العدالة والقضاء في الكتاب المقدّس

العدالة والقضاء في الكتاب المقدّس

مفهوم العدالة مفهوم أساسيّ في وجود الإنسان. فبها يتعلّق تنظيمُ المجتمع البشريّ والنظرة إلى الإنسان، إلى كلّ إنسان. وخبرة العدالة أو اللاعدالة والظلم، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهوم الله، بحيث راح الناس ينكرون وجود الله أمام الظلامات التي تحلّ بالمساكين في الأرض. مقابل هذا، أراد الناس أن يكون الله ذلك العادل، منذ هذه الأرض، فيعاقب الظالمين الجشعين والقاتلين المستبدّين. لهذا كان الكتاب المقدّس وحياً عن العدالة كسمة أساسيّة في علاقة الإنسان بالإنسان، وفي علاقة الله بالإنسان. والله نفسه هو ذاك الذي لا يرضى الظلم لشعبه، لمؤمنيه، سواء جاء من خارج البلاد، أو من قلب المجتمع. الله هو العادل في أحكامه، وعلى مثاله يتصرّف المؤمن، لا انطلاقاً من حسابات بشريّة، بل ممّا يطلبه الربّ على مثال ما نقرأ في سفر اللاويين: "كونوا قدّيسن، لأني أنا الربّ إلهكم" (19: 1).
بعد أن نتكلّم عن حقوق الإنسان في المجتمع التوراتيّ، نتوقّف عند ممارسة العدالة والقضاء في أرض فلسطين، كما نكتشفها في الكتاب المقدّس. وننتهي في كلام عن الظلم الذي سيطر على مجتمع ارتبط بعهد مع الله، فقال فيه النبي ميخا: "اسمعوا يا رؤساء يعقوب، يا قضاة بيت اسرائيل، يا من تمقتون العدل، وتعوّجون كل استقامة، ويبنون صهيون بالدماء، مدينة أورشليم بالجور. فرؤساؤهم يحكمون بالرشوة، وكهنتها يعلّمون بالأجرة، وأنبياؤها يتنبأون بالفضّة" (3: 9- 11).

1- حقّ الإنسان وما يتوجّب له
إن أراد مجتمع من المجتمعات أن يعيش بحسب العدالة، وجب عليه أن يسنّ القوانين، فيعرف الفرد ما له وما عليه. هذا ما فعله الشعب العبرانيّ على مدّ تاريخه، فأعطى لنفسه تشريعاً وأحكاماً تنظّم حياة الأفراد والمجموعات. أما الأساس فشرائع الأمم في هذا المحيط الشرقيّ، بعد أن كيّفها الكتاب المقدّس حسب الوضع الجغرافيّ والاقتصادي والسياسيّ والدينيّ (رج 2 مل 17: 18). ماذا نقرأ في أسفار الشريعة؟ وماذا نجد في الشرق القديم؟
أ- مجموعة القوانين
هناك ثلاث مجموعات من القوانين، ترتبط بالحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة دون أن تنسى ما يتعلّق بشعائر العبادة والاحتفال بالأعياد الدينيّة في المعبد: شريعة العهد، الشرعة الاشتراعيّة، شريعة القداسة.
أولاً: شرعة العهد (خر 20: 22- 23: 19)
سُمّيت هذه المجموعة شرعة العهد، لأنها أُدرجتْ في قلب خبر العهد الذي عقده الله مع شعبه على جبل سيناء (خر 19، 24). فنحن نقرأ في خر 24: 7: "وأخذ (موسى) كتاب العهد، وتلاه على مسامع الشعب". فقالوا: "كل ما تكلّم الربّ به نعلمه ونأتمر به". إن هذه الشرعة تعكس العلاقات الاجتماعية التي عرفها شعبٌ من الرعاة، وهو ينتقل شيئاً فشيئاً إلى حياة ثابتة في الريف بانتظار المدن. أمام اقتصاده فيرتبط بتربية المواشي (خر 21: 28- 22: 14). تُذكر الأضرار التي يسبّبها ثور من الثيران. كما تُذكر سرقة ثور أو خروف. ونقرأ في 22: 9- 14: "وإذا سلّم أحد إلى آخر حماراً أو ثوراً أو خروفاً ما ليحفظه له...". ثم "وإن استعار أحد من آخر بهيمة...". أما الزراعة فهي مساعد ضعيف. وإن ذُكرت، فبالنظر إلى المواشي. "إذا رعى أحد حقلاً أو كرماً، فأطلق مواشيه لترعى في حقل غيره..." (22: 4).
ويُذكر البيت بعد أن ترك الناس الخيام (22: 6- 7)، كما يُذكر الفقراء من يتامى وأرامل وغرباء، ويُشجب الربى، ويُطلب من الأقوياء أن يتضامنوا مع الضعفاء. "لا تتبع الكثرة إلى السوء، ولا تسايرها في الدعاوى خلافاً للحقّ، ولا تهدر حقّ المسكين في دعواه... لا تضايق الغريب. فأنتم تعرفون حقيقة ما يشعر الغريب، لأنكم كنتم غرباء في أرض مصر" (23: 2- 9). ويتوجّه في كلامه إلى القضاة: "لا تأخذ رشوة، فالرشوة تعمي أبصار القضاة وتكذّب أقوال الصادقين" أو: تعطّل حقّ الأبرياء (23: 8). إلى مثل هذه الشرعة استند الأنبياء، ولا سيّما عاموس، فندّدوا بالمظالم في مجتمع أراد له الربّ المساواة. "ويل لكم! تحوّلون العدل إلى علقم، وتُلقون الحقّ إلى الأرض" (5: 7).
ثانياً: الشرعة الاشتراعيّة (تث 12- 26)
سُمّيت بهذا الاسم لأنها تشكّل قلب سفر تثنية الاشتراع. أما جذورها فمحيط اللاويين والأنبياء في مملكة الشمال. وهي تعكس مجتمعاً من الحضر يقيم بشكل خاص في المدن، مع سلطة مركزيّة فيها الملك والكهنة والقضاة والأنبياء. الأرض هي أساس الغنى، والمال يتوزّع في التجارة. إذن، لابدّ من تنظيمه. فهناك أناس يجب أن ندفع لهم حقّهم: "لا تهضم أجرة مسكن ولا بائس من اخوتك بني اسرائيل، أو من الدخلاء (المهاجرين) الذين في أرضك ومدنك. بل ادفع إليه أجرته في يومه قبل أن تغيب عليها الشمس" (24: 14- 15). ونقرأ في آ 10: "إذا أقرضت أحداً قرضاً، فلا تدخل بيته لتأخذ منه ثوبه الذي رهنه لك". وهناك تشريع على الديون التي يتمّ الاعفاء منها (15: 1)، وعلى العبيد الذين يُطلَقون أحراراً بعد خدمة وصلت إلى السبع سنين (15: 12). مثل هذا العبد لا يُطلق فارغ اليدين، بل يزوّد بالقمح والزيت والمواشي (آ 14). ويطلب المشترع الابتعاد عن قساوة القلب التي تجعل المؤمن يبخل على اخوته المحتاجين (15: 7).

ثالثاً: شريعة القداسة (لا 17- 26)
تشدّد هذه الشريعة، أو هذه الشرعة، عى قداسة لله، وبالتالي على قداسة الشعب، الذي لا يتصرّف الوثنيّون. "كما يعمل أهل مصر التي أقمتُم بها لا تعملوا، وكما يعمل أهل أرض كنعان التي أُدخلكم إليها لا تعملوا، وفي فرائضهم لا تسلكون" (لا 18: 3). فكيف تكون القداسة التي يطلبها الله؟ هي لا تنحصر في شعائر العبادة، بل تدعو المؤمن لكي يحترم قريبه بحسب الوصايا. "لا تسرقوا، ولاتغدروا، ولا يكذب بعضكم على بعض... لا تظلموا أحداً. لا تحتفظوا بأجرة الأجير عندكم إلى الغد... لا تجوروا بالحكم.. بل احكموا للآخرين بالعدل" (لا 19: 11- 15).
ب- شرائع الشرق القديم
وثائق عديدة اكتُشفت في الشرق، فتوزّعت بين القرن الحادي والعشرين والقرن الثاني عشر ق. م. هناك شرائع أورنامو (2000- 2094) مؤسّس أور الثالثة. وشرائع ليفيت عشتار (1934- 1924) التي ارتبطت بسلالة مدينة إيسين. وشرائع مدينة أشنونا التي ازدهرت منذ بداية الألف الثاني حتّى زمن حمورابي. وشرائع حمورابي الذي ملك في بابل سنة 1792- 1750. وشرائع أشورية وُجدت في أشور، وقد جُعت في أيام تغلت فلاسر الأول (1114- 1076).
أخذت أسفارُ موسى الكثير من هذه النصوص البيبليّة، كما أخذت من تشاريع كنعانيّة سبقتها في زمن. فالمجتمع الشرقيّ هو هو. وفيه لا تنفصل الأمور الدينيّة عن الأمور الاجتماعيّة. ونحن نكتفي بمقابلة قوانين التوراة مع شرعة حمورابي مثلاً.
تقول شرعة العهد عن تحرر العبيد ما يلي: "إذا اقتنيتَ عبداً عبرانياً، فليدخل خدمتك ستّ سنين، وفي السابعة يخرج حراً بلا ثمن" (خر 21: 2؛ رج تث 15: 12). ونجد المبدأ عينه عند حمورابي، مع تخفيف عدد السنين: "إن أُجبر أحدٌ على بيع زوجته أو ابنه أو ابنته... فهم يعملون ثلاث سنوات في بيت ذاك الذي اشتاهم أو اقتناهم. ويتمّ تحريرهم في السنة الرابعة".
وفي ما يتعلّق بعقاب السارق، القساوة هي هي عند حمورابي، كما في شرعة العهد. "إن وُجد وهو يسرق فضُرب وقُتل، فدمه مهدور" (خر 22: 1). وقال حمورابي: "إن ثقب الإنسان بيتاً، يُقتل أمام هذا الثقب ويُعرض على الأنظار. وإن أُخذ إنسانٌ وهو يقوم بأعمال السلب، فليُقتل قتلاً".
وما يلفت النظر بشكل خاص، تشابه الترتيبات حين يجعل أحد الناس وديعة لدى جاره. قال حمورابي: "إذا سّم فضّة أو ذهباً أو أيّ شيء آخر أمام شهود، فأنكره ذاك الآخر، يُفحم هذا الإنسان ويعطي ضعف ما أنكره". وتوسّعت شرعة العهد في هذا الموضوع فقال: "إذا سلّم أحد إلى آخر فضّته أو أمتعته ليحفظها له، فسُرقت في منزله، فإن قُبض على السارق عوّض ضعفين..." (خر 22: 6- 8).
ج- ثلاث حالات
الحالة الأولى تتعلّق بالغريب والأرملة. وضعُهم مأساويّ لأنهم لا يمتلكون أرضاً يقيمون عليها فتؤمّن لهم كرامة في المجتمع. لهذا، يكونون ضعفاء وبالتالي عرضة للاستغلال. هنا نتذكّر المثل الإنجيلي الذي يصف وضعاً عرفه المجتمع ويعرفه اليوم: "كان في إحدى المدن قاضٍ ى يخاف من الله ولا يهاب الناس. وكان في تلك المدينة أرملة تتردّد إليه وتقول له: أنصفني من خصمي. فكان يرفض طلبها" (لو 18: 2- 4).
الأرملة يدافع عنها الوليّ. هذا ما فعل بوعز حين تزوّج راعوت، وإلاّ تكون عرضه لجميع الأخطار في مجتمع يكرّم القويّ الغنيّ والمقتدر. وحظّ اليتيم ليس أفضل من حظّ الأرملة. لا حماية له البتّة. وإن ترك والده ديوناً، بعد موته، صار الابن عبداً للمداينين. هذا ما نقرأه في سفر الملوك الثاني: "وتضرّعت أرملة... إلى أليشع. قالت: "زوجي مات، يا سيّدي، وهو مديون... وجاء المرابي، ليأخذ ابنيَّ عبدين له بدلاً من ديونه" (4: 1). حالف الحظ تلك الأرملة وابنيها، فنالوا مساعدة. والآخرون؟ طلبتْ شرعةُ العهد الاساءة إلى اليتيم أو أرملة. "فإن أسأت إليهما وصرخا إليّ أسمع صراخهما، فيشتدّ غضبي وأقتلكم بالسيف، فتصير نساؤكم أرامل وأبناؤكم يتامى" (خر 22: 21- 22) وفي آ 20، قال المشترع: "لا تظلم الغريب، ولا تضايقه، فأنتم كنتم غرباء في مصر".
الحالة الثانية تتعلّق بالعبيد الذين كانوا موضوع تجارة في جميع الأمم (عا 1: 6- 9). فأسيرُ الحرب يصبح عبداً في يد الذي أسره. والفقير الذي يتغلّب عليه الفقير، يبيع نفسه لكي يفي ديونه. ولكن العبد لا يبقى كذلك مدى الحياة. يجب أن يحرّر بعد فترة من الزمن. وإن هو رفض أن يترك سيّده، يصبح واحداً من البيت، بحيث لا يُشرى بعد ولا يُباع (خر 21: 5). هذا العبد هو أخ من أخوتك، كما سيقول سفر التثنية (14: 12). وللشاري الحقّ على عمله، لا على شخصه. والمرأة في هذا المجال تشبه الرجل، بحيث لا يحقّ للسيّد أن يتدخّل في حياتها الخاصّة.
والحالة الثالثة، تتعلّق بالقروض والرهن التي تجعل المقترض بتصرّف من أقرضه. طلبت شرعةُ العهد أن لا يعامَل الأخ والقريب كالغريب. "وإن أقرضتَ مالاً لمسكين من شعبي، فلا تعامله كالمرابي، ولا تفرض عليه ربي" (خر 22: 24). وبالنسبة إلى الرهن، يعامل المؤمنُ الفقيرَ بالرحمة. فإن صرخ هذا إلى الربّ بعد أن حُرم من كسائه الذي ينام فيه خلال الليل، يستجيب له الربّ الحنون (خر 22: 26). ثم لا يمكن أن يُرهن ما هو سبيل عيش مثل الطاحون أو الرحى. من ارتهنهما، بدا وكأنه يرتهن حياة العيال (تث 24: 6). أما شريعة القداسة فربطت هذه الممارسة بمحبّة القريب ومخافة الله (لا 25: 36- 38).

2- ممارسة العدالة
كان للشعب العبراني نظم قضائيّة، شأنه شأن كل مجتمع. غير أن التوراة لا تعطينا سوى معلومات قليلة عن تنظيم المحاكم وإجراءات القضاء. فما يهمّها قبل كل شيء، نظرة خاصة عن العدالة، دون التوقّف عند التفاصيل.
أ- من المحاكمات إلى القاضي والحاكم
في إطار الحقّ والعدل، نتوقّف عند ثلاثة أفعال ترسم لنا وضع القضاء في الكتاب المقدس. وذلك في خطّ ما قال سفر صموئيل الثاني عن داود: "مارس الحقّ والعدل في كلّ شعبه" (2: 8- 15)، وما قال ارميا عن الملك يوشيا: "دافع عن الحقّ والعدل، فعرف السعادة" (22: 15). وسوف يقول عاموس للآيتين للصلاة إلى المعبد: "يجري العدل كالمياه، والحقّ كنهر لا ينقطع" (5: 24).
أولاً: دان وحاكم
قال داود لشاول الذي يلاحقه ويطارده: "فليكن الربّ دياناً يحكم بيني وبينك، ولينظر إلى دعواي ويدافع عنها، وينقذني من يدك" (2 صم 24: 16). الله هو الديّان ويدافع عن حقّ الضعيف. والإنسان يمارس، باسم الله، عمل "الديّان" على الأرض. يحاسب المخطئ ويحكم عليه، ويدلّ على حقّ البريء.
قال سفر الأمثال: "الصدّيق يدين الوضيع" (29: 7). أي يعترف بضعفه. أخذ بعين الاعتبار وضعه، ويحكم له بالعدل. وقال أيضاً في تحذيره إلى الملك والعظماء: "لا يليق بالملوك أن يشربوا الخمر، ولا بالعظماء أن يُدمنوا المسكر، لئلا يسكروا ينسوا حقوق الناس، ويهملوا دعوى المساكين" (3: 4- 5). فمن يحكم في أمور الناس، يجب عليه أن يكون عارفاً بقضاياهم، واعياً لواجبه، ولا سيّما تجاه المساكين في الشعب. وفي الفصل عينه، قال الحكيم للملك: "افتح فمك، واحكم بالعدل، وأنصف المسكين والبائس".
ثانياً: قضى وحكم
جاء في الشرعة الاشتراعيّة أمراً ربطه الكاتب بموسى: "أقيموا لكم قضاة وحكّاماً في جميع مدنكم التي يعطيكم الربّ إلهكم، وبحسب أسباطكم يقضون فيما بين الشعب قضاء عادلاً" (تث 16: 18). نلاحظ أولاً قرب "القاضي" من "الحاكم". فاللفظ العبري "ش ف ط" قريب ممّا عُرف لدى الفينيقيين في قرطاجة. أي القاضي. ذاك الذي يقضي في الناس، يعمل من أجلهم ويُنجز. هو يقدّر الأمور ويصنعها ويتولّى إدارتها. واللفظ الآخر (حكاماً) هو "ش ر ط". يعود إلى سطر العربيّ أي كتب. هذا يعني أن هؤلاء الحكام تعلّموا، تدرّبوا على عملهم في مدارس مصر أو فينيقية. رافقوا الشعب في مصر (خر 5: 6- 19)، وفي البريّة (عد 11: 16؛ تث 20: 9)، وتسلّموا القضاء في مدن فلسطين. ومن كلمة سطر تتفرّع لفظة "سيطر" كما نقرأ في سفر الأمثال عن النحلة: "فمن غير قاضٍ ولا رقيب، ولا سيّد يسيطر عليها...". أما سفر الأخبار الثاني، فقسم الوظائف في المملكة: "أرميا الكاهن رئيس عليكم في جميع أمور الدين. زبديا بن يشمعئيل، حاكم يهوذا، رئيس عليكم في جميع أمور المملكة. واللاويون معاونون لكم في أعمالكم" (19: 11).
هذا القاضي هو الذي يميّز في خلاف، حيث الشرّ والخير ليسا بواضحين، حيث لا يُحدّد خطأ هذا وحقّ ذاك. فالمسؤول يحكم بين عادل وظالم. بين بريء ومخطئ. وهكذا يُعيد الحقّ إلى نصابه، بعد أن اعوجّ والتوى. هو ينطق بلا شكّ من الشريعة، ولكن همَّه الأول لا يقوم في تطبيق نصوصه تطبيقاً دقيقاً يصل به إلى الجور لا إلى العدالة، بل في إعادة علاقات متناسقة بين الأفراد من أجل وحدة الجماعة. هنا نفهم أن العدالة ليست فقط نهجاً يحافظ على مصلحة كل واحد بمفرده. بل هي خير الجميع. وهدفُها خلق علاقات شخصيّة متبادلة. ومن أجل الحفاظ على هذه التبادليّة. يُطلب من القاضي أن لا يحابي الوجوه، وأن لا يقبل الرشوة "لأن الرشوة تعمي أبصار الحكماء" والحكّام. (تث 16: 19).
ثالثاً: دافع عن حقّه
الفعل الثالث الذي يربطنا بعالم القضاء والعدالة هو "ر ي ب": خاصم، جادل. هو يربط باللفظ العربي: راب، أي شكّ. والريبة هي الشكّ والظنّ والتهمة. نحن هنا في جوّ المحاكمة. فنقرأ مثلاً عن اشالوم في صفر صموئيل الثاني: "كل من كانت له دعوى (ر ي ب) يريد أن يحتكم إلى الملك، يدعوه أبشالوم إليه... فيقول له "أنظر. قضيّتك صالحة، ولكن لا أحد عند الملك يسمع لك"... ليت من يجعلني قاضياً في هذه البلاد، فيجيئني كل من له قضيّة أو دعوى فأنصفه" (51: 2- 4).
مثل هذا الدفاع عن الحقّ، يبدأ بكلام يرافع فيه الإنسان عن حقّه، وفيه يدخل الفن الخطابيّ لفضّ النزاع بين شخصين أو مجموعتين. الكلام له دوره في هذا المجال. أو هو يُصلح ذات البين. أو يدعو المحكمة للانعقاد. أو يقدّم الاتهام أو الدفاع. والكلام في النهاية هو إعلان حكم يُصدره القاضي. ما زال الأمر على مستوى الكلمة التي تقال في مكانها، لا خوف من استعمال النزاع الذي يؤدّي إلى المشاجرة. ويا ليت الكلمة تكون هي الفصل!
ولنا مثال على ذلك في النزاع بين يعقوب ولابان (تك 31: 17- 32: 1). كاد الأمر يصل بالمتنازعين إلى العنف. نقطة الانطلاق: هربَ يعقوبُ ولم يُعلم لابان الذي لم يكن موافقاً على تصرّفه. "وخدع يعقوب لابان الأرامي، ولم يخبره بفراره" (آ20). فكانت مواجهة كلاميّة، اتّهم فيها الواحدُ الآخر. قال لابان: "لم تدَعْني أقبّل حفدتي وبناتي. فأنت بغباوة فعلت" (آ 28). فأجابه يعقوب: "خفتُ أن تغضبني بنتيك منّي" (تستردّهما) (آ 31). بعد ذلك، احتدّ يعقوب وخاصم لابان (آ 36). فأجاب لابان (آ 43). وكان عهد بين الاثنين مع شاهد يشهد على ما وعد به الواحد الآخر.
في مثل هذا الـ "ر ي ب"، يسمع الواحد للأخر، يناقش ما قيل. فما يمكن أ، يكون نزاعاً بالأيدي، يصبح جدالاً على مستوى الفضاء ، بل حواراً. هذا يعني أن الواحد يكون مسؤولاً عن كلمته، وهذا أساس ضروريّ من أجل علاقة بحسب الحقّ والعدل. والهدف الأساسيّ ليس التغلّب على المخطئ ورميه أرضاً وسحقه في خطأه حتّى تدميره. الهدف هو إقناع الآخر من أجل حياة متناغمة في الجماعة. مثل هذه المرافعة تنتهي بالمصالحة والتسامح، بعد أن عرف الواحد خطأة واستعدّ الآخر لأن يغفر. وإن طُلب من القاضي أن يدخل، فلكي يعيد العلاقة بين متخاصمين، لا ليزيد الشقّ شقاً. لهذا، فالعمل القضائيّ لا يمكن إلاّ أن يكون عادلاً. والاتهام الأكبر ليس فقط في أن يُخطئ القاضي في الحكم، بل أن يرفض أن يَحكم. في هذا الوضع، يبقى الضعيف مسحوقاً في ضعفه، والفقير مضايقاً في ديونه. هنا نفهم كلام ابراهيم في حواره مع الله: "أديّان كل الأرض لا يدين" (تك 18: 25)؟ ألا يقوم بعمله كالقاضي العادل؟ والاتهام الثاني يظهر حين يعوّج القاضي الحكم، ولا سيّما بالنسبة إلى الغريب واليتيم والأرملة.
ب- المسؤول عن القضاء والعدالة
تحدّثت التوراة، في معرض كلامها عن السلطات القضائيّة، عن الأشخاص الذين يلعبون دوراً في هذا المجال. كان حضور الشيوخ فاعلاً على مدى تاريخ الشعب العبرانيّ. فهم قريبون من الشعب، يعرفون أموره، كما يهمّهم أن يحافظوا على وحدة الجماعة التي يُسألون عنها. ولكن الدور المسيطر هو دور الملك المسلّط على الشعب: به يرتبط القضاة والكهنة. مسؤولية كبيرة، والشرّ الذي يمكن أن يسبّبه خطير جداً بحيث يزعزع أساس مملكته. وما يلفت النظر هو أن سليمان بدأ مُلكه في حكم قضائيّ بين امرأتين، دلّ فيه على حكمته، كما دلّ على نزاهة تترفّع عن الأفكار المسبقة أو النظرات المغرضة.
أولاً: الشيوخ
حين نقرأ النصوص التي تتحدّث عن الشيوخ، نفهم أننا لسنا في مجتمع يدويّ، بل حضريّ. فالشيوخ (ز ق ن ي م، أي أصحاب اللحى)، يشكّلون رؤساء البيوت، أو الأسرة في المعنى الواسع، فيكوّنون مجلس العشيرة والقبيلة والتجمّع الريفيّ أو المدينيّ. هم الحكماء. ورأيهم يوازي الشريعة المكتوبة. في هذا قال ارميا النبي: "فالشريعة لا تُحرم من كاهن، ولا حسن المشورة من حكيم، ولا كلمة الوحي من نبيّ" (18: 18). ويتحسّر حزقيال على يوم يفقد فيه الشيوخ الحكمة والكاهن الشريعة (7: 26).
تنوّعت سلطةُ هؤلاء الشيوخ وتأثيرهم، حسب طبيعة الجماعة التي يقيمون فيها، وحسب التحوّلات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصادية. أما وظائفهم على مستوى القضاء فتكتشفها من خلال شرائع نقرأها في سفر التثنية. على مستوى القتل. إن أبغض أحد قريبه "وضربه ضربة قاتلة فمات، ثم هرب إلى إحدى تلك المدن (= مدن الملجأ)، فعلى شيوخ المدينة، أن يرسلوا مَن يأخذه من هناك ويسلّمه إلى يد وليّ القتيل ليقتله" (19: 11- 12). هي قساوة بالنسبة إلى القاتل، فيُمنع سفك الدم من الأرض. والحالة الثانية: "إذا وُجد قتيل على الأرض...، ولا يعرف أحد من قتله... يخرج شيوخكم وقضاتكم..." (21: 1- 2). وإن كان في البيت ابن عقوق متمرّد ر يسمع لكلام أبيه ولا لكلام أمّه، "يخرجانه إلى شيوخ المدينة التي يقيمون بها" (21: 18- 20).
يؤدّب الشيوخُ المذنبين بقساوة. ولكنهم يعرفون كيف يدافعون عن الضعيف. "إذا تزوّج رجل امرأة وضاجعها ثم أبغضها فنسب إليها علّة وأذاع عنها سمعة سيّئة" (22: 13- 14)، كيف يتصرّف الشيوخ؟ يأخذون "ذلك الرجل ويؤدّبونه" (آ 7). ونقول الشيء عينه عن شريعة السلفيّة، أي واجب الرجل بأن يتزوّج امرأة أخيه ليقيم له نسلاً. "إن رفض... فعليها أن تذهب إلى محكمة الشيوخ... فيستدعونه ويكلّمونه..." (25: 7- 8).
ثانياً: امتدّ دورُ الشيوخ، فلم يتوقّف عند الجماعات التي عاشت في فلسطين، بل رافق الذاهبين إلى الشتات. وما عرف عملُهم موضعاً مخصّصاً لذلك. فلاجتماع يتمّ عند باب المدينة (تث 25: 7)، أي الساحة العامة التي فيها يلتقي الناس. ويكون الشيوخ عشرة على الأقل لكي يشكّلوا "محكمة". في هذا المجال نقرأ ما في سفر راعوت: "وصعد بوعز إلى باب المدينة (= المحكمة)، وجلس هناك... ثمّ استدعى عشرة رجال من شيوخ المدينة" (4: 1- 2). ورفع إليهم قضيّته.
مع تأسيس الملكيّة، أخذ الشعب العبرانيّ الوظيفة الملكيّة من ايديولوجيّة الشرق القديم. ورأى فيها أصل السلطة القضائيّة. فمسؤوليّة الملك الكبرى هي إقامة العدالة. فملوك سومر، في العراق، لقّبوا أنفسهم: راعي العدالة، ملك الاستقامة، منظّم العدالة في سومر واكاد، ذاك الذي جعل العدالة تزدهر.
اعتبر ليفيت عشتار نفسه الراعي الذي كُلّف من قبل الآلهة بإعطاء العدالة للبلاد والرفاهيّة. يُزيل التشكّي من الأفواه، ويُبعد الشرّ والعنفَ، ويُظهر الحقّ والاستقامة. وقال حمورابي: "أنا حمورابي، الملك الغيور الذي يخاف الآلهة، يُبرز العدالة في البلاد، ويُفني الشرّير والرديء، بحيث لا يظلم القويّ الضعيف... حين أرسلني الإله مردوك لأقضي بالحقّ في الناس وأعلِّم البلاد السراط المستقيم، جعلتُ الحقّ والعدل في فم البلاد، ومنحتُ الرفاه للناس". وقالت نصوص أوغاريت عن الملك دانيل، إنه جلس عند باب المدينة فدافع عن الأرملة وأبرز حقّ اليتيم. أجل، العدالة أساس الملك، واحترام حقوق الناس متطلّبات مفروضة على الملك والذين يحيطون به.
أما في شعب إسرائيل، حيث بدا داودُ الملك المثالي (2 صم 8: 15)، فقد عُرف بحزمه واستقامته في ممارسة الحقّ والعدل. وتبعه ابنه سليمان، الذي جمع رجالُه ما في شفر الأمثال: "فعلُ الشرّ يمقته الملوك، لأن العرش بالعدل يثبت" (16: 12). "حين يحكم الملك للفقراء بالحقّ، يثبت عرشُه إلى الأبد" (29: 14). وتأكّد أليهو أن مبغض الحقّ لا يسود: "فالديّان العادل يدين الملوك للؤمهم، ويوبّخ العظماء بسبب شرورهم" (أي 34: 17- 18). ويُنشد اشعيا الملكَ الآتي وكلُّه أمل بأن "سلطتنه يزداد قوّة، وتكون مملكته في سلام دائم. يوطّد عرش داود ويثبّت أركان مملكته على الحقّ والعدل من الأن إلى الأبد" (9: 6).
ثالثاً: القضاة والكهنة
حين يمارس الملك الحق والعدل، يمنح ملكه شرعيّة آتية من عند الربّ. فمثل هذه الممارسة هي مشروع الله، وليست فقط واقعاً بشرياً وسياسياً. في هذه الحال، تكون عدالة الملك صورة عن عدالة الله. لهذا، أنشد المزمور الثاني والسبعون: "اللهم، أعط حكمك للمك، وعدلك لابن الملك": علّم الملك كيف يحكم، كيف يكون عادلاً. مثل هذه العدالة لا تكتفي بتطبيق القوانين والشرائع، بل هي عمل خلق وحياة بحسب كلام الله. تزيل الشواش والدمار والكذب، وتنعش أشخاصاً يحملون كلام الحقّ، فتتوافق أعمالُهم مع أقوالهم، وحياتُهم مع مبادئ يعلنونها في المجتمع.
ولكن كيف يقضي الملك في الشعب؟ بواسطة القضاة. فيعود الكتاب المقدّس إلى أخبار تروي كيف فوّض موسى سلطة القضاء إلى شيوخ الشعب. نقرأ في سفر الخروج كيف لعب موسى (الذي هو صورة بعيدة عن الملك) دور القاضي. "فوقف الشعب أمامه من الصباح إلى المساء" (خر 18: 13). أما العدالة التي يمارسها، فهي تلك التي يمارسها الله نفسه، ولكنه لا يقدر وحده أن يفعل. لهذا قيل له: "اختَر من الشعب كلّه رجالاً أكفاء يخافون الله وأمناء يكرهون الرشوة، وولِّهم على الشعب... فيحملون الحمل معك ويخفّفون عنك" (خر 18: 21- 22). تلك هي الصفحات التي ينتظرها الناس في القاضي. هناك الكفاءة التي يراها (ح ز ه في العبرية) موسى، بحيث يكون القاضي قديراً (ح ي ل في العبرية. كما في السريانية والعربيّة) في حياته الخاصة فيتغلّب على كل المغريات، وفي المجتمع بحيث يرفض الرشوة والهدايا. ويتحلّى بمخافة الله، لا برعدة تشبه رعدة العبيد أمام الآلهة. هو يحترم الله، ويراعي متطلّبات الضمير، ويكون خاضعاً لوصايا الله. هو رجل إيمان وأمانة وصدق (ا م ت في العبرية). لا يحكم فقط بما يسمع وما يرى، بل يجعل كل شخصه في حكم يُصدره.
أما سفر التثنية فيشير إلى صفات أخرى عند القضاة: يكونون حكماء، عقلاء، مختبرين. وقد قال لهم موسى: "اسمعوا دعاوي بني قومكم والنازلين بينكم، واحكموا بالعدل بينهم. لا تحابوا أحداً في أحكامكم، اسمعوا للصغير كما تسمعون للكبير، ولا تجوروا على أحد، لأن الحكم لله" (1: 16- 17). ويشدّد سفر العدد على أن القضاة يشاركون موسى في عطيّة الروح (11: 10- 17). فهل يتركون روح الله يتكلّم فيهم، أم يُؤخذون يروح العالم وما فيه من بحث عن المال والعظمة وممالقة الحاكم الذي يدعوا الشرّ خيراً والخير شراً، الظلام نوراً والنور ظلاماً، الحلو مراً والمرّ حلواً" (أش 5: 20)؟ هنا نتذكّر ما قاله الملك يوشافاط للقضاء الذين عيّنهم: "فكّروا في ما تعلمون. فأنتم لا تحكمون حسب البشر، بل حسب الربّ الذي يكون معكم حين تمارسون القضاء" (2 أخ 19: 6). سلطتُكم من سلطة الله، وطريقُكم تستوحي طريق الله.

3- الظلم في القضاء
بعد أن نلقي نظرة إلى المجتمع الذي يرسمه الكتاب المقدّس، نتوقّف عند اتهام الربّ لشعبه الذي يمارس الظلم، ويضيّق على المساكين، ويستغلّ الغرباء، ويتاجر باليتيم والأرملة.
أ- المجتمع العبرانيّ
أين يمكن أن تداس العدالة بشكل عام؟ على مستوى أرض يملكها انسان من الناس. على مستوى مال يُحرم منه الفقير والضعيف. هنا نتذكّر ما حدث لنابوت اليزرعيليّ. حظّه أن أرضه كانت بجانب قصر الملك. أراد الملك أخاب أن يوسّع الساحات، فطلب من نابوت: "لا سمح الربّ أن أعطيك ميراث آبائي" (1 مل 21: 2). ولكن من يقاوم الملك؟ وإن حاول الملك أن لا يكون ظالماً، فعرض على نابوت أن يبادله بكرم أفضل منه أو يدفع له الثمن نقداً (آ 2)، فالملكة ستعرف كيف تفعل. جاء شهود زور وقالوا إن نابوت "جدّف على الله وعلى الملك". فأخرج نابوتُ خارج المدينة، فرُجم، ونزل أخاب إلى الكرم وامتلكته (آ 16).
نلاحظ أن الأرض التي يمتلكها نابوت، يتعلّق بها ولا يتخلّى عنها مهما كان الثمن. من أجل هذا، جاء التشريع دقيقاً في مسائل الحدود. قال سفر التثنية: "لا تضمّ حدود أحد من بني قومك التي حدّدها الأولون في ملكك الذي تملكه في الأرض التي يعطيك الربّ لتمتلكها" (19: 14). وكان قاسياً تجاه الذين يتلاعبون بالأملاك. فقال: "ملعون من يضمّ تخم جاره" (تث 27: 17). ووافق جميع الشعب قائلاً: آمين. في هذا المجال، قال سفر الأمثال: "لا تُزح الحدود القديمة، تلك التي وضعها آباؤك" (22: 28).
وهناك مشاكل تبرز بين ملاّك وملاّك. خلاف على الآبار، كما كان الأمر بين اسحق وأبيمالك (تك 26: 19 ي). أو تعريض حياة الجيران وممتلكاتهم بسبب بئر حُفرت: "إن فتح أحد بئراً، أو حفرَ بئراً تركها مفتوحة بدون غطاء، فوقع فيها ثور أو حمار، فليدفع صاحب البئر ثمن الثور أو الحمار إلى صاحبه، والحيوان الميت يكون له" (خر 21: 33- 34). وتُطرح مشاكل على متوى الماشية: "إن تناطح ثوران فقتل أحدهما الآخر، فليبع صاحباهما الثور الحيّ ويقتسما ثمنه. وكذلك الثور الميت يقتسمانه. فإن كان معروفاً أنه ثور نطّاح من قبْل وما ضبطه صاحبُه، فليعوّضه ثوراً بدل ثوره، والثور الميت يكون له" (خر 21: 35- 36).
هذا في الريف، حيث لم تكن الفوارق كبيرة بين الناس. ولكن مع بناء المدن، صارت الملكية الخاصة ينبوع خلافات اجتماعيّة عميقة جداً، ولا سيّما بعد القرن الثامن، فظهر الغنى عبر بيوت كبيرة وقصور فخمة. فندّد عاموس بهذا الترف والبزخ على عيون الفقراء: "تبنون بيوتاً من حجر منحوت" (9: 11). يكون لكم "البيت الشتويّ مع البيت الصيفي... وبيوت العاج" (3: 15). من أين كل هذا المال؟ يدوسون الفقير، ويأخذون منه ضريبة القمح. يرِّفون حقّ البائسين في المحاكم (5: 10- 12). ويُنشد أشعيا كرم الربّ فيه "يضمّون بيتاً إلى بيت، ويصلون حقلاً بحقل حتّى لا يبقى مكان لأحد، فيسكنون الأرض وحدهم" (5: 8).
ب- ويل، ويل
تجاه هذه الظلم لاجتماعيّ الذي يتمّ بمرأى من الملك الذي أكثر النساء والخدم، وسلّح الجيوش وبنى القصور، فاقتدى به العظماء، واستفاد الموظّفون الكبار من وضعهم فاقتنوا ثروة كبيرة، لا بدّ للربّ أن يتدخلّ، ولا سيّما بواسطة الأنبياء. مثلُ هذا المجتمع العائش على دوْس العدالة، وسَحْق الغريب واليتيم والارملة والمسكين، لا يمكن أن يدوم. وإن هو دام، فهو يمتلئ بغضاً وحقداً، فيخسر تناغمه ووحدته، خصوصاً حين تزول الحريّة "فيبغضون القاضي بالعدل في المحاكم، ويمقتون المتكلّم بالصدق" (عا 5: 10).
في المجتمع أخذت الفضة تلعب دورها، تكدّست ثروات. وبسبب الضرائب وصعوبات الحياة، يستقرض الفقير فيخسر أرضه بانظار أن يبيع نفسه وأولاده ليفي ديونه. فما أجمل أن يتدخّل الملك الذي استغاثت به امرأة "ليعيد لها بيتها وحقلها" (2 مل 8: 3) اللذين خسرتهما في وقت المجاعة. فقال الملك لأحد رجاله: "رُدَّ لها جميع ما يخصّها وكل غلال حقلها، من يوم أن غابت عن هذه الأرض حتى الآن" (آ 6).
تحدّثنا عمّا فعله آخاب بنابوت حين أخذ له أرضه. هي سلطة مطلقة يتمتّع بها الملك والذين حوله. وهذا ما يقود إلى استغلال الشعب، وليس من يدافع سوى الأنبياء، أي الذين يتكلّمون باسم الربّ ولا يخافون. فقال ميخا: "ويل للذين يعدّون العدّة للاثم، وفي مضاجعهم يفتعلون الشرّ: في نور الصباح يصنعونه لأنه في متناول أيديهم. يشتهون حقولاً فيغتصبونها، وبيتاً فيستولون عليها. يظلمون الرجل وأهل بيته، والإنسان وما ملكت يداه" (2: 1- 2). أين الحاكم لا يدافع؟ أين القاضي لا يقضي؟ هل كُمّت الأفواه، أم أن الجميع تأمروا على الفقير، فجاء كلام سفر الجامعة قاسياً: "ويل للبلاد، إذا كان ملكها ولداً، وأمراؤها يأكلون ويشربون حتى الصباح" (10: 16). وتمنّى تجاه هذا الوضع فقال: "هنيئاً للبلاد، إذا كان ملكُها سليل الأحرار وأمراؤها يأكلون طعامهم في وقته، للقوّة لا للسكر" (آ 17). وسوف يرى الأنبياء في كل ما يحلّ بالبلاد من خراب أو دمار بفعل الحروب، عقاباً من الله بسبب هذه المظالم التي تصيب الشعب، فلا يتدخّل الملك ولا الأمير ولا القاضي. رسم عاموس الوضع، ثم هدّد: "تضطجعون على أسرّة من عاج، وعلى فراشكم تتمرّغون. تأكلون الخراف من الغنم والمعلوف من العجول. تبعبعون على صوت العود، وتنسبون إلى أنفسكم آلات الطرب مثل داود. تشربون الخمر بالطاسات وتمسحون شعر رؤوسكم بالزيتون، ولا تذوبون حزناً على هلاك يوسف (أي مملكة الشمال بعاصمتها السامرة). لذلك تكونون أول من أسبيهم (يهجّرون، وهذا ما تمّ سنة 721 ق م) فتزول عربدةُ المترّغين" (6: 4- 7).
ولن يكون أشعيا أقلّ عنفاً تجاه الظالمين: "بيوت كثيرة تصير خراباً. بيوت كبيرة فخمة تبقى بغير ساكن" (5: 9). هذا ما تفعله الحرب. "عشرة فدادين كرماً لا تخرج إلاّ خابية خمر، وكَيْل بذار واحد لا يُخرج إلاّ قفّة" (آ 10). هذا ما يفعله القحط والجفاف. وتتوالى الويلات للمبكرين صباحاً في طلب المسكر، للذين يجذبون الاثم بحبال الباطل، للذين هم حكماء في أعين أنفسهم، للذين يبرّرون الشرّير في القضاء أو في الحكم بشكل إجماليّ، لأجل رشوة، ويحرمون البريء حقّه (أش 5: 11- 23).
احتُقرت حقوقُ الناس، فما عاد للعدالة من وجود، وانحصر عمل القضاة في طاعة الحاكم، والتجاوب مع رغباتهم مع جمع المال والسلطة. "يبيعون الصدّيق بالفضة والبائس بنعلين، ويمرّغون رؤوس الوضعاء في التراب" (عا 2: 6- 7). وهكذا فسدت العلاقاتُ الاجتماعيّة المبنيّة على التبادل والحوار والتعاون. فنظّم كل واحد حقّه كما يشاء، وفرض نفسه ولا من يحاسب، بل لا يجسر أحد أن يحاسبه. فهتف الربّ بلسان ميخا: "هل أنسى كنوز الشرّ والقفف المملوءة بالباطل؟ هل أبرّر موازين النفاق وكيس معايير الغشّ؟ الأغنياء امتلأوا جوراً، والأوباش نطقوا بالزور، وتفوّهت ألسنتهم بالمكر" (6: 10- 12). ويأتي التهديد: "فحلّلتُ لنفسي ضربكم وتدميركم لأجل خطاياكم. تأكلون ولا تشبعون، ويبقى جوعكم في جوفكم. تخزنون ولا تنقذون، وما تنقذون أعطيه للسيف. تزرعون ولا تحصدون. تدوسون الزيتون، ولكنكم لا تُدهنون بالزيت. وتعصرون العنب خمراً ولكنكم لا تشربون" (آ 13- 15). مثل هذا المجتمع ذاهب إلى الخراب، في حرب يذهب فيها الملك إلى السبي، ومعه العظماء والقوّاد والوجهاء.
هل تبقى الصورة قاتمة؟ كلا. فالنبيّ أشعيا يعلن يوماً يعرف فيه المساكين العدالة: "يزداد المساكين فرحاً بالربّ ويبتهج البؤساء... لأن الطغاة يهلكون، والساخرين يزولون، ولا يبقى أثر ولا يبقى أثر للمواظبين على الشرّ. أولئك الذين على كلمة يتّهمون الآخرين، وينصبون شراكاً على باب القضاء لمن يقضي بالعدل، ويحرّفون دعوى البريء بأباطيلهم" (29: 19- 21). هي المأساة يراها الأنبياء، والجور يتجذّر في المجتمع، بحيث ما عادوا يأملون بمجتمع أكثر عدالة. قال ارميا: "طوفوا في شوارع أورشليم، أنظروا واستخبروا وفتّشوا! هل تجدون في ساحاتها إنساناً، إنساناً واحداً، يصنع العدل ويطلب الحق" (5: 1)؟ ولكن هل يستطيعُ ذلك انسانٌ ترك معرفة الله ووصاياه فما عاد يعرف أن يتوب (هو 5: 4)، إنسان فاسد في قلبه؟ لهذا قال ارميا أيضاً: "هل يغيّر الحبشيّ بشرت والنمر جلده المرقّط؟ إذن، تقدرون أنتم أن تصنعوا الخير بعد أن تعوّدتم على الشرّ" (13: 23). فلا يبقى سوى النداء الذي أطلقه عاموس: "أبغضوا الشرّ، وأحبّوا الخير، وأقيموا العدل في المحاكم، فلعلّ الربّ الإله القدير يتحنّن على من تبقّى" (5: 15).

خاتمة
تلك كانت مسيرتنا في دنيا العدالة والقضاء على ضوء ما يقوله الكتاب المقدّس. توقّفنا عند العهد القديم لما فيه من غنى كبير وصور واقعيّة هي حاضرة اليوم في مجتمعنا. فكأن التشريع القديم كُتب لنا، ويا ليتنا نطبّقه في مجتمعات يسيطر فيها حبّ المال وما يجلبه من مكاسب. وكأن ما قاله الأنبياء يتوجّه إلينا ويدعونا إلى معرفة الربّ التي هي أساس الحياة في مجتمع أكثر عدالة، في مجتمع يتوق إلى الوحدة والتناغم بين مختلف فئاته. ولكن الطريق صعبة، طويلة، بل تبدو للبعض مستحيلة، لأننا أخذنا بروح العالم، لا بروح الله. لهذا تبقى كلمة الله وحدها السراج الذي ينير دربنا ويوجّه خطاتا. ويا ليتنا لا نحوّل هذا النور إلى ظلمة!

الخوري بولس الفغالي

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM