الفصل الثامن ;أخطار المعلّمين الكذبة

الفصل الثامن
أخطار المعلّمين الكذبة
2: 14- 26

بعد أن دعا بولس تيموتاوس أن يتمرّس بفضيلة القوّة من أجل خدمته، ها هو يوصيه بأن يعارض المعلّمين الكذبة. ثمَّ يقدّم له برنامج عمل من أجل الدفاع عن الحقيقة وتقديمها خالصة إلى المؤمنين. وهذا ما حدا ببولس إلى أن يندّد بمحاولات إفساد الجماعة، إلى أن يحذّر تيموتاوس من أصحاب الضلال، وإلى أن يدعوه إلى التعليم الصحيح الذي يمنحه للمؤمنين. ذاك ما يقوله الرسول في آ 4، ثم يتوسّع فيه، فيدلّ على الموقف الإيجابي والسلبيّ في تقديم التعليم، ويُبرز صفات المعلّم. وبين الاثنين، كلام عن الكنيسة التي هي الموضع الذي فيه تُعلّم الحقيقةُ وتُعاش.

1- بيت الله، الكنيسة
يُورد بولس هنا بشكل واضح الاعلان اللاهوتيّ الذي يتلفّظ به الخصوم. القيامة تمّت. إذن، لا ننتظر بعدُ نهايةَ الزمن وعودة المسيح. فوجود التعريف قبل "قيامة" ضروريّ جدًا ليدلّ على الخطأ الأساسيّ لدى هراطقة يبدون من الغنوصيين. أما الباقي، فمجادلات عقيمة، ونقاش سخيف، ولا سيّما حين نتكلّم عن "قيامة" تمّت في خط روم 6: 1- 14؛ أف 2: 4- 6. ورئيسا هذا التعليم هما هيمينايس وفيليتس.
هنا نذكر مقالين من العالم الغنوصيّ. "لا تظنّ جزئيًا يا راجينوس، ولا تسلك حسب هذا اللحم والدمّ باسم الوحدة، بل تخلّص من الانقسامات والقيود، فتمتلك منذ الآن القيامة". "ابتلع المخلّصُ الموت... فجذبنا به إلى السماء كما تجذب الشمس الشعاعات التي لا يمسك بها شيء. تلك هي القيامة الروحيّة التي تبتلع النفسانيّ (الذي فيه نفس، الحيوانيّ والبشريّ واللحميّ، الذي من لحم ودم). إن الممسوح (بالزيت) يمتلك الكلّ (الالهي). يمتلك القيامة والنور والصليب والروح القدس". أما الأنساب والخرافات (4: 4؛ تي 1: 14؛ 1تم 1: 4؛ 4: 7) فهي تساؤلات غنوصيّة: من أين جئنا، وإلى أين نحن ذاهبون؟ واعتبر أحدهم أن من نال العماد من يد المنشئ، قد انتقل بواسطة القيامة بحيث لا يعرف الموت.
إن المعرفة الغنوصيّة (أو: العرفة، غنوسيس) كاكتشاف للأنا الالهيّ المنسيّ، الضائع، أو المخفيّ، هي قيامة تُفهَم في المعنى الروحيّ. وهكذا نلاحظ أهميّة الجدال حول القيامة وارتباطها بالتجسّد. انطلق بعض المضلّين مما قيل في 2: 8 حيث ذُكرت القيامة قبل التجسّد، فاعتبروا أن القيامة سبقت التجسّد. هنا لا ننسى أن الرسائل الرعائيّة، وإن تحدّثت عن خلاص دخل إلى العالم، إلاّ أنها تعلن أن هذا الخلاص لم يتمّ بعد. في أي حال، إن موضوع القيامة التي تمّت، يجد جذوره في الصراع الدائر في مراسلة بولس مع الكورنثيين. في كورنتوس، وُجدت مجموعات وضعت البلبلة مستندة إلى رؤية اسكاتولوجيا هي حاضرة اليوم وقد تحقّقت. فأدخل بولس خلقيّة وموضوع الخلاص الذي لم يتمّ بعد (1كور 7: 2- 16؛ 11: 3- 16؛ 14: 33- 35). والرسائل الرعائيّة أعطت إطارًا سوتيريولوجيًا لتحريض يُعلن تصرفًا معقولاً تجاه أخطار تهدّد التوازن الاجتماعي في الكنائس. شدّد بولس على تمييز الأزمنة. لهذا فُسّرت التصرفات المندّد بها انطلاقًا من موضوع الاسكاتولوجيا التي تمّت، والتي تحدّد موقع القيامة في الماضي. إذن، لا بدّ من الحفاظ على رؤية تاريخيّة للخلاص، على وعي للانتظار، وبالتالي على تنبّه للحاضر وحدوده. بالنسبة إلى الخصوم، تمّ كل شيء بشكل نهائي، فصار الزواج وبعض الأطعمة وعدد من النظم الاجتماعيّة في عالم النظام القديم.
ماذا يكون الأساس ضد الهرطقة؟ الكنيسة هي الأساس الذي وضعه الله (رج أش 28: 16). وهي البيت الذي يجمع الذهب من جهة، والخشب والخزف من جهة أخرى. في هذا السياق التعليميّ، تتّخذ استعارةُ الأساس طابع التعزية والتشجيع في مواجهة الضلال. ونلاحظ أن الكاتب لا يحارب مضمون هذه الهرطقة، بل يقابلها بأساس لا يرتبط بالبشر، بل بالله. فإن سقط بعضهم، فالبناء الذي هو بناء الله، يبقى متينًا. إذن، يبدو موضوع الكنيسة كبناء، جوابًا على تهديد الضلال، في خط الاستمراريّة والثبات. فالأساس يدلّ على الكنيسة قبل أن يدلّ على المسيح، أو الرسل أو التقليد.
ومع استعارة الأساس، هناك استعارة "الختم" التي تدلّ على أن "شيئًا" يخصّ انسانًا من الناس. والاستعارة الثالثة. هي استعارة الآنية المختلفة في البيت العظيم. في روم 9: 19- 24، جاءت استعارة الآنية لتدلّ على حريّة الله في خياراته. أما في الرسائل الرعائيّة، فالسؤال هو: كيف نواجه تأثير بعض أعضاء الجماعة الذين صاروا، على ما يبدو، "آنية غضب"؟ لا نمسّ فهم الخلاص، بل الانفصال الذي هو امتناع عن اللابرّ. وفي شكل ملموس، يجب أن نتنقّى من التأثيرات السيّئة التي تحملها تعاليم المعلّمين الكذبة. نتنقّى لكي نكون مفيدين للمعلّم. ذاك هو الهدف التحريضيّ للصورة. نحن لا نتعايش مع الضالين. بل نعطيهم بعض الوقت من أجل التوبة. فالعودة إلى الكنيسة ممكنة. نحن لا نحاول أن نقنع، بل نترك الوقت لله لكي يُقنع. فبالوداعة يعمل خادم الله، والربّ يهديهم إلى التوبة ومعرفة الحقّ.
من أجل هذا، يحتاج الراعي إلى تربية على الوداعة. نلاحظ في هذا المقطع (آ 14، 26)، كما في مقاطع أخرى، التناوب بين التنديد بالمعلّمين الكذبة والارشاد إلى تيموتاوس. تحدّثت آ 17- 18عن خصوم عبر اسمين، وعن ضلالهما (حول القيامة التي تمّت). في آ 19- 21، جاءت استعارة الأساس والبيت ردًا على تهديدات الهرطقة. واستعادت آ 22- 26 لغة الارشاد.
نجد فعلين: هرب، تجنّب (فوغاين). ثم، طلب، تبع (ديوكاين). أما المضمون فهو تعارض على ثلاثة مستويات. الأول خلقيّ: يذكر "أهواء الشباب" التي نتجنّبها، والفضائل التي نتبعها (آ 22). الثاني تربويّ. الجدال هو ساحة الخصوم (آ 14، 23، 25). نهرب منه. التربية في الوداعة هي ساحة خادم الله. نطلبها (آ 24، 26). والتعارض الثالث مع الخصم نجده بين توبة تصدر عن الله وسجين في فخاخ إبليس.
وينتهي الارشاد هنا بإعلان سوتيريولوجي ولاهوتيّ. ننتقل من الجدال إلى التعليم بوداعة. والباعث على ذلك هو أن نترك الله يُقنع الخصم فيتّخذ قراره. ولفظ "التوبة" يجد صورتين متماسكتين مع صورة خصم ضلّ الطريق (آ 26): السكران الذي عاد إلى رشده، والطريدة التي استعادت حرّيتها. في الحالين، نحن أمام عودة إلى وضع سابق تبدّل وتشوّه. و"معرفة الحقّ" هي شرط لاهوتيّ للبلوغ إلى الخلاص، ولفظة تقنية للتعبير عن الاهتداء إلى الربّ في العالم اليهوديّ (1تم 2: 4؛ تي 1: 1). في الرسائل الرعائيّة، نجد توازيًا بين "الحق" و"الإيمان". فإن طلبنا أو تجنّبنا هذا أو ذاك، نكون أمام الكائن المسيحيّ في ارتباطه بحقائق الإيمان الذي نُقل إليه. ونلاحظ أن الاهتداء إلى معرفة الحق يرتبط بالله (آ25). وهذا يعني أن من رفض الله، دلّ على أنه غير مستعدّ لقبول الحقّ.

2- دراسة النصّ
الخطر الحاضر يُحدق بالجماعة. فعليها أن تجاهد، أن تقاوم. بدأ بولس فتحدّث عن المعلّمين الكاذبين (2: 14- 18)، وجعل تجاههم الكنيسة، أي بيت الله (آ 19- 21). وأنهى كلامه بصورة عن المعلّم الحقيقيّ (آ 22- 26).

أ- المعلّمون الكذبة (2: 14- 18)
بدأ الرسول فندّد بالضلال والمضلّين، ودعا تلميذه إلى أن يعي هذا الوضع ويجعل المؤمنين يعونه.
أولاً: ذكّرهم (آ 14)
نقرأ هنا ثلاثة مقاطع مع ثلاثة أفعال أمر: ذكّرهم، إجتهد، تجنّب.
لا يشير التذكير فقط إلى ما سبق بشكل مباشر (آ 11- 13 أو آ 8- 13)، بل إلى مجمل التقليد الرسوليّ. هو لا يذكّرهم بما نسوا أو بما غاب عن بالهم بعد أن كاد يُمحى، بل بالعمل الأساسيّ في المهمّة الراعويّة (تي 3: 1؛ 2بط 1: 12). "منيسكاين". هي ممارسة عاديّة يقوم بها المعلّم تجاه تلميذه. لهذا، استحلف الرسول تلميذه بشكل احتفاليّ. ديامرتيروماي: أشهد، احتجّ. (4: 1؛ 1تم 5: 21). وعلى التلميذ أن يستحلف المعلّمين وجميع أعضاء الكنيسة. "أمام الله". في حضرة الله الذي يشهد، وهذا ما يُبرز المستوى الدينيّ للارشاد. نحن أبعد ما يكون أمام تدخّل إداريّ ورعائيّ عاديّ: فالمطلوب خلاص المؤمنين من الفخاخ. لهذا تُمنع المجادلات (1تم 6: 4): لوغوماخاين (تجادل على الكلام). جدال فارغ (آ 23) لا نبحث فيه عن الحقيقة، بل على المماحكة للايقاع بالخصم ليس إلاّ. من الواضح أن لا الألفاظ (1كور 4: 21) ولا الجدالات (1كور 14: 33؛ رج تي 3: 9) التي ترتبط باللحم والدم، بالضعف البشريّ (1كور 3: 3؛ غل 5: 20) تنفع من أجل إقامة ملكوت الله وانتشاره. "خريسيموس"، فائدة. هي مراحدة في العهد الجديد. رج حك 8: 7؛ 13: 11؛ ابن سيراخ، المقدّمة 26. فالفائدة الوحيدة من هذه الجدالات هو الدمار والخراب. "كاتاستروفي". تدمّرُ مدينة (تك 19: 26). يُسحق جيش (2 أخ 22: 7). والكلام هنا عن دمار الكنيسة (2كور 10: 8؛ 13: 10) التي تُبنى في الايمان (1تم 1: 4).
ثانيًا: اجتهد ( 15)
يُوقف تيموتاوس هذه المجادلات بسلطته الشخصيّة وبتقديمه التعليم الصحيح مثالاً للذين يعلّمون. فالسلوك المستقيم والشهادة الصادقة أنجع وسيلة تجاه المعلّمين الكذبة. من هنا، جاء الفعل في صيغة الأمر: اجتهدَ (سبودازاين). اهتمّ (غل 3: 12). قام بمجهود (1تس 2: 17). اعتنى بممارسة خدمته على أنه يؤدّي حسابًا عنها أمام الله. "باريستاناي". وقف، ظهر (أع 1: 3؛ 9: 41) أمام الربّ (لو 2: 22؛ روم 12: 1؛ 2كور 11: 2؛ أف 5: 27). هذا ما يدلّ على موقف نقفه (1كو 1: 22، 28)، على الاستعداد لوظيفة (أع 23: 24؛ روم 6: 13، 16، 19)، بعد أن اختُبر فقبل. "دوكيموس". رج روم 16: 10؛ 1كور 11: 19. هذا ما يُقال بشكل خاص عن خدّام الانجيل (2 كور 10: 18؛ 13: 5- 7؛ في تي 1: 16 نقرأ عن اللاقبول، عن الذي استُبعد).
"عاملاً"، إرغاتيس. فلاّح. رج لو 10: 2 (مت 20: 1، 8). هذا ما يدلّ على الرسل (1تم 5: 18؛ 2كور 11: 13؛ فل 3: 2). مع مقابلة مع "لوغوماخاين" (قام بجدال). عامل يعمل بحماس واندفاع فلا يخجل من عمله. لا يخجل من حكم الآخرين (مت 25: 26؛ فل 1: 20). فما يهمّه رضى الله، لا رضى الناس (غل 2: 10). والمهمّة التي يقوم بها الرسول، تقديم "كلمة الحقّ" (مز 119: 43) أي الانجيل (كو 1: 5؛ أف 1: 13) والوحي المسيحيّ (2كور 6: 7). فكلمة الله هي حقّ (يو 17: 17).
"مستقيمًا". رج "ي ش ر" (العبري) في أم 3: 6؛ 11: 5 للكلام عن فلاح يرسم ثلمه المستقيم فلا يترك المحراث يميل. "اورتوتومايو". تنطبق الصورة على الدبّاغ والبنّاء... نحن أمام التعبير بدقّة، بدون خطأ ولا زلل. نقرّب هذا الفعل من "اورتوبودايو"، مشى مستقيمًا. يجب على تيموتاوس أن يكون أمينًا في تقديم التعليم التقليديّ (آ 2- 8)، وفي التعبير عنه كما يليق (1كور 2: 13).
ثالثًا: تجنّب (آ 16- 18)
هناك طريقتان في التعليم تتعارض تعارضًا جذريًا: بقدر ما يكون الواعظ امتدادًا لكلام الله، يحذر من الكلام الفارغ (1تم 4: 7) الذي هو وليد المخيّلة. هذان هما المقياسان للتعليم المغاير للحقّ، المغاير للوديعة، للايمان الحقيقيّ (1تم 6: 20). نختبئ خلف الديانة، فنجعل من الحقيقة الالهيّة التي سُلّمت إلى الكنيسة (1تم 3: 15) تعليمًا دنيويًا. مثلُ هذا العمل يقود إلى الكفر، بطريقة تزداد يومًا بعد يوم. رج "بروكوبتو"، نما، تقدّم (لو 2: 52؛ غل 1: 14). "الكفر" (أسابايا). اللادين. هناك عصيان وقح تجاه الله، وهو ينال عقابه (روم 1: 18؛ يهو 5؛ رج 2بط 2: 5؛ 3: 7). إلى هذا الدرك يصل الانسان إن هو نزع عن كلمة الله قدسيّتها. فالكافر هو "بابيلوس".
تُشبّه نتائجُ التعاليم الضالّة (آ 17) بالآكلة. "غانغراينا". رج "غراوو" أكل، مع ملحق تحقيريّ، ذاك ما يعمله هيمينايس وفيليتس (جُعل مع الاسكندر، حُرم، رج 1تم 1: 20). رفض الخضوع للكنيسة، وواصل نشاطه التعليميّ بين الناس. لهذا كان بولس قاسيًا تجاه هؤلاء الناس.
وتتواصل في آ 18 صورةُ النموّ. فالهراطقة زاغوا، أضاعوا الهدف "أستوخاين" (مراحدة في العهد الجديد). مع إشارة إلى الفشل. هم لا يتقدّمون، بل يميلون عن الحقّ ويهربون. "لاغونتس"، قائلون. بعد اسم الفاعل هذا، يأتي إيراد حرفيّ (مت 27: 23) وموضوع التعليم. المعنى هو أنه لن تكون قيامة للأجساد في المستقبل. رج 1كور 15: 12. هنا نقرأ "أعمال بولس": "قال ديماس وهرموجينيس لتاميريس... سوف نعلّمك ما هي القيامة التي يقول بولس عنها إنها آتية. سبق وجاءت بواسطة الأولاد الذين لنا، ونحن نقوم حين نعترف بالاله الحقيقي" (مقطع 14).
كان بولس قد تحدّث عن قيامتين كما تحدّث عن موتين (رؤ 2: 11؛ 20: 6؛ 14: 21: 8): والخلاص الذي أعطي منذ الآن يتحقَّق تدريجيًا ويتمّ في السماء. لهذا فالمعمَّد، الحيّ الجديد، قد قام منذ الآن، روحيًا، مع المسيح (روم 6: 4 ي؛ كو 2: 12؛ 3: 1؛ أف 2: 6). هذا يعني قيامة الأجساد في المجيء الثاني (1تس 4: 14؛ 1كور 15؛ 2كور 5: 1- 5؛ فل 3: 11، 22).
كان اليونانيّون يعتبرون أن المادة شرّ. فتاقوا إلى التحرّر منها، واعتبروا أن كل قيامة للأجساد هي عبث (أع 17: 32). إذ أراد هيمينايس وفيليتس أن يُلغيا هذا هذا الشك، اعتبرا القيامة استعارة، وقدّماها على أنها صعود الحكيم صعودًا متدرّجًا إلى الله بالسيادة على الحواس. وقد يكونان استلهما نظريات يهوديّة في سورية وفلسطين (1تم 4: 3- 4). هنا نقرأ "انجيل فيلبس": "إن الذين يقولون إننا سنموت ونقوم، يضلّون. فإن كنا لا نبدأ وننال القيامة ونحن أحياء، فلا ننال شيئًا حين نموت" (104: 21؛ 121: 90). فسرّ هذان الضالان القيامة بحسب نظرتهما، فدمّرا (أناترابو) الايمان لدى بعض المسيحيين، وهو إيمان يرتكز على القيامة (1كور 15: 13- 18).
ب- بيت الله (2: 19- 21)
أعلى أساس الضلال يقوم التعليم؟ بل هناك أساس آخر ختمه الله بختمه.
أولاً: الأساس (آ 19)
وجاءت أداة (مانتوي) فدلّت على التعارض القويّ (يو 4: 27؛ 7: 13؛ 12: 42؛ 20: 5؛ يع 2: 8). نحن أمام ثقة واثقة تعارض أساليب التفسير الخاطئة (آ 14) التي تبلبل المؤمنين في قلب الكنيسة. فأساسها ثابت رغم سقوط بعض أفرادها. بل يبقى هو هو. وترد ألفاظ تدلّ على المتانة التي تُعطي الطمأنينة. "تاماليوس". ما يوضع فيستند إليه الباقي. هو الأساس الذي يكون الركن الأول في جدار أو بناء أو مدينة (عب 11: 10؛ رج مت 7: 25). استعمل بولس دومًا هذا اللفظ بشكل استعارة (1تم 6: 19. رج الفعل في أف 3: 17؛ كو 1: 23)، حين تحدّث عن الكنيسة، الهيكل (1تم 3: 15؛ 1بط 2: 5- 6)، ففُهم عن وديعة الايمان، والاختيار الالهي: الله يعرف الذين هم له منذ البدء (2تس 2: 13): المسيح والرسل (1كور 3: 11؛ أف 2: 20). كما يعرف جماعة أفسس (روم 15: 20). والكنيسة ككلّ. هي متينة وثابتة لأن الله بانيها وأصلها (أش 27: 16؛ إر 31: 11؛ سي 42: 17). والصفة، "ستاريوس" (1بط 5: 9): المتين. الحجر متين، لا يتزعزع. والفعل "كتيزو"، ثبت. هو في صيغة الكامل. حالة تعود إلى الماضي وما زالت حتى الآن. رج روم 11: 20؛ 1كور 7: 37؛ 10: 12؛ 2كور 1: 24.
نحن أمام تعارض جذريّ بين الأساس والمتانة والصخرة، وبين الدمار في آ 14 والعدم في آ 18. إن سقطت بعض الحجارة من البناء، فلا خوف على متانة المجموعة. والمتانة هي دوام الكنيسة (مت 16: 18) وقوّة الحقيقة (1تم 3: 15)
خُتم هذا الأساس بختمين. "سفراغيس". علامة محفورة، ختمٌ، كتابة على حجر، أقوال إلهيّة (تث 6: 9؛ 11: 20). الختمُ على الحجر لا يُمحى. هو مقدّس، ويصبح الحجر مُلك الاله. كان في هيكل أورشليم حجرُ أساس (5: 2) وُضع عليه تابوت العهد. ويقول ترجوم يوناتان المزعوم: حُفر عليه اسم يهوه. إن "سفراغيس" التي حفرها الله في الحجر هي "إهداء"، هي عبارة تكريس (زك 3: 9؛ خر 27: 11). وهي تتضمّن امتلاكًا خاصًا (صج 2: 23: جعلتك ختمًا، لأني اخترتك"؛ تك 8: 6؛ رؤ 7: 2- 4). كما تدلّ على صحّة الوثيقة الرسميّة (هي غير مزوّرة). رج أس 3: 12؛ إر 32: 11؛ 1كور 9: 2. وهكذا تكون مكفولة وتدعو إلى الاطمئنان، فلا تبدَّل فيها ولا تزوَّر، وهكذا لا يتجاسر أحد أن يلمسها أو يحوّر فيها: كتابة (نح 10: 1). كنز (طو 9: 5؛ سي 17: 22). بركة أو قسَم.
أما الصورتان المرتبطتان ارتباطًا وثيقًا، فتعبّران عن الاختلاف بين أعضاء بيت الله، وهذا أمر لا يظهر للعيان: طمأنينة المؤمنين الذين يحفظهم ربّ العهد. استقامة الايمان الذي لا تشوّهه الهرطقة كالآكلة. رج عد 16: 5 (حسب السبعينيّة): افتقد الربّ وعرف الذين هم له والذين هم مقدّسون، فجاء بهم إلى نفسه، والذين اختارهم لنفسه جاء بهم إلى نفسه. رج مت 7: 22- 23. هذا يؤكّد أن الله أحبّ الذين دعاهم فصاروا خاصّته منذ العماد (كو 2: 12. هم خرافه، يو 10: 14، 28؛ رج يو 6: 37). وهو يضعهم جانبًا ويحميهم. والصورة الثانية تنطبق على عبارة: "الذين يدعون باسم الرب" (أش 26: 13؛ رج يش 23: 7؛ 1كور 1: 2). التزموا بالأمانة على مستوى التعليم والفضيلة. أمروا بأن يتجنّبوا الاثم. رج عد 16: 26 (رفض كل علاقة مع قورح وداتان وأبيرام. وهنا: هيمينايس وفيليتس)؛ أش 52: 1 (لا تلمس نجسًا حين تمسك آنية الله)؛ مز 6: 9 (ابتعدوا عني يا فعلة الاثم).
ثانيًا: البيت الكبير (آ 20-21)
وتتواصل استعارة الكنيسة البناء، بشكل مثَل (1تم 3: 15؛ رج عب 3: 7) وتنتهي في إرشاد. هنا، يبدأ تفسير الختم الأول: الله يتميّز صفة ونوعيّة كل عضو في عائلته. كل خادم بين خدّامه. (1كور 3: 10- 15). فلا نتشكّك من سلوك هذا أو ذاك، من حياتهم في الكنيسة الواحدة، لأن كل شيء يرتبط بمسرّة الله وحكمته. روم 9: 21. إن بناء الجملة يُبرز بُعد الكنيسة المنظور، ولا سيّما في أفسس. بيت (اويكيا) كبير (ميغالي). نحن أمام بيت مقدّس مع أدواته وآنيته.
"سكاووس"، إناء. هو من ذهب أو فضة إذا استعمله الملك والعظماء. أما لدى الفقراء، فالاناء هو من خشب أو خزف (2كور 4: 7؛ إر 18: 4). نحن هنا أمام موضوع تقليديّ، نجده مثلاً عند أش 22: 24.
ولكن تبقى الصعوبة: أين الشريف واللاشريف؟ قد نكون هنا أمام علاقة بين صفة الإناء ووظيفته: الآنية الثمينة تُستعمل فقط في الأعياد والمناسبات الكبرى. والدنيئة في الأيام العاديّة. رج حك 15: 7 التي استعادها فيلون فقال: الآنية من حجر أو خشب "صارت آنية لماء الغسل وطشت للرجلين أو آنية تستعمل لحاجات الليل وحاجات النهار". الشرف (تيمي). أتيميا (اللاشرف). هذا يعني أن في الكنيسة خدّامًا ناشطين (1تم 5: 17: الذين يتعبون أو لا يتعبون)، أن فيها مواهب بسيطة (1كور 12: 23). وقد يكون هناك أعضاء خطأة يُدعون إلى التوبة.
أما مغزى المثل، فهو أن الله مسؤول عن وجود هذين النوعين من الخدّام، الناشطين واللاناشطين. في الحقل، هناك القمح والزؤان (مت 13: 30)، وفي الشبكة نجد الأخيار والأشرار (مت 13: 47- 50). والربّ يسمح بأن يتنقّى الأبرار في اتّصالهم بالهراطقة. أجل، هناك أغصان يابسة سوف تذهب إلى النار (يو 15: 2، 6). يبقى على الواعظ أن يطهّر نفسه (آ 21) من أجل خدمة أفضل. رج 1كور 5: 9- 13؛ 2كور 12: 21؛ 13: 2.
حثّ الرسولُ الواعظ على أن يتنقّى، يتطهّر (إكاتايرو). رج 1كور 5: 7؛ أع 20: 26. هذا ما يفسّر الختم الثاني. نتجنّب كل اتّصال مع المعلّمين الكذبة الذين هم آنية عار وينبوع عدوى (1تس 3: 14) وشرّ (تعليم فارغ ودنيوي). نشير هنا إلى أن التطهير بالتجنّب، يحوّل الخادم إلى إناء كرامة. فمن حفظ نفسه نقيًا صار إناء مختارًا (أع 9: 15). إنه في حالة تقديس. إناء مكرّس، فُصل عن الدنيوي والضلال. إنه مليء بالغنى من أجل خدمة صاحبه. "أوخريستوس" (مفيد). رج با 6: 58. كما يكون العبد الصالح (فلم 11) بالنسبة إلى سيّده (دسبوتيس) (1تم 6: 1؛ تي 2: 9). أو كما يكون االإناء، المقدّس لخدمة الله فقط (يو 17: 19). إنه مُعدّ أفضل إعداد ومهيّأ للمهمّة التي يطلبها الربّ (3: 17؛ تي 3: 8). قال الذهبيّ الفم: نستطيع أن نصل إلى الفساد مثل يهوذا، أو نصل إلى قمّة الكرامة مثل بولس.
ج- المعلّم الحقيقيّ (2: 22- 26)
بعد أن تحدّث الرسول عن معلّمي الضلال، توجّه إلى تيموتاوس وذكّره كيف يكون المعلّم الحقيقيّ وحامل كلمة الحقّ. هو يُقنع ولا يُكره.
أولاً: تجنّب (آ 22)
وجاءت توصيات في صيغة الأمر، إلى تيموتاوس، فتأسّست على مبادئ قرأناها في آ 20-21: ترك النصّ الاستعارات واستعاد فكرة آ 15، ومزج معًا 1 تم 4: 12؛ 6: 11. هنا نقرأ مراحدة بيبليّة (نايوناريكوس): شبابيّ. ما يتعلّق بالشباب المتجدّد. يبتعد تيموتاوس عن أهواء الشباب، ويجري وراء البرّ، بحسب البرّ (مت 3: 15؛ 21: 32): استمرار وثبات، إصلاح في العلاقات مع الآخرين. هذا يعني تتميم الواجب. وهو يمارس مجمل الفضائل بحيث ينال الكرامة (تيمي) ويهرب من "أديكيا" اللابرّ، (آ 19- 21) المرتبطة بالايمان (بستيس) والأمانة. كل هذا ينضمّ إلى المحبّة (أغابي) الأخويّة (1تم 4: 12) مع كل ما فيها من صبر وتجرّد وتواضع (1كور 13: 4- 5)، التي هي ضروريّة للمسؤول (1تم 1: 5).
فالحضّ على السلام (عب 12: 4؛ رج روم 12: 18) الذي يرافق البر (كما في روم 14: 7) لأنه ثمرته، يُفهَم أولاً ابتعادًا عن الاحتداد والثوران، وتوافقًا أخويًا من أجل حياة مشتركة مع المؤمنين الحقيقيّين (أع 2: 21؛ روم 10: 12؛ 1كور 1: 2). فالذين يدعون باسم ربّنا هم شعبه. يجتمعون باسمه، ويعلنون أمانتهم له. إن العبادة والايمان والمحبّة، تفترض قلبًا مطهّرًا من كل شرّ، مبتعدًا عن شهوات (إبيتيميا) الشباب وضلال التعليم.
ثانيًا: ابتعد (آ 23)
صيغة الأمر من فعل "بارايستايستاي" (1تم 4: 7؛ 5: 11؛ تي 3: 10) تدلّ على استبعاد قاس. يجب أن نرفض بقوّة تعليم الهراطقة الذي يبلبل جماعات آسية، والذي دُوّنت الرسائل الرعائيّة لتردّ عليه (آ 14؛ 1تم 1: 4؛ 4: 7؛ 6: 4؛ تي 3: 9): هي مماحكات غبيّة (موروس، 1كور 3: 18) تدلّ على عدم جدارة هؤلاء المتكلّم. هم "معلّمون" (أف 4: 14؛ يع 3: 11؛ 2بط 1: 16) لا يفهمون ماذا يعلّمون (1تم 1: 7). نقرأ هنا مراحدة في العهد الجديد: أبايدوتوس (أحمق)، تدلّ على عدم الجدارة وقلّة الأدب (2بط 2: 16). حرفيًا: من لم يتعلّم، من لم يتربّ (سي 51: 23). أي الجاهل. نحن أمام صفة تدلّ على احتقار الجاهل الذي لا يمتلك الحكمة ولا يخضع لتأديبها (أع 8: 5؛ 24: 7؛ سي 6: 20). هو ثرثار (أع 15: 14؛ سي 8: 4؛ 20: 19)، وشرّير (أع 5: 23). هزئ باخوته فابتعد عن الله (حك 17: 1؛ أش 26: ،11 صف 2: 11) ورفض التوبيخ (أع 15: 12). هو عاص (آ 25) يبلبل تعليم الربّ (آ 10) ويرفض كل خضوع للتقليد.
رذيلتان قاسيتان لدى هؤلاء المعلّمين الكذبة الذين لا يطلبون الحقّ، بل إفحام الخصم ببراهين خادعة. يفصّلون الكلمات والحروف، ويدقّقون في الأقوال التافهة، فتصل بهم الأمور إلى المشاجرات (ماخي).
ثالثًا: صفات خادم الربّ (آ 24- 26)
بعد هذا الكلام القاسي عن المعلّمين الكذبة، عاد الكاتب إلى الصفات المطلوبة من خادم الربّ. يكون كالراعي الصالح (يو 10: 11). فالعبد يكون مثل سيّده، والتلميذ مثل معلّمه (مت 10: 24- 25؛ لو 6: 40). والصفات هي: الوداعة، الرفق، التواضع (يو 13: 14- 15؛ 15: 20). خادم، عبد (دولوس) الربّ. رج تي 1: 1؛ يع 1: 1؛ 1بط 2: 6. فعلاقة المؤمن مع ربّه تشبه علاقة العبد مع سيّده. ينتظره أوامره بعناية. ينفّذ مشيئته بدقّة. لا إرادة خاصة به. بما أن تيموتاوس عبد الرب، فهو يرفض أن يدخل في هذه المشاجرات. والمسيح بحسب أش 53: 1- 4 (مت 12: 18- 21؛ 1بط 2: 23) هو الذي رفض العنف، وتحلّى بالوداعة.
تجاه خصوم يجادلون ويقاتلون، يتّخذ الراعي موقف الهدوء الذي يُطفئ كل عدوان واحتداد. "ايبيوس" (رفيق). هي طريقة في التربية والسلطة الرعائيّة. دون احتداد مرّ ولا قساوة. تلك كانت عاطفة الرسول الأموميّة لدى التسالونيكيين (1تس 2: 7): لا كلمة تجرح، لا لفظ احتقار، لا تصلّب في المواقف، بل تسامح في الحوار. ليس الموضوع انتصارًا شخصيًا تجعل الخصم يركع، بل عرضًا يجعل الناس يتقبّلون حقيقة الانجيل. وترد الصفة "ديدكتيكوس" أهل للتعليم. جدير بالتعليم. يقدر أن يعلّم (تجاه براهين فارغة). "أناكسيكانوس". صبور بدون مرارة ولا حقد. على مثال المسيح (1بط 2: 23). يتغلّب على الشرّ بالخير (روم 12: 17، 21).
"مؤدِّب في وداعة" (آ 25؛ ج عب 12: 1). الربّ يعطينا أن نفهم (2: 7). نعلّم الناس. ننير العقول. نعطيهم التفسير الصحيح للكتب المقدّسة. "بايداواين" (تي 2: 12). نحن أمام خصوم يرفضون، يقاومون، يخالفون. الفعل مع "أنتي" ضد، معارض. رج أيضًا تي 1: 9 (المعارضين)؛ 1تم 5: 14 (الخصم)؛ 6: 20 (ما يعارض الحقيقة). نحن لا نعاتب (لو 23: 16، 22؛ 2كور 6: 9)، بل نصلح (حك 12: 22)، نؤدّب، ولكن نؤدّب بوداعة (براوتيس). هي مزيّة تفترض التواضع، العمل الخفيّ، الاحترام (تي 3: 2؛ أف 4: 2؛ كو 3: 12؛ يع 3: 13). وهي تعارض الفظاظة والقساوة، والغضب الذي يريد الانتقام (1كور 4: 21). هي فضيلة المعلّم (مت 11: 29) والمربّي (2كور 10: 1؛ غل 6: 1). ينصح بها بطرس في الجدال مع الوثنيين (1بط 3: 6). فهي التي تُقنع الناس كما قال الرب (مت 5: 5).
هذا هو الهدف: هداية الناس. فالله يريد خلاص جميع البشر (1تم 2: 4)، فيعطيهم نعمة حين يرسل إليهم خدّامًا ودعاء. فالله مستعدّ لأن يغفر. وهو يعطي الخطأة مهلة للتوبة. ومعرفة الحقّ هي عطيّة من الله (مت 11: 27؛ أف 1: 17). هي تعارض "المعرفة المزعومة" (2تم 6: 20) التي هي بعيدة كل البعد عن المعرفة الحقّة. المعرفة الحقة تتضمّن مخافة الله (أع 2: 5) وعبادته (مز 79: 6) والخضوع لمشيئته (كو 1: 9) والسير في طريق البرّ (2بط 2: 20- 21؛ هو 4: 1، 6؛ 6: 6)
"فيعودوا" (آ 26). فالعودة إلى الحقّ تفرض صحّة الروح (1بط 1: 13) والحكم الصائب. نحن قريبون من الاعتدال (4: 5؛ 1تس 5: 6- 8) وبعيدون عن غفوة الرقاد وضياع السكر. "أنانيفو" (استعاد). هي عودة عن الخطأ، فنستعيد نفوسنا. وترد استعارة "الفخ" (باغيس). رج لو 21: 34- 35؛ روم 11: 8- 9. استُعملت في معرض الكلام عن الأسقف الشاب (1تم 3: 7؛ 6: 9). فالشيطان يمسك الضال في فخاخه (1تم 4: 1). وإذ يمسكه يجعله في تصرّفه (زوغرايو). هي حالة من العبوديّة، عبوديّة الخطيئة (يو 8: 34). فابليس يزرع الضلال، يزرع الزؤان محاولاً تدمير الكنيسة (مت 16: 8). ولكن الرب حاضر ليعمل فينا إن عدنا إلى وعينا وحواسنا كأفراد وجماعة. الربّ غلب العالم. وهو يغلب بنا إن نحن شئنا.

3- قراءة إجماليّة
طلب الرسول من تلميذه أن يذكّر بالتعليم، بالانجيل، بكلمة الله التي تُنقل نقلاً صحيحًا (2: 15). فخطر الهرطقة كبير. والنصائح لا تكفي ولا الأوامر. فلا بدّ من إقناع السامعين بحقيقة هامة. وفي أفسس، نمنع المؤمنين من الاستسلام إلى الكلام الفارغ والمجادلات العقيمة حيث لا نطلب الحقيقة، بل نطلب لنفوسنا السيطرة على الآخرين لتكون لنا الكلمة الأخيرة. غير أن كلمة الله ليست موضوع جدال وسفسطة: "هي أحدّ من سيف ذي حديّن، تدخل مفرق النفس والروح..... وتكشف النوايا وأفكار القلوب" (عب 4: 12). والمؤمن يخضع لها بتواضع، ولا يُخضعها لدقائق جدليّة بشريّة لا يمكنها إلاّ أن تكون محدودة ومبتورة.
لا فائدة من المجادلات الكلاميّة، بل فيها الضرر والدمار. فالكنيسة، بيت الله، ما زالت في مسيرة البناء (روم 15: 2). وكلمة الله هي التي تبنيها. أما الكلام الفارغ فيهدمها. ولقد قال بولس إن السلطان الذي أعطي له هو من أجل بناء الكورنثيين لا هدْمهم (2كور 10: 8).
ويُفحم تيموتاوس المعلّمين الكذبة، لا بأقواله فقط، بل بمثَل حياته، فيدلّ على أنه رجل مختبرَ. ربّما يختبره الناس، بل يختبره الله. عندئذ يستطيع أن يقف أمام عرش الديّان ولا يخاف الخزي. فهو عامل واع لمهمّته. يتمّمها باهتمام، حين يكون مستقيمًا في تعليم الحقّ. هو كالفلاّح الذي يشقّ الأرض بسكّته، أو البنّاء الذي يهيّئ الحجارة من أجل بنائه.
تجاه كلمة الحق (أي الانجيل الذي يخدمه الرسول) يقف الكلام الفارغ، الذي لا يكون دنيويًا فقط، بل كافرًا وشرّيرًا. من قام به، مال عن الطريق القويم. ودلّ بولس على الدمار الذي سبّبته الهرطقة، فبانت كالآكلة في وسط الجسم. هي تفكّك الجسم فتدمّر عمل كلمة الحقّ التي تبني الجماعة، تبني جسد المسيح. وتتقدّم الآكلة شيئًا فشيئًا بنتائجها الوخيمة بحيث يصبح الجسم أشلاء. فإن لم يتنبّه الراعي، تمتدّ الهرطقة إلى الكنيسة كلها. وسمّى بولس شخصين أحدثا ضررًا كثيرًا بالكنيسة، فحرمهما بعد أن رفضا الاذعان لكلمة الحقّ. ماذا فعلا؟
ابتعدا عن الحقّ (1تم 1: 6؛ 6: 21) وأكّدا أن القيامة تمّت. تشكّك الناس من موضوع القيامة، فخفّف هذان المعلّمان من قوّة التعليم. اعتبرا أننا أمام قيامة روحيّة وحسب. لا شكّ في أن قيامة روحيّة حقّة تمّت بالنسبة إلى المسيحيّ في العماد (عبور من الموت إلى الحياة). ولكن أنكر هيمينايس وفيليتس قيامة الأجساد، قيامة الانسان ككلّ، فكادا يعودان بالمؤمنين إلى قيامة النفس دون الجسد، على مثال ما في تعليم اليونان حيث تكون النفس في الجسد، كما في سجن. كلا، بل إن المؤمن كله يقوم، ويكون مع الربّ في كل حين.
ولكن، رغم ما أحدث الهراطقة من دمار، وقلبوا إيمان بعض المسيحيين، فمجمل البناء ثابت أمين، سواء على مستوى كنيسة أفسس، أو مستوى الكنيسة ككلّ. فأسُس الكنيسة قد وضعها الله، فلا تقوى عليها سلطات الجحيم. الله هو المهندس، والرسل يعملون معه. عملَ اللهُ وختمَ عملَه، فدلّ على يده الفاعلة. في هذا المجال، حدّث بولس المؤمنين عن المتانة التي يعطيها الله لهم، فقال: "ذاك الذي يثبتنا معكم للمسيح، والذي أعطانا المسحة، هو الله الذي ختمنا أيضًا بختم وجعل في قلوبنا عربون الروح" (كور 1: 21- 22). فبالايمان والعماد صار المسيحيّ ملك الله الخاص. إنه عضو في شعب اقتناه الله بعد أن طهّره وافتداه من كل إثم (تي 2: 14). نشير هنا إلى أن العماد يقابَل بختم يدلّ على أن شيئًا يخصّ انسانًا من الناس. ونحن نُختم فنصبح خاصة الله. كان الختان ختم البرّ بالنسبة إلى ابراهيم حين نال الايمان (روم 4: 11). والمعموديّة هي ختم الحياة الجديدة في الروح (2كور 1: 22؛ أف 1: 13).
حين قدّم بولس استعارة البناء، تذكّر عادة فيها يُختم حجرٌ باسم صاحب البناء ويوضع في الأساس. في هذا السياق الايمانيّ نفهم الاستشهادين الكتابيّين. إن عد 16: 5 يُبرز نداء الله. الله يعرف أخصّاءه. يفرزهم برحمته، يجعلهم جانبًا، ُيدخلهم معه في حياة شخصيّة حميمة (1كور 8: 3؛ غل 4: 6). وذلك على مثال الراعي الصالح الذي يعرف خرافه ويبذل حياته من أجلها (يو 10: 14- 15). هذه المعرفة هي اختيار الايمان. فرجاء المسيحيين يستند إلى أن الله عرفهم، لا، كما يقول الغنوصيون، إنهم عرفوا الله. في عد 16: 5، تبقى اللهجة مهدّدة: الله يعرف الذين ظلوا أمناء لموسى، كما يعرف الذين تمرّدوا فنالوا عقابًا يتذكّره الناس من جيل إلى جيل. فالمعلّمون الكذبة يحاولون تدمير سلطة بولس كما فعل قورح ورفيقاه مع موسى. والاستشهاد الثاني هو خلاصة نصوص كتابيّة عديدة: مز 6: 9؛ أش 52: 11؛ لا 24: 16؛ أش 26: 3. هو موقف الانسان الذي يتقبّل نداء الله. من جهة، يعلن المؤمن أن الله وحده هو الربّ الذي يدعوه. ومن جهة ثانية، يجعل حياته موافقة لإيمانه فيقطع كل رباط يميل به عن الله (رج 1كور 5: 11؛ 6: 9- 11؛ 10: 21؛ 2كور 6: 14). فلا يستطيع أحدًا أن يبقى متعلّقًا بالشرّ، ويحسب أنه يقيم في معرفة الله (مت 7: 23: ما عرفتكم).
ويواصل بولس مقابلة الكنيسة ببناء. كان قد تحدّث عن أساسات هذا البناء. والآن ينتقل إلى الأثاث. ففي عدد من الآنية... بعضها لاستعمال شريف، والبعض الآخر لاستعمال دنيء. في روم 9: 21- 23 كان تشديد على حريّة الله السامية. أما هنا، فترك الكاتب النشاط الخلاّق لدى الخزّاف الالهيّ، ولاحظ وجود فئتين من المسيحيين في الكنيسة: هؤلاء الذين هم في يد الله آنية مقدّسة، مفيدة، جديرة بكل عمل صالح. وهؤلاء الذين لا ينفعون شيئًا. فإذا أراد الانسان أن يكون إناء صالحًا، قطع كل اتصال بالآنية الدنيئة، أي بالذين يقترفون الاثم ويهدّدون إيمان المسيحيين.
في هذا الإطار من الخطر الآتي من الخارج (العالم المعادي)، ومن الداخل (المعلّمون الضالون) يعمل تيموتاوس. وموقفه يتطلّب التواضع والمحبّة. لهذا يطلب منه الرسول الابتعاد عن شهوات الشباب: لسنا على مستوى الحواس التي نسود عليها فلا نقع في الفجور، بل على مستوى الهرب من رذائل يتعرّض لها الشباب: تصلّب وعناد. الاهتمام بالتغلّب على الآخر مهما كان الثمن. نقص في الواقعيّة. ميل إلى الجدالات التي لا تنتهي. يتجنّب التلميذ هذه الأمور، فيطلب البرّ والعمل بمشيئة الله، يطلب الإيمان والمحبّة. ونتيجة مثل هذا التصرّف هو السلام والوئام بين رئيس الجماعة والمؤمنين. يسمّيهم هنا (آ 22): "الذين يدعون الرب". رج آ 19: "من يذكر اسم الربّ". نحن هنا أمام الاعلان الأساسيّ للايمان: يسوع ربّ (روم 10: 19؛ 1كور 2: 3). أعلن العهد القديم أن من يدعو باسم الربّ يخلص (يوء 3: 5). وطبّق العهد الجديد على المسيح نصوصًا أشارت في الأصل إلى يهوه، إلى الله. فالآن، الدعاء باسم يسوع هو الذي يمنح الخلاص (أع 2: 21؛ 4: 12؛ 22: 16؛ روم 10: 13). والذين يدعون الرب هم المسيحيّون (أع 9: 14، 21؛ 1كور 1: 2).
وإن أراد تيموتاوس أن يسود السلامُ الجماعة، يحاول أن يُبعد أسباب المجادلات: بحث باطل، جنون، بلادة وابتعاد إعمال الفكر. وعبد (خادم) الربّ، تيموتاوس، يتطلّع إلى يسوع عبد الربّ، كما في أناشيد أشعيا، ليجد فيه مثالاً يقتدي به بالصبر والوداعة والاقناع والهدوء. المقاومة حاضرة في وجه الراعي والمعارضة. وهو لا يكسر القصبة المرضوضة، ولا يُطفئ الفتيل المدخّن (أش 42: 2- 3). وتيموتاوس لا يكون رجل خصومة ونزاع، بل يتقبّل الجميع، ويلامس قلوب المخالفين بوداعته. وهو لا ييأس أبدًا. فما طُلب منه أن يهدي الضالين بوسائله الخاصة. فالاهتداء نعمة من الله، والله لا يستحيل شيء عليه. يبقى على الراعي أن يتحلّى بثقة عميقة بذاك الذي ينمي زرعًا زرعناه وسقيناه (1كور 3: 5- 9). والمهتدي يشبه انسانًا سكرانًا عاد إلى وعيه، أو طريدة وقعت في فخّ، ثم استعادت حرّيتها.
خاتمة
ذاك هو واجب تيموتاوس في كنيسة أفسس. كلمة الله، كلمة الحق، يحملها باستقامة. هذا يعني أنه يبتعد عن تعاليم الضلال، عن المجادلات السخيفة، عن الكلام الفارغ. وعليه أن لا يخاف، أن لا ييأس. فالكنيسة ثابتة، وأساسها هو الله. فيبقى على المؤمن أن يحفظ نفسه من كل تأثير يدمّره ويدمّر الجماعة. وعلى خادم الله أن يكون على مثال المسيح الراعي الصالح الذي ضحّى بنفسه من أجل خرافه. وعلى ضوء عبد الربّ الذي تصرّف بوداعة مع الذين خالفوه وعارضوه والذي تحمّل الاساءة وما ردّ على الشرّ بالشرّ، بل أسلم نفسه إلى الربّ. لهذا قبل الله ذبيحته، وبرّر به الكثيرين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM