الفصل السابع :المسيحيّون شعب الله الخاص

الفصل السابع
المسيحيّون شعب الله الخاص
2: 11- 15

حين نقرأ الرسالة البولسيّة، نجد أن التعليم العقائدي يسبق الممارسات العمليّة. أما هنا، فقواعد الحياة المسيحيّة سبقت العقيدة. فالخلقيّة المسيحيّة ليست، في نظر بولس، شرعة خارجيّة وحسب، بل هي، في الحياة اليوميّة، تفتّحُ هذه "الخليقة الجديدة" (2كور 5: 17؛ غل 6: 15) التي صارها المؤمن في المعموديّة. والتصرّف المسيحيّ ليس اعتبارًا شكليًا لقواعد تهذيبيّة (ما يليق وما لا يليق)، بل ثمرة هذه النبتة الجديدة التي اتّحدت بالمسيح، كالغصن بالشجرة. من أجل هذا، وبعد أن أعطى بولس نصائحه، ذكر النظرة الايمانيّة التي تُلهم مثل هذه الأعمال. ذكر الأسباب العميقة التي تُسند هذه المتطلّبات التي قدّمها. وجعل كل هذا في إطار نشيد لنعمة الله. فالذين يظنّون أن الحياة المسيحيّة ترتبط بإرادة الانسان وبمجهوده البشريّ (كما قال الرواقيّون)، أكّد لهم أنهم ثمرة النعمة. والذين فقدوا عزمهم فيئسوا أمام المتطلّبات الانجيليّة، ذكّرهم الرسول بأن نعمة الله التي حرّرتنا من عبوديّة الخطيئة، تواصل عملها القدير فينا، وبأن كل شيء ممكن لله. وهكذا نكون في قلب التعليم حول التبرير كما توسّع فيه بولس في روم، مع كلام عن ضعف الانسان وقدرة الله، عن خطيئة الانسان وقدرة الله.

1- نعمة الله لجميع البشر
إن التحيّة (1: 1- 4) أعلنت القولين المركزيين حول الخلاص في يسوع المسيح. وها نحن نصل إلى القول الأول وارتباطه بإرشاد قدّمه بولس لتكون الجماعة شاهدة للتعليم المسيحيّ في العالم الوثنيّ.
"ظهرت نعمة الله...". هي جملة واحدة تكوّن الاعلان السوتيريولوجي في 2: 11- 14. وسبقتها آ 10 والكلام عن "تعليم المخلّص إلهنا"، فهيّأت الطريق لعبارة "نعمة الله ينبوع الخلاص" (آ 11). وما قيل في آ 10: "في كل شيء" يلتقي مع ما في آ 11: "لجميع البشر".
إن "الفاء" (غار) تربط الاعلان السوتيريولوجيّ بمجمل المقطع الإرشادي الذي يسبق (2: 1-10)، ويعطيه إسناده العقائديّ. ويرى معظم الشرّاح أن آ 11- 14 هي أساس المتتالية حول الشرعة البيتيّة التي تتلخّص في ثلاث ألفاظ نقرأها في آ 12: بتعقّل وصلاح (أو: برّ) وتقوى. فهدف الارشاد الذي يتوجّه إلى كل فئة في الجماعة، هو في النهاية، خلاص البشريّة كلها. فإن كانت النصائح قريبة ممّا نقرأ هنا وهناك، فهي بعيدة كل البعد عن الإطار الدنيويّ، لأنها ترتبط بظهور ربّنا.
وترابطُ المقطع السوتيريولوجي (آ 11- 14) بالارشاد (آ 1- 10) واضح في مقابلات بين الاثنين. في آ 2- 10، نجد عبارتين تصلان بنا في النهاية إلى الله: في آ 5: "لئلاّ يجدّف (يستهين) أحد على كلام الله". وفي آ 10: "فيعظّموا تعليم المخلّص إلهنا". وفي آ 11- 14 التي تشكّل القسم الكرازي، نجد عبارتين تحيلاننا إلى الارشاد. في آ 12 عبارة "النعمة التي تعلّم، تربّي" تجعل من المؤمن صاحب خلق مسيحيّ. وفي آ 14، نتيجة عمل الخلاص هي الغيرة من أجل "الأعمال الصالحة". وهكذا يكون التفاعل متواصلاً بين الارشاد وما يسند الارشاد، بين تعليم ننقله وسلوك نسلكه.
هناك تجاوب بين ظهور النعمة (في الماضي) وظهور المجد الذي ننتظره (في المستقبل). وتناوب الجمل الثلاث، المبنيّة مع اسم الفاعل (معلّمتنا، مربّيتنا، آ 12: ممتنعين، منتظرين، آ 13)، والجملتين الغائيّتين المبنيّتين مع "هينا" (لكي، حتّى)، يصوّر النتائج العمليّة لهذا الوحي. ويحدّد وضعَ المؤمنين الذي ينعمون بالنعمة "التي تعلّم". ويُعبَّر عن الوجهة الذاتيّة للاهتداء على مستوى التصرّف والنتائج العمليّة، في رسمة زمنية: قبل/الآن. ففي آ 12، قدّمت العبارة "ممتنعين عن الكفر وشهوات هذه الدنيا" (ما هو قبل الماضي). وقابلتها عبارة "لنعيش في الزمن الحاضر، بتعقّل وصلاح وتقوى". رج 3: 3.
توجّه الظهور إلى "جميع البشر". ومع ذلك فهو لم يصل سوى "إلينا"، إلى الجماعة المسيحيّة (آ 12، 13، 14. هذا يدلّ أننا أمام قطعة ليتورجيّة). وقد توخّى تكوين »شعب« تخلّق بأخلاق الانجيل (آ 14). هذا لا يعني أننا نرفض ما هو مسكونيّ لكي نختنق في دائرة ضيّقة، بل أننا نشدّد على الطريق الذي به تمّ النقلُ، وعلى اهتمام بأن يصبح الاعلان السوتيريولوجي حاضرًا الآن وملموسًا. فالتعليم الذي يتوجّه إلى جميع البشر، يمرّ بالانتماء إلى الجماعة، وهذه الجماعة تعيش المتطلّبات الخلقيّة التي تدلّ على ظهور الخلاص في العالم.
إن "الظهور" الذي يشير عادة إلى النور والحياة والخلود، يبدو هنا بشكل نفعي: هو نعمة تعلّمنا الفضيلة. وهذه النعمة "التربويّة" التي تُعطى في الزمن الحاضر، في زمن يقع بين ظهورين (ظهور أول في التجسّد، وظهور ثان في المجيء الثاني)، نفهمها في ارتباط مع "التعليم الصحيح" (1: 9؛ 2: 1؛ 1تم 1: 10؛ 2تم 4: 3) أو "معرفة الحقّ" (1: 1؛ 1تم 2: 4؛ 2تم 2: 25؛ 3: 7). اعتاد بولس في رسائله أن يشدّد على التبرير. أما الرسائل الرعائيّة فشدّدت على التربية والتعليم. في غل 3: 24، قابل نظامُ المربي، المؤدّب (الشريعة) نظام الايمان. فموضع المربّي، هو في انتظار يقع قبل الحدث الحاسم، وقد كان ضروريًا بالنسبة إلى هذا الامتداد في الزمن. أما بالنسبة إلى الجيل المسيحيّ الثالث، فالمتتالية تتجدّد: الآن هو حاضر يقع بعد الحدث الحاسم، ونُدركه بين زمنين: إنه امتداد زمن وانتظار، نواجهه في تربية ننالها.
صوِّر حاضرُ الجماعة بظهور النعمة التي تؤدّب. وهو يصوّر أيضًا بانتظار اسكاتولوجيّ لظهور مجد نفهمه على أنه باروسيا وعودة الربّ. "منتظرين" (آ 13). نحن نتطلّع بالايمان إلى ما نرجوه وننتظره. أجل، الانشداد الاسكاتولوجيّ حاضر وإن كنا في الزمن، والخيرات الاسكاتولوجيّة تقدّم لنا دومًا. "الرجاء" و"الحياة" يرافقان ظهور الربّ النهائيّ. فالرجاء الذي يميّز خير الخلاص، يدلّ على توجّهنا إلى الله في الزمن الحاضر (نلاحظ غياب الايمان في 2: 13؛ 3: 7). لا شكّ في أن هذا الانشداد الاسكاتولوجيّ يخسر بعض طابعه الملحّ (لا يُنتظر على أنه آت قريبًا كما في 1تس)، فيتنظّم ويتوزّع في "زمن حاضر" يخسر كثافته فيفسّر مواضيع "الانتظار" (آ 13) والتقديس (آ 14) في انشداد خلقيّ ومشروع يؤدّبنا فيه الله ويعلّمنا.
ونسوق هنا ثلاث ملاحظات.
الأولى: إن ظهور نعمة الله التي تخلّص (آ 11) وتؤدّب (آ 12)، يدلّ على نقطة محدّدة وشاملة في الوحي (لجميع البشر) في الماضي. والنتيجة هي حاضرة: جاء المسيح لكي "يخلّص الخطأة" (1تم 1: 15).
الثانية: التأديب هو النتيجة الحاليّة للخلاص، وهو يصف حاضرَ الارشاد ويحدّد القطيعة (آ 12: نمتنع) بين الماضي (الكفر) والحاليّ (فضيلة المؤمنين). هذا الانتقال من "جميع البشر" (الشمولية) إلى "نحن" (الجماعة) يوازي الانتقال من "الخطأة" (1تم 1: 15) إلى "بولس" أول الخطأة. ويتواصل التوازي مع النموذج البولسيّ (قبل/بعد في 1تم 1: 13- 14) من جهة، ومع البرنامج البولسيّ (النموذج الاول للمؤمنين الآتين، 1تم 1: 16) من جهة ثانية.
الثالثة: إن اسم الفاعل لفعل "انتظر" يوجّه ويُسند الحثّ على ممارسة الفضائل انطلاقًا من المستقبل الاسكاتولوجيّ (ظهور المجد). سبق وأشرنا إلى التوازي في مسيرة الخطبة، من "النعمة" (1تم 1: 12، 14// تي 2: 11) إلى "مجد" الله (1تم 1: 17// تي 2: 13). وهو يتقوّى في تواز بين "الذي سيؤمنون به لنوال الحياة الأبديّة" (1تم 1: 16) وبين "نحن الذين ننتظر الرجاء السعيد وتجلّي المجد".
ونُنهي كلامَنا في إشارة إلى عناصر أخرى في قصد الله الخلاصي. فصورة بولس التي تكمّل فكرة الكفالة (بولس هو كافل واقع الخلاص، تي 1: 1- 4)، والارشاد نفسه، يبيّنان أننا نقدر أن نستمرّ فيه (تي 2: 1، 15؛ 3: 8- 9) بوجه الانحرافات التي قد تخرجنا من الكنيسة. وهكذا تكون الكرستولوجيا حاضرة في إطار من الرؤية السوتيريولوجيّة الاجماليّة، التي تتحدّث عن الله الذي يُحسن إلينا منذ البدء، الذي هو أصل الخلاص الحاسم، وعن بولس الذي هو واقع ملموس لهذا الخلاص. وهكذا تحوّل التشديدُ على تاريخ الخلاص من نقطة إلى نقطة. لم يعد مركزه تتمّة المواعيد القديمة وقطيعة معها منذ البداية، بل تاريخ "الذين سيؤمنون" (1تم 1: 16)، "الذين يحبّون ظهوره" (2تم 4: 8)، الذين كانوا مثلنا "أغبياء" في الماضي (تي 3: 3). صار هذا التاريخُ تاريخَ جميع الذين يصيرون "شعبه الخاص الغيور على الأعمال الصالحة" (آ 14).

2- دراسة النصّ
هذا النشيد لنعمة الله (آ 11- 14) هو موجز اللاهوت البولسيّ. فجميعُ التوصيات التي أعطيت إلى الشيوخ والشبّان، والعجائز والشابات، وإلى العبيد، وصلت بنا إلى أسلوب حياة واحد للجميع. وهو نتيجة نعمة الله التي تجلّت في التاريخ في شخص المسيح وعمله، لتدفع الناس في طريق الخلاص هذه.

أ- تحليل النصّ
أولاً: آ 11
"ظهرت"، ابيفاناين. في صيغة المجهول (رج 3: 4). تعود إلى الله الذي جعلها تظهر (تك 35: 7؛ صف 2: 11؛ 3مك 6: 39) كما في السبعينية. نجد هذا الفعل في نشيد زكريا (لو 1: 78- 79)؛ أع 27: 20 (ظهور النجمة بعد مسيرة في الليل). تستعمل السبعينيّة أشكال ظهور وجه الربّ الذي ينكشف لعابديه (عد 6: 25؛ مز 30: 17؛ 66: 2؛ 79: 4، 8، 20؛ 118: 35 حسب السبعينيّة). ونجده في دا 9: 17 (المعبد)؛ 3مك 6: 18 حسب تيودوسيون. بما إن عبارة "نعمة الله" لا تعود إلى السبعينيّة، بل هي طريقة للكلام عن رضى الله، وحظوة الله (خاريس، نعمة) (رج تك 6: 8؛ 18: 13 حسب السبعينية)، فمن الممكن أن تدلّ "نعمة الله" على "الوجه" (بروسوبون)، أي الظهور الشخصيّ. نقف أمام وجه الله أو أمام عينيه (2صم 15: 25). "سوتيريوس"، خلاصيّ. "انتروبوس"، الانسان. الرجل والمرأة، الشيخ والعجوز، الشاب والشابة، السيّد والعبد. على جميعهم ظهرت نعمةُ الخلاص.
ثانيًا: آ 12
"تؤدبنا، تعلّمنا"، بايداواين. رج 1تم 1: 20؛ 2تم 2: 25. في 2تم 2: 23؛ 3: 16 نجد الظرف والاسم (بايدايا). رج 1كور 11: 32؛ 2كور 6: 9؛ عب 12: 5- 11 (أع 3: 11-12)؛ رؤ 3: 19. في لو 23: 16، 22 يعلن بيلاطس أنه سيؤدّب يسوع ويجلده. "أوسابايا" التقوى. "أسابايا"، اللاتقوى، الكفر. رج 2تم 2: 16؛ 1تم 1: 9 (الصفة، كافر). "أرنيوماي"، رفض، امتنع. شهوات (إبيتيميا) في الجمع، في "الرعائيّة": 3: 3؛ 1تم 6: 9؛ 2تم 2: 22؛ 3: 6؛ 4: 3. صيغة الجمع تدلّ على معنى تحقيريّ. ذاك هو الأمر بشكل عاديّ في السبعينيّة، ولكن ليس دائمًا (مثلاً، أم 13: 19 حسب السبعينيّة). أما المفرد، فيحمل المعنى الحياديّ، أو يدلّ على ما هو صالح (الطعام...). "كوسميكوس" دنيويّ، عالميّ. لا نجده في السبعينية، وفي العهد الجديد فقط في عب 9: 1 عن المعبد. "نعيش" (زاوو). بتعقّل وصلاح وتقوى. رج 1تس 2: 10. "أيون"، الدهر. رج 1تم 1: 17 (ثلاث مرات)؛ 6: 17؛ 2تم 4: 10، 18 (مرتين). يرد 114 مرة في العهد الجديد، وما يقارب ثلاثين مرّة في سائر الرسائل البولسيّة. يرتبط بالعالم الجليانيّ، وهكذا نفهم أنه يرد 26 مرّة في سفر الرؤيا. تستعمل السبعينيّة هذه اللفظة مرارًا ولا سيّما في المزامير: إلى الأبد، إلى أبد الأبدين.
ثالثًا: آ 13
"وانتظر"، بروسداخوماي: استقبل (روم 16: 2؛ فل 2: 29)، انتظر. هكذا ينتظر الانسان سيّده (لو 12: 39)، والرب ينتظر الخطأة (لو 15: 2). وهناك انتظار "عزاء اسرائيل" (لو 2: 25)، "افتداء أورشليم" (لو 2: 38؛ رج عب 11: 35)، "ملكوت الله" (لو 23: 51 = مر 15: 43). نقرأ في أع 24: 15: "راجيًا من الله ما ينتظرونه (يرجونه) هم، أي قيامة الأبرار والأشرار". وصوّر يهو 21 "أولئك الذين ينتظرون رحمة ربنا يسوع المسيح من أجل الحياة الأبديّة". رج تي 2: 13. "إلبيس"، رجاء. رج 1: 2. هو رجاء سعيد (ماكاريوس). في 1تم 1: 11؛ 6: 15 (الله مبارك، مكاريوس). لا تقال أبدًا هذه الصفة عن الله في سائر العهد الجديد (47 مرّة) ولا في العهد القديم. يترجم اللفظ في العبرية: "أ ش ر ي"، طوبى، هنيئًا، سعيدًا. يُستعمل في الصلاة العامّة، وهو هتاف ليتورجيّ، من أجل ما ناله الانسان من عطايا من عند الله. "أبيفانيا"، ظهور. رج 2تس 2: 8. ظهور الحضور (باروسيا). في 1تم 6: 14 (ربنا يسوع المسيح)؛ 2تم 1: 10 (مخلّصنا المسيح يسوع)؛ 4: 1، 8 (ظهور وحيه). المجد (دوكسا). الوزن، الثقل. رأيُ الناس في شخص من الاشخاص. يرتبط المجد بالله في 1تم 1: 11، 17؛ 3: 16؛ 2تم 2: 10. وبالمسيح الرب في 2تم 4: 18. ويرد 160 مرّة في العهد الجديد، منها 80 مرّة في سائر الرسائل البولسيّة. إلهنا العظيم ومخلّصنا يسوع المسيح. نستطيع أن نقول أيضًا: يسوع المسيح، إلهنا العظيم ومخلّصنا. "ماغاس"، عظيم. لا نجد عبارة "الله العظيم" إلاّ هنا في العهد الجديد. أما السبعينيّة فتتحدّث عن إله اسرائيل، "الاله العظيم" في تث 10: 17؛ نح 4: 14؛ 8: 6؛ 9: 32 (2 عز 5: 8؛ 18: 6؛ 19: 32 حسب السبعينيّة)؛ أش 26: 4؛ دا 2: 45؛ 9: 4. تستعمل "الرعائيّة" "ماغاس" في 1تم 3: 16 لتتحدّث عن "سر التقوى"، رج 6: 6. وتي 2تم 2: 20 كان كلام عن "البيت الكبير".
رابعًا: آ 14- 15
"ضحّى، بذل" نفسه. رج 1تم 2: 6. نجد الفكرة عينها في غل 1: 4 (رج 2كور 8: 5؛ 2تس 3: 9). رج 1مك 6: 44 عن أليعازر المكابي؛ 4 مك 6: 29. "لأجلنا". رج 1تم 2: 1- 2: من أجل جميع الناس، من أجل الملوك. نجد "لأجلنا" 12 مرّة في سائر الرسائل البولسيّة مع تلميح إلى آلام يسوع: 1تس 5: 10؛ غل 3: 13 (رج 1: 4؛ 2: 20)؛ روم 5: 18 (رج 8: 31- 34). وهناك 4 مرّات في سائر أسفار العهد الجديد: عب 6: 20؛ 9: 24 (في السماء لأجلنا). في 1يو 3: 16، العلامة بأن يسوع أحبّنا هو أنه بذل نفسه لأجلنا. "ليترون"، كفّر، افتدى. لا يرد إلاّ هنا في الرسائل البولسيّة. وفي سائر العهد الجديد: لو 24: 21؛ 1بط 1: 18. استعملت السبعينية حوالي مئة مرة "ليترون"، ولكن لا في معنى التحرّر من الخطايا كما في مز 129: 7- 8 حسب السبعينية (في العبرية 130): "لأن مع الرب الرحمة، ومعه ملء الفداء (ليتروسيس). وهو يفتدي اسرائيل من جميع آثامه". "أنوميا": شرّ. لا يرد إلاّ هنا في "الرعائيّة". رج روم 4: 7 (مز 31: 1 حسب السبعينيّة)؛ 6: 19؛ 2كور 6: 14؛ 2تس 2:،3، 7 (سرّ الاثم)؛ عب 1: 9؛ 10: 17 بالاستناد إلى مز 44: 8 حسب السبعينيّة؛ إر 38: 34. وتبقى خمسة استعمالات في مت (خطبة الجبل)؛ 1يو 3: 4. والصفة "أنوموس" ترد في 1تم 1: 9. وفي سائر الرسائل البولسيّة، أربع مرّات في معنى "بدون شريعة موسى". رج أيضًا ما قيل عن يسوع في لو 22: 37 (أش 53: 12): "أحصي مع المجرمين". "طهّر"، كاتاريزاين". يرد 30 مرّة في العهد الجديد. رج 2كور 7: 10 حيث يجب على المؤمنين أن يطهّروا نفوسهم من النجاسات لأنهم شعب الله (رج 2كور 6: 16).وفي أف 5: 16، يطهّر المسيح كنيسته في طقس العماد (رج 1كور 6: 11؛ أع 22: 16). ونجد تطهير الأبرص في الأناجيل الإزائيّة. عب 9: 14، 22- 23؛ 10: 2؛ 1يو 1: 7- 9، تتحدّث عن تطهير المؤمنين بدم المسيح المصلوب. استعملت السبعينية الفعل مئة مرة ونيّف، ولا سيّما في لا، حز... في العهد الجديد، لا يُسمَّى المسيحيون شعب الله "الخاص" (باريوسيوس) إلاّ هنا في تي. "لاووس"، شعب. في العبرية: ع م. س ج ل ه". رج خر 19: 5؛ 23: 22 (لا نجده في العبري الماسوري)؛ تث 7: 6؛ 14: 2؛ 26: 18. هو شعب يتميَّز عن سائر الشعوب. إن لفظ "لاووس" (شعب) لا يرد إلاّ هنا في "الرعائيّة"، ولكنه يرد 141 مرة في العهد الجديد، وكل مرّة تقريبًا في صيغة المفرد. هناك 11 مرّة في الرسائل البولسيّة (منها 8 في روم) مأخوذة من العهد القديم. أما حصّة الأسد ففي لو + أع (84 مرّة). الغيور (زيلوتيس). لا يرد الاسم إلاّ هنا في الرعائيّة. يرد سبع مرات في سائر العهد الجديد (مرّتين عند بولس: 4 في لو + أع). حين ينبّه الرسول الكورنثيين لكي يكونوا غيورين، راغبين في المواهب الروحيّة (1كور 14: 12)، فهو يلتقي مع تي كما يلتقي مع 1بط 3: 13 (رج سي 51: 18). سيقول بولس عن نفسه إنه كان غيورًا على الشريعة (غل 1: 14؛ رج فل 3: 6؛ أع 22: 3).
في آ 15، يُطلب من تيطس أن "يتكلّم" (لالاين)، أو يعلّم، "ديدسكاين"، كما يقول الاسكندراني)، أن يعظ (باراكالاين)، أن يوبّخ (إلانخاين). بكل سلطان، بكل أمر (إبيتاغي). ولا تسمع أن يستخفّ (باريفروناين) بك أحد. لا نجد الفعل إلاّ هنا في العهد الجديد. في السبعينيّة، رج 4 مك 6: 9؛ 7: 16؛ 14: 1 (في معرض الكلام عن الشهداء الذين استخفّوا بالتعذيب).
ب- تفسير النصّ
أولاً: نعمة الله (آ 11)
النعمة هي عطيّة الله الرحيمة وحنانه (ح س د في العبريّة) المجانيّ، ولطفه الناشط (1كور 15: 10؛ 2كور 6: 1). بدت هنا كشخص حيّ، لأنها دلّت على ظهور ابن الله منذ تجسّده إلى موته (آ 14) حتى قيامته المجيدة (يو 1: 162) بيد الآب. أخذت الصورةُ من العالم اليوناني والرومانيّ، حيث كان الاباطرة يقدّمون الهدايا حين يجيئون إلى مدينة من المدن. هكذا تحدّثت النصوص عن نيرون الذي قدّم للكورنثيين هدايا ما كانوا ليصدّقوها.
إن صلاح الله (وسخاءه) اللامنظور في طبعه، تجلّى للبشر في شكل منظور ومحدّد. جُعل الفعل في بداية الجملة، ليدلّ على فجاءة الظهور الذي بدا كنور في الظلمة. المعنى الاول لفعل "ظهر" في المجهول: بداية رؤية شيء إمّا بدخوله في مجال الرؤية، وإمّا بتبدّل كمية النور المنعكس عليه. نحن هنا أمام إنارة (أع 1: 79؛ أع 27: 20)، لأن المسيح حدّد نفسه على أنه "نور العالم" (يو 3: 9؛ 8: 12؛ 9: 5؛ 12: 46). على أنه "أنار الحياة" (2تم 1: 10). وكما أن الابيفانيا السوتيريولوجيّة تُفهم، في الحقبة الهلنستيّة، عن تدخّل الملك (أو الآلهة) ليحسن إلى شعبه، فالنعمة التي ظهرت هي المسيح كعطيّة الله ووحي حبّه (يو 3: 16؛ 1يو 4: 9- 10، 14). قد يكون بولس فكّر في ظهور النور الذي هداه في طريق دمشق (رج لو 2: 19 ونور بيت لحم). يبقى أن حياة المؤمن تسير في هذا العالم بين حدثين من نعمة ومجد (آ 13؛ 1تس 1: 10؛ 2تم 4: 8)، وهكذا تصبح مسيحيّة، نسبة إلى المسيح.
في ظلمة الجهل أو في أمواج الخطيئة، تظهر النعمة كينبوع (أو: أداة) خلاص (سوتيريوس، رج حك 1: 14؛ 4مك 15: 6). قال فيلون في الاحلام (2: 149): "نعمة الله الخلاصيّة تنجّي جنسنا المعدّ للموت". النعمة تخلّص. إذن، هي فاعلة. وظهورُها يخلّص جميع البشر.
ثانيًا: تعلّمنا وتؤدّبنا (آ 12)
إحدى الطرق التي بها تعمل النعمة الخلاصيّة، هي أنها تؤدّب المؤمنين، تعلّمهم الشريعة، وتُصلح نقائصهم (1تم 1: 20؛ عب 12: 5 ي؛ رؤ 3: 19). هي تقودنا في طريق التقوى والحكمة (1تم 4: 7- 8؛ عب 5: 14)، وتُنمينا فنثبت (1بط 5: 10)، وتمنحنا جميع الفضائل (2تم 3: 16؛ عب 13: 21). النعمة هي في قلب المؤمنين. فالانسان الداخلي وُلد في المعموديّة وتجدّد (3: 5) بإنارة يحوّله فيها المسيحُ حسب عمل متواصل هو كل الحياة المسيحيّة (2كور 3: 18؛ 1بط 1: 14). فالنور (والقوّة) يُعطى في الكنيسة (2بط 1: 19)، "بيت الله الحيّ" (1تم 3: 15)، الذي يغذّي المؤمنين بالانجيل، ويثبّتهم بوعظ الرسل والمعلّمين، ويُدخلهم في سر التقوى الذي هو يسوع المسيح (1تم 3: 16؛ 2تم 3: 15- 17).
أول نتيجة لعمل النعمة هو سلبيّ: نرفض رفضًا قاطعًا، ونثور ثورة حاسمة على العبوديّة التي تأتي من عبادة الأصنام والكفر الوثنيّ (أسابايا)، ومن كل شرّ (2تم 2: 16). ونرفض الشهوات (إبيتيميا) التي تميّز الانسان بدون النعمة. "هذه الدنيا". في اليونانية: كوسميكوس. كل ما يعارض الله. على مستوى الكبرياء والجشع والبغض (1يو 2: 16)، كما على المستوى الجنسيّ (غل 5: 16؛ أف 2: 13). هنا نتذكّر المعموديّة: صُلب المؤمن، مات، دُفن مع المسيح (روم 6: 3- 4)، فقطع كل رباط مع إبليس والخطيئة، كما في 2بط 1: 4: "نفلت من الفساد الذي في العالم بفعل الشهوة".
والهدف الايجابيّ للنعمة هو أن نحيا حياة مسيحيّة. لا ننسى أن المسيحيون ما زالوا عائشين في عالم فاسد، إلهُه إبليس (2كور 4: 4؛ رج يو 17: 15- 16). هنا عاد بولس إلى مزايا يونانيّة وربطها بالحالة الجديدة التي نعيشها: التعقّل الذي هو توازن وسيادة على النفس (ضد الشهوات الجامحة). هذه الفضيلة ترافقنا في سلوكنا الشخصيّ (1: 8؛ 2: 5، 6)، في علاقتنا مع القريب (1تس 2: 10؛ 1كور 15: 34)، في تتمّة واجباتنا تجاه الله (2تم 3: 12). بعد أن صار المسيح لنا "حكمة وبرًا وقداسة" (1كور 1: 30)، تحرّك النعمةُ فينا هذه الفضائل، لا بحسب العقل البشريّ، بل في ضوء الايمان وبقوّة الروح.
ثالثًا: اليوم المبارك (آ 13)
خلال مسيرتنا على الأرض، لا نرتبط فقط بذكرى هي دخول حبّ الله في المسيح، إلى العالم، بل نتطلّع إلى ملء تجلّي هذا الحبّ. وننتظر الرجاء. قال لنا الربّ: "كونوا مثل أناس ينتظرون سيّدهم متى يأتي من العرس" (لو 12: 36). لهذا، كانت فضائل السهر والاعتدال والصبر والاحتمال. فاسم الفاعل في "بروسداخوماي" يدلّ على موقف يتوجّه نحو حدث مقبل، حدث أخير (لو 2: 25، 38؛ 23: 51) هو علّة الحياة. لهذا نكون مستعدّين (أع 23: 21؛ 1بط 3: 15) كل يوم، ولا نكلّ. ننتظر زيارة ومجازاة، وموضوع الانتظار هو ظهور المسيح. لهذا، كان هذا الرجاء سعيدًا، مباركًا (ماكاريوس)، لأنه يرتبط بالعالم الالهيّ (1تم 1: 11؛ 6: 15). فحياة المؤمنين لا قيمة لها إلاّ بالنظر إلى هذا الهدف الأخير الذي لا نهتمّ به كثيرًا، أو نخاف منه وممّا يحمل من دينونة وحكم قاس. هي صورة مشوّهة عن الايمان المسيحي. اعتبر الرسل (2 بط 3: 12؛ 1يو 4: 17- 18؛ رؤ 18: 17، 20) هذا اللقاء مع المسيح ملء الفرح الذي تمنّوه بكل قلوبهم، وذلك في خطّ التطويبات (مت 5: 1ي)، وفي خط الدينونة الأخيرة حيث يُدعى المحبّون إلى ميراث الملكوت المعدّ لهم منذ إنشاء العالم. لهذا يصلّون كل يوم: ليأت ملكوتك. في هذا قال الذهبيّ الفمّ: "في الواقع، لا شيء أسعد ولا أشهى من هذا الرجاء. لا نستطيع أن نعبّر عنه بالكلام. فهذه الخيرات الآتية تتجاوز العقل".
إن الإشارة إلى مجيء يسوع الثاني (مت 16: 27) قد تكون عبارة ليتورجيّة. لم نعد أمام تجلّي نعمة الله وحنانه في ظروف وضيعة جدًا (آ 12؛ 3: 4)، بل أمام ظهور ملوكيّ رفيع (2تس 2: 8) ومجيد، يُعمي عيوننا بنوره (روم 5: 2؛ كو 1: 27). في "يوم المسيح" هذا (فل 1: 6، 10؛ 2: 16)، ينضمّ التلاميذ بشكل نهائيّ إلى ربّهم (1تس 4: 15- 18؛ 1كور 15: 23) ويعيشون ملء الخلاص (عب 9: 28).
"إلهنا العظيم ومخلّصنا، يسوع المسيح". المسيح هو الاله والمخلّص. (1) فالتعريف الواحد يسبق موصوفَين مرتبطين بالواو (كاي). فهو يعود إلى شخص واحد (2بط 1: 1، 11؛ رج مر 6: 3؛ أع 3: 14؛ عب 3: 1؛ رؤ 1: 9). في الآية التالية، نقرأ الموصول: الذي ضحّى. فلو وجب أن نميّز بين يسوع المخلّص والله الآب، لوجب أن نُضيف تعريفًا ثانيًا. (2) ثم إن هدف الظهور (الفدية) نُسب إلى المسيح (آ 13- 14 لهما الفاعل ذاته: يسوع ظهر، يسوع ضحّى بنفسه لأجل فدائنا). (3) إن العبارة "إله ومخلّص" معروفة في الأدب القديم. فالواحد هو في الوقت عينه "تيوس" و"سوتير". (4) في العالم الجلياني اليهوديّ، يُذكر يهوه أو المسيح (لا الانسان) حين الكلام عن الظهور. (5) إذا فصلنا "تيوس" عن "سوتير"، دلّ المجد (دوكسا) على تجلّي الآب. ولكن المجد يدلّ على ظهور الرب يسوع المسيح. (6) لا نجد نصًا موازيًا يتحدّث عن ظهورين في العهد الجديد، ولا يقال أبدًا أن الله "ظهر" (ابيفاناين). (7) لهذا نرى في الظهور المجيد للمسيح وحده، تتويجًا وتكملة لتجلّي الله المجيد (آ 11؛ رج 1تم 1: 10؛ 4: 1، 8). (9) اليوم الأخير هو "ظهور مجد" يسوع الذي اتّضع وتألّم خلال حياته على الأرض، وهذا هو الموضوع الأساسي في قانون الايمان الرسولي (1بط 4: 13؛ مت 25: 31). (10) إذا كان لفظ "مخلّصنا" تسمية ومناداة (1: 5؛ 3: 6؛ رج أع 5: 31) يجب أن لا ننسى أن "سوتير" هو في الاصل صفة تدلّ على وظيفة دينيّة نجدها حتى في العهد القديم (سوتيريوس، آ 11؛ أش 45: 15، 21؛ 62: 11؛ مز 23: 5؛ حك 16: 7). حين تُعطى للمسيح، فهي تكرّسه في النشاط الخلاصيّ: ذاك الذي خلّص في الماضي، والذي يخلّص في المستقبل. (11) نسبت تي إلى المسيح صفة مخلّص، التي أعطيت في الأصل لله (1: 3- 4؛ 2: 10- 13؛ 3: 4- 6).
رابعًا: الشعب الخاص (آ 14)
الاله العظيم بذل نفسه. فبعد أن ذُكر (بلغة هلنستيّة) عملُ المسيح الخلاصيّ، ها هو يُحدّد في لغة بيبليّة: "ضحّى بنفسه من أجل آخر" (1تم 2: 6؛ غل 1: 4؛ 2: 20؛ أف 5: 2، 25). وهذا يدلّ على تضحية بالذات، طوعيّة ومُحبّة (يو 10: 15- 18). استعمل الرب نفسه هذه العبارة لكي يدلّ على حاشه وآلامه (مر 10: 45). وكان الفعل "باراديدومي" الذي استعمله الأنبياء لكي يتحدّثوا عن موته (أش 53: 6، 11، 12؛ رج مز 27: 2؛ 88: 9). "هيبار"، لأجل. والنتيجة "هينا" (حتّى، لكي) هي النداء. نحن في بداية عبارة ليتورجيّة. رج فل 2: 10؛ 1بط 2: 24؛ 3: 18. هذا الافتداء (كما هو في وضع العبيد) هو تحرّر من أسر أو عبوديّة، وهو يرادف الخلاص. إن "ليترون" يرتبط بـ "لوواين"، حلّ، خلّص شخصًا من القيود والصعوبات والخطر. فالشيطان والخطيئة والموت والشريعة والخرافات وأركان هذا العالم، هي قيود، تتسلّط على الانسان. قدّم يسوع الفدية، كان دمه الثمن، فحرّرنا (مت 20: 28)، وغفر لنا خطايانا (عب 13: 11؛ 1بط 3: 18). وإذ حرّرنا، كوّننا شعبًا. فالمعموديّة لا تطهّر المسيحيّ فحسب (1: 15؛ رج 3: 5؛ 1كور 6: 1)، بل تكوّن شعبًا مقدّسًا جديرًا بتقديم العبادة إلى الله (أف 5: 26؛ رج 2تم 2: 19، 21).
إذا كان المسيح أسلم ذاته، دفع الفدية، طهّر الضمائر، فلكي يكوّن شعبًا جديدًا، شعب (لاووس) الله. رج لو 1: 68، 77؛ 2: 32؛ 2كور 6: 16. لكي يكوّن شعبًا مقدّسًا يتميّز عن الأمم الوثنيّة (لو 12: 30؛ رج أع 15: 17). وبما أنه دفع الثمن، فهذا الشعب هو له، يخصّه (باريوسيوس). رج 1بط 2: 9؛ أف 1: 14. نشير إلى أننا نجد استعمال هذه اللفظة في البنتاتوكس للدلالة على شعب الله في إطار العهد (خر 19: 5؛ 23: 22؛ تث 7: 6؛ 14: 2؛ 26: 18). وهي تتضمّن المحتويات الثلاثة: الملك الشخصي، الاختيار (مز 135: 4)، التفضيل أو التمييز (ملا 3: 17).
إن خلقيّة العهد تصدر عن تبادل (ب ر ي ت) بين اثنين. بما أن المسيح هو إله ومخلّص المؤمنين، فعليهم أن يكرموه ويخدموه بكل صدق وأمانة. والغيرة هي التي تحرّكهم. الغيرة البيبليّة هي عاطفة دينيّة أساسيّة، تتضمّن المحبّة والتضحية وعدم المساومة مع شخص نحبّ. كان لدى المسيح غيرة لبيت الآب (يو 2: 17). ويكون المسيحيون "غيورين على الخير"، متحمّسين، مندفعين. رج 1بط 3: 13. إن غيرتهم المحبّة تقابل غيرة الله ومحبته. لهذا، يريدون أن يتكرّسوا "للأعمال الصالحة التي أعدّها الله لنا من قبل لنسلك فيها" (أف 2: 10)
خامسًا: تكلّم بسلطان (آ 15)
حسب الرسائل الرعائيّة (1تم 1: 18؛ 4: 12؛ 6: 2؛ تي 2: 4؛ 2تم 2: 14؛ 4: 7)، ينتهي الحث المباشر على الوعظ وتقديم حقيقة أو سلوك، بعرض عقائديّ وأخلاقيّ، ويبدأ إرشادًا جديدًا. تكلّمْ، عظْ، وبّخْ. فما على تيطس سوى أن يعلّم هذه الأشياء" (تاوتا). رج آ 1- 10 والفضائل المطلوبة من المؤمنين. جاء الارشاد في ثلاثة أفعال، في صيغة الأمر، فطلب من المسؤول أن لا يتوقّف. أولاً، ينشر التعليم (1: 1؛ 1بط 4: 1؛ 2بط 3: 16). ثم يحضّ كل مؤمن ويشجّعه (1: 9؛ 2: 6؛ 1تم 1: 3؛ 2: 1؛ 5: 1؛ 6: 2). وأخيرًا، يوبّخ المعاندين ويردّ على المعارضين (1: 9- 10، 13؛ 2تم 4: 2). "سلطان تام". رج 1كور 7: 6؛ 2كور 8: 8. هو سلطان بولس. كما أمر بولس من قبل الله، أمرتَ (يا تيطس) من قبل بولس (ابيتاغي). سلطتك رسميّة (1: 3؛ 1تم 1: 1)، وهي في النهاية من الله. مارسْ سلطانك بقوّة، واجعل الناس يحترمونك ويطيعونك. لا تسمح لأحد أن يستخفّ بك، أن يتحدّاك ويقف في وجهك. مثلُ هذا الكلام يتوجّه بشكل مباشر إلى تيطس لكي يكون على قدر المسؤولية، وإلى المقاومين (1: 13) لكي يعرفوا ما ينتظرهم. يخضع المؤمنون للسطلة الدينيّة ويخضعون للسلطة المدنية كما سوف نرى في 3: 1.

3- قراءة إجماليّة
بعد أن صوّر بولس عجز الانسان الجذريّ عن إدراك التبرير بقواه الخاصّة، وصل إلى مخطّط الخلاص الالهيّ، وبدأ بهذه الأقوال: "أما الآن، فظهرَ برّ الله من دون الشريعة" (روم 3: 21). هي الفكرة عينها هنا: وحي حرّ، تدخّل مجانيّ، رحمة الله وحنانه. "ظهرت نعمة الله". النعمة هي مبادرة الله التي تدخّلت لخلاص البشر، فكشفت لهم "السرّ" الذي ظلَّ مخفيًا مدّة طويلة، وتجلّى الآن في يسوع المسيح (روم 16: 25- 26). فالمسيح الذي يسكن فيه اللاهوتُ جسديًا (كو 2: 9)، عرّفنا بالآب الذي لا يستطيع أحد أن يراه (يو 1: 18). ومنه، ومن ملئه، نلنا نعمة على نعمة، نلنا كل نعمة (يو 1: 16). وفيه تمّ "ظهور" (إبيفانيا) نعمة الله الخلاصيّة التي تقدّم للجميع (1تم 2: 4؛ 4: 10؛ تي 3: 4): أغنياء وفقراء، أحرار وعبيد (تي 2: 9- 10)، يهود ووثنيّون (روم 3: 29- 30؛ أف 3: 1- 8؛ كو 1: 27- 28).
ليست نعمة الله فعلة عابرة لا تتكرّر. لا شكّ في أنها فريدة وعملها حاسم. ولكن عملها هذا لا يتوقّف. ينالها الانسان الذي يتقبّلها وتقوّيه. تشبه معلمًا يعلّم، يوبّخ، يصلح، يربّي، يؤدّب (بايداواين). وقد تكون قساوةٌ في هذا التعليم وعقاب جسديّ (1كور 11: 32؛ 2كور 6: 9؛ 1تم 1: 20). ذاك كان الوضع في العالم القديم. أما هنا، فنحن أمام تأديب إيجابيّ ومحبّ. فالنعمة تختلف عن الشريعة التي هي مؤدّب قاس بعمله الخارجيّ (غل 3: 24). فهي تفعل في الداخل وتعطينا القوّة لكي نصنع مشيئة الله. وهي وحدها تحقّق نبوءة حزقيال: "أجعل روحي فيكم بحيث تتبعون شرائعي" (حز 36: 27؛ رج إر 31: 33- 34).
بدأت النعمة فجعلتنا نرذل الكفر (أسابايا). وهكذا كانت قطيعة في حياة المؤمن بعد أن بلغ إلى الايمان ونال العماد. في تلك اللحظة مات عن الخطيئة وعبوديّة الشيطان وقوى هذا العالم. ترك نظامَ الأشياء القديم ليصبح في يسوع المسيح، خليقة جديدة. والكفر الذي يتحدّث عنه بولس هو الانحرافات العقائدية والانحطاطات الخلقيّة. لقد كفر المسيحيّ بالعالم وبشهواته، وإلى الأبد صُلب للعالم والعالم صُلب له (غل 6: 14). فلم يعد من موضع للرغبات البشريّة، لرغبات اللحم والدم والضعف البشري، للميل إلى الخطيئة (روم 13: 14؛ غل 5: 16؛ أف 2: 3)، لرغبات الانسان القديم (روم 6: 6؛ أف 4: 22) التي استُبعد لها الوثنيون (تي 3: 3). نجد هنا مرّة أخرى حكمًا متشائمًا من قبل الرسول على أمور هذا العالم، الغريبة عن المسيح والمقطوعة عنه (رج 1كور 1: 20؛ 2: 12؛ 3: 19؛ 7: 31؛ 2كور 7: 10؛ كو 2: 20). وهي نظرة قريبة من نظرة يوحنا (1يو 2: 15- 17). غير أن الموت عن العالم وعن الخطيئة لا معنى له إلاّ بالنظر إلى الحياة. فالنعمة ما زالت هنا، وهي تتيح لنا أن نعيش "في الزمن الحاضر" (1تم 6: 17) حياة تليق بأبناء الله. ويصف بولس هذه الحياة بثلاث كلمات تدلّ على واجبات المسيحيّ تجاه نفسه (التعقّل وضبط النفس)، تجاه القريب (العدل واحترام حقوق الآخرين وحرياتهم) وتجاه الله (التقوى). فالنعمة هي من أجل الحياة (يو 10: 10؛ 1يو 1: 2). وإن كان المؤمن قد غُطِّس بالمعمودية، في موت الرب (روم 6: 5)، فلكي يحيا في المسيح.
إذا وجب على المسيحي أن يعيش في "الزمن الحاضر"، فموطنه الحقيقي هو في السماء" (فل 3: 20). وهو يعرف أيضًا أن "صورة هذا العالم تزول" (1كور 7: 31). وأن يومًا يأتي فيه تتمّ "ابيفانيا" أخرى، لا "ابيفانيا" (ظهور) نعمة الله التي لا يدركها سوى الايمان. بل ابيفانيا مجد المسيح المتلألئ بالبهاء (مت 25: 21؛ كو 3: 4؛ 2تس 1: 10). فالحياة المسيحيّة هي انشداد مستمرّ بين ابيفانيا وابيفانيا. لهذا نفهم الدور الذي يلعبه انتظار المجيء (باروسيا) في روحانيّة المسيحيين الأوّلين (روم 5: 2؛ 1كور 1: 7؛ 1تس 1: 10؛ 1تم 6: 14؛ عب 10: 25؛ يع 7- 9؛ 1بط 4: 7؛ 2بط 3: 11- 12).
إن سر الفداء الذي يحتلّ مكانة هامّة في اللاهوت البولسيّ، جاء هنا في الكلام عن الخلاص. فموتُ المسيح هو فعلٌ حرّ إراديّ. يسوع قدّم نفسه. وفي هذه التقدمة بانت محبّة الله. هنا نجد مع "سلّم" فعل "أحبّ". فهما يسيران معًا (غل 2: 20؛ أف 5: 2، 25). فذبيحة المسيح هو في الوقت عينه علامة الحبّ وثمرة هذا الحبّ (يو 15: 13؛ 1يو 3: 16). ووُصفُ موت يسوع هنا بأنه فدية دُفعت من أجل تحريرنا. كنا عبيدًا، فصرنا أحرارًا. وبالتالي صرنا شعب الله بعد أن اختارنا الله من أجل الأعمال الصالحة. يرتبط موضوع الاختيار بالعهد في الشعب الأول. وما قيل عن هذا الموضوع في التوراة يجد كماله في يسوع المسيح الذي فيه يتحقّق الفداء تحقيقًا كليًا. لسنا أمام تحرّر هو نهاية عبوديّة مادية، بل أمام نجاة من الخطيئة. هذا يعني أن على الشعب الجديد أن يعي متطلّبات الاختيار الالهي، ويدلّ على غيرته للأعمال الصالحة، أي يشتعل رغبة في أن تتوافق حياته كلها مع مشيئة الله. في هذا المجال، نقرأ تث 26: 17- 18: "في هذا اليوم أعلنتم أن يكون الرب إلهًا لكم، فتسلكوا في طرقه، وتحافظوا على فرائضه ووصاياه وأحكامه، وتسمعوا كلامه. والرب اختاركم في هذا اليوم لتكونوا من نصيبه، كما قال لكم، فتعملوا بجميع وصاياه".

خاتمة
توقّفنا هنا عند العمق اللاهوتيّ الذي يُسند متطلبات نقرأها في الشرعة البيتية. نعمة الله هي التي تفعل فينا. فتنزع منا كل ما يتنافى ومشيئة الله، وتنمي فينا الحياة الحقّة. تجعلنا في حاضر الله الذي افتدانا، وتنقلنا إلى مستقبل سيظهر فيه مجد الله، ونظهر نحن أيضًا مشاركين في هذا المجد. نجلس على اثني عشر كرسيًا، على مثال الرسل. كل هذا نعيشه في الرجاء. وما يُسند هذا الرجاء هو أن الرب ظهر في الماضي، فتجسّد وعاش معنا، وافتدانا من هذا العالم الحاضر وجعلنا في ملكوته. على هذا الظهور نرتكز. ولا نخاف. وتيطس يتابع عمل الرسالة وهو متأكّد من قدرته على حمل الانجيل إلى الجماعات المشتّتة في جزيرة كريت. يتكلّم كما كان يفعل الانبياء، ولو لقي كلامه المعارضة. ويعظ المؤمنين المتراخين الذين بردت فيهم المحبّة، والأيام هي أيام أخيرة. ويوبّخ المتقاعسين ويردّ على المقاومين. فإن سمعتْ منه الجماعة، كانت شاهدة للمسيح في المحيط الذي تعيش فيه. ذاك هو واجب المسيحيين الأساسيّ، ومنه ينطلقون ليكونوا ملحًا في محيط وثنيّ يحيط بهم. بعد أن تطهّروا من شهوات هذا العالم، يعرفون أنهم تبرّروا بنعمة المسيح ونالوا منذ الآن ميراث الحياة الأبديّة. هذا ما نتوسّع فيه، في الفصل اللاحق: المسيحيون في عالم وثني.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM