الفصل الثاني اللاهوت أو الكلام عن الله

الفصل الثاني
اللاهوت أو الكلام عن الله
في الرسالة إلى تيطس
حين نتوقّف عند الرسائل الرعائيّة الثلاث، نلاحظ أن تي تتميّز ببعدها اللاهوتيّ. فالكلام عن "الله" (تيوس) واضح وهو يرد في 1: 1 (مرتين)، 2، 3، 4، 7؛ 2: 5، 10، 11، 13؛ 3: 4، 8. ففي التحيّة التي تفتتح الرسالة يرد اسم الله خمس مرات، منها ثلاث تصوّره كذاك الذي لا يكذب (أبسوديس). كذاك الذي هو مخلّصنا (سوتير)، والذي هو أبونا (باتير). ثم نجد كلامًا عن بولس الذي هو "عبد (دولوس) الله"، وعن إيمان "مختاري (إكلكتوس) الله". ليست الأهميّة في الكميّة والنوعيّة في هذه اللغة اللاهوتيّة، بل في أن اسم الله يرد خمس مرات في بداية هذه الرسالة.

1- بداية الرسالة
هذه الإشارات إلى الله عديدة، وأكثر ممّا يمكننا أن ننتظر. فما من تحيّة رسائليّة في العهد الجديد تتضمّن ذكرًا لكلمة "الله" (تيوس) كما في تي. فرسالة رومة بمقدّمتها الطويلة لا تحتوي سوى أربع إشارات، وسائر الرسائل البولسيّة تتضمّن إشارة واحدة (فل، 1تس، فلم) أو إشارتين (غل، أف، كو 1تم، 2تم) أو ثلاث إشارات (1كور، 2كور)، ومن الأكيد أن لهذه الاشارات الخمس في تي مدلولها اللاهوتيّ الأكيد. فالله يوصف بالحقيقة والأبوّة والخلاص. والفرد يرتبط بخدمة الله، والجماعة هي تلك التي اختارها الله.
هذا الملفّ يلفت النظر، لا سيّما وأن هذه اللغة اللاهوتيّة الغنيّة تبدأ في التحيّة التي تفتح الرسالة. تبدأ تي بعبارة تحيّة في شكل مثلّث الأقسام: تسمية الكاتب. تسمية من ترسل إليه الرسالة. التحية (1: 1- 4). وتنتهي بأخبار شخصيّة وملاحظات ارشاديّة والبركة الأخيرة (3: 12- 15). وهكذا نكون في الفن الرسائليّ، إن نحن توقّفنا عند بداية الرسالة ونهايتها.
حين نتحدّث عن اسم مستعار وراء كاتب هذا النصّ، نقول أيضًا باسم مستعار حول متقبّل الرسالة. فتيطس الذي يُفترض أنه تسلّم الرسالة، قد لبث في كريت (1: 5). لماذا كريت؟ هي لا تشبه أفسس المذكورة أكثر من مرّة في العهد الجديد (1تم 1: 3؛ 2تم 1: 18؛ 4: 12؛ رج أع 18: 18- 21، 24- 28؛ 19: 1- 9- 20: 1؛ 20: 16- 38؛ 1كور 15: 32؛ 16: 8؛ أف 1: 1). بل ذُكرت مرة واحدة خلال رحلة بولس إلى سجن رومة (أع 27: 7- 26). اعتبر بعضهم أن تحديد تي في كريت، يدلّ على اسم مستعار كمدوّن هذه الرسالة. واستند في كلامه إلى ما أورده كاتب تي من قول مأثور يجعل أهل كريت "جماعة من الكذّابين (1: 12). يبدو أن هذا القول هو ردّ على أسطورة كريتيّة تعتبر أن زوشًا (إله الآلهة لدى اليونان) دُفن في كريت. وبسبب هذه الأسطورة، جرت العادة بتسمية الكريتيين "كذابين" (مثلاً، كاليماخوس: تحدّثوا عن قبرك، يا زوش، ولكنك لم تمت، فأنت إلى الأبد). إذا وثقنا بأن هذا القول الوارد في 1: 12 يميّز الكريتيين كشعب ترك التعليم اللاهوتيّ القديم، نفهم أن هذا الكاتب المجهول أراد أن يقدّم اللاهوت القديم إلى الكريتيين. فقانون الأرثوذكسيّة التقليديّة (يشدّد على واجبات الراعي تجاه "كلمة الحقّ" ومسؤولياته التعليميّة، 1: 9- 14؛ رج 1تم 3: 2 وجدارة التعليم. في 1تم 3: 2- 7 الوظيفة التعليميّة هي واحدة من 13 صفة يتميّز بها الأسقف) هو بعض ما يحمله تيطس الأمين (1: 4) إلى الذين يخدمهم.
هناك أمر آخر يتعلّق باستقامة الايمان الذي نعبّر عنه في تأليف رسائليّ يشدّد على الارشاد. من هذا القبيل، يجب أن نتذكّر بعض النظرات المتفرّعة من تطبيق النقد البلاغيّ على تحليل الرسائل في العهد الجديد. ففنّ كتابة الرسائل يتعلّمونه في مدارس البلاغة في العالم اليونانيّ الرومانيّ. فكاتب أول رسالة في العهد الجديد، كان رجل خطاب وبلاغة، كان واعظًا (وظيفته البلاغيّة تذكر داخل التقليد المسيحيّ حين يكون موضوع الخطبة التعليم الانجيلي). كان بولس واعظًا، وكان كاتب رسائل. ونحن نتعلّم الشيء الكثير عن رسائله حين ندرسها بمساعدة ما نعرف من نقد بلاغيّ في العالم القديم.
ولقد أثّرت رسائل بولس كثيرًا في تدوين مجموعة الرسائل في العهد الجديد، ولا سيّما تلك التي تحمل اسمًا مستعارًا: أف، كو، 2تس، 1تم، 2تم، تي، 1بط، 2بط، رؤ... وربّما رسائل أخرى من العهد الجديد. فالرسائل ذات الاسم المستعار، حملت اسم رسول، فدلّت على سلطته، ودلّت على موقعها داخل التقليد الرسوليّ. وإذ ذكرت هذه الرسائل اسم رسول استظلّت اعتباره ونفوذه.
وإن تي، شأنها شأن الرسائل التي استعارت اسم بولس في العهد الجديد، أخذت بالأسلوب الرسائليّ. واستعمالُ هذا الفن لدى بولس، كان أسلوبًا جديدًا من التخاطب مع جماعات مسيحيّة مشتّتة، ساعة لا يستطيع الكاتب أن يكون حاضرًا معها (1تم 3: 14- 15). حين يُستعمل النقد البلاغيّ في تحليل الرسائل، تُقدّم هذه الرسائلُ على أنها خطب في مناخ رسائليّ. فرسائل بولس الحقيقيّة هي في الواقع شكل من الخطبة الشفهيّة. أملى بولس التعليم. وسمعته الجماعة (1تس 5: 27). في الواقع، كانت رسائل بولس طريقةً توصلُ اعلان الانجيل عبر الزمان والمكان.
واتصال بولس مع هذه الجماعات البعيدة تمّ في شكل رسائليّ، والسمات التي تميّز الفنّ الرسائليّ، نجدها في بداية الرسالة وفي خاتمتها (مع التحيّة والسلامات). أما عنوان رسائل بولس، فقد أملاه الرسول. وهكذا كانت العناصر المتنوّعة في السلامات الختاميّة (وقد يكون كتبها بيده، 1كور 16: 21- 24؛ غل 6: 11؛ فلم 19). والتحيّة في البداية والنهاية، كانت جزءًا لا يتجزّأ من هذا الاتصال مع الكنائس. والتحيّة كانت أكثر من ختم الرسالة. فقد كانت لها وظيفة بلاغيّة.
فوظيفة التحيّة في الرسالة (وفعل الشكر أيضًا. نجده عادة في الرسائل الأولى. وبما أننا لا نجده في "الرعائيّة" فهذا يدلّ أيضًا على أنه لم يكتبها) تشبه من وجهات عديدة، وظيفة المطلع والإخبار في الخطاب الكلاسيكيّ. فعلى المستوى الخطابيّ، يقدّم المطلعُ والاخبار هدفَ الخطيب الذي يريد أن يلفت انتباه السامعين، ويُبرز عددًا من الوقائع يتّفق عليها المتكلّم مع سامعيه. وتظهر سلطة الخطيب في شكل "جلب انتباه السامع ورضاه". والوقائع تقدّم الأسس التي إليها يستند البرهان الذي سوف يقدَّم.
حين نقرأ التحيّة الرسائليّة في تي، يبدو من الواضح أن كثرة الألفاظ اللاهوتيّة الواضحة في 1: 1- 4، تقدّم الأساس لبرهان قدّمه هذا الكاتب في شكل لاهوتيّ، فدلّ على عبقريّته.

2- بولس عبد (خادم) الله
إن مطلع الرسالة في العالم الهلنستيّ يبدو بشكل من الأشكال، كالتوقيع في رسالة حديثة. هذا ما يُثبت صفة الكاتب، ويجعله ينتظر الجواب المناسب من القارئ. فإن جعلنا جانبًا مطلع روم (1: 1- 6) (رج غل 1: 1- 2)، فمطلع تي (1: 1- 3) هو أطول ما في الأدب الرسائليّ، في العهد الجديد.
أولاً، يُدّعى بولس "عبد الله" (دولوس تيو)، وهي صفة قلّما نقرأها في العهد الجديد (أع 16: 17). فهي تظهر في رؤ 15: 3 كوصف لموسى، وفي يع 1: 1 في تحيّة رسائليّة (رج 2بط 1: 1؛ يهو 1). ولكن يُدعى الرسول، عبد يسوع المسيح في روم 1: 1؛ رج فل 1: 1. وفي غل 1: 10 يُسمّي نفسه عبد المسيح. وفي 1كور 3: 5 يُدعى خادم (خادم) المسيح مع أبلوس. إذن، يُسمّي كاتب تي نفسه: عبد الله. ولكن نقرأ اللقب في السبعينيّة أكثر من مرّة، كوصف لاسرائيل في موقفه العباديّ. واستُعمل أيضًا للكلام عن أبطال الشعب ومؤسّسيه، الأنبياء والآباء: ابراهيم (مز 104: 42 حسب السبعينيّة)، يشوع (قض 2: 8)، حزقيا (2أخ 32: 16)، زربابل (حج 2: 23). وأخيرًا، هناك تسمية موسى (نح 9: 14؛ ملا 3: 24؛ مز 104: 26؛ 1مل 8: 53؛ رج يش 1: 1 (العبري)، 2، 7؛ نح 1: 7، 8؛ 2أخ 24: 6) وداود (1مل 11: 13؛ 2أخ 6: 42؛ مز 77: 70؛ 88: 4، 21، 40؛ 143: 10؛ حز 37: 24، 25؛ رج 1مل 18: 26 (العبري)؛ 14: 8 (العبري)؛ 2أخ 6: 17؛ إر 33: 21، 22، 26 (العبري)).
في رسالة تواجه "الخرافات اليهوديّة" (1: 14). يبدو "عبد الله" لقبًا يذكّرنا بالأبطال الكبار في تاريخ اسرائيل الخلاصيّ، وقد استُعمل عن بولس. فعبقريّة بولس جاءت شبيهة بعبقريّة موسى وداود. فبولس، كعبد الله، يرتبط كل الارتباط بالله، ولا دافع لرسالته سوى أن يعمل مشيئة الله. وقد برزت كرامة بولس وسلطته واعتباره منذ مدخل الرسالة. فالاله الذي بولس عبده، هو إله خلاص اسرائيل في التاريخ. وتسمية بولس ك "عبد" (دولوس)، تدلّ على المسافة بين العبد وسيّده. ونستطيع القول إن هذا المطلع الرسائليّ هو مدى خفيّ للتساميّ الالهي. الله هو الله وهو يتجاوز كل تصوّراتنا. والرسول يبقى عبدًا له وخادمًا.
ويتواصل المطلع فيسمّي كاتب الرسالة: "رسول يسوع المسيح (رج روم 1: 1؛ 1كور 1: 1؛ 2كور 1: 1؛ غل 1: 1) من أجل إيمان مختاري الله ومعرفة الحق التي توافق التقوى". ويمضي كاتب الرسالة فيدلّ عمّا يعنيه بكلمة الحقّ. أن يكون بولس رسول يسوع المسيح، يبيّن صفة خدمته. أن يكون أرسل من أجل مختاري الله ومعرفة الحق، يدلّ على الهدف. فعبوديّة بولس هي في سبيل الجماعة التي تسمّى "مختاري" الله. هذه الألفاظ لها جذور بيبليّة عميقة، وإن لم تكن عبارة "مختاري" الله عبارة مقولبة في البيبليا اليونانيّة (1أخ 16: 13؛ مز 88: 4؛ 104: 6، 43، حسب السبعينية؛ أش 65: 9، 15، 23). وقد وُجدت عبارة مشابهة في كتابات البحر الميت فدلّت على جماعة قمران (تفسير حبقوق 10: 13). وظهور هذه الألفاظ في 2تم 2: 10 يشير إلى المدلول الاسكاتولوجيّ (أف 1: 4؛ كو 3: 12؛ 1بط 1: 1؛ 2تم 2: 10). غير أن هذه الألفاظ، تدلّ في حدّ ذاتها، على مبادرة الله حين اختار شعبًا خاصًا به. في نصّ يدلّ على مناخ يهوديّ، لا تستطيع هذه الألفاظُ إلاّ أن تشير إلى اختيار اسرائيل. فخدمة بولس للاله الساميّ، تُرى داخل سياق عمل الله الذي اختار بحريّته شعبًا خاصًا به ومنحه مصيرًا اسكاتولوجيًا.

3- التقوى
هناك جدالات عديدة حول العلاقة بين "معرفة (إبيغنوسيس) الحق (أليتايا)" و"التقوى" (أوسابايا). فهل تقوم معرفة الحقّ على عيش في التقوى، أو هي تقود إلى التقوى؟ إن التوازي الوثيق لعبارة "معرفة التقوى"، كما في تي، نجده خارج العهد الجديد (رج 1تم 2: 4؛ 2تم 2: 25؛ 3: 7)، في أدب قمران. هناك مسيرة من الوحي حول المعرفة الجماعيّة إلى العمل الجماعيّ (دع ت. إم ت. رج نظام الجماعة 9: 17؛ المدائح 10: 20، 29). فمعرفة الحقّ في تي 1: 1 تستبق النقاش في 1: 10- 16 حيث الحقيقة التي هي فهم الكاتب لتعليم الانجيل، تعارض الضلال، وبشكل خاص "الخرافات اليهوديّة" (1: 14). فالارتباط بالخرافات اليهوديّة، هو عمل الذين يعتبرون أنهم يُقرّون بالله ولكنهم ينكرونه بأعمالهم (غل 5: 6). فإنكار الحقيقة يقود إلى فساد العقل والضمير والعمل.
إذ حاول كاتب الرسالة أن يدلّ على عبقريّة الرسول، حدّد رسالة بولس على أنها ليست موجّهة فقط نمو إيمان الشعب المختار، بل أيضًا نمو معرفة التعليم الانجيليّ التي تقود إلى التقوى. هو الموضوع الوحيد الذي فيه يتكلّم كاتب تي عن "اوسابايا" على أنها الفضيلة الأولى في الرسائل الرعائيّة (1تم 2: 2؛ 3: 16؛ 4: 7، 8؛ 6: 3، 5، 6، 11؛ 2تم 3: 5). هي مخافة الله التي تصل بنا إلى احترام القيم والبنى الاجتماعيّة. وهي في تي تعني التصرّف المسيحيّ حيث تماهي أشكالَه الخاصّة مع ما تعرضه الرسالة. إن "التقوى" تشير إلى نوع من السلوك يتوافق مع جماعة تدرك نفسها أنها شعب الله المختار. وجواب التقوى الدينيّ، يقود إلى تصرّف ونموذج حياة يتوافقان مع اختيار الله لنا. ويصوّر الراعي في خطّ الفكر البولسيّ (حسب الرجاء، رج روم 4: 18؛ 5: 2؛ 8: 20؛ 1كور 9: 10) هدف "التقوى" على أنها "حياة أبديّة" ننالها لا بأعمالنا الصالحة، بل كهديّة من الله الذي وعد بها.

4- رجاء الحياة الأبديّة
إن "رجاء الحياة الأبديّة" يميّز الوجود المسيحيّ، وهو يرد في 3: 7 في إطار مقطوعة لاهوتيّة مكثفة (3: 4- 7)، تأتي بعد مقطوعة أولى ترد في 2: 11- 14. فالحياة الأبديّة هي "الحياة الحاضرة والحياة الآتية" معًا (1تم 4: 9). فالأزليّة صفة خاصة بالله، إله اسرائيل، الذي كشف عن نفسه لشعبه (مز 101: 13، 25- 26 حسب السبعينية). في التحيّة التي نقرأها في بداية تي، تظهر عبقريةُ بولس في إطار الأبديّة التي يعمل فيها الله من أجل شعبه. فالإطار الإخباريّ في التحيّة الرسائليّة هي أوسع ما يمكن. فهي تنطلق من الأزل إلى الأبد. من قبل "الأزمنة الدهريّة" إلى "الحياة الأبديّة". وتتحدّد خدمة بولس في الوقت المناسب، داخل هذا الاطار الإخباريّ حول الأبديّة.
في إطار الزمن "الأبديّ" الذي يميّز وجود الله، يصوّر الكاتبُ الله على أنه الاله الذي وعد بالحياة الأبديّة. ويظهر مضمونُ الوعد الالهيّ في الزمن اليهوديّ المتأخّر (رج 2مك 2: 17-18؛ 3مك 2: 10)، وهناك يتّخذ لونًا اسكاتولوجيًا. هذه الفكرة تجد جذورها في تفكير حول اختيار الله لابراهيم ونسله. كل هذا أعيد تدوينه في الأدب الجليانيّ (في 2مك 2: 17- 18 ارتبط الوعد بالخلاص. في 4 عز 7: 119- 120 بالدهر الأبديّ والرجاء الذي لا يفنى)، كما في الأدب المسيحيّ الأولانيّ. فحين يُشير العهد الجديد إلى الوعد الإلهيّ، نجد إشارة رئيسيّّة في الكتابات البولسيّة، ولا سيّما في روم وغل (في الرسائل الرعائيّة لا يرد فقط الوعد، سوى في 1تم 4: 8؛ 2تم 1: 1، وموضوع الوعد هو "الحياة في المسيح يسوع". أما فعل "وعد" فيظهر هنا في تي 1: 2 وفي 1تم 2: 10؛ 6: 21). في تي 1: 2، موضوعُ الوعد الالهيّ هو الحياة الأبديّة. وتتأسّس الحياة الأبديّة على الوعد الالهيّ. وجذورُ الوعد هي عطيّة الخلاص التي تتحقّق في الحياة الأبديّة، في تسامي الله ذاته.
وإذ أراد الكاتب أن يبيّن شرعيّة الوعد الالهي، سمّى الله "ابسوديس"، الصادق، الذي لا يكذب. إن استعمال هذه الكلمة الهلنستيّة كصفة مميّزة لله، يتماشى مع اللغة المستعملة عن الله في حلقة الكلام عن الراعي (رج 1تم 1: 17؛ 6: 16؛ "أ" في البداية هي النافية، أ - بسودس - لا يكذب، رج ما يقال عن الأسقف في 1تم 3: 2- 3). غير أن هذه الصفة لا ترد سوى مرّة واحدة في العهد الجديد. فهي تشير، ليس فقط إلى مفهوم الاله الحقّ والحقيقيّ، الذي لا يغشّ ولا يستطيع أن يغشّ (عد 23: 19؛ 1صم 15: 29؛ روم 3: 4؛ 2كور 1: 18؛ عب 6: 19)، بل أيضًا (في العالم الهلنستيّ) إلى نوع من معرفة نبويّة لا يمتلكها سوى الله. في النهاية، نحن أمام نظام إلهي يحفظ الكون. فبالنسبة إلى الرسول، ما أؤتمن به بولس بأن يعلن الكلمة هو في حدّ ذاته علامة أمانة الله على عهده.
إن الكلام بأن التقوى هي أساس رجاء الحياة الأبديّة، الذي يتأسّس بنفسه على الوعد الالهي، يجد صداه في فكرة عبّرت عنها 1تم 4: 8: "في التقوى كل الخير لأن لها الوعد بالحياة الحاضرة والمستقبلة" (قال ابيكتات: الفضيلة تحمل وعدًا يخلق السعادة والهدوء والطمأنينة، 1/4: 3). أبرز الكاتب هذا الاعلان كقول أكيد يستحقّ القبول التام (1تم 4: 9). من هذا المنطلق تفيد التقوى من جميع الأحوال. وتساعد بشكل خاص، لأنها تتضمّن الوعد بالحياة الآن وفي المستقبل. هذه الحياة هي "الحياة في المسيح يسوع" (2تم 1: 1؛ رج يو 10: 10). وهي مشاركة في حياة المسيح، في الدهر الحالي من الخلاص، وفي النهاية حين يتحقّق الخلاصُ في ملئه.
رفض كاتب تي صورة بولس الذي هو نموذج عمله الأدبيّ، فصوّر رسالته في هدفها الأخير: أن تشرك المؤمنين في الخلاص الأبديّ. "الحياة الأبديّة" هي رمز لموضوع الوعد الالهي. وهي الهدف الأخير لرسالة بولس، كما قدّرت تي هذه الرسالة حقّ قدرها. وإذ فسّر الكاتب رسالة بولس بهذا الشكل، لم يُبرز فقط عبقريّة مثاله، بل شدّد على قوّة الارشاد في ما كتب. فما توخّاه لقرّاء الرسالة في عرضه للتقوى، هو أن الاتّباع ليس سوى الحياة الأبديّة نفسها.

5- تحقيق الوعد
قدّم لاهوت تي الله في إطار يمتدّ إلى ما بعد الزمن. ومع ذلك، فإله خلاصنا هو إلهٌ عملَ داخل الزمن فتأكّدنا أن الوعد الذي تمّ قبل دهور الزمن، منذ الأزل (1: 2)، هو وعد تمّ في تاريخ البشر. وأصل لفظ وعد (إب، انغاليا) يدلّ على أن هناك شخصًا أعلن له وعدٌ. ومع ذلك وبالنسبة إلى كاتب التحيّة في تي، فالتجلّي الأول للخلاص الالهيّ هو وحي الكلمة عبر إعلان اؤتمن بولس عليه. فالله وعد بالحياة الأبديّة، والله كشف كلمته. والله هو الذي أوكل »عبده« بالمهمّة، وعبده هو سفير يسوع المسيح. ذاك هو نموذج معاني الخلاص في التاريخ البشريّ.
لقد تحقّق وعدُ الحياة الأبديّة كوحي (فانارون، رج 2: 11، 13؛ 3: 4) كلمة الله كما وصل إلى بولس. فكلمة الله هي انجيل يسوع المسيح. غير أن الكاتب لا يصوّر كلمة الله تصويرًا صريحًا بهذه العبارة. فهو لا يستعمل لفظ "انجيل" (إونغليون)، ولا الفعل "أنجل"، أعلن (أونغليزوماي). فكلمة (لوغوي) الله كلمة صادقة (بستوس) (1: 9). هي تعليم يتلخّص في 3: 4- 7 الذي هو "قول صادق" (بستوس، لوغوس). فالكلمة التي اؤتمن عليها بولس تُعلَّم ويُكرز بها لدى الذين كُلّفوا بتدبير الجماعة وتحمّلوا مسؤوليّة القيادة في بيت الله الذي جاء بعد بولس. وسلسلة النقل تنطلق من بولس إلى تيطس، ومن تيطس إلى الأسقف، ومن الأسقف إلى الذين هم في داخل بيت الله (2: 5- 9). ومصداقيّة كلمة الله في العالم، في كل مدينة (كاتا بولين، 1: 5)، ترتبط بتصرّف أولئك الذين يعيشون في بيت الله، حتى لو شغلوا منصبًا اجتماعيًا بسيطًا داخل البنية الاجتماعيّة في ذلك الزمان (2: 5، 9؛ رج 1: 16). مصداقيّةُ كلمة الله ترتبط بتقوى الذين يقيمون في بيت الله (سلوك المؤمنين يؤثّر في الذين هم من الخارج).
وفي لغة تذكرّنا بما في 1تس 2: 4، صوّر الكاتبُ بولسَ كشخص أوكله الله بأن يكرز (كيريغما) بكلمته (1: 3). الصورة هي صورة بلاط ملكيّ فيه يمنح المحسنُ الكبير، المخلّص (سوتير)، مهمّة إلى أحد عبيده (في 1: 3، نقرأ "إغو"، أنا. هذا يعني فرادة المهمة التي أوكل بها بولس). ويبرز المشهد من خلال تصوير الله على أنه "مخلّصنا"، وباستعمال لفظين خاصين. الفعل: أئتمن (بستاوو). والاسم: أمر (إبيتاغي). في الاستعمال الكلاسيكيّ، فعل "بستاوو" في صيغة المجهول يعني أئتمن شخصٌ على واجب. والأمر (ابيتاغي) يدل على الاحتفال الذي فيه تُسلّم المهمّة، ويشير إلى سلطة ذاك الذي يتسلّم المهمّة. في أفق القارئ المسيحيّ لهذا النصّ، تبدو الحياة كعطيّة المحسن السامي. هذا ما يدلّ على فهم دينيّ لعبارة "الله مخلّصنا"، خصوصًا حين يشير المشهد كله إلى موضوع التقوى (أوسابايا، 1: 1).
6- التحيّة
إن التحيّة الرسائليّة التي نقرأها في 1: 4 هي فريدة داخل العهد الجديد. هي لا تنسب إلى يسوع المسيح لقب "الربّ" (كيريوس، نشير إلى أن لقب كيريوس الذي هو صفة مميّزة عند بولس، لا يرد بعد ذلك في تي)، كما اعتاد بولس أن يفعل (روم 1: 7؛ 1كور 1: 3؛ فلم 3؛ 2كور 1: 2؛ غل 1: 3؛ فل 1: 2) وكما اعتدنا أن نقرأ في 1تم 1: 2؛ 2تم 1: 2 (رج 1تس 1: 1؛ أف 1: 2). ولكن الكاتب يعطي ليسوع صفة مميّزة: مخلّصنا، كما فعل حين سمّى الله "مخلّصنا" (1: 3: هي المرّة الوحيدة يُدعى فيها الله المخلّص) والمسيح المخلّص. فاستعمال "سوتير" كلقب يسوع بهذا الشكل، يميّز كاتب هذه الرسالة. ففي 2: 13 وفي 3: 6 يُدعى يسوع "المخلّص" في سياق يرتبط ارتباطًا وثيقًا باستعمال ذات الصفة التي تميّز الله. نشير هنا إلى أن "سوتير" ترد عشر مرات في "الرعائيّة". في 1تم تطبّق فقط على الله: 1: 1؛ 2: 3؛ 4: 10. في 2تم ترد مرة واحدة، 1: 10، وتطبّق على المسيح. ما يميّز تي هو أن الصفة تنطبق على الله وعلى المسيح، في ذات السياق الأدبي. 1: 3؛ 2: 10؛ 3: 4 بالنسبة إلى الله. 1: 4؛ 2: 13؛ 3: 6 بالنسبة إلى المسيح. وهكذا أراد الكاتب في "التحية" (1: 4) أن يستبق ما سوف يقوله في الرسالة.
واستعمل الكاتب عبارة "النعمة والسلام" كمضمون يعكس استعمال بولس للفنّ الرسائليّ. لا يضيف "الرحمة" إلى التحيّة في 1، 2تم (إلايوس، نجدها في الاسكندراني وعدد من المخطوطات البيزنطيّة). فالنعمة والسلام اللذان يتمنّاهما الراعي للجماعة، هما عطيّة آتية من عند الله أبينا والمسيح يسوع مخلّصنا. تكلّم الكاتب هنا فقط عن الله على أنه "الآب". فكلامه تقليديّ. الأبوّة صفة إلهيّة. ولكن لا يتوسّع فيها. وإذ تبدو هذه العودة إلى الله الآب تقليديّة، فهي تستبق موضوعين نجدهما في 3: 4- 7: الولادة الجديدة والميراث.

7- تي 3: 4- 7
إن وظيفة الاستباق في عنوان الرسالة ككل، يقدَّر تقديرًا تامًا حين نقابل التحيّة مع العبارة الايمانيّة التي نقرأها في 3: 4- 7. حين ذكر الكاتب بولس، تحدّث عن "الله مخلّصنا". إنها تحيّة فريدة. فهي تتكلّم عن المسيح مخلّصنا. فالصورتان عن المخلّص نجدهما في هذه المقطوعة الايمانيّة (3: 4- 7). إن هذا القول الكنسيّ يعرض موضوع الخلاص الالهيّ كما أعلن في التحيّة، في بداية الرسالة. نحن هنا أمام "قول صادق". يعني: تعليم يجب أن نؤمن به. هو المقطع الوحيد الذي يوصف بهذا الشكل في الرسالة كلها (جاء المقطع في إطار عماديّ، وظهرت قوّة الارشاد في إطار "قبل/بعد"، آ 3).
يبدو أن هذه القطعة كانت نشيدًا عماديًا أو إعلانًا إيمانيًا في الكنيسة. فالكتاب لا يتكلّم عن "العماد" كما اعتادت الكنيسة أن تفعل، بل عن الغسل (لوترون) الذي يرتبط بما يتمّ في "الحمّامات العامة"، في الحضارة اليونانيّة والرومانيّة. فالنشيد يجعل من الحنان والمحبّة والرحمة صفات لله مخلّصنا. فحنان الله (سخاؤه) هو موضوع بيبليّ نجده في المزامير، وسيجعله بولس في رسائله إلى مختلف الكنائس: محبّة الله للبشر هي: فيلانتروبيا" (كلام قيل في الآلهة الوثنيّة واستُعمل هنا). دلّت على تنازل الله ورأفته، كما دلّت على هبات حقيقيّة وخدمات سخيّة من أجل الجماعات. نحن هنا أمام موقف روحيّ وعمليّ. على المستوى الدنيويّ، تتضمّن "فيلانتروبيا" اللطف والأدب والتهذيب، السخاء وحبّ مساعدة الآخرين. إن حنان الله وحبّه الحنون تجلّى في ظهور يسوع المسيح (2: 11). فحضورُ يسوع المسيح هو تجلّي حنان الله ورحمته المحبّة.
إن الصفة التي تنطلق فيها تي مع استعمال فريد للفظ "فيلانتروبيا"، تنطلق من مضمون بيبليّ حول لفظ "ح س د" الذي يقال في الله. نشير هنا إلى أن السبعينيّة لا تنقل "ح س د" العبريّة إلى "فيلانتروبيا" اليونانيّة. بل هي تستعمل اللفظ اليونانيّ لكي تتحدّث عن صفة ملوكيّة. رج أس 8: 13 (الملك أحشويروش)؛ 2مك 6: 22 (انطيوخس الرابع إبيفانيوس)؛ 3مك 3: 15، 18 (بطليموس).
إن اللفظ العبريّ "ح س د" يُنقل في السبعينيّة بلفظ "إلايوس" (رحمة)، وهو يرد في تي 3: 5 (رج تك 24: 12، 14، 44، 49؛ 39: 1؛ 40: 14...). فرحمة الله تذكّرنا بعهد محبّته، وبالسبب السامي الذي جعل الله يدخل في علاقة عهد مع شعب اختاره وحافظ على هذه العلاقة. ففي نظر كاتب تي، رحمةُ الله هي السبب الوحيد للخلاص. وهي تشكّل مع صلاح الله وحبّه وحنانه، نعمة (خاريس) الربّ (3: 7؛ رج 2: 11). ورجاء الحياة الأبديّة (3: 7؛ رج 1: 2) يتأسّس على نعمة الله.
كيف يكون هذا؟ بما أن الله مخلّصنا خلّصنا (سوزاين)، لا لأجل أعمال برّ عملناها (هي المرّة الوحيدةُ يذكر فيها البرّ في "الرعائيّة")، بل عبر ماء الولادة الثانية والتجديد بواسطة الروح القدس، فروح الله القدوس الذي ذُكر هنا (3: 5) للمرة الأولى في تي، هو ينبوع الولادة والتجديد المرتبطان بالعموديّة التي بدت أداة لعمل الروح. استعمل الكاتب صورة أدبيّة مع لفظ بولسيّ جديد (أناكاينوسيس، رج روم 12: 20؛ وأيضًا أفعال قريبة في 2كور 4: 16؛ كو 3: 10؛ عب 6: 6) ليعطي رنّة مسيحيّة خاصة للفظ في الفلسفة الهلنستيّة والأدب الدينيّ، ولا سيّما مع "بالينغاناسيا". يؤكّد الكاتب أن غسل العماد، بواسطة الروح (في تي 3: 5؛ 2تم 1: 14، يُذكر عمل الروح في الكنيسة) يهيّئنا للقيامة الأخيرة ولتجديد حياتنا. إنه يستبق المشاركة الاسكاتولوجيّة في القيامة وفي ينبوع تجديد الحياة الذي يميّز أولئك الذين تدرّجوا فدخلوا إلى شعب الله، إلى بيت الله. وتجديد الحياة هذا يتعارض تعارضًا جذريًا مع طريقة الحياة التي عرفها المسيحيون المولودون، في ما مضى. وقد صُوّرت تلك الطريقة، طريقة الحياة القديمة، في لائحة الرذائل التي جعلها الكاتب (3: 3) حالاً قبل أن يبدأ كلامه عن تجلّي حنان الله ومحبته للبشر.
عبر طقس العماد، أفاض (إكساخاين، صيغة الاحتمال) الله بغنى (بلوسيوس)، روحَه على شعبه. الصورة هي صورة طوفان يفيض، وفيه تُعطى موهبة الروح إلى شعب الله، بالقوة والوفرة. هذا يعكس الصور البيبليّة عن الله الذي يُعطي روحه لشعبه، في شكل مشابه (رج يو 3: 1- 2؛ زك 12: 10؛ أع 2: 17؛ 18: 33). إن عطيّة الله السخيّة، عطيّة روحه القدوس، لا تعمل فقط بواسطة غسل العماد، بل تعمل أيضًا عبر يسوع المسيح مخلّصنا. فالأداة "ديا" مع المجرور، تُستعمل في تي مرة واحدة، في 3: 5- 6. بهذه الطريقة تحدّث الكاتب عن رجاء القيامة وتجديد الحياة، لا بالنسبة إلى غسل العماد وحسب، بل بالنسبة إلى يسوع المسيح مخلّصنا أيضًا. هي المرّة الثالثة يُدعي فيها يسوع المسيح مخلّصنا، وكل مرّة في سياق يُسمَّى الله مخلّصنا. فعبر الروح القدس، يسوع المسيح هو أداة الخلاص الذي هو ظاهر في القيامة وجدَّة الحياة، بحيث استحقّ لقب "مخلّص". بهذا الشكل، وقف القولُ الصادق في 3: 4- 7 على عتبة اللاهوت الثالوثي في الكنيسة الأولى.
وبدلاً من أن يبرَّر المسيحيّون بواسطة أعمالهم، برّرهم الله عبر الروح القدس. هي نعمة الله التي جعلت المؤمنين أبرارًا. وإذ يتبرّرون، يصبحون ورثة مع رجاء الحياة الأبديّة ولفظة الميراث التي استعملها الكاتب في 3: 7، لكي يصوّر علاقة المسيحيّين بالحياة الأبديّة، هي فريدة في الرسائل الرعائيّة. لا شكّ في أنها صدى الاستعمال المسيحي البولسيّ الأول، وقد يكون ألهمها كون المسيحيين صاروا أولاد الله بالمعمودية. ميراثُهم هو الحياة الأبدية، مع القيامة التي تتضمّن لفظ "بالنغاناسيا" (3: 5).
إن القول الصادق (3: 4- 7) الذي أشير إليه في التحيّة (1: 1- 4)، يصف طريقة ثانية بها يدلّ الله على نفسه بأنه صادق في موعد الخلاص الأبديّ. بالاضافة إلى إئتمان بولس بأن يكرز بكلمته، أفاض روحه بواسطة الغسل العمادي على الذين اختارهم ليكونوا وارثي الحياة الأبديّة. فخلاص الله بدأ يتحقّق في التاريخ البشريّ، حين سُلّمت الكلمة إلى بولس، والغسل العماديّ للمسيحيين.
وقد يُطرح سؤال: ما هي وظيفة هذا الاتحاد بالمسيح الذي تحمله هذه الوحدة اللاهوتيّة العميقة داخل نصّ ذي هدف ارشاديّ؟ سؤال ضروريّ، لأن 3: 4- 7 هو المقطع الوحيد في هذه الرسالة، الذي وُصف بأنه قول صادق (3: 8). وهذا ما يدلّ على فرادته. يبدو الجواب مرتبطًا في مقطع يسبق 3: 4- 7 بشكل مباشر (3: 1- 3). فالوحدة الارشاديّة تتميّز برسمة (لأن، عندئذ) كلاسيكيّة تعارض طريقة الحياة في السابق (3: 3) مع الحياة (3: 1- 2) التي ينتظرها الآن أولئك الذين توجّه إليهم هذا الكلامُ الارشاديّ.
يُنتظر منهم أن يخضعوا في حياتهم "للحكّام وأصحاب السلطة"، وأن يكونوا مستعدّين لكل عمل صالح، خصوصًا بعد أن ظهر حنان الرب ورحمته. عليهم أن يعيشوا حياة صالحة، حياة مسؤولة في الجماعة، لأنهم خلصوا ويعيشون في رجاء الحياة الأبديّة. في الواقع، ما يقال في 3: 4- 6 يقدّم الباعث اللاهوتي من أجل الارشاد الذي نقرأه في 3: 1- 3. في هذا المجال، يرتبط القول الصادق ارتباطًا وظائفيًا وثيقًا بتحيّة الكاتب في بداية الرسالة (1: 1- 3). فكل قول من هذه الأقوال اللاهوتيّة العميقة، يلعب في الرسالة وظيفة تأمين تبرير لاهوتيّ للارشاد (فيه حضّ خلقيّ ومتطلّبات من أجل النظام في الكنيسة) الذي يقدّم في الرسالة. وكل من هذه المقاطع اللاهوتيّة الصريحة تؤمّن الاسناد الذي على أساسه يُعلن الارشاد، كما تجعل من الزمن الحاضر زمن نعمة. وهكذا يبدو الكاتب في هذين المقطعين واعيًا لبنية تأليفه اللاهوتيّ.

8- تي 2: 11- 14
إن هذين المقطعين اللاهوتيين اللذين ذكرناهما (1: 1- 4؛ 3: 4- 7) يكتملان بمقطع ثالث هو 2: 11- 14. يقع هذا المقطع الثالث حالاً في بداية القسم الثاني من الرسالة. ارتبط هذا المقطع الكرازي بالمقطعين الأولين، بالعودة إلى نعمة الله (2: 11؛ رج 1: 4؛ 3: 7)، فصوّر قدرة نعمة الله في تربية شعبه لكي يحيا حياة يرضى عنها المجتمع، حياة بحسب الله. وهذا المقطع الذي يتحدّث عن الظهور (ابيفانيا)، يلعب وظيفة شبيهة بوظيفة 3: 4- 7. كلتا هاتين الوحدتين بدأتا في عودة إلى الظهور: ابيفاناين، 2: 11، لا يرد في موضع آخر من الرسائل البولسيّة (رج لو 1: 79؛ أع 27: 20)؛ في تي 3: 4 نقرأ الفعل. أما الاسم "ابيفانيا" فيظهر في 2: 13 فيجعل من 2: 11- 14 مقطع ظهور. لا ترد اللفظة إلاّ هنا، في تي 2: 13. ولكنها ترد أيضًا في 1تم 6: 14؛ 2تم 4: 1، 8. فالظهور صفة من صفات الله، وهو "نعمة" في 2: 11 و"حنان ومحبّة" في 3: 4.
حين ماهى هذان المقطعان الظهوريّان صفات الله هذه، في تي، ارتبطا ارتباطًا وثيقًا بالتحية الرسائليّة (1: 1- 4) التي دلّت على الله الذي لا يكذب (آ 2)، الذي هو مخلّص (آ 3)، الذي هو أب (آ 4). وهكذا بدت هذه المقاطع الثلاثة مشابهة، بحيث يشدّد كل مقطع على نوع الزمن الذي فيه يُدعى القراء لأن يعيشوا هذه الحياة. فالتحية تشير إلى الزمن الحاضر على أنه الزمان المؤاتي (1: 2). ومقطعا الظهور يعتبران الزمن الحاضر (2: 12) كزمن يأتي بعد أن يُظهر الله صفاته لشعبه من أجل خلاصهم. في 2: 11- 13 الذي هو مقطع يضمّ عناصر من عبارة اعتراف عماديّ يتحدّث عن تبدّل في حياة المعمد الجديد، صُوّرت حياةُ المسيحيّ حياة يجب أن نعيشها بين ظهورين (2: 11، 13).
كان الظهور الأول تجلّي نعمة (خاريس) الله التي تحمل الخلاص إلى جميع البشر (انتروبون، 2: 11). في 2: 11، أبرز الكاتب وحي موهبة الله. أما 2: 14 فأعلن أن نعمة الله تجلّت في ظهور يسوع المسيح "الذي ضحّى بنفسه لأجلنا حتّى يفتدينا من كل شر ويطهّرنا ويجعلنا شعبه الخاص الغيور على العمل الصالح". والظهور الثاني الذي هو موضوع الرجاء المبارك، هو تجلّي مجد إلهنا العظيم ومخلّصنا يسوع المسيح (2: 13).
يشير 2: 13 إلى مجيء (باروسيا، 1تس 2: 19؛ 3: 13؛ 4: 15؛ 5: 23؛ 1كور 15: 23؛ 2تس 2: 1- 8) يسوع. سواء اعتبر الكاتب أن المجيء هو تجلّي مجد الله، أو أراد أن يشير إلى يسوع المسيح على أنه "إلهنا العظيم ومخلّصنا"، فالصعوبة هي في دراسة تي. فالنصّ اليونانيّ ملتبس، وهو يحمل أكثر من تفسير. نذكر هنا أن عبارة "إله ومخلّص" هي عبارة تُستعمل للاله الواحد في العالم اليهودي الهلنستيّ وفي الأدب الدنيويّ (مز 41: 12؛ 42: 5 حسب السبعينية). وإن بدت اليونانيّة البيبليّة وكأنها تعكس الظروف التي فيها استعملت السبعينية "الاله العظيم" للكلام عن يهوه، فمن المعلوم أن الأمم الوثنيّة استعملتها أيضًا للكلام عن آلهتها (مز 76: 14 حسب السبعينية. وهناك مدوّنات عديدة). قدّمنا بالعودة إلى الشرّاح براهين تدلّ على أن عبارة "إلهنا العظيم ومخلّصنا" تدلّ على يسوع، مع العلم أن هناك موقفًا آخر.
فإن كانت العبارة "إلهنا ومخلّصنا" تؤخذ ككلام عن يسوع، على أنه المخلّص، يطبّق "تيوس" (الله) على يسوع، لا بشكل اسم (كما في رسائل بولس) بل بشكل "وظيفة". فيسوع مارس كالله وظيفة الخلاص. في أي حال، ما أراد أن يُبرزه الكاتب هو ظهور يسوع الاسكاتولوجي الذي لأجله يتأسّس الرجاء المسيحيّ على وعد الله، ويكون تجلّي خلاص الله.
مقابل هذا تبدو وظيفة 2: 11- 14 شبيهة بوظيفة 3: 4- 7. فالمقطعان استعملا اللغة التقليديّة. وكلاهما شدّدا على أن قرّاء الرسالة يعيشون في الزمن الذي يلي تجلّي صفات الله الجوهريّة. ويقدّمان المسيحيّين على أنهم عائشون في زمن الانتظار. ويسمّيان يسوع، المخلّص، أي الأداة السامية من أجل تنفيذ مخطط الله الخلاصيّ. وكلاهما صدى لتقليد مسيحيّ قديم حول العماد. وفي النهاية، يُسندان إسنادًا لاهوتيًا الارشاد السابق لكل منهما.

خاتمة
قبل الدهور، وعد الله بالحياة الأبديّة، وهذا الوعد هو موضوع الرجاء المسيحيّ. هذا الاله هو الاله الذي لا يكذب أبدًا. وقد حقّق وعده، وأظهر حنانه في ثلاثة أزمنة مميّزة. الظهور الأول لالتزام الله بالخلاص كان ظهور نعمة وتجلّي المخلّص يسوع المسيح. وكان وقت آخر حاسم في تاريخ الخلاص، حين كُلّف بولس، عبد الله والرسول الرسول، بأن يعلن كلمة الله الخلاصيّة. والزمن الثالث يتّخذ مكانه في العماد المسيحيّ، ساعة يُولد المسيحيون ثانية ويتجدّدون عبر عطيّة الروح. وهكذا يتحقّق ملء التحقّق رجاء المسيحيين المبارك في تجلّي مجد إلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح.
فالاله الذي وجوده يمتدّ إلى كل دهور الزمن، هو الاله الذي حقّق وعد الخلاص في التاريخ البشريّ، وهو سيُتمّ هذا الخلاص في مجيء يسوع المسيح، وظهوره كالاله والمخلّص. والذين اصطفاهم كمختاريه يُنتظر منهم أن يعكسوا حنانه في مختلف تصرّفاتهم، كما تقول تي. يبقى عليهم أن يؤمنوا بالله مخلّصنا (3: 8ب)، هذا الاله الذي وعد وهو يحقّق ملء التحقيق خلاص بيته (1: 7).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM