الفصل الثاني والعشرون: الكتابات الفينيقية

الفصل الثاني والعشرون
الكتابات الفينيقية

يشهد هيرودوتس المؤرخ اليوناني أنّ الفينيقيين لعبوا دوراً هاما في نشر الأبجدية التي نقلوها إلى اليونانيون. فاليونانيون "أخذوا الحروف من الفينيقيين الذين علّموهم إيّاها، فحوّروها بعض الشيء وسمّوها "فينيقيات " حين استعملوها، وهذا حقّ، لأنّ الفينيقيين أدخلوها إلى اليونان". وكان فلافيوس يوسيفوس المؤرّخ اليهودي صدى لواقع معروف في العالم القديم حين كتب: "بين الشعوب الذين اتصلوا باليونانيين، استعمل الفينيقيون الكتابة في تنظيم الحياة ونقل ذكر الأحداث العامّة، هذا ما يوافقنا عليه كل إنسان".
كان الأدب الفينيقي غنيًا، ولكنّه كُتب على البردي أو على الجلد في مناخ رطب مثل لبنان أو تونس (فيما يخصّ قرطاجة)، فلم يصل إلينا شيء منه. إلاّ أنّ الترجمات والاقتباسات والمدوّنات اليونانية على الحجر تتيح لنا أن نكوّن فكرة ولو ضئيلة عن أهمّية ومضمون هذا الأدب الفينيقي.
نحدّد موقع هذا الأدب الفينيقي في إطاره التاريخي والسياسي. لم يكن الفينيقيون يومًا دولة سياسية موحّدة، لم يكن لهم كلّهم نظام مركزي، لهذا يبدو من الصعب أن نكتب تاريخ الفينيقيين، بل تاريخ المدن أو الممالك الفينيقية. فحوالي سنة 1000 ق. م.ْ ظهرت الممالك الفينيقية في صور وصيدون وجبيل كامتداد وورثة للممالك الكنعانية الصغيرة في نهاية البرونز الحديث. كانت هذه المدن دويلات صغيرة فوجّهت أنظارها نحو التجارة الدولية ولاسيّمَا التجارة البحرية. وهكذا امتدٌ تأثير الفينيقيين السياسي والاقتصادي نحو الجنوب (علاقة حيرام ملك صور مع داود وسليمان، التجارة في البحر الأحمر) ونحو الشمال ولاسيّمَا على جانبي الأمانوس (مملكة كوي وسامال باتجاه مناجم الفضة في طورس، في تركيا)، ونحو الغرب حيث أسّسوا مستوطنات على شاطئ البحر المتوسط، لاسيّمَا في قبرص ومالطة وقرطاجة وصقلية وسردينية وإسبانيا (وحتّى كادكس). وكانت قمّة الانتشار الفينيقي في القرن التاسع والمنتصف الأوّل للقرن الثامن.
بعد منتصف القرن الثامن، واجهت الممالك الفينيقية في الشرق المدّ الأشوري. ودخلت بشكل أو بآخر في إطار المملكة الأشورية ثمّ المملكة البابلية ثمّ الفارسية قبل أن تخضع للإسكندر (حصار صور) والسلوقيين والرومان. وفي هذا الإطار السياسي للشرق الأوسط، تراجعت اللغة الفينيقية شيئًا فشيئًا أمام الأرامية ثمّ اليونانية. ولكنّ الفينيقيين ظلّوا يستعملون لغتهمِ في المدن التي حافظت على بعض الاستقلال السياسي كما في الاغتراب (في مصر مثلاً). وإنّ آخر المدوّنات الفينيقية المؤرّخة بوضوح تعود بنا إلى القرن الثاني ق. م. غير أنّ بعض النقود وبعض المدوّنات غير المؤرّخة تشهد على الكتابة الفينيقية في القرن الأوّل بل في القرن الثاني ب. م..
بعد أن خسرت المدن الفينيقية استقلالها، ظلّت مستوطنتا قبرص وقرطاجة وغيرهما تلعب دورًا سياسيًا واقتصاديًا وثقافيا هاما. فخلال القرون الخامس والرابع والثالث ق. م.، كاد حوض البحر الأبيض والمتوسط الغربي يصبح كلّه بحرًا "فينيقيًا" قبل أن يتحوّل على أثر الحروب الثلاثة بين قرطاجة ورومة إلى "بحر روماني". وبعد أن دمِّرت قرطاجة تدميرًا كاملاً سنة 146 ق. م. ظلّت اللغة الفينيقية مستعملة في أفريقيا الشمالية، كما تشهد على ذلك المدوّنات الفينيقية الجديدة حتّى القرن الثالث ب. م.، والمدوّنات اللاتينية الفينيقية حتّى القرنين الرابع والخامس ب. م. وتلميحات القدّيس أوغسطينس في بداية القرن الخامس ب. م..
وها نحن نتوقّف أوّلاً عند بقايا الأدب الفينيقي، ثمّ نتحدّث عن المدوّنات الفينيقية.

أ - بقايا الأدب الفينيقي والفونيقي
إذا كان التقليد المخطوطي لم يحتفظ لنا بشيء من الأدب الفينيقي بحصر المعنى، إذ إنّه لم يصل إلينا حتّى الآن أي مؤلّف فينيقي، فهناك عدد من الشهادات تدلّ على عظمة هذا الأدب وأهميته.

1 - الأدب الفينيقي
تشهد النصوص الأوغاريتية في القرنين الرابع عشر والثالث عشر ق. م. على غنى وتنوعّ أدب العالم السامي الغربي (بالنسبة إلى العالم السامي الشرقي في العراق اليوم) على شاطئ سورية ولبنان وفلسطين مع الميتولوجيا والأساطير كتب الطقوس... ومن المعقول أنّه كان لمدن صور وصيدون وجبيل أدب مشابه كُتب على أوراق البردي والجلد. فاستعمال البردي في جبيل ووجود الأرشيف أمر معروف مند سنة 1100 ق. م. تقريبًا انطلاقًا من برديّة مصرية تروي سفر وان أمون (أون أمون).
وقد عرفنا ميتولوجيا الفينيقيين وأساطيرهم بطريقة غير مباشرة في مقتطفات من التاريخ الفينيقي (لفيلون الجبيلي). دوّن في اليونانية فعرفناه بما أوردنا لنا منه أسابيوس القيصري في كتابه "التمهيد للإنجيل" (القرن 4 ب. م.). تطرح هذه المقاطع مسائل صعبة في مجال النقد الأدبي والنقد التاريخي. عاش فيلون الجبيلي في نهاية القرن الأوّل وبداية القرن الثاني ب. م. ويبدو أنّه استند في كتابه إلى مؤرخ فينيقي اسمه سنخونياتن (في الفينيقية سكنيتن). حاول سنخونياتن أن يجمع الأدب المتعلّق بتكوين العالم، فجعله في حماية تحوت الإله وحفظه في الهياكل. وقد ناقش العلماء شخصية سنخونياتن التاريخية وسنوات حياته. قد نكون أمام مقمِّش فينيقي عاش في الزمن الهلنستي (أي بعد الإسكندر الكبير)، فدوّن في الفينيقية (أو ربّما في اليونانية) ملخّصاً عن تقاليد تكوين العالم في بلاده.
إذا عدنا إلى المقاطع التي وصلت إلينا، يبدو أنّ عمل فيلون الجبيلي استند إلى عمل سنخونياتن فعكس تقليدًا فينيقيًا صريحًا، إلاّ أنّ هذا التقليد تشوّه لأنّه تُرجم واقتُبس مرتين. وإنّ مقتطفات التاريخ الفينيقي التي قدّمها أوسابيوس القيصري تتعلّق بعلم الكونيات (كوسمولوجيا)، بتاريخ الثقافة، بتاريخ كرونوس (أو الزمن)، بأخبار الآلهة المتعددة، بالذبائح البشرية، بالحيات. وقد تظهر هذه الميتولوجيات وهذه الأساطير مشوّهة في عمل نونوس من بانوبوليس والمسمّاة، "ديونيسيات" 40- 43 (حوالي منتصف القرن الخامس ب. م.).
ولنا شهادة أخرى عن وجهة مهمّة من وجهات الأدب الفينيقي القديم في مؤلّف ميناندريس الأفسسي الذي نعرفه من خلال مقتطفات أوردها فلافيوس يوسيفوس. نحن أمام كرونيكة ملكية فينيقية تعود، على ما يبدو، إلى أرشيف فينيقي حفظته صور فقدم لنا تسلسل الملوك الفييقيين. إنّ وجود الأرشيف الفينيقي واقع معروف في زمن فلافيوس الذي كتب في مؤلَّفه "ضدّ أبيون " (7:1- 10): "نجد عند الصوريين ومنذ سنوات عديدة كرونيكات سياسية دوّنتها الدولة واحتفظت بها بعناية فائقة، عن وقائع تستحق الذكر حصلت عندهم أو عن علاقاتهم مع الأجانب ".
يبدو أنّ فلافيوس يوسيفوس لم يتّصل اتّصالاً مباشرًا بالأرشيف الصوري، ولكنّه عرف واستعمل ثلاث ترجمات-اقتباسات هلنستية لهذه الكرونيكات: الأولى: أخبار الفينيقيين هي عمل ديوس (أو دويون) وهو مؤرّخ هلّنستي لا نعرف عنه شيئًا. الثانية: أخبار فينيقية ألّفها شخص اسمه فيلوستراتيس. والثالثة: مؤلّف ميناندريس الافسسي (أو البرغامي) الذي عاش في القرنين الثالث والثاني ق. م. وروى، كما يقول فلافيوس يوسيفوس، في أيّام كل ملك الأحداث التي حصلت عند اليونانيين وعند البرابرة، وحاول أن يستقي معلوماته في الكرونيكات الوطنية الخاصة بكل شعب. وهو الذي نقل الأرشيف الصوري من الفينيقية إلى اليونانية. وقد يمكن أن يكون ميناندريس المؤرّخ الهلّنستي في آسية الصغرى لا يعرف اللغة الفينيقية. إذًا، هو لم يترجم الحوليّات الصورية، ولكنّه أخذها عن مترجم أقدم منه، هو موخوس صاحب "فينيقيات" والمذكور مع مانيتون وبيروسيوس (القديميات اليهودية 1: 107). ثمّ إنّ يوسيفوس لم يعرف مؤلّف ميناندريس الأفسسي ولا مؤلّف ديون إلاّ بمقتطفات وردت عند إسكندر بوليهستور (105- 40 ق. م. تقريبًا) (من مدرسة برغامس) من كتابه "حول اليهود".
نحن أمام تقليد معقد ومُتشعّب، ولكن ما أورده يوسيفوس من الحوليّات الصورية يبدو صحيحًا في جوهره: "بعد موت أبيبعل، انتقلت خلافة عرشه إلى ابنه حيروم الذي عاش 53 سنة وملك 34 سنة. ردم الأوريخور ووضع العمود الذهبي الذي في هيكل زوش (= ايل أو بعل شميم). ثمّ بحث عن خشب للبناء، فقطع على الجبل المسمّى لبنان الأرزات من أجل سقوف الهياكل. هدم الهياكل القديمة وبنى غيرها جديدة: هياكل هرقل (= ملقارت) وعشتاروت. كان أوّل من احتفل بنهوض (تنصيب التمثال أو بناء الهيكل) هرقل في شهر باريتيوس. وقاد حملة على سكّان أوتيك (أو كيتيون التي هي قبرص) الذين رفضوا أن يدفعوا الجزية. وبعد أن أخضعهم لسلطانه عاد إلى بلده".
ويشهد المقطع اللاحق على تقليد حكمة فينيقية ترتبط برجل اسمه عبديمون الذي هو مزاحم سليمان ومعاصره. ثمّ أورد يوسيفوس كرونيكة فينيقية ملخّصة منذ حيروم إلى تأسيس قرطاجة (حوالي 814 ق م)، وفهمنا أنّ هذه الحوليات الصورية تواصلت حتى حكم ألولايوس (لولي) في نهاية القرن 8 ق م تقريبًا، بل حتّى كورش الملك الفارسي.
نلاحظ على ضوء التقليد الأدبي غير المباشر عن حوليّات صور أنّ علم التاريخ الفينيقي هو قريب ممّا نجده في التوراة، وقد يكون ترك بصماته في الأسفار التاريخية البيبلية.

2- الأدب الفونيقي
هنا ننتقل إلى العالم الغربي بقيادة قرطاجة. فنحن نعرف بواسطة تلميحات الأدب اليوناني والروماني أنّ الادب الفونيقي كان مهمًّا جدًّا، وقد حُفظ في مكتبات الهياكل. ويحدّد بلينوس الاكبر: "إنّ مجلس الشيوخ عندنا، بعد أن أخذ قرطاجة سنة 146 ق. م. وهب مكتبات هذه المدينة للأمراء الأفريقيين" أي لملوك نوميديا الذين استعملوا كتب الأدب الفونيقية (وخاصّة يوبا الثاني). ولكن لم يبق لنا من هذا الأدب الفونيقي الغني إلاّ مقاطع مترجمة في اليونانية واللاتينيّة.

* "رحلة حنون" حول العالم
حفظها لنا مخطوط يوناني في هيدلبرغ. إنّها ترجمة واقتباس لمؤلّف أو مؤلّفين فونيقيين: يقابل القسم الأوّل مدوّنة فونيقية محفورة في هيكل بعل هامون في قرطاجة، والثاني هو جزء من "تفاسير حنون" التي يذكرها بلينوس الأكبر. ما زال العلماء يتجادلون حول صدق هذا النصّ وتاريخيّته: هناك العنوان، ثمّ مقدّمتان تشيران إلى المكان الذي عُرض فيه النصّ الأصلي، وتذكران الظروف العامّة لرحلة تمّت في نهاية القرن الخامس ق م: "خبر رحلة حنون ملك القرطاجيين حول مناطق ليبيا التي هي في عبر عواميد هرقل (أي مضيق جبل طارق) وقد حُفر على صفائح علّقت في هيكل كرونوس. قرّر القرطاجيون أن يتجاوز حنون عواميد هرقل ويؤسّس مدنا قرطاجية. أبحر مع ستين سفينة تحمل كل منها خمسين مجدّفًا، واتّخذ ثلاثين ألف رجل وامرأة، وحمل المؤونة وسائر الحاجات "... بعد هذا يأتي الخبر في صيغة المتكلم الجمع (نحن)، وهو استعادة "يوميات سفينة": عبرَ عواميد هرقل وأمّس مستوطنات وبنى هياكل وقام بحملات عسكرية والتقى بأهل بلدان لا نستطيع أن نحدّد موقعها.

* رحلة هيملقون
هي رحلة بحرية أخرى قام بها هيملقون القرطاجي. تحدّث عنها روفوس فستوس افيانوس (القرن 4 ب م) في كتابه "شاطئ البحر".

* قسَم هنيبعل
دوّن في الأصل في الفونيقية واليونانية بين هنيبعل وفيلبس الخاسر ملك ملكدونية سنة 215 ق م. احتفظ لنا بوليب بالنصّ اليوناني الذي يذكّرنا بتعابير المعاهدات الشرقية (مثلاً معاهدة بين أسرحدون وبعل الصوري). نجد في بداية قسَم هنيبعل هذا نداء إلى الآلهة لكي تكون شاهدة: "قسَم أدّاه القائد هنيبعل والشيوخ القرطاجيون ماغون وميرقانس وبرمورقارس كل القرطاجيين الذين يخدمونه، بين يدي كستنوفانيس ابن قيلوماخوس الاثيني وهو السفير الذي أرسله الملك فيلبس بن ديمتريوس، باسمه وباسم المكدونيين وباسم حلفائهم: أمام زوش وهيرا وأبولون، أمام عظيم قرطاجة، وهرقل ويولاوس (إيل)، أمام اريس وتريتون وبوسيدون، أمام الآلهة التي ترافق جيشنا: الشمس والقمر والأرض، أمام الأنهار والبحيرات والأمواج، أمام كل الآلهة التي تمتلك قرطاجة، أمام كل الآلهة التي تمتلك مكدونية وسائر بلاد اليونان، أمام كل آلهة الرحلة، أيًّا كانوا، الذين يشرفون على هذا القسم... "

* مقال ماغون في الزراعة
كان أفضل كتاب في علم الزراعة في العالم القديم، وهو يبيّن اهتمام القرطاجيين بالتقنيات الزراعية. ترجمه (اقتباس) اليونانيون والرومانيون، كما يقول بلينوس الاكبر: "بعد الاستيلاء على قرطاجة، قرّر مجلس شيوخنا، بصورة شاذّة، أن تترجم إلى اللاتينية كتب ماغون الثمانية والعشرون. ولكن كاتون كان قد ألّف مقاله. فكُلّف بالعمل أناسٌ يعرفون اللغة الفونيقية. وأفضل من عمل كان من نسل عائلة مشهورة: د. سلوانس ".
نعرف أنّ هذا الكتاب تُرجم إلى اليونانية بيد كاسيوس ديونيسيوس الاوتيكي. ضاعت هذه الترجمات اليونانية واللاتينية ولم يبقَ لنا منها إلاّ قرابة 40 مقطعًا عند الكتّاب اللاتين: فارون، بلينوس، جرجليوس، مرسياليس، كولومال. ويورد كولومال وصفة ماغون لصناعة النبيذ من الربيب: "اقطف العنب الباكر وليكن ناضجًا. اغرز في الأرض على عمق أربع أقدام فروعًا أو أوتادًا تربطها بالعصيّ. ضع فوقها قصبًا وفوق القصب عنبًا يتعرّض للشمس ".
* فانولوس
إن كتاب بلوتس المؤلّف الهزلي اللاتيني (حوالي 254- 184 ق. م.) يتضمّن مقاطع فونيقية نُسخت في اللاتينية. وُضعت في فم حنون القرطاجي في بداية المشهد الأوّل من الفصل الخامس (حوالي 20 بيت شعر). وفي المشهدين الثاني والثالث من الفصل عينه (14 بيت شعر). وهذه ترجمتها: "أَدعو آلهة والإهات هذا المكان. أسألهم أن يُنجحوا محاولتي ويُباركوا سفرتي. أتمنّى، بفضل حماية الآلهة وعدالتهم، أن أستعيد هنا بناتي وابن أخي ".
وهناك كرونيكات يذكرها أرسطو المزعوم وطيماوس الطورماني (القرن 3 ق. م.) وسرفيوس هونوراتوس، مفسّر فرجيليوس (القرن 4 ب. م.). وهذا ما دفع القدّيس أوغسطينوس على القول للخطيب مكسيموس مداوروس: "يقول العلماء إنّه وُجد في الكتب الفونيقية أمور صالحة ومليئة بالحكمة".

ب- المدوّنات الفينيقية والفونيقية
ضاع الأدب الفينيقي والفونيقي، ولكن بقيت لنا المعطيات الإبيغرافية (كتابات منقوشة) التي هي من نوع آخر سنعطي هنا أهمّ المدوّنات الفينيقية والفونيقية تاركين جانبًا أبحاث العلماء التي تحدّد اللهجات المتعددة.

1 - المدوّنات الفينيقية
نضع جانبًا بعض المدوّنات الفينيقية البدائية: مدوّنة زكر بعل ملك أمورو، أي ملك جبيل في أيّام سفرة المصري أون أمون (حوالي سنة 1100 ق. م.)، مدوّنة في أبجدية مسمارية وُجدت في صرفت (جنوبي صيدون، في لبنان). وبعد هذا نميّز أربع مجموعات من المدوّنات الفينيقية.

أوّلاً: الفينيقية العتيقة
منذ سنة 1923 اكتُشف في جبيل أوّل مجموعة لمدوّنات فينيقية عتيقة تعود إلى القرن الحادي عشر (أداة أزر بعل) والقرن العاشر ق م. أمّا أهمّ المدوّنات فهي مدوّنات ملوك جبيل (بيبلوس): اتبعل (ناووس أحيروم حوالي سنة 1000 ق. م.)، يحميلك (مدوّنة ترميم الهيكل سنة 950 تقريبًا)، أبيبعل (تدشين تمثال سنة 925 تقريبًا) إيليبعل (حوالي 915)، شفطبعل (بناء جدار الهيكل، حوالي 900 ق. م.).
تتضمّن هذه المدوّنات عبارات تبدو بشكل قالب أدبي هو صدى للأدب الفينيقي في تلك الحقبة: "الناووس الذي صنعه اتبعل بن أحيروم، ملك جبيل، لأبيه أحيروم، حين وضعه في بيت الأبدية. فإن صعد على جبيل ملك من الملوك أو حاكم من الحكّام أو قائد جيش واكتشف (أو كشف) هذا الناووس، فليتحطّم صولجان سلطانه ولينقلب عرش ملكه وليهرب السلام من جبيل. ليمدّ بعل شميم وربّة جبيل ومجمع الآلهة القدّيسين في جبيل، بأيام يحيملك وبسنيّ ملكه في جبيل ".
نجد مثل هذه التعابير في نصوص أوغاريتية، في مدونات فينيقية أخرى، وفي التوراة، وهذا ما يدلّ على خلفيّة حضاريّة مشتركة. ويمكننا أن نذكر مع المدوّنات الفينيقية العتيقة مدوّنة على كاسة تاكي قرب كنوسوس في كريت (قد تعود إلى القرن 10 ق. م.).

ثانيًا: الفينيقية القديمة (القرنان 9- 8 ق م)
في هذه الحقبة، انتشرت اللغة الفينيقية خارج أرض فينيقية وسنجد بعض المدوّنات على الآنية الفخارية.

* في فلسطين
مدونات صغيرة على آنية وجدت في حاصور وشقمونة. وأظهرت تنقيبات في أجرود (بين قادش برنيع وايلات) مدوّنات فينيقية على الجفصين تعود إلى النصف الأوّل من القرن الثامن ق م.

* في قبرص
مدوّنة جنائزية تعود إلى بداية القرن التاسع ق م. مدوّنة جزئية على كاسة وُجدت في كيتيون وتعود إلى حوالي سنة 800 ق م. ومدوّنة حفرت بالإزميل على كاسة برونزية. اكتُشفت في منطقة ليماسول وذكرت "حاكم (س ك ن) قرتداشت، خادم حيروم، ملك الصيدونيين ".

* في سردينيا
نصّ نورا الشهير. اكتشف سنة 1773 وهو يعود إلى القرن التاسع ق م. ووُجدت مدونة جزئية في بوسا وأخرى في نورا.

* في قرطاجة
في مدفن دويم وُجدت سنة 1898 مدالية ذهبية تتضمّن كتابة فينيقية من ستة أسطر، تعود إلى القرن الثامن ق م. قد تكون المدالية جاءت من قبرص أو من فينيقية.

* في إسبانيا
وُجد تمثال صغير من البرونز وهو يمثل الإهة عارية وهي جالسة. يتضمّن هذا التمثال إهداء لعشتاروت، يعود إلى القرن الثامن ق م.

* مملكة يعادي/ شمال
أبرزت تنقيبات زنكرلي (شرقي أمانوس، تركيا الجنوبية) عاصمة المملكة الأرامية اللوفية القديمة (يعادي/ شمال) مدوّنة فينيقية قديمة هامّة. هناك صورة وقسمان مختلفان يتضمّن كل منها ثمانية أسطر: يتحدّث القسم الأوّل عن سياسة كيلاموا الخارجية، ويفسّر كيف تحرّر من سلطة ملك الدنوانيين (قوي في كيليكية)، ويمتدح خدمات ملك أشورية. ويبرز القسم الثاني سياسة التهدئة الداخلية التي قام بها الملك ليجمع بين قسمي شعب مملكته، بين اللوفيين والأراميين. وإنّ سياسة التهدئة هذه أمّنت للبلاد ازدهارًا عامًّا. وتستعمل هذه المدوّنة عبارات أدبية مقولبة نجدها في مدوّنات ملكية أخرى في الشرق الأوسط. وإليك النص:
"ملكَ جبارُ على يعادي ولكنّه لم يفعل شيئًا. وجاء بناه (أو ابنه) ولكنّه لم يفعل شيئًا. وكان أبي حيّا ولكنّه لم يفعل شيئًا. وكان أخي شائل ولكنّه لم يفعل شيئًا. وأنا، كيلاموا بن توما، فعلت ما لم يفعله أسلافي. فكنت لهذا أبًا، ولذاك أمًّا، وللآخر أخًا. والذي لم ير يومًا وجه خروف، جعلته يملك قطيعًا، والذي لم يرَ يومًا وجه بقرة، جعلته يملك قطيعًا من البقر ويملك الفضة ويملك الذهب، والذي لم يرَ يومًا الكتّان بعينيه ألبسته البزّ في أيّامي".

* في كيليكية
هناك أوّلاً مدوّنة حسن بيلي المجزّأة. ثمّ مدونات كراتيي في اللغتين الفينيقية واللوفية. إنّها تشكّل أفضل شهادة على استعمال اللغة الفينيقية قي مملكة قوي، وهي تعود إلى ما بين 705 و 695 فتنقلنا من الفينيقية القديمة إلى الفينيقية الوسيطة أو الكلاسيكية.
مدوّنات هي أطول ما لدينا من مدوّنات فينيقية، تشبه المدوّنات الملكية، وإن لم يكن أزيتيوادا ملكًا بل وزيرًا أوّل أو قائدًا للجيش: "أنا أزيتيوادا، مبارك بعل وخادم بعل. قد قويّت أو ريكي، ملك الدنوانيين. جعلني بعل للدنويين الآب والأمّ. أنعشت الدنيوانيين ووسعّت بلاد سهل أضنة من الشرق إلى الغرب. وكان للدنوانيين في أيّامي السعادة والوفر والرخاء... سالمت كل ملك، بل حسبني كل ملك أبًا له بسبب عدالتي وحكمتي وطيبة قلي ".
ثمّ ذكرت بالتفصيل الأبنية التي شيّدها (أو أعاد تشييدها) أزيتيوادا. وتنتهي المدوّنة بطلب بركة بعل على أزيتيوادا وعبيده، واللعنة على كل من يلمس هذه المدوّنات أو يحذف منها اسم أزيتيوادا: "ليمح بعل شميم (بعل السماء) وإيل، خالق الأرض، وشمس الأزل، كل جماعة أبناء الله، هذه المملكة وهذا الملك وهذا الرجل... ولكن ليبقَ أسم أزيتوادا إلى الأبد كاسم الشمس والقمر".

ثالثًا: الفينيقية الوسيطة أو الكلاسيكية (من القرن 7 إلى منتصف القرن 4)
* في فينيقية
أهم المدوّنات في فينيقية هي مدوّنات ملوك جبيل (بيبلوس) وصيدون. ففي جبيل نجد، بالإضافة إلى مدوّنة جنائزية لابن شفطبعل والمدوّنة الصغيرة على ناووس بطنعام، مدوّنة يها وملك التي هي أهمّ مدوّنة والتي تعود إلى النصف الثاني من القرن الخامس ق م. هذا النصب الملكي الذي وضع أصلاً في آخر هياكل جبيل يورد إصلاحات (مذبح البرونز) قام بها الملك من أجل سيّدته بعلة جبيل لأنّها سمعت له. بعد الدعاء بالبركة على ملك يها وملك، تنتهي المدوّنة باللعنات العادية ضدّ كل من يقوم بإصلاحات في الهيكل ولا يجعل يها وملك قرب اسمه.
وفي صيدون حُفرت مدوّنتان على ناووسين ملكيين: أمّا ناووس تبنيت، كاهن عشتاروت وملك الصيدونيين (حوالي 490 ق م)، فلا يتضمّن إلاّ عبارات كلاسيكية مع لعنات ضدّ كل من يفتح الناووس. أمّا ناووس أشمون عازر (حوالي 475 ق م) فهو الأشهر لأنّ مدوّنته الطويلة (22 سطرًا) تتضمّن قسمين مختلفين. يشمل الأوّل عبارات جنائزية كلاسيكية (ما عدا التشديد على موت مبكّر: "أخذت قبل وقتي"). والثاني نُسخ عن مدوّنة ملكيّه تذكارية. عمل الملك مع أمّه كوصية فذكر ابنيته الرئيسية (الهياكل) وقال كيف نجح في توسيع أرضه بفضل الملك الفارسي: "وأعطانا رب الملوك أيضاً دور ويافا والأراضي الغنية بالقمح التي في سهل شارون (بزرعيل) من أجل أعمالي العظيمة. كل هذا ضممته إلى أرض البلاد ليكون للصيدونيين إلى الأبد".
وكانت تنقيبات في بستان الشيخ، في هيكل أشمون، فأبرزت قاعدة تمثال ولد يحمل مدوّنة تعطي سلسلة ملوك صيدون حوالي سنة 400 ق م، واوستراكات كُتب عليها بالحبر فتضمّنت أسماء عَلم أغنت عِلم الأسماء عند الفينيقيين.
ونزيد أيضاً مدوّنة نُصب عمريت التي تذكر شدرافا، ونصبًا وجد في صرفت وهو يذكر عشتاروت تانيت، ونصبًا عديدة في اكزيب.

* في بلاد الرافدين
حفرت مدوّنة فينيقية من بداية القرن السابع على صفحة عاجيّة وُجدت في أور. هي علبة قدمتها أمتبعل ابنة فوطي كهدية لعشتاروت سيّدتها لكي تباركها في أيّام حياتها. وهناك لويحتان أشراهما أحد العلماء في إرسلان تاش سنة 1933 وهما تتضمّنان عبارات تعزيم ضدّ السحر.

* في مصر
هناك كتابات (غرافيتي) وُجدت في هيكل أوزيريس في أبيدوس، ومدوِّنات عديدة على الجرار. وقد تركت لنا رسالتين فينيقيتين دوّنتا على الورق البردي: جاءت الأولى من صقارة وهي تعود إلى القرن السادس ق م تقريبًا. نجد فيها: العنوان، عبارة التقديم، عبارة السلام والمباركة. الثانية تعود إلى القرن الرابع وتحتوي حسابًا اقتصاديًا.

* في قبرص
لقد دُرست مدونات قبرص، وأهمّها من أجل هذه الحقبة مدوّنة كيتيون التي كتبت بالحبر على صفحتي لويحة كلسية تعود إلى نهاية القرن الخامس أو بداية الرابع ق م. نحن أمام حساب مصاريف هيكل عشتاروت في كيتيون خلال شهر أتانيم وشهر فعلت. وهذا الحساب مهمّ لأنّه يلقي ضوءاً على فئات العمّال في الهيكل: البناء، البوّاب، المغنّي، ناحو الذبائح، الخبّاز، الحلاّق... ونذكر أيضاً كتابة تذكر وضع تمثال في السنة الثالثة لحكم الملك ملكياتون (ملك كيتون) وابداليون.

* في مالطة
نجد نصبين يعودان إلى القرن السابع ويذكران ذبيحة "مولك" الشهيرة: "نصب تقدمة الحمل لـ "مولك"، رفعها عريش لبعل هامون السيّد، لأنّه أصغى إلى صوت كلامه ".

رابعًا: الفينيقية الحديثة
منذ نهاية القرن الرابع أثّر العالم اليوناني في فينيقية وفي مختلف المستوطنات الفينيقية. وُجدت مدوّنات في اللغتين في اليونان وقبرص ومالطة. أمّا في فينيقية فنجد: مدوّنات أمّ العامد وهي مكرّسة لهيكل ملك. عشتاروت إله هامون، ومدوّنات أرواد وصور والشاطئ الفلسطيني (أشقمونا، كرمل، بيت يم، نبي يونس، تل جمه) ومصر.
ترتبط مدونات كيتيون (في قبرص) باسم فومياتون، ملك كيتون وايداليون (362- 312 ق م). جاءت هذه المدونات من لارناكا وتحدّثت عن إعادة العبادة لملقارت مع ذبائح منظمة "في أيّام الهلال والبدر، يومًا بعد يوم، إلى الأبد، كما كان في الماضي ".
ونذكر أيضاً مدوّنة تذكّرنا بترميم هياكل ثلاثة في جزيرة غوزو (قرب مالطة)، ومدوّنات عديدة تدلّ على وجود مستوظنة كبيرة ومنظّمة في أثينة في القرنين الثالث والثاني ق م.

2- المدوّنات الفونيقية
هناك آلاف المدونات الفونيقية الآتية من قرطاجة وصقلية وسردينيا وإيطاليا وإسبانيا وأفريقيا الشماليّة وليبيا، معظمها تذكر نذرًا أو تقدمة: "إلى السيّدة إلى تانيت، وجه بعل والرب، إلى بعل هامون ما نذرت... ". هذه المدوّنات تعطينا لائحة أسماء جديدة وتذكر مهنًا ووظائف عديدة.
وهناك مدوِّنات تستحقّ اهتمامًا خاصًّا: في فيرجي، كتبت على صفحة مذهّبة. تعود إلى سنة 500 ق م تقريبًا. تُهدى المدوّنة الفونيقية إلى السيّدة، إلى عشتاروت من الملك الإتروسكي تيفاري طيباريوس. وقد ساعدتنا هذه المدونات على التقدّم في حلّ رموز اللغة الإتروسكية (إيطاليا).
ونورد هنا بيانًا بأسعار الذبائح. يورد بيان مرسيليا الذي وُجد في قرطاجة، بعض أسعار الضرائب التي تُدفع لمختلف الذبائح (البقر، العجل، الكبش، ذبائح التكفير، ذبائح السلامة، المحرقات) في بعل صفون. مثل هذا البيان قريب ممّا نجد في سفر اللاويين.

خاتمة
إرث كنعاني مشترك، تقارب لغوي، علاقات تجارية وسياسية بين صور وصيدون من جهة بين السامرة وأورشليم من جهة ثانية. كل هذا يجعلنا نعتقد بتأثير الأدب الفينيقي في الأدب العبراني الذي تنقله إلينا التوراة. ونحن ننتظر مزيدًا من النصوص لنحدّد مدى هذا التأثير الذي كان كبيرًا بين القرن العاشر والقرن السابع ق م.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM