنجيل متّى) أحبّاؤه، والتلميذ الحقيقيّ يكون مِثْل معلّمه (10: 24- 25). إنّه يعمل عمل الحكمة الإلهيّة (11: 19؛ سي 18: 2- 4) فيكشف للصغار (11: 25- 30؛ حك 10: 21) أسرار الله (حك 6: 9- 18). بهذه الطريقة، يتميَّز يسوع عن معلِّم البرّ في جماعة قمران. معلِّم البرّ ينقل شريعة، أمّا يسوع فهو الوديع والصبور أمام مصيره (11: 29؛ 21: 5)، فهو "المتواضع القلب" أي الخاضع لإرادة الله. بهذا يقوم نيره الذي يختلف عن نير الكتبة.

رابعًا: مجيء ابن الإنسان
مع يسوع اقترب ملكوت السماء من الإنسان (3: 2؛ 4: 17). وهذا الملكوت ينمو مثل بذرة (3- : 4- 9) تَفتح طريقها وسط الزؤان الذي ستتغلّب عليه (13: 24- 30)، أو مثل حبّة الخردل التي تصبح شجرة كبيرة (13: 31- 32)، أو مثل الخمير الذي يعمل في العجين (13: 33). أمّا هدف هذا النموّ فهو انقضاء العالم (13: 39، 40، 49؛ 24: 3؛ 28: 20) الذي يسمّيه متّى مجيء (24: 3، 27، 37، 39) ابن الإنسان. وهو دخول هذا الشخص السرّيّ الذي يتحدّث عنه دا 7: 13 والذي صار جسدًا في يسوع الملك والراعي، ديّانِ الأمم ومخلّصِها، في تاريخ البشريّة.
هنا يتدشّن ملكه النهائيّ. وزمنُ مجيئه لا يكون في مستقَبل بعيد. إنَّ يسوع فتح بموتهِ وقيامته الزمنَ الإسكاتولوجيّ (24: 42، 44؛ 26: 18، 64). وذِكرُ الزلزال (27: 51؛ 28: 2) هو علامة ذلك. إنّ ابن الإنسان يأتي في ملكوته (24: 44) في كلّ وقت، وعلى المؤمنين أن يسهروا. وهذا المجيء يدفع "أبناء الملكوت" إلى النموّ الروحيّ (13: 38)، إلى يوم ينفصل "فاعلو الشرّ" (13: 41) الذي يرفضون برنامج ابن الإنسان (7: 23)، عن الأبرار الذين تعلّقوا ببرّه (5: 20). حينئذ يصبح ملكوتُ ابنِ الإنسان ملكوتَ الآب (13: 41- 43؛ 16: 27- 28؛ 25: 34).
فالكنيسة التي يذكرها متّى مرّتين (16: 18؛ 18: 17) والتي يكرِّسها دمُ العهد (26: 28) ليست ملكوت الآب. فهي تضمّ الذين وُعدوا بخلاص (25: 34) لم يتحقّق بعد، الذين يخضعون لسيادة ابن الإنسان، الذين يحملون ثمار ملكوت الله (13: 23، 21: 43) وينتظرون من الربّ أن يحكم على أعمالهم حكمًا نهائيًّا (25: 31- 32).
ولاهوت يسوع المسيح وابن الإنسان واضح في إنجيل متّى. فهو يذكر حبل المسيح البتوليّ (1: 16- 20) الذي تمّ بالروح القدس وتنصيبه مسيحًا في المعموديّة حين أعلن الآب: هذا هو ابني الحبيب (3: 17؛ رج 17: 5). ونشيد التهليل (11: 25- 27) الذي يشبه نصوص يوحنا، يشدّد على وعي يسوع لبنوّته الإلهيّة التي تَبرز في علاقات يسوع مع أبيه (7: 21؛ 10: 32، 33؛ 12: 5؛ 15: 13؛ 16: 17؛ 21: 37؛ 25: 34؛ 26: 42، 53)، وفي نقاشه مع الفرّيسيّين حول المقابلة بين المسيح وابن داود (22: 41- 45).
أمّا الجماعة فتسمّي يسوعَ الربَّ، وتعبّر عن إيمانها فتقرّ به أنّه ابن الله (14: 33؛ 16: 16؛ 27: 54).

2- كنيسة الربّ يسوع
إن خُطَبَ متّى الخمس الكبرى تقدّم لنا رسمة عن حياة الكنيسة التي جمعها المسيح (10: 1) وأسّسها (16: 18) وأرسلها (28: 19- 20). وإذْ أدخل متّى هذه الخطب في نشاط يسوع التاريخيّ، بيَّن أن يسوع هو القاعدة الحيّة والوحيدة التي يتمشّى عليها التلاميذ.

أوّلاً: روح الجماعة (ف 5- 7)
تشكّل خطبة الجبل، التي سُمِّيت شرعة الملكوت، مجموعةً ضمّت فيها الكنيسةُ الرسوليّة أقوالَ يسوع. هي صدى لتعليم يسوع الذي يحرّر الذين يتتلمذون له، من ممارسة حرفيّة للشريعة ومن الفتور والقنوط.
ويبدأ يسوع فيُعلن السعادة في ثماني تطويبات تساعدنا على اكتشاف ملء جديد وسط الظروف الصعبة. ويقدّم لنا متّى هذه التطويبات في إطار أخلاقيّ. فالمساكين في الروح (5: 3) والودعاء (5: 4) هم الذي يقتدون بالمسيح الوديع والمتواضع القلب (11: 29). والحزانى (5: 5) هم المسيحيّون المجرَّبون والمضطهَدون. أمّا الجياع والعطاش إلى البرّ (5: 6) فهم الذي يطلبون إرادة الله. والرحماء (5: 7) وأنقياء القلوب (5: 8) وفاعلوا السلام (5: 9) هم الذي يتصرّفون مع إخوتهم باستقامة تحت نظر الله. أمّا المضطهَدون من أجل البرّ (5: 10) فيمثِّلون كنيسة القرن الأوّل التي تلقى الاضطهاد من أجل ربّها.
بعد التطويبات يتوسّع متّى في البِرّ الجديد، بر ملكوت السماء الذي إليه يدعو تلاميذه. لا يفسِّر يسوع الشريعة كما يفعل الكتبة (7: 29) مردِّدًا ما قاله الشرّاح، بل يُدخل فيها حياتَه وموته ويحملّها كلّ سلطانِ الله. وكما أنّه لا يُحِلُّ شريعةً جديدة محلَّ الشريعة القديمة، فهو لا يزيد شرائع جديدة: ما جاء ليُلغيَ الشريعة التي أعطاها الله على جبل سيناء وسلّمها إلى الآباء، بل ليُدخلنا في أعماق متطلّباتها.
هذا البرّ الذي يطلبه يسوع يتناول العلائق بين الإخوة (5: 21- 26)، ووضع الرجل تجاه المرأة (5: 27- 32)، والتزام الإنسان بما يقول (5: 33- 37)، وموقف المؤمن تجاه الشرّير (5: 38- 42) وتجاه الأعداء (5: 43- 47). فحين يخصُّ يسوعُ تلاميذهَ على الاهتمام بالمصالحة والأمانة الزوجيّة، وعلى احترام الآخرين ولا سيّما الأعداء، فهو يبدو وكأنّه يقدِّم لنا طريقًا يستحيل علينا سلوكها. إنّه يدعونا لأنْ نقتديَ بالآب السماويّ. ولا نَنْسَ أنّ جوهر هذه الشرعة يستند إلى شخص يسوع وإلى وحي الله. فعملُ الآب هو مثال عمل التلميذ. لهذا نحتاج إلى قوّة الله الذي يساعدنا على تحقيق هذا المستحيل مع المحافظة على مسؤوليّتنا التي سَنُدانُ عليها (23:7؛ 25: 40 – 45).
الآب هو مبدأ ونهاية السلوك الذي يطلبه يسوع، وهذا واضح في الوصيّة المثلّثة عن الصدقة والصلاة والصوم التي تعبّر عن واجبات اليهوديّ تجاه القريب، وتجاه الله، وتجاه نفسه. يمارسها المؤمن خفية وتحت نظر الآب، لا ليراه الناس ويمدحوه (6: 1، 4، 6، 18) على مثال المرائين (6: 2، 5، 6). وهكذا يستطيع المؤمن أن يكون ابن الآب الذي في السماء (5: 45).
وَسْطَ هذا التوسّع، يجعل متّى الصلاة الربّيّة (صلاة الأبانا)، لأنّ علاقة التلميذ بأبيه تدفعه إلى هذا التصرّف في البرّ. فإذا كان الفقير والحزين يقدران أن يكتشفا السعادة في علائق بشرّية سامية، فلأنّهما سلَّما نفسيهما في يسوع إلى رحمة الله الحانية. فالذين يكتشفون نفوسهم أبناء الآب، يقدرون في الحقيقة أن يصلّوا إلى الله، فينموَ فيهم اسمه، ويشاركوا في انتشار ملكوته، ويعملوا إرادته، ويحصلوا منه على غذاءٍ لأجسادهم وغفرانٍ يحميهم من الشرّ والخطيئة.
ولكنّ بِرَّ الملكوت يفترض التزامًا في خدمة الله. فإذا كانت العلاقة بالآب تخلق المشاركة بين الإخوة، فصدق هذه المشاركة يظهر في الأعمال. إذًا، هناك تجرّد كامل (6: 19- 21) من كنوزنا لخدمة الربّ وحده. يتطلعّ التلميذ إلى ملكوت الله وبرّه، فلا يترك نفسه تنشغل بالهموم لأنّه عالم بأنّ الله يعرف ما يحتاج إليه (6: 23).
وهذا الالتزام نحو الله يحدّد السلوك نحو القريب: يجب أن لا ندين الآخر لنحتقره أو نحكم عليه (7: 1- 5)، يجب أن نطلب بثقة ما نحتاج إليه من القريب (7: 7- 11). وتأتي القاعدة الذهبيّة فتدعونا إلى أن نتجاوز دومًا نفوسنا لا على مستوى العدالة الاجتماعيّة وحسب، بل على مستوى المحبّة التي تنبع من قلب الله.
أيَّ طريق نختار (7: 13- 14)؟ أيّ نبيّ (7: 15- 20) أو تلميذ (7: 21- 23) نريد أن نحقّق صورته في حياتنا؟ والنهاية مع مثل البيتين تقول لنا: إنّ أعمالنا تكشف عن هُوِيَّتِنا وأعماق نفوسنا.

ثانيًا: خدمة الرسول (ف 10)
اختار يسوع تلاميذه الاثني عشر ومنحهم سلطانه (10: 1) على الأرواح والأمراض. وأعطاهم تعليماته التي هي قاعدة حياة المرسَل المسيحيّ.
أمّا نواة هذه الخطبة (10: 24- 25) فتُبرز طابعَ المرسَل: يتشبّه التلميذ بمعلّمه والعبد بسيّده. فإذا لم يكن المسيحيّ شهادةً للمسيح فما نفع شهادته؟ أمّا شروط هذه الشهادة فتلتقي بما قرأنا في التطويبات: على التلميذ أن يتألّم مثلَ معلّمه، لأنّ الاضطهادات تلاحقه كما لاحقت معلّمه. ولكنّ الروح الذي هو عطيّة الآب، سيُعطى للمضطهَد (10: 20).
ويُسْلَمُ المرسل إلى الناس على مثال معلّمه. إنّه في ذلك شاهدٌ للملكوت الذي صار قريبًا (10: 7). ورسالته مجّانيّة مطلقة، لأنّ الأشفية تتمّ بقدرة يسوع. الفقر هو مطلوب في الطريق. والتلميذ رسول سلام، وإن لم يُستقبَل دائمًا أحسن استقبال، وإن يكن دائمًا علامة خصام. ولكنْ مَن قبِلَ الرسول على أنّه علامة حضور الملكوت في البشريّة، يدخل في إطار هذا الملكوت.
والرسالة ترافق مجيء يسوع كابن الإنسان (10: 23). فالصراع الذي يجعل الأخ ضدّ أخيه باسم المسيح (10: 35- 36) يعلن عن سلام أحمى (10: 34) يُولد في تاريخ تصادم الحرّيّات البشريّة (24: 8).

ثالثًا: الخدمة الرعاويّة (ف 18)
تتوجّه هذه الخطبة إلى جماعة المسيحيّين. فمن خلال التلاميذ يتوجّه يسوع إلى الرعاة. أمّا واجبهم الأوّل فهو الصغار كجماعة، لأنّ كلَّ صغير يدلّ على حضور المسيح وَسْطَ أحبّائه. فهؤلاء الصغار هم المؤمنون الضعفاء والخطأة. أمّا الصغير فيتميّز باستعداده لدخول الملكوت أي لمشاركته في الحياة المسيحيّة. وهذا السلوك يفترض التواضع والارتداد الداخليّ، ويَظهر في تقبّل أعضاء الكنيسة. فمن تقبّل الآخرين تجنّب كلّ عثار يهدّد الإيمان، إيمانه وإيمان الآخرين.
ومن خلال خطبته يَحِلُّ "الإخوة" محلّ "الصغار" أمام المصالحة التي تمارس في الكنيسة. لسنا في معرض إعلان حرم بل اكتشاف الجماعة التي ستكون شاهدة وحاملة للغفران الإلهيّ. فإذا لم نستطع أن نسيّر الأخ المعاند إلى التوبة لأنّه يُخرج نفسَه من الكنيسة (18: 17)، فنحن أقلّه مدعوّون لكي نسلّمه إلى نعمة الله. ثمّ إنّ الجماعة تقدر أن تقرّر إذا كان عضو من الأعضاء ينتمي إليها، وذلك بالسلطة المعطاة لها والمسؤوليّة الممنوحة لبطرس (16: 18- 19).
ولكنّ الخضوعَ لعمل الله واجب في هذه الظروف. من هنا أهمّيّة التوافق تحت نظر الآب في صلاة توحّد المسيحيّين وتجعل يسوع حاضرًا بينهم (18: 19- 20).
وهنا يأتي الحديث عن الغفران. كنّا قرأنا في خطبة الجبل قولاً من الصلاة الربّيّة (6: 9- 13) يدعونا إلى أن نغفر بعضُنا لبعض (6: 14- 15). أمّا هنا فيتحدّث النصّ عن اتّساع هذا الغفران: لا سبع مرّات بل سبعين مرّة سبع مرّات: لا حدود للغفران. فمن قبل غفران الله مجّانًا وجب عليه أن يَقْسِمَهُ مع الإخوة. ويأتي مَثَلُ العبد القاسي القلب (18: 23- 35) ليحدّد موقع غفران البشر بعضُهم لبعضٍ في ضوء الدينونة التي يمارسها الله في نهاية الزمن.
هذه هي الخدمة الراعويّة في كنيسة يسوع. كلّهم مدعوّون إليها لأنّهم خطأة غُفر لهم، ولأنّهم شهود رحمة الله على خطى المسيح في انتباه دائم ومحبّ تجاه كلّ واحد، ولاسيّما الصغار الذين سنُسأل كلُّنا عنهم.

رابعًا: متطلّبات الملكوت (ف 23- 25)
نربط ف 23 بالخطبة الإسكاتولوجيّة في ف 24- 25. فنحن نقرأ في ف 23 دينونة الله لشعبه الذي رفض أن يؤمن. أبان له حبَّه فجابهه بالرفض. أراد أن يجمعهم كما تجمع الدجاجةُ فراخها تحت جناحيها فم يريدوا. وهكذا بدا الحبّ ضعيفًا. حينئذ كشف يسوع رياء الفرّيسيّين وعماهم، ومن خلالهم أصاب المسؤولين في جماعة متّى وفي كلّ جماعة.
وتتوجّه الخطبة الإسكاتولوجيّة إلى تلاميذ يسوع في ثلاث محطّات: العلامات السابقة وهي تدلّ على الضيق والرجاء (24: 4- 36)، واقع الحدث الحاسم الذي يتطلّب السهر الدائم (24: 37- 25: 30)، لوحة دينونة الأمم (25: 31- 46).
يذكّرنا القسم الأوّل من الخطبة بالتوجيهات من أجل الرسالة (10: 17- 22)، ويشير إلى الأخطار التي تهدّد وحدة الجماعة: مسحاء كذّابون، أخبار مخيفة، خيانات، أنبياء كذبة، شرّ يجرّ إلى نكران الله ويدفع المؤمنين إلى الفتور واللامبالاة. مثل هذه الحالة تتطلّب ثباتًا في المحنة وتدعو إلى متابعة إعلان البشرى.
وبما أنّ مجيء ابن الإنسان يكون في التاريخ، فالسهر مطلوب في الحياة اليوميّة. هذا هو موضوع القسم الثاني من الخطبة. والأمثلة التي تتعاقب تعبر عن الوجود المسيحيّ وعن الظروف التي تتمثّل فيها المسؤوليّة الرعاويّة.
تعوَّد قليل من الناس (كما في أيّام نوح) أن يهتمّوا بالمسائل الأساسيّة (24: 38- 39)، ومنها مسألة الموت. فيجب أن نسهر، أي أن نحيا تحت نظر الربّ الحاضر دائمًا (24: 42- 44). فالحياة اليوميّة محنة دائمة، والر

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM