الفصل السابع والثلاثون: بولس يهودي من طرسوس

 

الفصل السابع والثلاثون

بولس يهودي
من طرسوس

"إنّ الله بنعمته اختارني وأنا في بطن أمي فدعاني إلى خدمته، وعندما شاء أن يعلن ابنه فيّ لأبشّر به بين الأمم، ما استشرتُ بشرًا ولا صعدتُ إلى أورشليم لأرى الذين كانوا رسلاً قبلي، بل ذهبت على الفور إلى بلاد العرب ومنها عدت إلى دمشق" (غل 1: 15-17).
يشكِّل هذا المقطع من حياة بولس منعطفًا يتيح لنا أن نقسمها قسمين: حياة بولس في العالم اليهودي وفي ظلّ شريعة موسى، حياة بولس المسيحي ورسول يسوع المسيح. ونستطيع القول: قبل دمشق كان لسان حاله يقول: "حياتي هي الشريعة". وبعد دمشق قال: "حياتي هي المسيح".

1- بولس في طرسوس
وُلد بولس حوالي السنة 5 مسيحية في طرسوس (كيليكية). وما يدفعنا إلى هذا القول هو أنّه كان فتى حين رُجم اسطفانس (أع 7: 58). كم أقام بولس في طرسوس؟ أيام صباه، وهو الذي أتقن اللغة اليونانية في تلك المدينة الجامعيّة. ولقد أحب المدينة التي وُلد فيها. فعاد إليها قبل أن ينطلق في رسالته (غل 1: 21؛ أع 9: 30؛ 11: 25). ولكن سفر أعمال الرسل يقول (أع 22: 1): نشأ في أورشليم، وكان له ابن أخت في أورشليم سنة 58 (أع 23: 16).
ولنسمع ما يقول هو عن نفسه: "إني مختون في اليوم الثامن لمولدي، وأنا من بني اسرائيل، من عشيرة بنيامين، عبراني من العبرانيين. أمّا في الشريعة فأنا فريسيّ" (غل 3: 5). وقال لقائد الحامية: "أنا يهودي من طرسوس، من كيليكية، وهي مدينة معروفة جدًا" (أع 21: 39). وُلد بولس إذن، في عائلة يهودية خالصة افتخرت بأصولها وتعلّقت بإيمانها. وكان الوالد حائكًا كما سيكون الابن، وكان ميسورًا، لأنّه نال لقب مواطن روماني. اسمه السامي "شاول" (أي المسؤول). ولن يتحدث سفر الأعمال عن اسم بولس الاّ بعد أن يلتقي الرسول بسرجيوس بولس في قبرص (أع 13: 9). أما في الرسائل فاسمه بولس.
بما أنّ بولس وُلد في طرسوس، فهو ينتمي إلى يهود الشتات (اليهود المشتّتون العائشون خارج أرض فلسطين). كان اليهود يعدّون مليونين في فلسطين وأربعة ملايين في المملكة الرومانية، ومليونًا واحدًا في مقاطعات بابل الشرقية. كان يهود الشتات كثيرين بسبب النمو الديموغرافي وبسبب اهتداءات الوثنيين إلى الإيمان اليهودي، وقد جعلوا أنفسهم مسؤولين عن نقل نور الشريعة إلى العالم.
اعترفت الأمبراطورية الرومانية بالديانة اليهودية، فأعفت اليهود من مشاركة رومة في احتفالاتها الوثنيّة، كما أعفت الشبّان من الخدمة العسكرية بسبب شريعة السبت. وسمحت لليهود بأن يجمعوا ضريبة للهيكل وينظّموا حياتهم الداخليّة في جماعات لها محاكم خاصة تقضي بحسب شريعة موسى.

2- بولس المضطهد
يقول سفر الأعمال (8: 1-3): "وكان شاول موافقًا على قتل اسطفانس. وبدأت كنيسة أورشليم تعاني اضطهادًا شديدًا، فتشتّت المؤمنون ما عدا الرسل... وكان "شاول"- أي بولس- يسعى إلى خراب الكنيسة، فيذهب من بيت إلى بيت، ويُخرجُ منه الرجال والنساء ويُلقيهم في السجن". ولن يكتفي بولس بأورشليم، بل سينطلق إلى دمشق مع رسائل توصية ليعتقل الذين على مذهب الرب (أع 9: 1-2).
أجل، يقول بولس عن نفسه، إنّه اضطهد كنيسة الله (1 كور 15: 9، غل 1: 13، 23) بلا رحمة، وحاول تدميرها.
ونلاحظ أولاً أن "شاول" لا يضطهد كل المسيحيين، بل الهيلّينيين منهم أمثال اسطفانس. فالمسيحيون الذين هم من أصل يهودي -الرّسل الإثنا عشر مثلاً- ظلّوا يتردّدون إلى الهيكل. ولماذا اضطهد الهيلّينيين؟ بسبب مواقفهم الجذرية (رسل 6: 13). اتّهم اسطفانس اليهود بأنّهم يقاومون روح الله. وشجب شعائر العبادة في الهيكل. وأعلن أنّ يسوع هو النبيّ الحقيقي الذي وعد به موسى. أما الخصوم فعاملوا اسطفانس كمضلّل للشعب، وعاقبوه بحسب ما ورد في سفر التثنية (13: 2-6).
ترد في نصوص بولس كلمة "غيرة" (غل 1: 14؛ فل 1: 6). نعود إلى نصوص العهد العتيق لنفهمها. فالله هو الإله الغيور الذي لا يرضى أن يزاحمه إله على قلوب مؤمنيه. إنّ الرب يفرض على المؤمن تعلُّقًا به، والغيرة تدلّ على موقف المؤمنين الحقيقيّين الذين يذهب بهم الإيمان إلى حدّ التعصّب. قال إيليا: "غرت غيرة الرب لأنّ بني إسرائيل تركوا عهدك" (1 مل 19: 10).
وتتحدّث التوراة عن غيرة فنحاس (عد 25)، وعن متيّا والد يهوذا المكابي (1 مك 2: 24) وعن جماعة الغيورين الذين يهيّئون لمجيء المسيح بالخضوع للشريعة وتطهير الأرض المقدّسة من كل ما ينجّسها. وكان "شاول" صاحب غيرة لدينه، فاضطّهد تبّاع يسوع الناصري. لماذا؟
كيف يمكن أن يكون يسوع المصلوب المسيح المنتظر؟ ومن يعلن يسوع مسيحًا، يجدّف على الله. انّ السلطات الدينية حكمت على يسوع، فكيف يقوم أناس يتحدّثون بعد عن يسوع؟ وهناك سبب آخر يجعل بولس مضطهدًا: لقد أدرك بعبقريّته اللاهوتية نتائج موقف اسطفانس تجاه الهيكل. انّه يهدّد نظام الشريعة ومكانة شعب اسرائيل في العالم. لقد بدت المسيحية لبولس جحودًا ونكرانًا للشريعة، فلا بدّ من اقتلاعها.

3- روحانية بولس اليهودية
تدخل روحانيةُ بولس في إطار الرّوحانية اليهوديّة في زمانه. وها نحن نبيّن عناصر هذه الروحانية:
يعتبر بولس نفسه بين الذين هم يهود بالولادة (غل 2: 15)، لا بين الوثنيين، هؤلاء الخطأة. ولكنّها المرة الأولى يسمّي نفسه بهذا الإسم. أما العبارات التي يفضّلها فهي: "من قبيلة بنيامين"، "من نسل ابراهيم"، "من شعب اسرائيل"، "عبراني ابن عبراني". كل هذا يعني أنّه ينتمي إلى شعب الله، إلى هذا الشعب الذي به ارتبط "التبنّي والمجد والعهود والشّريعة والعبادة والمواعد والآباء" (روم 9: 4-5). وقد اتّخذت حياته منحى خاصًا في العالم اليهودي بصفته فرّيسيًا مع ما تعنيه هذه الصفة من ارتباط بالشريعة (فل 3: 5). ولقد شدّد على الورع والحمية والدقة التي تحلّى بها، فصار بلا لوم في البرّ الذي تقتضيه الشريعة (فل 3: 6). وأعلن أنّه تجاوز أكثر أترابه وبني قومه بغيرته وحمّيته على سنن الآباء (غلا 1: 14)، وبسبب هذه الغيرة صار مضطهدًا للكنيسة.
ونترك هذه الذكريات الخاصة، لنقرأ ما يقوله بولس عن الواقع اليهودي الذي يدلّ على يقينه الروحي قبل أن يلتقي الرب على طريق دمشق. هناك الكلام الذي يوجّهه بولس إلى اليهودي (روم 2: 17-27) الذي يتّكل على الشريعة، ويفتخر بالله، ويعتبر أنّه يعرف مشيئة الله تمامًا وأنّه قائد للعميان ونور لمن هم في الظلام ومؤدّب للأغبياء ومعلّم للبسطاء، لأنّ له في الشريعة كمال المعرفة والحقيقة.
يشدّد هذا النص في رسالة بولس إلى الرومانيين، على الشريعة، فيذكّرنا بنظرة اليهودي إلى نفسه وبالتالي إلى الوثني، وينبّهنا إلى ضرورة ممارسة كل فرائض الشريعة (غل 3: 10؛ روم 2: 25).
وهناك أمور أخرى ترافق الشريعة في العالم اليهودي: الختانة، العهد، العبادة، الهيكل، أورشليم. لا شكّ أنّ مفهومها سيتحوّل في المسيح. ولكن لا ننسى أنّه كان لها تأثيرها البليغ على بولس السائر في تعليم موسى. وهناك أمور أخرى تحتفظ بقيمتها مثل الأسفار المقدسة وأقوال الله التي اؤتمن عليها اليهود (روم 3: 12) وهناك الغيرة من أجل الله التي تدفع كل بني إسرائيل إلى الرسالة (روم 10: 2)، والتي تظلّ في قلب حياة بولس. إنّ روحانية بولس اليهودية لا تنفصل عن روحانيّته كمؤمن رسول. وان هو تكلم عن حياته اليهودية بصيغة الماضي، فهو يريد أن يرذل تصرّفًا قديمًا تعدّاه: "سمعتم بسيرتي الماضية في اليهودية، وكيف كنت اضطهد كنيسة المسيح" (غل 1: 13) كما يرذل طريقة تفكيره في البر: "لا أتبرّر بالشريعة بل بالايمان بيسوع المسيح" (فل 3: 9). ولكنه يعلن: الله لم ينبذ شعبه. فهناك بقية حسب اختيار النعمة وبولس هو من هذه البقية (روم 11: 1-5).
أجل تخلّى بولس في روحانيته اليهودية عن أمور تجاوزها وَحْيُ المسيح، ولكنّه سينطلق من هذا الوحي ليتعمّق في هذه العلاقة الفريدة التي ربطت شعب العهد العتيق بالله والتي كانت قمّتها في يسوع المسيح الذي جمع في شخصه أقوال التوراة وتطلّعات الشعب إلى خلاص تام وكامل.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM