الفصل الحادي والأربعون: سفر الرؤيا ولغته المرمّزة

 

الفصل الحادي والأربعون

سفر الرؤيا
ولغته المرمّزة

حين نقرأ سفر الرؤيا، تطالعنا صور بعيدة عن مفهومنا. ما هذا الرأس الذي فيه عشرة قرون أو سبع عيون؟ ما هذا الدم الذي يجعل ثياب المؤمنين بيضاء؟ وما معنى كل هذه الأرقام من 42 شهرًا إلى 1260 يومًا، إلى 24 شيخًا؟ تلك إحدى صعوبات الرؤيا، وهي تحتاج إلى بعض الشّروح، فيصبح هذا الكتاب جليًا واضحًا أمامنا. ولكن قبل ذلك، نتوقّف عند المناخ الذي ينغمس فيه كلام الرّائي حين يعلن تعليمَه.

1- مناخ سفر الرؤيا
إن صاحب سفر الرؤيا هو نبيّ يعظ في فترة صعبة، فترة من الاضطهاد. لهذا يكون تعليمه قاسيًا بحيث لا نستطيع أن نتحمّله. فهو يقدّم كلمة الرجاء في وضع متشائم جدًا. هو يحضّ الشعب على العودة إلى الرب، ويبيّن له أنه، من جرّاء كثرة الأثم، ستجفّ المحبة في القلوب: "يشكّ كثيرون، ويسلّم بعضهم بعضًا، ويبغض بعضهم بعضًا" (مت 34: 10). ومع هذا يأتي الاضطهاد: "حينئذ يسلّمونكم إلى الضيق، ويقتلونكم، ويبغضكم جميع الأمم من أجل اسمي" (آ 9). ويا ليت لهذا "الموت" من ثمرة! فقليلون جدًا هم الذين يرجعون إلى الرب. وعلى كل حال، نحن في نفقٍ طويلٍ لا نعرف متى ينتهي.
هنا نفهم أولاً ما يسمّى في سفر الرؤيا "الرسائل السبع" إلى كنائس منتشرة في آسية الصغرى، أي تركيا الحالية. فالمسيح يوجّه كلامه إلى أساقفة أفسس وإزمير وسرديس... لكي يشجّعهم من جهة، ومن جهة ثانية لكي يلومهم بعد أن خفّت حرارة إيمانهم الأولى. كما نفهم قوّة السلطة المضطهدة تجاه رفاق الحمل الذين لا سلاح لهم إلا أعناقهم يقدّمونها للسيف وأجسامهم للجلد. ولكن برغم كل هذا، نور المسيح يضيء في البعيد، وعزاؤه يعمل منذ الآن في القلوب.
إذا عدنا إلى الكتب الجليانية (التي تحاول أن تجلو، أن تكشف مخطّط الله)، نجد أنها في أساسها متشائمة. فالعالم هو في نظرها سلبيّ ولا يمكن إلا ان يكون شريرًا. هو تحت سلطة إبليس "سلطان هذا العالم". هنا نتذكر نظرة يوحنا في إنجيله إلى "العالم" الذي تعيش فيه الكنيسة دون أن تكون منه. العالم هو موطن الشرّ الذي يسيطر بواسطة الوثنيين. هذا ما يجعل المؤمنين يُضطهدون، فلا يبقى إلا شيء واحد، هو أن يزيل الله هذا العالم ويخلق عالمًا جديدًا، يخلق "أرضًا جديدة وسماء جديدة".
ولكن قبل ذلك، سنشهد اجتياح قوى الشر. وستكون الحروب والزلازل والأوبئة والمجاعات... وكل هذا يحمله عالم شرير، لا بدّ أن يدمَّر. فماذا يبقى للمؤمنين أن يفعلوا في هذا المناخ؟ أن يهربوا من العالم. بما أن الله يفعل كل شيء، فلا يبقى لنا سوى ان نكتّف أيدينا وننتظر مجيء ملكه في الصلاة. ذاك موقف سلبي جدًا، لا يريده الرب ابدًا. فنحن حين ندعو الربّ في الصلاة الربيّة ليأتي ملكوته، فنحن نعده في الوقت عينه بأن نعمل من أجل هذا الملكوت.
إذا نظرنا إلى الامور من الخارج، رأينا أنّ سفر الرّؤيا يسير في هذا الخطّ الذي عرفته أسفار الرؤى المنحولة (لا تدخل في لائحة الكتب المقدّسة). لا شكّ في أن إبليس يهاجم العالم. إنه التنيّن، الحيّة الجهنميّة (12: 9) الذي هاجم يسوع وقد أراد أن يبتلعه في الموت، فرفعه الله إلى عرشه. وهو يهاجم أبناء المرأة، أبناء الكنيسة، ولكنهم سيغلبونه بدم الحمل وبكلمة شهادتهم (آ 11). لا شكّ في أن هناك انتظارًا لخلق جديد. ولكن تتركّز الرؤى كلّها على شخص يسوع المسيح. وهذا يبدّل كل شيء. فالأمور لا تنتهي في الهاوية، في العدم، وكأنها لم تكن. والشرّ لن تكون له الكلمة الأخيرة. فالكلمة الأخيرة هي للمسيح الذي يعيد خلق البشريّة ويجمعها ليقدّمها لله الآب.
هجمة الشرّ هي هنا. وقد بدأت منذ ذُبح الحمل. منذ عُلّق يسوع على الصليب. ولكن النّصر قد تمّ لنا. لا ليست المعركة غير أكيدة. فيسوع الحيّ قد نال لنا الغلبة. فلا يبقى لنا إلا أن نشاركه في غلبته. منذ الآن يشاركه الشهداء في مجده. "يتبعون الحمل حيث يذهب، وقد افتُدوا من بين الناس باكورة للهّ وللحمل" (14: 4). هم أبكار، لم يتنجّسوا مع النساء، أي ظلوا أمناء للرب، ولم يخونوه في عباداتهم للأوثان (هنا نتذكر أن الزنى، في العهد القديم، يدلّ على خيانة للهّ الواحد).
وهكذا يفترق تعليم يوحنا في رؤياه عن سائر الكتب الجليانيّة. هو في أساسه متفائل. فيسوع قد انتصر منذ الآن، وهو يدعونا إلى أن ننخرط في هذا العالم لنجعله موضع ملكوت الله. وإذا كانت نهاية العالم قد تمّت منذ حدث السرّ الفصحي، سرّ موت يسوع وقيامته، فقد جاء الوقت لكي نشمِّر عن ساعدنا ونكمّل ما بدأ به المسيح لكي يصبح تاريخ البشر على الأرض تاريخ الله والموضع الذي يتجسّد فيه.

2- رموز سفر الرؤيا
كل هذا دوّنه يوحنا في لغة مرمّزة. ونحن نحاول أن "نفكّ" هذه الرّموز، فيصبح النص قريبًا منا.
ونبدأ بالألوان
هناك اللون الأبيض الذي يدلّ أولاً على الغلبة والانتصار، وثانيًا على الطّهارة والنقاوة. فالمسيح القائم من الموت بدا في وشاح أبيض. هذا يدلّ على انتصاره. وكذلك نقول عن تجلّيه على الجبل (مر 9: 3). نقرأ في 3: 4 عن الذين "لم يدنّسوا ثيابهم (هي لباس العماد كما أخذوه في المعمودية). لهذا سيواكبون يسوع في ملابس بيضاء". وفي 9: 4 نرى المؤمنين "لابسين حللاً بيضاء"، وهم يُنشدون الخلاص الذي نالوه بعد أن افتداهم الحمل. وحين يقول الكاتب إنهم "بيّضوا ثيابهم بدم الحمل" فهو يعني غلبوا بدم الحمل.
وهناك اللون الأحمر. إنه يدلّ على القتل والاضطهاد، على العنف، على دماء الشهداء. نقرأ في 6: 4 عن هذا الفرس الأحمر الذي يحمل الّسيف بيده فيذبح الناسُ بعضُهم بعضا. وفي 12: 3 نرى التنّين الأحمر كالنار. دوره واضح وهو أن يضطهد المسيح وإخوته. ويرتبط باللون الأحمر الأرجوان (أحمر فاقع). ثياب الملوك. فالإمرأة التي تدلّ على بابل العظيمة (أي رومة) تجلس على وحش قرمزي. فالوحش يدل على الشرّ وهو يحمل معه القتل وسفك الدماء.
وهناك اللون الأسود الذي يدلّ أولاً على الموت. وثانيًا على الكفر (والجحود) الذي هو شكل من أشكال الموت لدى المؤمن. نقرأ في 6: 5: "ورأيت فرسًا أسود، في يد الراكب عليه ميزان". لماذا هذا الميزان؟ لكي يجعل الجوع يسيطر على الأرض. والجوع والسيف والوباء هي حاملة الموت في الكتاب المقدّس. وسوف يتحدّث النص عن الشمس التي صارت سوداء. فهي في الأصل تحمل الحياة بنورها، ولكن إذا اسودّت حملت معها الموت وصار القمر بقربها "شخصًا" يقاتل القدّيسين (6: 12). لهذا داسته المرأة برجلها (12: 1).
وبعد الألوان تأتي الأعداد
هناك أولاً رقم 7 الذي يدلّ على الملء والكمال. هو جمع 3 (رقم الألوهة) و4 (رقم الكون بأقطاره الاربعة). يرد هذا الرقم مرارًا في سفر الرؤيا، فيتحدّث عن الكنائس السبع (1: 4) التي تعني في الرمز جميع كنائس العالم. ومنها كنائسنا التي يتوجّه إليها سفر الرؤيا. ونجد في 4: 5 "سبعة مصابيح". انها تدلّ على ملء النور الذي ينبعث من العرش الإلهي. أما الأرواح السبعة فتدلّ على ملء عطايا الروح (1: 4). وإذا كان الرأس يدلّ على المعرفة، فذاك الذي له سبعة رؤوس يمتلك ملء المعرفة. وإذا كان القرن يدلّ على القوة، فهذا يعني أن الوحش قوي جدًا (13: 1).
تجاه هذا الرقم نجد "6" الذي يدلّ على النقص. فالجرار في عرس قانا الجليل هي ست ولا يمكن أن تكون كاملة بمياهها التي تُستعمل لتطهير اليهود. ستصبح كاملة بالمسيح الذي يحوِّل الماء إلى خمر تدلّ على الأعراس السماوّية.
وقد قرأنا في 13: 8 عن الوحش الذي عدده 666. لم يصل إلى 7، فلم يكن له 777 الذي هو الكمال المثلّث. إنه إنسان، وككلّ إنسان لم يصل إلى الكمال الذي يدلّ على الله.
ويرد في المجال عينه 5، 3، أي: نصف السبعة. في الأصل، نجد في دا 7: 25 (سيسلّم القدّيسون إلى يده ثلاث سنين ونصف السنة، أو زمان وزمانان ونصف زمان) وفي 12: 7 فسحة زمنيّة تدلّ على الوقت الذي فيه اضطهد أنطيوخس أبيفانيوس المؤمنين المتعلّقين بالشريعة (167- 164 ق.م.). وقد أخذ يوحنا هذا الرقم في رؤياه، فدلّ به على محنة نهاية الأزمنة والوقت الذي تعيشه الكنيسة في الأضطهاد. ونجد هذا الرقم في 42 شهرًا أو 1260 يومًا. نقرأ مثلا في 12: 6: "وهربت المرأة إلى البرية حيث أعد الله لها خلوة تُعال فيها 1260 يومًا". هذا الزمن هو زمن حياة الشعب في البرية، وحياة الكنيسة على الأرض. وفي 13:5 نقرأ أن الوحش أعطي له أن يجدّف على العلي فترة محدودة "42 شهرًا".
والعدد 12 (4×3) هو أيضًا عدد الكمال. وهو يدلّ على الأسباط في العهد القديم والرسل في العهد الجديد. ملء شعب العهد القديم، وملء شعب الكنيسة. لهذا، نحن نجد 24 شيخًا. هم يمثّلون المؤمنين في العهدين. أو قد يمثّلون حلقة الكهنة التي تخدم في بيت الرب. يتحدّث 12: 1 عن اثني عشر كوكبًا يدلّون على الرّسل الذين يزينّون كنيسة المسيح. و21: 12 عن أورشليم الجديدة التي لها اثنا عشر بابًا: هي لا تحتاج بعد إلى أبواب، فالجميع يستطيعون الدخول إليها.
ومع العدد 4 الذي يدلّ على المسكونة (رؤ 4: 6: حول العرش أربعة: يدلّون على الخلائق كلّها، على الكون) والعدد 10 (الكمال في العالم اليوناني، جمع الأرقام الأربعة الاولى، 1+ 2+ 3+ 4، أو جمع أصابع اليد)، هناك العدد 1000 الذي هو كما قلنا مكعّب 10 فيدلّ على كمال الكمال، ونستطيع أن نجمع الأرقام. 12 مع ألف. فالمدينة مربعة (رمز الكمال). قياسها: 12000 غلوة. وهناك رقم 144000 الذي هو مربعّ 12 (12×12) مع مكعّب 10 (10× 10× 10). هذا ما يدلّ على ما لا يُعدّ ولا يُحصى. هكذا يكون عدد المفدييّن، وليس بالضبط والتمام 144000 لا أكثر ولا أقل، كما يقول شهود يهوه الذين يقرأون الكتاب قراءة أصوليّة. يتوقّفون عند الحرف، وينسون أن الحرف يقتل والروح وحده يُحيي.
وبعد الألوان والأعداد، هناك الصور التقليديّة
هناك النار التي تدلّ على حضور الله كما في العليقة الملتهبة (خر 3: 2) وكما في مرور الله بين إيليا وأليشاع لكي يأخذ الأول إليه في الموت، ويبقي الثاني على قيد الحياة (2 مل 2: 11 مركبة نارية وخيل نارية فصلت بينهما). وقد تدلّ النار أيضًا على الغضب والحقد والموت. وهناك البحر الذي يدلّ على الشرّ والخطيئة. فهذا البحر لن يعود له من وجود (21: 1).
تحدّثنا عن صورة القرن التي تدلّ على القوة، والرأس التي تدلّ على المعرفة. والشعر الأبيض يدلّ على الأزلية (1: 14)، ومنطقة الذهب على السلطة الملوكيّة، والثوب الطويل على الكرامة الكهنوتيّة. هناك وحش البحر الذي يدلّ على السلطة السياسيّة في امبراطوريّة رومة. ووحش البّر على السلطة الأيديولوجيّة (النبي الكذّاب الذي يعمل في خدمة الوحش الأول). وستتحدّث النصوص عن رومة المتربّعة على سبع تلال بُنيت عليها عاصمة الامبراطوريّة. وعن الكؤوس السبع التي تحمل غضب الله وعقابه في عالم لا يريد أن يتوب.
ونجد صورًا من عالم الكتاب المقدّس والمسيحية الأولى. الكوكب يدلّ على "رئيس" الكنيسة، والمنارة على الكنيسة (1: 20). شجرة الحياة تحيلنا إلى تك 2: 9، وتربطنا بالإفخارستيا (من يأكل جسدي.. يحيَ فيّ). وإكليل الحياة نناله أولاً في العماد ثم في الاستشهاد على مثال "الأبطال" الذين يُـتوّجون بعد انتصارهم. المن الخفي هو الإفخارستيا (خر 16: 31-34)، والحصاة البيضاء تدلّ على عهد بين اثنين، بين يسوع والمؤمن. واللون الأبيض يربطنا بالعماد والغلبة. تدنيس الثياب يدلّ على الزنى والخيانة. فمن دنّس ثيابه يكون قد خان ربّه وجحد إيمانه. سفرُ الحياة هو سفر المعموديّة، فيه تُسجّل أسماء المؤمنين الذين، إن ظلوا أمناء، وُجدوا في سفر الحياة الأبدية.
العرش يدلّ على الله، لأن لا صورة لله تُرسم بأيدينا. والحمل هو يسوع المسيح، والسيف الذي في فمه يدلّ على كلمته. والروح هو الأرواح السبعة. أمّا الأحياء (أو الحيوانات في المعنى الأصلي) فتدلّ على المسكونة كلّها، بمعنى أن الأسد يمثل الوحوش، والثور الحيوانات الداجنة، والنسر الطيور، ثم الإنسان ملك الخلائق. أمّا لماذا لم يُذكر البحر، فلأنه موضع الشرّ.

خاتمة
من المفيد جدًا أن نجعل أمامنا لوحة فيها هذه الألوان والأعداد والصور التقليديّة المعروفة في الشرق القديم كما في الكتاب المقدّس. فهي تساعدنا كلّ المساعدة على فهم النص لكي نستخلص منه المعنى الروحيّ من أجل صلاتنا وتأملّنا. ولا ننسى أن نقابل النّصوص التي نقرأ مع ما في العهد القديم (حزقيال، دانيال، أشعيا) ومع ما في سائر أسفار العهد الجديد. فالخطبة الأسكاتولوجية في الأناجيل الأزائية (متى، مرقس، لوقا) قريبة جدًا مما في سفر الرؤيا. وكذا نقول عن الرسالتين إلى تسالونيكي، ففيهما ما فيهما من كلام حول مجيء الرب القريب.
كلّ هذا نقرأه وعينانا تتوجّهان إلى يسوع المسيح مبدىء إيماننا ومكمّله. فهو سيّد التاريخ. سبق له وانتصر في صلبه وقيامته. وما زال يحمل علامة الانتصار، فيقودنا في موكبه كلّ حين. لهذا نحن لا نخاف وهو الذي قال لنا: "لا تخافوا فأنا غلبتُ العالم". وقد قال لكنيسته: "أبواب الجحيم لن تقوى عليها". أجل، عالم الموت والشرّ لا يستطيع شيئًا ضدّ المؤمنين، شرط أن يعرفوا أنهم يغلبون العالم بإيمانهم (1 يو 5: 4)، لا بسلاح آخر.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM