الفصل الثامن والثلاثون :حكمة الله وحكمة العالم أو جنون الصليب

الفصل الثامن والثلاثون

حكمة الله وحكمة العالم
أو جنون الصليب

حمل بولس كلّ ما تعلّمه من حكمة العالم إلى مدينة أثينة، عاصمة الفلسفة في الشرق والغرب، وحمل أقوال الشعراء والمفكّرين، وألقى خطبة جعل فيها كلّ براعته البلاغيّة، فاعتبر أنّه بدّل هذا المحيط الذي خاف في البدء أن يواجهه. ولكن ماذا قال سفر الأعمال؟
"فلمّا سمعوه يذكر قيامة الأموات، استهزأ به بعضهم. وقال له آخرون: نسمع كلامك في هذا الشأن مرّة أُخرى" (17: 32)! عندئذ فهم أن مثل هذه اللغة التي يحبّها هذا العالم تبقى في هذا العالم، وأنه لا بدّ من البحث عن حكمة أُخرى دخلت في قلبه وهو في طريقه إلى دمشق، هي حكمة الله. وبلغة أُخرى، هذه الحكمة هي "جنون" الصليب، "حماقة" الصليب. هذا ما نجده بشكل خاص في الرسالة الأولى إلى أهل كورنتوس. ونبدأ بالحديث عن حكمة العالم.

1- حكمة العالم
في نظر بولس، هناك عالمان: العالم اليهودي والعالم الوثني. هناك طريقة تفكير لدى اليهود، وطريقة تفكير لدى اليونانيّين.

أ- حكمة العالم اليهودي
الحكمة صفة تجعل الإنسان يعرف كيف يتّخذ قراراته، كيف يعمل أعماله. يعرف أن يسيطر على الأمور من أجل حياة سعيدة لا يكون فيها تناحر بين ما نقول وما نفعل. كيف بدت حكمة اليهوديّ تجاه سرّ يسوع؟ قال عنهم بولس: هم يطلبون الآيات والمعجزات، التي تدلّ على أنّ يسوع هو المسيح بالحقيقة. نجد نفوسنا هنا في خط الأناجيل الأربعة. يخبرنا إنجيل يوحنّا عن الناس الذين رأوا "الآية التي صنعها يسوع" عندما كثّر الأرغفة. قالوا: بالحقيقة هو النبي. واستعدّوا لأن يختطفوه ويجعلوه ملكًا (6: 14- 15). ولمّا أراد يسوع منهم أن يطلبوا أكثر من طعام يزول، قالوا له: "أرنا آية حتّى نؤمن بك؛ ماذا تقدر أن تعمل" (آ 30)؟ موسى أعطانا المنّ. وأنت ماذا تعطينا؟ ويُنهي يوحنّا القسم الأوّل من انجيله: "ومع أنّه عمل لهم كلّ هذه الآيات، فما آمنوا به" (12: 37).
وتتحدّث الأناجيل الإزائيّة عن آية من السماء، عن آية يونان... لا، لا تستطيع الآية والمعجزة سوى السير بالناس إلى الإعجاب والدهشة. أمّا الإيمان، أمّا التعلّق بيسوع، فلا يكون إلاّ عبر الصليب. "من أراد أن يتبعني، فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني". هذا ما فهمه بولس الرسول، وعرف أنّ هذه الحكمة البشريّة تبقى عقيمة. والبرهان، هو أنّ اليهود لم يؤمنوا بيسوع رغم كلّ المعجزات التي أجراها أمامهم. الإيمان هو قفزة في "مجهول" لا نراه، ولكّننا نعلم أنّه في النهاية يد أب تتلقّانا كما تلقّت الابن على الصليب مع أنّه قال: "إلهي إلهي لماذا تركتني"؟ الإيمان هو تعلّق بالصليب، وإن كان لا شيء يُسند الصليب. فصليب المسيح يقف في قلب العالم ويدعونا: تعالوا إليّ. ويقول يسوع: "أنا إذا ما ارتفعتُ جذبتُ إليّ الناس أجمعين". إلى الصليب يريد أن يجتذبنا يسوع، بانتظار أن يجتذبنا إلى ارتفاع آخر في قيامته وصعوده.

ب- حكمة العالم اليونانيّ
هذه الحكمة هي بشكل عام حكمة البشر الذين يقدّرون من ينطق بالكلام البليغ. يقدّرون القويّ والوجيه، يقدّرون من يكونون معجزة لنفوسهم ولسواهم. ولكن بولس رفض مثل هذا الافتخار بالنفس، وأفهمنا أن لا افتخار إلاّ بالربّ: "من أراد أن يفتخر، فليفتخر بالربّ" (1 كور 1: 31).
ويبيّن بولس بطلان هذا الافتخار. "من ميّزك أنت على غيرك؟ وأي شيء لك ما نلته" (1 كور 4: 7)؟ لا شيء منّا سوى خطايانا وضعفنا، وكلّ ما فينا إنّما هو عطيّة من الله الذي "رفع المتواضعين وحطّ المقتدرين عن الكراسي". ويتابع الرسول: لماذا تفتخر بهذه المواهب وكأنّها منك؟ لماذا تنسى أنّك نلتها مجّانًا؟
هذه الحكمة هي بشكل خاص حكمة العالم اليونانيّ، بل حكمة بعض أنصاف المثقّفين، حكمة بعض الذين عرفوا اليسر فما عادوا يحتاجون إلى العالم المضني لكي يؤمّنوا حياتهم. صورّهم لنا لوقا في سفر الأعمال: "وكان الأثينيّون جميعًا والمقيمون بينهم من الأجانب يقضون أوقات فراغهم كلّها في أن يقولوا أو يسمعوا شيئًا جديدًا" (17: 21). وجعل بولس نفسه على مستواهم، ولكنّه ندم. مثل هذه الحكمة هي جهالة في نظر الله. يعتبر اليونانيّون أنّ الصليب حماقة وجهالة وجنون، وحكمتهم هي التي "تنجح" في النهاية. ولكن ماذا قال الله: "سأمحو حكمة الحكماء وأزيل ذكاء الأذكياء. فأين الحكيم؟ وأين العلاّمة؟ وأين المجادل في هذا الزمان؟ لقد جعل الله حكمة العالم حماقة" (1 كور 1 19-20).

2- حكمة الله

أ- حكمة الله في صليب يسوع
لا، ليست حكمة الله قوّة من البشر. فلو كانت كذلك لوجب على يسوع أن يتسلّم من المجرّب السلطان على الأرض كلّها (متّى 4: 8). وليست الحكمة كلامًا منمّقًا وبليغًا، أو جدالاً لا ينتهي بأخذ موقف يجعلنا من خراف يسوع. فالله لا يساوم ولا يحابي، وهذا ما فهمه الرسول. لهذا، فهو يضع في قلب حياتنا وفي العالم صليب ابنه. هذا الصليب يتحدّى البشريّة، وهو عقبة في وجه اليهود. ما أرادوا مسيحًا متألّمًا. أرادوه أن ينزل عن الصليب فيبيّن للوثنيّين عظمته وقدرته. لو فعل ذلك، لكانوا صفّقوا له وظلّوا على أوهامهم وضلالاتهم. ما نزل يسوع عن الصليب، بل أراد أن يسير في "الحماقة" حتّى النهاية. وهذه الحماقة هي "أنّه أحبّ خاصّته، أحبّهم حتّى الغاية" (يو 13: 1)، هي أنّه أحبّ "فبذل نفسه عن أحبّائه".
وجعل اليونانيّون شروطًا لكي يقبلوا المسيح: لا حديث عن الموت ولا حديث عن القيامة، وخصوصًا، لا حديث عن الصليب الذي يجعل "القائد" في المرتبة الأخيرة، يجعله متواضعًا وديعًا، يُفقده قوّة الجسم والعقل والصحّة والشهرة. ولكن الله دعا الجميع: دعا اليهود واليونانيّين، دعاهم إلى حمل الصليب، وأفهمهم أنّ في الصليب "قدرة الله وحكمة الله". اعتبروا أنّ الصليب ضعف، ولكن هذا "الضعف" هو أقوى من قوّة الناس. فبالصليب قهر الله الخطيئة والشرّ والموت. اعتبروا أنّ الصليب حماقة، وأرادوا أن يحكموا "بحكمتهم" على تدبير الله. ولكن هذه "الحماقة" أحكم من حكمة الناس. وفي أي حال، تظلّ حكمة العالم وفلسفته على مستوى السؤال والتساؤل والشكّ. أمّا حكمة الصليب فهي وحدها تفهمنا أنّ يسوع صار شبيهًا بنا في كلّ شيء ما عدا الخطيئة. صار بقربنا في تواضعه ووداعته. صار معنا حين حمل صليبه وسار أمامنا، فصار كلّ واحد منّا مثل سمعان القيريني كما يصوّره القدّيس لوقا في إنجيله (23: 26): "ألقوا عليه الصليب ليحمله خلف يسوع".
وفي أي حال، إلى أين وصلت هذه "الحكمة" بالبشر ؟ وصلت باليهود إلى القول: "لا ملك لنا سوى قيصر"، وهذا رغم رفضهم للحكم الأجنبي، فتحقّق كلامُ إنجيل يوحنّا: "جاء إلى خاصّته فما قبلته خاصّته"؛ ووصلت بالوثنيّين إلى أنّهم "صلبوا ربّ المجد" (1 كور 2: 8)، حين حكم بيلاطس على يسوع باسم السلطة الرومانيّة. استند اليهود إلى الشريعة وحكموا على يسوع، مع أنّ الشريعة تقود في أصلها إلى يسوع، ومع أنّ موسى "كاتب" الشريعة كتب عن يسوع (يو 5: 45-46). واستند الوثنيّون إلى القوّة الغاشمة: عندهم القلاع والسلاح والجنود، فاستعملوا هذه القوّة ليُسكتوا يسوع. ولكن قائد المئة سيُعلن عند الصليب: "في الحقيقة كان هذا الرجل ابن الله" (مر 15: 39). وبما أنّ العالم هو ما هو، له قال يوحّنا في مطلع إنجيله: كان يسوع في العالم وبه كان (خُلق) العالم. ولكن العالم رفض أن يعرفه. أجل رفض العالم أن يأخذ بمنطق الصليب وما فيه من "حماقة" تجاه "حكمته"، وما فيه من "ضعف" تجاه "قوّته".

ب- حكمة الله في الكنيسة
في بداية هذه الرسالة إلى كورنتوس، يجعلنا بولس في قلب مفهومه للرسالة، ويربط هذه الرسالة بحكمة الصليب. ويعطي المؤمنين مثلَين اختبروهما منذ بدأت البشارة في كورنتوس. الأول: ممّن تألّفت الكنيسة الأولى في كورنتوس. والثاني: كيف حمل بولس الإنجيل إلى كورنتوس، وهو الذي ما أراد أن يبني على أساس غيره. هذا هو أسلوب الله في عمله. وكلّ شيء يتأسّس على الصليب. فالكنيسة المؤسّسة على الصليب لا تسقط، وإن نزل المطر وفاضت السيول وهبّت الرياح (مت 7: 25). وإن تأسّست على غير ذلك، ستسقط ويكون سقوطها عظيمًا. هي تستطيع أن تسمع من البشر، لا من الله. هي تستطيع أن تأخذ بحكمة البشر لا بحكمة الله. ولكنّها ستسمع الرسل يقولون أمام المجلس: "أحكموا أنتم. من يجب أن نطيع"؟ وسيقول غملائيل: إنّ العمل الذي يرتكز على الله، لا يمكن نقضه، أمّا إذا استند إلى البشر، إلى حكمة البشر وفذلكاتهم، فهو سيزول وحده.
ويوجّه بولس كلامه إلى الكورنثيّين. ممّن تألّفت كنيستهم؟ من العمّال، من العبيد، من الفقراء. يعني من الضعفاء، من المحتقرين، من الذين ليسوا شيئًا. هكذا كان الصليب موضوع هزء، والمصلوب موضوع احتقار. ولكن الله قلب هذا الحكم حين أقام ابنه. وهكذا هي الجماعة في كورنتوس. الله هو الذي اختار أعضاءها. "اختار ما يعتبره العالم حماقة (وجهلاً) ليُخزي الحكماء، وما يعتبره العالم ضعفًا ليُخزي الأقوياء. واختار الله ما يحتقره العالم ويزدريه ويظنّه لا شيء، ليزيل ما يظنّه العالم شيئًا. حتى لا يفتخر بشر أمام الله" (1 كور 1: 27-29). كلّ شيء مجّانيّ من قبل الله. ونحن نتقبّله بالشكر والمديح. ونحن لا نفتخر إلاّ بجهلنا وضعفنا. وقد قال بولس: "لا أفتخر إلاّ بصليب ربّنا يسوع المسيح. به صار العالم مصلوبًا بالنسبة إليّ، وصرت أنا مصلوبًا بالنسبة إلى العالم" (غل 6: 14). هذا هو العالم الجديد الذي يفتحه يسوع أمامنا. فهمه بولس، وهو يدعو الكنيسة أن تختار هذا الطريق ولا تختار غيره.
ويعود بولس إلى نفسه يقابلها مع عدد من المبشّرين في كلّ زمان ومكان: يستعملون القوّة، أو المال، أو البلاغة والكلام المنمّق، فيسلبون قلوب السذّج. أمّا الرسول فوضع نصب عينيه وأمام المسيحيّين في كورنتوس، الصليب ولا شيء سوى الصليب: "شئت أن لا أعرف شيئًا، وأنا بينكم، غير يسوع المسيح، بل المسيح المصلوب" (1 كور 2: 2). عريُ الصلب هو الذي حمل الخلاص إلى العالم، ولا يزال يحمله حتّى القيامة والأرض الجديدة والسماء الجديدة. وعريُ الرسول أساس قوّته ونجاحه النجاح الحقيقيّ في الرسالة. أمّا الباقي فيبقى نجاحًا عابرًا مثل حبّة القمح في الأرض الصخريّة: تنبت بسرعة وتيبس بسرعة.
في هذا المجال قال بولس عن نفسه: "كنتُ في مجيئي إليكم أشعر بالضعف والخوف والرعدة" (1 كو 2: 3).
خاتمة
ذاك هو الطرح الذي قدمّّه بولس الرسول منذ البداية (1 كور 1: 8): يجب أن يبقى صليب المسيح مضمون الإنجيل. ففي كلمة الصليب تظهر قدرة الله. وهذه القدرة لا تدلّ على عنصر من عناصر البلاغ المسيحيّ، لا تدلّ فقط على التجسّد أو القيامة، بل تدلّ على الإنجيل كلّه. فلا يُرسم أمام عيون المسيحيّين إلاّ "يسوع المسيح مصلوبًا"، ولا شيء آخر. والإنجيل هو الإنجيل لأنّه كلمة الصليب. وبما أنّه كذلك، فهو تدخّل الله الحاسم في حياتنا وفي حياة الكنيسة. هذا الصليب هو "حماقة" عند الذين يسلكون طريق الهلاك، وقدرة الله عند الذين يسلكون طريق الخلاص. بالنسبة إلى الفئة الأولى، لا معنى للصليب. وبالنسبة إلى الفئة الثانية، الصليب هو المعنى كل المعنى؛ فمع أن لا معنى له في عين الهالكين، فهو يفعل كقدرة الله وحكمة الله. يبقى على الكنيسة أن تختار طريقها في خطّ التطويبات حيث الفقراء والودعاء والمتواضعون ومحبّو السلام لهم المقام الأوّل، أو في خطّ حكمة هذا العالم التي تمتدح الأغنياء والمشبعين والضاحكين، أولئك الذين يقول الناس فيهم حسنًا. عندئذ تكون سامعة للأنبياء الكذبة. ولكن هذا ليس خطّ بولس في الرسالة الأولى إلى الكورنثيّين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM