االفصل الثامن :المسيحيون في عالم وثني

الفصل الثامن
المسيحيون في عالم وثني
3: 1- 8

المقطوعة التي نقرأ الآن، تتحدّث عن واجبات المسيحيّين بشكل عام. وقد بُنيت حسب تصميم ف 2. ذكرت أولاً عددًا من الواجبات التي تُفرض على المؤمنين، ثم عرضت الأساس العقائديّ لهذه المتطلّبات. جاء القسم اللاهوتي هنا أكثر توسعًا ممّا في 2: 11- 14. ثم إن التوصيات الاخلاقيّة أشارت إلى موقف المسيحيين تجاه العالم الوثني، ساعة تطرّقت الفرائض المقابلة (2: 1- 10) إلى سلوك مختلف فئات المؤمنين داخل الجماعة. تكلّم ف 2 إلى فئات مختلفة من المسيحيين. أما ف3 فقدم وصيّة واحدة من أجل المؤمنين: ممارسة الأعمال الصالحة. الخضوع للسلطات... كل هذا صار واجبًا على الجميع، لأن الجميع نالوا نعمة الفداء. لم نعد على مستوى الحياة الفرديّة وكرامتها، بل على الخصب العمليّ الذي تُتمّه النعمةُ في الحياة الاجتماعيّة.

1- نحن أيضًا فيما مضى
تبدأ 3: 1- 8 بتحريض له رنّة الشموليّة. جاء مع فعل في صيغة الأمر (ذكِّر)، مع توسيع سوتيريولوجيّ. وانتهى بعبارة تعيد توجيه كل شيء نحو الأعمال الصالحة. نحن هنا أمام ذات المسيرة الدائريّة التي في 2: 1- 14: ننطلق من الأعمال الصالحة لكي نصل إلى الأعمال الصالحة، مرورًا بتعليم أساسيّ حول خلاص شامل "يفيد جميع الناس" (آ 8). ننطلق من آ 1 (مستعدين لكل عمل صالح) مع الاشارة إلى "جميع الناس" (آ 2)، فنصل إلى آ 8 مع قول يحثّ فيه الرسولُ المؤمنين لينصرفوا إلى "العمل الصالح".
"ونحن أيضًا" (آ 3) تقابل "جميع الناس" في آ 2، وتربط آ 3- 7 بالارشاد الذي يسبق (غار، الفاء، آ 3). والضمير المنفصل "نحن" يتوزّع المقطع كله. مرتين في حالة الرفع (آ 3: كنا نحن، آ 5: عملناه نحن)، فارتبط بعناصر سلبيّة. ومرّتين في صيغة النصب (آ 5: خلّصنا نحن، آ 6: أفاضه علينا)، فدلّ على الذين نعموا بالخلاص. ومرّتين في صيغة الجر (آ 4: مخلّصنا، آ 6: مخلّصنا: مضاف إليه). إنه جزء من اسم "مخلّصنا" الذي قيل في الله وفي المسيح (يبدو أننا في إطار ليتورجيّ: نحن، هذا قول صادق، رج أف 2: 2- 8).
بعد شموليّة ملموسة دلّت عليها الإشارة إلى "الحكّام وأصحاب السلطة" (آ 1)، وإلى "جميع الناس" (آ 2)، تتواصل المتتالية مع وضع هويّة تجاه الأخرى. "جميع الناس" (ا 2) تجاه "نحن أيضًا" (آ 3). وهذا ما يجعل الكلام حثًا على تصرّف لطيف تجاه الجميع. وتعود هذه الهويّة بتعارض زمني: وفيما مضى، (بوتي، آ 3) تجاه "فلما" (هوتي، آ 4). رج 1تم 1: 12- 17؛ 2تم 2: 12، 14. وهذا التعارض الزمنيّ يتواصل في تعارض سببيّ (لا بالنظر إلى الأعمال، بل بالنظر إلى رحمته، آ 5) يعيدنا مرة أخرى إلى 1تم 1: 12- 16 حيث التعارض الزمني بين "قبل" و"الآن" يُشرح سببًا بواسطة "رحمة" الرب (1تم 1: 13، 16: رحمني الله لأني كنت غير مؤمن لا أعرف. نلت الرحمة ليُظهر المسيح صبره). والجملة الرئيسيّة "خلّصنا" (آ 5)، تأتي بعدها جملة موصوليّة حول الروح، وغائيّة اسكاتولوجيّة تكمل هذه الانطلاقة الطويلة.
وتعود آ 8 إلى الكرازة حول الأعمال الصالحة كما في 2: 14. فما يهمّ الرسائل الرعائيّة هو اللاهوت العمليّ. ثم إن المقطع يجمع المؤمنين والناس بشكّل عام، ويميّز بين فئة وفئة. وهذا صدى للتمييز الذي رأيناه بين "جميع الناس/نحن" في آ 2- 3، وللجدليّة التي رأيناها في 2: 11- 14 بين "جميع البشر" (آ 11) و"نحن" "الشعب الذي يخصّه" (آ 14).
صوّر الكاتب وضعًا يسبق الاهتداء إلى المسيح بـ "كنّا". ثم كانت لائحة بالرذائل تصف ذاك الوضع السابق، وهذا أمر نجده في الكرازة المسيحيّة الأولى. رج روم 6: 19؛ 1كور 6: 9ي؛ كو 3: 5- 8... وعلى ضوء هذا التعارض، قدّم بولس نفسه، في 1تم 1: 12ي، على أنه نموذج أول للمؤمنين الآتين (1تم 1: 1، 16، ما حصل له من انتقال من الخطيئة إلى النعمة يحصل لهم). والنهاية التي تؤسّس الانتقال من "قبل" إلى "الآن" تكون على نوعين: الاهتداء. يصفه إعلان يقول ما فعله الله للمؤمن في المعموديّة. أو حدث المسيح (رج غل 4: 4؛ 1كور 6: 9- 10). ويُختم كل هذا بحضّ على الأعمال الصالحة التي يجب أن تتجاوب مع النعمة المعطاة في حركة تثبّت الخلاص، وبكلام يحذِّر المؤمن من التراخيات الممكنة.
رأى عدد من الشرّاح في آ 3- 7 ليتورجيا عماديّة. فالحدث الذي ينقلنا من "حينئذ" إلى "الآن" هو المعموديّة (غسل الميلاد الثاني، آ 15). رج 1كور 6: 9- 11 مع لائحة من الرذائل تمنعنا من ميراث ملكوت الله.
نقابل أولاً بين 1كور 6: 9- 11 وتي 3: 3- 7
1كور 6 تي 3
آ 9- 10، آ 11 آ 3
آ 11 (اغتسلتم) آ 5- 6
آ 11 (نتبرّر) آ 7
آ 10 (يرث الملكوت) آ 7 (يرث الحياة الأبديّة)
ثم نقابل بين أف 2: 1- 8 وتي 3: 3- 7
أف 2 تي 3
آ 2: أبناء التمرّد آ 3: متمرّدين
آ 3: نحن أيضًا.. فيما مضى آ 3: نحن أيضًا فيما مضى
آ 3: مسلّمون إلى الشهوات آ 3: مستعبَدين للشهوات
آ 3: كنا (من هؤلاء) آ 3: كنا (أغبياء)
آ 4: الغنيّ (بلوسيوس) آ 6: الغني (بلوسيوس)
آ 4: في الرحمة آ 5: بالنظر إلى رحمة
آ 5: بالنعمة آ 7: بنعمته
آ 5: خلِّصتم (آ 8) آ 5: خلّصنا
آ 7: برأفته آ 4: حنان الله
آ 9: لا بالاعمال آ 5: لا بالنظر إلى الأعمال
آ 10: الاعمال الصالحة آ 8: الاعمال الصالحة.
ما خُلّصنا بالأعمال، بل لنتمّ الأعمال الصالحة.

2- دراسة النصّ
بعد أن تنظّمت الكنيسة، وتحدّدت الواجبات الخاصّة بكل من أعضائها، ولا سيّما في العلاقات العائليّة المتبادلة، انتقل بولس إلى علاقات المسيحيّين بالسلطات الرسميّة في المجتمع الوثنيّ. هذا يعني أن للكنيسة وجهًا منظورًا، أنها مجتمع له وجهه الخاص يميّزه عن سائر المجتمعات. هذا لا ينفي أن الكنيسة تتألّف من مؤمنين يوجّههم الروح القدس، ولكن هذا الوجه الخفيّ يجد تعبيرًا منظورًا عنه في عالم وثني يتعامل فيه المسيحيون مع غير المسيحيين بلطف ووداعة، فيؤدّون الشهادة لله بأعمالهم الصالحة.

أ- تحليل النصّ
أولاً: آ 1-2
"ذكّرهم". هم مسيحيون جاؤوا بأكثريّتهم من العالم اليهودي. واعتادوا أن لا يخضعوا للسلطة الرومانيّة، بسبب أصلهم اليهوديّ، وبسبب حياتهم في جزيرة عُرفت بالفوضى. "هيبوميمنيسكو"، 2تم 2: 14؛ يو 14: 26 (عن البارقليط)؛ 3يو 10، 2 بط 1: 12؛ يهو 5. وهناك معنى تذكّر (لو 22: 61) بالنسبة إلى نكران بطرس ليسوع. "يخضعوا" (هيبوتاساين). رج 2: 5. "الحكّام وأصحاب السلطة". رج أف 3: 10 (رج 6: 12)، كو 2: 15. "أرخاي"، الحكّام. يرد 9 مرّات في سائر الرسائل البولسيّة، ومرّتين في سائر العهد الجديد. يجب أن نميّز هذا اللفظ عن "أرخي" (البدء) الذي يرد 44 مرّة في العهد الجديد. "اكسوسياي"، السلطات. يرد هنا فقط في "الرعائية"، ولكنه يرد 101 في سائر العهد الجديد. نجد الجمع سبع مرات أخرى مع "أرخاي"، ومرّة واحدة مع "الملائكة والقوّات" (1بط 3: 22)،ومرّة وحده في روم 13: 1: السلطات المدنيّة. يطيعوهم "بايتارخاين". قبلَ التوجيهَ والأوامر. رج أع 5: 29، 32 (أطاع الله لا البشر) 27: 21 (نصيحة بولس بتمضية الشتاء في كريت). "مستعدّين لكل عمل صالح". رج 1: 16 مع "هاتويموس". لا نجد الصفة مرّة أخرى في "الرعائيّة"، بل نجد الفعل في 2تم 2: 21. رج 1بط 3: 15؛ طو 5: 17.
"أماخوس". رج 1تم 3: 3. ولا نجده بعد ذلك في الكتاب المقدّس. غير مماحك. "إبيايكيس" لطيف. إحدى فضائل الاسقف هي اللطف: 1تم 3: 3؛ رج يع 3: 17؛ في 1بط 2: 18 نجد اللفظ في الشرعة البيتيّة. نقرأ في فل 4: 5: "ليُعرف لطفكم (اتضاعكم) لدى الجميع". "إندايكنيمي" (انديككنيمي"، ظهر، وضع. رج 2: 10). براوتيس، وداعة. رج 2تم 2: 25. نجد اللفظ تسع مرّات في العهد الجديد، منها ست مرات في الرسائل البولسيّة: مرّة مع "حلم" (إبيايكايا) المسيح (2كور 10: 1). ثم في لائحة الفضائل المسيحيّة (غل 5: 23؛ أف 4: 20؛ كو 3: 12).
ثانيًا: آ 3
"أغبياء"، أنوئيتوس"، بدون معرفة. ضالين (ابايتيس). رج 1: 16. الشهوات (إبيتيميا) رج 1تم 6: 9. "دولاوو"، كان عبدًا. رج 1تم 6: 2 مع المعنى الاجتماعيّ. ويرد الفعل 24 مرّة في سائر أسفار العهد الجديد (روم 9: 12؛ أف 6: 7). في التقليد البولسيّ، يسيطر المعنى الخلقيّ: "عبد" للمسيح، للربّ، للانجيل. رج روم 12: 11؛ 14: 8؛ كو 3: 24؛ فل 2: 22؛ 1تس 1: 9؛ غل 5: 13. خارج التقليد البولسيّ، نقرأ في لو 16: 23 (= مت 6: 24) الخيار بين عبوديّة لله وعبوديّة للمال. رج أع 20: 18- 19، 33. "الملذات"، هيدوناي. لا ترد إلاّ هنا في "الرعائيّة". ولا ترد في الرسائل البولسيّة. في العهد الجديد، نجدها في مثل الزارع كما في لو 8: 14؛ رج مت 4: 19. في يع 4: 1، 3. "الخبث" (كاكيا). لا يرد إلاّ هنا في "الرعائيّة"، وعشر مرات في العهد الجديد، منها خمس في الرسائل البولسيّة (1كور 5: 8؛ 14: 20؛ أف 4: 31؛ كو 3: 8). في روم 1: 29، يُنهي "الخبثُ" قسمة، ويبدأ الحسد (فتونوس) قسمة أخرى. رج 1بط 2: 1. في أع 8: 22، اعتُبرت خطيئة سيمون الساحر "خبثًا". رج مت 6: 34؛ يع 1: 21؛ 1بط 2: 26 (حريّة المؤمنين ليست عذرًا من أجل الشرّ). "يبغض". يرد 40 مرّة في العهد الجديد، ولكن لا يرد إلاّ هنا في "الرعائيّة"، وفي روم 7: 15؛ 9: 13 (ملا 1: 2- 3 حسب السبعينيّة)؛ أف 5: 29. يرد سبع مرات في لو وأع.
ثالثًا: آ 4- 5
"ظهر"، ابيفاناين. رج 2: 11. الله مخلّصنا، رج 1: 3؛ 2: 10. "حنان" (خريستوتيس). عشر مرّات في العهد الجديد (في "الرعائيّة" هنا فقط)، في الرسائل البولسيّة، منها خمس في روم (2: 4؛ 3: 12...). "محبّته"، فيلانتروبيا". لا يرد هذا اللفظ في العهد الجديد إلاّ هنا وفي أع 28: 2 (الظرف في أع 27: 3). هذه الصفة التي تطبّق على الله في تي، هي فريدة في اليونانيّة البيبليّة. يُستعمل الاسمُ خمس مرات في السبعينيّة للكلام عن محبّة الملوك بشكل خاص (أس 8: 12؛ 3مك 3: 15).
"عمل"، إرغون. "ديكايوسيني"، البرّ. رج 1تم 6: 11؛ 2تم 2: 22؛ 4: 8. يرد الفعل في آ 7 (برّر). ترد الصفة في 1: 8، والظرف في 2: 12. و"الشرّ" (اديكيا، اللابرّ) يرد في 2تم 2: 19. "عمل، صنع" بوياين. رج 1تم 1: 13 (اضطهاد بولس للمؤمنين)؛ 2: 1؛ 4: 16؛ 5: 21؛ 2تم 4: 5 (عملُ من يعلن البشارة). يستعمل العهد الجديد هذا الفعل 560 مرة ونيّف في كل الاسفار ما عدا في 2يو. نجده 156 مرة في لو وأع. وفي السبعينيّة يرد 3200 مرة ونيّف. "برحمته" إلايوس. ترد في 1تم 1: 2؛ 2تم 1: 2، 16، 18؛ نقرأها 22 مرة في سائر العهد الجديد. منها 6 مرات في سائر الرسائل البولسيّة. في السبعينية ترد في المزامير 75 مرة من أصل 200 مرة. "بالينغاناسيا"، الميلاد، الولادة (مت 19: 28). "أناكاينوسيس". كيف تتم الولادة والتجديد؟ بفعل الروح (بنفما). يرد اللفظ خمس مرات في "الرعائيّة"، منها ثلاث مرّات في 1تم 3: 16- 4: 1 حيث يتعارض "بنفما" مع "ساركس" اللحم، العنصر البشري بما فيه من ضعف. "هاغيوس". يدل على الروح القدس، كما على قداسة المؤمنين (2تم 1: 9؛ 5: 10).
رابعًا: آ 6- 8
"أفاض"، إكساخاين. لا يرد إلاّ هنا في "الرعائيّة"؛ 15 مرّة في العهد الجديد. يستعمل لوقا الفعل مع الروح القدس. رج أع 2: 17، 18 (يوء3: 1- 2 حسب السبعينيّة)، 33. رج 10: 45 حيث نقرأ: "رأوا أن الله أفاض هبة الروح القدس". "بلوسيوس"، رج 1تم 6: 17؛ كو 3: 16؛ 2بط 1: 11.
"نتبرّر"، ديكايون. رج 1تم 3: 16. في الرسائل البولسيّة 35 مرّة، منها 33 في روم، غل. 7 مرات في فم بولس في أع 13: 39... ثم يع 2: 21، 24، 25؛ مت 11: 19 (رج لو 7: 35)؛ 12: 37. يرد 45 مرة في السبعينيّة في سي، أش، مز. "وارث" كليرونوموس. خمس مرّات في السبعينيّة، بدون فعل "أصبح، صار" (غينوماي).
"قول"، لوغوس؛ "صادق"، بستوس. رج 1: 3، 9. ترد العبارة "لوغوس بستوس" أربع مرّات في 1تم 1: 15؛ 3: 1؛ 4: 9؛ 2تم 2: 11. ولا تظهر أبدًا في سائر العهد الجديد. ترد "بستوس" سبعين مرّة في السبعينيّة، ولكن المقاطع التي ترادف ما في "الرعائيّة" قليلة. رج مز 144: 13 (حسب السبعينيّة): "صادق الربّ في كل أقواله". سي 33: 3: "الشريعة جديرة بالثقة". رج 37: 22، 23؛ أم 14: 5.
ب- تفسير النصّ
أولاً: طاعة ولطف (آ 1-2)
طلب الرسول من المؤمنين أن يطيعوا السلطات (آ 1)، ويعاملوا الذين يعيشون معهم باللطف والوداعة. أمرَ الرب بأن نعطي لقيصر ما لقيصر (مت 22: 21)، فدلّ تلاميذه على ولاء غير مشروط للسلطة المدنيّة (روم 13: 1؛ 1بط 2: 13، 17). فالايمان يدلّ على النظام التراتبيّ ويقبل بخضوع الأصغر للأكبر (لو 2: 51؛ يو 19: 11). "هيبوتاسو" خضع، جعل نفسه تحت سلطة، حافظ على موقعه الخاضع. وعلى المستوى الديني: أخضع كل شيء للمسيح (1كور 15: 27؛ أف 1: 22؛ فل 3: 21؛ عب 2: 8؛ 1بط 3: 22). والمسيحيون يخضعون لله وشريعته وتأديبه (روم 8: 7؛ 10: 3؛ عب 12: 9؛ يع 4: 7). ويخضع بعضهم لبعض (1كور 16: 16) في مخافة المسيح (أف 5: 21). تخضع المرأة لزوجها (1كور 14: 34، والاولاد لوالديهم (1تم 3: 4)، والشباب للكبار (1بط 5: 5)، والعبيد للأسياد (تي 2: 9؛ 1بط 2: 18). وهكذا يخضع الشعب كله.
وشدّد بولس على هذا الخضوع الارادي وهذه الطواعيّة، فاستعمل فعلاً (بايتارخاين) يدلّ على الطاعة مع القناعة (أع 28: 21)، على التوافق بملء الحرية. لهذا قيل: نستعدّ لكل خدمات الخير المشترك التي تطلبها السلطة (روم 13: 3). "هاتويموس" تعني الامكانيّة والقصد والجهوزيّة (1بط 3: 15؛ رج 2تم 3: 17). لا يخضع المسيحيون فقط للسلطات، بل يكونون مواطنين صالحين ويعملون من أجل المجتمع.
"لا يشتمون". لا السلطة. ولا الآلهة الوثنيّة (أع 19: 37؛ رج 26: 11؛ 1تم 1: 13، 20). كما لا يشتمون خصومهم أيًا كانوا (يهو 9). وينبذون كل شتيمة وكلام قاس وافتراء ونميمة (مر 7: 22؛ أف 4: 31؛ كو 3: 8؛ 1تم 6: 4؛ 2تم 3: 12). لا مماحكة (أماخوس). لا عنف. 1تم 3: 3. يكونون أهل تفاهم وصلح (روم 12: 18)، مع أنهم يعيشون في محيط لا يوافقهم في أحكامهم.
اللطف (إبيايكايا). رج 1تم 3: 3؛ فل 4: 5. هو توازن وعطف. فيه الهدوء والحكمة والوداعة واللطافة. يدلّ على قلب مفتوح تجاه القريب وثقة بالآخرين. الذي يقبل بأن يقتنع (يع 3: 17؛ 1بط 2: 18) ويتراجع حتّى وإن أسيء إليه. في الخلقيّة المسيحيّة، هو خضوع المحبّة لما يتمنّاه الآخرون من أجل حياة من التوافق. والوداعة (براوتيس) التي ترافق ضبط النفس (غل 5: 23) وهدوء الفكر (1بط 3: 4)، هي صبر متواضع عاشه المسيح الوديع والمتواضع القلب (مت 11: 29؛ 21: 25)، كما عاشه رسله (2كور 10: 11 وتلاميذه (مت 5: 5؛ أف 4: 2؛ 1بط 3: 16؛ 1تم 6: 11)، لأنه لا ينفصل عن المحبّة (1كور 4: 21). الوداعة تعني احترامًا كبيرًا للقريب، ولا سيّما على مستوى الكلام (2تم 2: 25؛ غل 6: 1) واحتمال الإخوة وتقبّلهم كما هم.
ثانيًا: في الماضي (آ 3)
ما الذي يدفع المؤمنين إلى مثل هذا السلوك؟ هناك سببان يطلبان التواضع والمسالمة والتفاهم مع الناس. الأول، هو أن المؤمنين لم يكونوا أفضل من سائر الناس قبل اهتدائهم. والثاني، هو أنهم وُلدوا لحياة جديدة برحمة مجانيّة من الله.
تماهى بولس، المضطهد القديم (1تم 1: 13- 16)، مع مراسليه، في سبع إشارات (تقابل المزايا السبع في آ 1- 2) إلى الحالة التعيسة التي عرفتها البشريّة قبل تدخّل الله في المسيح (غل 1: 13، 23). هي نظرة متشائمة لدى المهتدي الذي يشبه أعمى يكتشف النور. "أنوئيتوس" هو الجاهل. والعقل الضيّق (روم 1: 14؛ 1تم 6: 9) الذي يجهل الله ومعنى الحياة، ويعجز عن تمييز القيم الروحيّة (1كور 2: 14). وأحد أشكال هذا اللاإيمان المعاند (يتعارض مع الخضوع، آ 1؛ رج آ 16؛ أع 26: 19) هو التمرّد على مشيئة الله، على تربية الوالدين (روم 1: 30؛ 2تم 3: 2)، على شرائع الدولة. ونتيجة هذا العمى وهذا التمرّد، انخدع الناس بموجِّهين أشرار وضلّوا. "بلانستاي"، محتوى تحقيريّ. ضلّ، انخدع (2تم 3: 13؛ لو 21: 8..). ثم راح على غير هدى (عب 11: 38)، ضلّ خارجًا عن الطريق القويم (2بط 2: 15)، عن الحق (يع 5: 19). رج مت 18: 12 (إذا ضلّ خروف). ثم الرسائل الرعائيّة. وبعدها 1بط 2: 25؛ رج 1كور 12: 2. كان الرواقيون يعتبرون عبوديّة الشهوات شرّ العبوديات. استعاد بولس الفكرة (روم 6: 5، 12) وفيها ما فيها من بحث عن ملذّات الحياة (لو 8: 4) مع الغنى. رج يع 4: 1، 3؛ 2بط 2: 13.
جعل الكاتب امتلاك تلك الرذائل السابقة للاهتداء وممارستها، في عبارة "نقضي (دياغاين) حياتنا في الشر (كاكيا)". استعداد سيّئ على مستوى العقل والقلب، شرّ وفساد. رج 1كور 5: 8؛ 14: 20. ويكون الانسان ناشطًا (روم 1: 29؛ 1بط 2: 1 مع "فتونوس"، الحسد). الرذيلة عدوّة الله، والاهتداء يقوم بالتوبة والتجرّد من خمير الشرّ (أع 8: 22؛ أف 4: 31؛ كو 3: 8؛ يع 1: 21). تعود "فتونوس" إلى فعل "فتيو"، فسُد، هلك. نحن أمام انحطاط وتراجع. نريد أن نشوّه كل ما هو عظيم وجميل. هي شرّ الرذائل. تأتي مع الخلاف والخصومة (غل 5: 21؛ 1تم 6: 4). "ستيغيتوس" هل تعني أننا نكره الناس، أو يكرهنا الناس. رج روم 1: 30. مهما يكن من أمر، تنتهي هذه اللائحة في بغض متبادل (مت 24: 10) يجعلنا في عالم الشيطان (يو 17: 14؛ 1يو 3: 13)، ويُبعدنا عن عالم الوداعة التي هي فضيلة المعمّدين (آ 2). ما ينقص العالم هو الحبّ. أما بالنسبة إلينا، فهذا الوضع المزري مضى، ونأمل أن يكون مضى بلا رجعة.
ثالثًا: اليوم (آ 4)
كيف استطاع البشر أن يُفلتوا من هذه الظلمات وهذا الفساد؟ أن يتحرّروا من هذه العبوديات؟ حين انتقلوا من الوثنيّة إلى المسيحيّة. والعمل هو عمل النعمة وحدها (رج 2: 11). كما ارتكزت واجبات المسيحيّين المتبادلة على مبادرة نعمة الله في المسيح وعلى قدرتها التعليمية، كذلك ترتبط علاقاتنا بالآخرين بتجلّي محبّة الله للبشريّة. في الحالين، عواطف الله وسلوكه ألهمت عواطف البشر وسلوكهم. وهنا هي المحبة (أغابي) الالهيّة التي جعلت البشر قادرين على الاعمال الصالحة والحبّ الاخوي، بعمل الروح القدس، وبفضل المسيح.
ظهرت (2: 11؛ 2تم 1: 10) محبّة الله على الأرض، وقد رأيناها مجسّدة في وقت محدّد في التاريخ (غل 1: 15؛ 4: 4). "ابيفاناين". ظهرت في شكلين: حنان (خريستوتيا) ومحبّة البشر (فيلانتروبيا). كلمتان تترافقان في الأدب الهلنستي. "خريستوتيس" هي صلاح حلو وسخيّ، يعطي ظهوراتها طابع العذوبة (1بط 2: 3؛ رج لو 5: 39). هي صفة إلهيّة مميّزة تجعل الشعب المختار يدل على عرفان جميله بالعبادة (مز 25: 8؛ 52: 9؛ 59: 17؛ 86: 5؛ 100: 5؛ 106: 1؛ 109: 21؛ حك 15: 1؛ نا 1: 7؛ إر 33: 11؛ دا 3: 89). فهذا الحنان والصلاح (سي 37: 11) لا يقابلهما شيء (2مك 1: 24). الحنان هو وجه المحبّة كما يتجلّى في المسيح وبالمسيح (لو 6: 35؛ أف 2: 7).
"فيلانتروبيا". حرفيًا: محبّة الانسان. اللطف، الاحسان، العناية، الاحترام. هكذا عامل قائد المئة بولس (أع 27: 3). وهناك أيضًا روح الخدمة الحقّة (أع 28: 2). رج 2مك 6: 22؛ 14: 9). نحن هنا في مناخ المحبّة (يو 3: 16) التي هي ينبوع التجسّد والفداء. لهذا، فظهورها هو ظهور "الله مخلّصنا" (رج 1: 3؛ 2: 10؛ 1تم 1: 1)، بما يرافق هذا الظهور من حنان وغفران.
رابعًا: خلّصنا (آ 5- 6)
لم يكن شيء يجعلنا نرى مسبقًا هذا "الظهور" المفاجئ لله. والذين نعموا به لم ينالوا ما نالوا جزاء جهودهم (روم 3: 24؛ 9: 11؛ أف 2: 8- 9). لم يكن نتيجة ("إك" في اليونانية غل 2: 6) أعمالهم. كل هذا ثمرة رحمة الله ومبادرته المجانيّة. وقد قام ظهور (ابيفانيا) الله بأنه خلّصنا (سوزاين). صيغة الاحتمال. تمّ الخلاص بشكل نهائي. وما بقي لنا أن نضيف إليه شيئًا. "غسل" لوترون. رج 1بط 3: 21؛ عب 10: 22. طقسُ غطس أو رشّ من أجل تطهير النفس وتكريس الانسان لله، للمسيح (1كور 6: 11؛ أف 5: 26). هو عماد المسيحيين (مت 16: 16): غسلٌ يلدنا ثانية، غسل يجدّدنا. ولادة جديدة (يو 3: 5ي). من يقوم بهذا العمل؟ الروح القدس. وهكذا يتميّز العماد المسيحيّ عن كل عماد آخر.
"الذي". هو الروح القدس الذي يُرسل (يو 15: 26؛ 16: 7؛ غل 4: 6)، الذي يُعطى (لو 11: 31؛ يو 14: 17؛ 1تسا 4: 8)، الذي يُفاض (إكخاين). رج يوء 2: 28 (ش ف ط، أع 2: 17، 33؛ 10: 45). صيغة الاحتمال تدلّ على وقت محدّد في التاريخ. أما الفعل فيتضمّن الوفر والسخاء في ما يُعطى. ولكن بما أن الربّ قال بأن الله لا يعطي الروح بمقدار (يو 3: 14)، أضاف بولس "بلوسيوس"، بوفر وغنى (1تم 6: 17؛ كو 3: 16؛ 2بط 1: 11). فكأنّي به يقول: أفاض فيضًا. فالروح هو الذي يمنحنا الولادة والحياة (يو 6: 63) والتجدّد (يو 3: 5)، لأنه هو الذي يمنح المياه خصبًا وقداسة (تك 1: 2؛ لو 3: 21- 22؛ 4: 1؛ 1كور 12: 13؛ غل 3: 3). وهو الذي ينقلنا من نظام العبوديّة للشريعة، إلى الحريّة (روم 8: 2، 25، 23؛ 1كور 6: 11؛ 2كور 3: 8؛ أف 1: 13؛ عب 6: 4). وأخيرًا، الروح يهيّئ مسبقًا ويكفل، في قلب المؤمنين، تحقيق الخلاص النهائي في العالم الآتي (1كور 1: 22؛ 5: 5؛ أف 1: 14؛ عب 6: 4- 5). تفقّه الكريتيون، فوجب عليهم أن يعرفوا، لئلاّ يشابهوا نيقوديمس الذي لم يقدر أن يعرف ولادة الروح هذه، عبر غسلٍ بالماء ترافقه كلمة.
إن عطيّة (وعمل) الروح تُنسب إلى وساطة المسيح (يو 14: 16؛ رج 7: 39؛ 1تم 2: 5؛ أع 1: 8) الذي هو المخلّص (سوتير). رج 2تم 1: 10. هذا يُفهمنا أننا، بواسطة "قائد خلاصنا" (عب 2: 10)، نلنا جميع نعم العهد وتدبير النعمة الجديد (2: 14؛ أف 4: 8). نحن هنا أمام عبارة ثالوثيّة: شاء الآب أن يخلّصنا، فغسلنا بروحه، وبواسطة ابنه يسوع المسيح (2كور 13: 13؛ رج مت 28: 19؛ 1كور 6: 11).
خامسًا: نتبرّر ونرث الحياة (آ 7- 8)
"هينا" (لكي، حتّى). تربط ما سبق بحنان الآب (آ 4)، برحمته الخلاصيّة (آ 5)، بفيض الروح القدس واستحقاقات المسيح (آ 6). نحن هنا أمام نتيجة هذا العمل المثلّث، وهو يصبح ملموسًا للمؤمن في غسل الميلاد الثاني. المرحلة الأولى في العماد هي التبرير (روم 8: 30). والأخيرة هي الحياة الأبديّة. نقرأ هنا اسم الفاعل من "برّر" (ديكايوو) (روم 5: 1)، مع الإشارة إلى مجانيّة الغفران الالهيّ (روم 3: 24). يدلّ السياقُ على تطهير حقيقيّ وداخليّ، على تطهير الضمير (عب 10: 22؛ رج 1تم 1: 5). قبل الظهور (ابيفانيا) الالهي، كان البشر مكروهين (آ 3). فاغتسلوا، بل تحوّلوا تحوّلاً دفعهم إلى الأعمال الصالحة.
دخل المعمَّد في علاقة جديدة مع الله (صار ابنه بالتبنّي)، فجعلته وارثًا ملء الميراث (كليرونوموس، روم 8: 17؛ غل 4: 8)، وتفوّق على ما ورثه الشعب الأول في أرض كنعان (ن ح ل ه، تث 9: 6؛ رج عب 4: 1- 10). منذ الآن، اتّخذت حياته منحى جديدًا. والآتي سيكون أجمل: الحياة الأبديّة، أي تجلّي هذه البنوّة الالهيّة. في كل هذا، رجاؤنا وطيد. فالتبرير يعطي الحياة (روم 5: 18).
في آ 8أ نقرأ: قول (لوغوس) بستوس (صادق). هذا ما يعيدنا إلى ما سبق، حيث ذُكرت الحياة الأبديّة. إنه قول يجب أن يعلنه تيطس، بحيث تسند العقيدةُ الحياة الأخلاقيّة. فالذين جعلوا ملء ثقتهم في الله، ينتظرون تدخّله. والذين رأوا في المسيح تجلّي محبّة الله، ليس لهم سوى جواب واحد يعطونه: ممارسة الأعمال الصالحة (2: 14) التي تدلّ على أنهم نالوا التبرير. "فرونتيزاين" (مراحدة في العهد الجديد): فكّر، اهتمّ، انصرف. هناك النيّة، وهناك تنفيذ ما نويناه. يُستعمل للكلام عن نوايا القلب وعن التنبّه (حك 8: 17؛ رج 1صم 9: 5؛ 1مك 16: 14؛ 2مك 2: 25؛ 9: 15) بروح الجديّة والمخافة (أي 3: 25؛ سي 41: 12: ف ح د)، لدى مسؤول يهتمّ بتتميم ما التزم به. أو عن إجراءات اتّخذت لتحقيق عمل ما (سي 50: 4؛ 2مك 4: 21؛ 9: 21: اهتمّ). وأضيف إلى فعل "فرونتيزاين" فعل "بروتيستاناي": أحسن. قام بوظيفته أفضل قيام.

3- قراءة إجماليّة
اهتمّ بولس اهتمامًا خاصًا بسمعة الجماعات المسيحيّة، وبالحكم عليها من قبل الذين في الخارج (1تم 3: 7؛ 5: 14؛ 6: 1؛ تي 2: 5، 8)، أي الوثنيّين. أما الآن، فهو ينظر إلى شيء آخر: فمهما يكن الحكم، فعلى المؤمنين واجبات تجاه المجتمع. إذا كانوا أعضاء في كنيسة المسيح، فهم أيضًا مواطنون في مدينة، في مقاطعة، في الامبراطوريّة بشرائعها. والحرية التي بلغوا إليها بالايمان والعماد، هي روحيّة، ولا تعفيهم من الخضوع للسلطات المقامة (روم 13: 1-7). في 1تم 2: 2، طلب بولس الصلاة من أجل الملوك وأصحاب السلطة. وهنا يطلب الولاء والطاعة. هو خضوع مثل خضوع لبرّ الله (روم 10: 3). نحن أمام استعداد عاديّ: نظام اجتماعيّ ندخل فيه، نتكيّف معه، ونتّخذ تجاهه موقفًا عمليًا. وهكذا يفهم المسيحيون أنهم لم يُقتلعوا من حياتهم في المجتمع، بمجرّد اهتدائهم. والخضوع للسلطات يعني تضامنًا مع المجتمع الذي نحن فيه، بحيث نكون الخميرة التي تخمّر، والملح الذي يملّح.
إذا كانت الحياة في المجتمع تطلب الخضوع للسلطات الشرعيّة، فهي تطلب أيضًا من كل واحد بأن يهتمّ في تسهيل التعامل بين البشر. في هذا المجال، يرذل المسيحي كل ما يسبّب النزاع، ويبحث عن كل ما يسهّل التفاهم. هذا ما طلبه بولس من الأسقف (1تم 3: 3، أماخوس). لا يشتم المؤمنُ أحدًا، ويكون لطيفًا مع الجميع، ويهتمّ باكتشاف الصلاح الذي فيهم، وتنمية الخير الحقيقيّ. تحدّث بولس عن لطف المسيح (2كور 10: 1)، وطلب من المسيحيين أن يتحلّوا بهذا اللطف تجاه الجميع (فل 4: 5). والوداعة ترافق اللطف وتجعله ممكنًا. فيسوع الوديع جعل من الوداعة موضوع تطويبة: "طوبى للودعاء، فإنهم يرثون الأرض" (مت 5: 4).
وبعد أن قدّم الرسول هذه المتطلّبات، عاد إلى الأساس العقائديّ. أراد أن يُقنع المؤمنين بأن يتقبّلوا الجميع ويعاملوهم بالحسنى، فاستعمل برهانًا بسيطًا جدًا: تذكّروا ما كنتم عليه، وما صرتم إليه. عاملكم الربّ بالرحمة، غفر خطاياكم. جعلكم في يسوع المسيح خلائق جديدة ينعشها الروح القدس. فكّروا كيف تقبّلكم الله، وتصرّفوا مثله كالابناء الاحبّاء في التسامح والعطاء والغفران: "بذل الرب حياته عنا، فكيف لا نبذل حياتنا عن إخوتنا" (1يو 3: 16).
ليست هي المرّة الأولى التي فيها يطلب بولس من المؤمنين أن يتذكّروا ما كانوا عليه قبل اهتدائهم (روم 6: 17؛ 1كور 6: 9- 11، أف 2: 1- 3؛ كو 3: 5- 7). ولكن في هذا النصّ، يجعل الرسول نفسه بجانب القرّاء، فلا يقول "كنتم"، بل "كنا" (هذا يعني أنه كان منهم، من الوثنيين، وهذا ما يدلّ على أن الكاتب ليس بولس الرسول، بل أحد تلاميذه). جاءت اللوحة في آ 3 سوداء ، فأبرزت الوضع المسيحيّ الذي صوّرته الآيات اللاحقة. كان الكريتيون قبل اهتدائهم، جهالاً، متمرّدين. من جهة، غاب عنهم فهم الأمور الالهيّة (أنوئيتوس، لو 24: 25؛ غل 3: 1- 3؛ أف 4: 17- 18). ومن جهة ثانية، تمرّدوا على نداء الله، رفضوا الايمان الذي هو طاعة (روم 1: 30؛ 15: 31؛ أع 14: 2؛ 19: 9). أظلم فهمُهم، تمرّد عقلُهم، فتاهوا كخراف لا راعي لها، أو كسفينة تتقاذفها الأمواج (أف 4: 14). فالملذّات والشهوات جعلتهم في العبوديّة، عبوديّة الخطيئة (روم 5: 12، 19- 21؛ 6: 17). وإذ صاروا في هذه الحال، حلّ البغض بينهم والحسد، فما طلبوا سوى أن يُسيئوا بعضهم إلى بعض. فاستحقّوا غضب الله (روم 1: 18؛ 2: 5؛ أف 2: 3؛ كو 3: 6).
ولكن ظهر عملُ الله الخلاصيّ والمجانيّ كشعاع من الشمس في قلب سماء عاصفة. وهذا العمل لم يكن نتيجة توبة الانسان وأعماله، بل مسيرة رحمة الله التي لم يكن الانسان ليتوقّعها. ظهرت محبّة الله وحنانه، فحملت إلينا الخلاص. "حين كنّا خطأة، مات المسيح لأجلنا" (روم 5: 7- 8).
فالتحرير من الخطيئة الذي لم يكن باستطاعة الانسان أن يحقّقه بقواه الخاصّة، قد أتمّه الله برحمته. فمحبّةُ الله التي تنحني على الضيق البشريّ هي محبّة خلاصيّة. نجد هنا مرّة أخرى موضوع الخلاص. فالله يريد أن يخلص جميعُ البشر (1تم 2: 4). والمسيح جاء لكي يخلّص الخطأة (1تم 1: 15). ومع أن الخلاص ما زال موضوع رجاء، في تحقيقه التام والنهائيّ (2تم 4: 18؛ رج روم 8: 24)، فقد أعطي لنا منذ الآن، بشكل جذريّ، في يسوع المسيح. لهذا تحدّث عنه بولس وكأنه من الماضي (2تم 1: 9؛ أف 2: 5).
أعطي الخلاص للانسان بواسطة المعموديّة. فالغسل هو العماد المسيحي (أف 5: 26)، هو طقس الولادة الجديدة (يو 3: 3- 5)، وتجديد الانسان. ويرتبط الروح بالعماد: فالولادة الجديدة هي بداية حياة الروح في الانسان. وهي حياة تنمو دومًا، وتتوسّع، وتتجدّد (روم 12: 2؛ 1كور 4: 16). وقد صُوّرت عطيّة الروح بصورة سائل يُفاض (اكخاين): فالروح يفيض من ملء الله، ويأتي ليملأ قلب المؤمن.
إذا كان أصل الخلاص رحمة الله، وتتمتُه عطيّة الروح، فهو لا يكون ممكنًا إلاّ بفضل نعمة يسوع المسيح. وهكذا يكون عملُ الخلاص عمل الثالوث الأقدس. في هذا الإطار، يجعلنا الخلاص في الاسكاتولوجيا. فالحياة المسيحية التي دشّنها التبرير وعطيّة الروح، آخرتها ميراث السماء الذي أعدّه الله للمؤمنين. الانشداد المتواصل بين الحياة المسيحية والميراث الابدي يمنح مسيرتنا ديناميّة نجدها هنا. يتبرّر المؤمن بيد الله في يسوع المسيح (روم 3: 24؛ 8: 30؛ 1كور 6: 11)، فيكون ابن الله يفضل الروح (روم 8: 14- 15؛ غل 4: 5- 6)، ويصبح الوارث (روم 8: 17؛ غل 3: 29؛ 4: 7). وبما أنه ابن فهو وارث. وهو يستطيب منذ الآن عربون هذا الميراث (2كور 1: 22؛ 5: 5؛ أف 1: 13، 14). غير أن ملء التنعّم بهذا الميراث لن يكون إلاّ فيما بعد. فالميراث هو موضوع الرجاء. نحن الذين خُلّصنا بظهور حنان الله مخلصنا وحبّه للبشر، ما زلنا ننتظر "الرجاء السعيد لظهور مجد إلهنا العظيم ومخلّصنا المسيح يسوع" (تي 2: 13).
وما قاله الرسول هنا هو قول صادق. فكأني بالجماعة تقول: آمين، بعد هذا الاعلان الايماني أو النشيد الليتورجيّ.

خاتمة
قرأنا في هذه القطعة تعليمًا عقائديًا حول الخلاص الذي حقّقه الرب من أجلنا، بشكل ملموس، في العماد وغسل الماء، في عطيّة الروح القدس، في وساطة يسوع المسيح. وكل هذا كان مبادرة من قبل الله الذي أظهر حنانه ومحبّته للبشر، لا لأعمال عملوها، بل لأنه أراد ذلك بملء حرّيته وارادته. تلك كانت مشيئته التي تمّت في الابن، وتواصلت في الروح. فالخلاص الذي يصل إلى البشريّة هو عمل الثالوث الأقدس. فالبداية كانت مع الله. والنهاية معه. بالله تبرّرنا، وبه تقدّسنا، وبه نرث الحياة الأبديّة. نرثها منذ الآن. نرث باكورتها. ولكنّنا، نحن العائشين في الرجاء، ننتظرها كاملة في تجلّي ربنا يسوع المسيح ومجيئه الثاني في حياتنا، بل في العالم كله.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM