الفصل الثاني والثلاثون :الظواهر الكونيّة ورمزيّتها

الفصل الثاني والثلاثون

الظواهر الكونيّة ورمزيّتها

 

إعتاد الناس منذ قديم الزمان أن يروا في الطبيعة عمل الله الدائم. فالربّ حاضر في السماء والأرض، في الشمس والقمر والكواكب، في البرق والرعد، في الرياح والمطر والبرد. صارت الشمس الهًا وكذلك القمر، وألّهت الكواكب. واعتُبر كسوف الشمس والقمر علامة على حضور الله وعمله. وسمع الكثيرون منا الشيوخ يقولون: "قدوس (يا الله)" حين يلمع البرق ويزعق الرعد. وفي جبالنا، ما زالوا يسمّون الأرض التي لا تروى بوسائل الري، بل تنتظر المطر، أرض بعل، أي أرض يسقيها "الإله" بعل، إله المطر.
في هذا الإطار وُلد الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد، واستعمل لغة أبناء الشرق بعد أن نقّاها من كل شرك وعبادة أوثان. فلا خالق إلاّ ربّ السماوات والأرض، ولا إله الا الله الواحد في العهد القديم، والإله الثالوث في العهد الجديد. لهذا، فجميعُ "الالهة" التي يعبدها الناس ليست بشيء. هي باطل. هي عدم. وجميع الأصنام هي خشب وحجر وفضّة وذهب. في هذا الجوّ تصبح الطّبيعة بكل ظواهرها في يد الله يحرّكها كما يشاء. يقول مت 5: 45: "يُطلع شمسه على الاشرار والصالحين، ويرسل مطره على الأبرار والاثمة". ويقول عن الآب إنه يلبس عشب الحقل أجمل لباس (6: 30)، ويُطعم طيور السماء التي لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع في الأهراء (6: 26). تلك هي قدرة الله وعنايته في الكون، وهي أمر نعتبره عاديًا مع أنه معجزة مستمرّة. غير أنّنا نتوقّف في هذا المقال عند معطيات لا تظهر دائمًا، ولهذا تلفت نظرنا، بل تدعونا دعوة الإيمان. ونذكر هنا ثلاثة نصوص وردت في إنجيل متّى: مجيء المجوس إلى يسوع، والكوكب الذي ظهر لهم في السماء ساعة ميلاده. الشمس التي تظلم والقمر الذي يمنع ضوءه في "منتهى العالم". والأرض التي تتزلزل والصخور التي تتشقّق فتنفتح ساعة أسلم يسوع الرّوح ودخل في القيامة وأدخل معه البشرية فيها.

1- زيارة المجوس ليسوع (مت 2: 1-12)
"ولما وُلد يسوع في بيت لحم اليهودية أيام هيرودس الملك، أقبل مجوس من المشرق إلى أورشليم" (آ 1) وما الذي جاء بهم؟ قالوا: "رأينا نجمه (= يسوع، ملك اليهود) في الشرق ووافينا لنسجد له" (آ 2).
حُبل بيسوع في حشا مريم دون علاقة زواجية. أمر محيّر. لهذا كان جواب من السماء في حوار بين الملاك ويوسف. ووُلد يسوع في مذود حقير، مع أنه الملك، وها هو "النجم" (أو الكوكب) يرسله الله علامة من السماء. ما يريد الانجيليّ أن يبيّنه في هذه الولادة، هو عداوة هيرودس التي ستظهر في ما بعد عند موت يسوع. وتجاهل الكتبة والفريسين لهذا المولود الجديد بانتظار التآمر عليه وقتله. وأخيرًا، مجيء الوثنيين من بعيد. كيف عرف اليهود أن يسوع يُولد في بيت لحم؟ قرأوا الكتب المقدسة. وكيف عرف الوثنيون؟ نظروا إلى الطبيعة فاكتشفوا ربّ الطبيعة. وهذا ما فعله هؤلاء المجوس. قادهم هذا النجم إلى يسوع.
انطلقوا من نجم ظهر لهم. اعتبروا أنه يدلّ على ملك. هذا النجم، أو بالأحرى ذاك الذي يدلّ عليه النجم، هو "كوكب من يعقوب" (عد 24: 17)، قد أنار قلوبهم ووجّه خطاهم. ثم سألوا الذين حملوا الوحي في العهد الأول، فانطلقوا إلى بيت لحم. وفي النهاية، استغنوا عن كلام البشر كما استغنوا عن النجم. كلّمهم الرب في الحلم، في ظلام الليل، فعادوا إلى بلادهم مبشّرين.
نشير هنا إلى أن النجم هو "اله". ثم صار النجم "الملك المؤلّه". أمّا هنا، فالنجم سراج يضيء طريق المجوس التي تسير في ظلمة الوثنية، فيصل بهم إلى من هو نور العالم. وقد اعتدنا أن نضع فوق المغارة "نجمة" تذكّر بهذا الإنجيل. نترك الطابع المدهش، ونعرف أنّها ترمز إلى المسيح الذي هو شمس البرّ. انطلق الكاتب من أمور عرفها الشرق، ولكنّه سوف يتركها من أجل لقاء بين العالم الوثني المتعبّد للكواكب ويسوع المسيح الذي خلق السماوات والارض وكلّ ما فيها.

2- منتهى العالم (24: 27-31)
إن الكوكب ظاهرة كونيّة بسيطة. رآه "المنجّمون" وما كانوا قد رأوه قبل ذلك الوقت. أما هنا "فنرى" البرق، وهذا أمر طبيعي، ولكن، في ارتباط مع "ضيق تلك الايام": "تظلم الشمس، ويحبس القمر ضوءه، وتتساقط الكواكب من السماء، وتتزعزع قوّات السماء. وعندئذ تظهر علامة ابن البشر".
نبدأ فنجعل هذه الآية في إطارها الواسع الذي هو الفصل الرابع والعشرون من إنجيل متّى. خراب أورشليم يدلّ على نهاية عالم هو العالم اليهودي. وهذه النهاية هي رمز إلى نهاية أخرى: مجيء ابن الإنسان في حياة الكنيسة وفي حياة كل واحد منا. فما هو الموقف الذي يجب أن نقفه؟ السهر والانتظار. أما السهر فلا يكون في الخوف من نهاية لا نعرف متى تكون. ولا يكون في أن نكتّف أيدينا وننتظر على جبل كما تفعل شيع متعدّدة في هذه الأيام. السهر يكون بأن يمتلئ سراجنا بزيت الأعمال الصالحة. لا نكتفي بان نهتف "يا رب، يا رب"، بل نعمل. والسهر يكون بأن نتاجر بالوزنات التي أعطيت لنا، بالمواهب التي نجعلها في خدمة القريب والمجتمع والكنيسة. ولا يكون بأن نخفي الوزنة في الأرض ونتشبّه بالعبد البطال. والسهر يكون بأن نرى وجه يسوع في الجائع والعطشان والسجين. وحين يجيء ابن البشر في مجده يقول لنا: "تعالوا يا مباركي أبي، رثوا الملك المعدّ لكم من قبل إنشاء العالم" (25: 34).
هي آية من الكتاب واحدة بين آيات أخرى عديدة، أوردها متّى في خط الأنبياء. وسنقرأها أيضًا في الأناجيل وفي سفر الرؤيا ورسائل القديس بولس. نقرأ في آش 13: 10: "كواكب السماء ونجومها لا تعود ترسل نورها. والشمس تُظلم عند طلوعها، والقمر لا يضيء بنوره". ويقول اش 34: 4 إن "السماوات تطوى كورق البردي ويسقط جندها جميعًا سقوط أوراق التين". نحن هنا أمام صورة تدلّ على قدرة الله وعظمته. فهو الذي يلعب بالتمساح كما يلعب ولد مع عصفور. الله يتدخّل في التاريخ، ولن يكون تدخّله على مستوى البشر وحسب، بل يصل إلى الكون كله. الشمس كائن ثابت، وكذلك القمر. نقرأ مثلا في مز 89: 38: "نسله يكون إلى الأبد، وعرشه كالشمس أمامي. مثل القمر يثبت إلى الدوام، ويبقى في الفضاء آمنًا".
الشمس تدوم، والقمر ثابت، والسماء لا تتزعزع. ولكن حين يجيء الرب، لن يبقى شيء واقفًا. كله يتبدّل، كله يخاف حين يرى ابن الإنسان آتيًا على سحاب السماء. فإذا كان الكون الجامد يخسر قوّته وعظمته أمام قوة وعظمة الرب الآتي، فماذا يفعل الانسان؟ ألا يعود إلى الرب بالتوبة؟ ألا يتعلم انتظار تلك السّاعة التي لا يعرفها الملائكة، فكيف يعرفها البشر؟

3- موت الرب وقيامته (مت 28: 1ي)
لما مات يسوع، أطلق صوتًا جهيرًا... وكانت نتائج على مستوى الهيكل: تمزّق حجاب الهيكل. هذا يعني أنه لم يعد شيء يحجب الربّ عن عيون المؤمنين. في موت يسوع، صار الله حاضرًا في البشريّة، فما عادت تحتاج إلى ذبائح وطقوس تتكرّر. لقد صارت ذبيحتها ذبيحة يسوع الفريدة. من حيث إنه مات فقد مات مرّة واحدة. ومن حيث إنه حيّ فهو حيّ إلى الأبد. وهو يتشفّع إلى الآب من أجلنا.
وبعد ذلك حدثت زلزلة: "تشقّقت الصخور، تفتّحت القبور". ويقول متّى أيضًا في حديثه عن القبر الفارغ: "وإذا زلزال عظيم". نشير هنا إلى أن الزلزال يدلّ على تدخّل الله بشكل عجيب. في موت يسوع تدخّل الله، وبدأت القيامة. كان الموتى تحت التراب أو في نخاريب الصخور. تزلزلت الأرض، فانفتحت القبور، وخرج منها الموتى الذين انتظروا يسوع ليسيروا في ركابه. قد يكون حدث أمر خارجي. قد يكون انشقّ الصّخر كما نراه حتى اليوم في كنيسة القيامة. ولكن أبعد من الزلزال المادي، هناك الزلزال الروحي. تحرك الكون كله. فماذا يفعل الإنسان؟ كانت ردّة الفعل رائعة عند قائد المئة والحرّاس الذين معه. "رأوا" لا بعين الجسد فقط، بل بقلبهم وروحهم. رأوا عمل الله، أحسّوا بحضور الله. لهذا "خافوا جدًا وقالوا: في الحقيقة كان هذا ابن الله" (مت 27: 54). أما زلزلة القيامة، فجعلت الحرّاس يرتعدون ويُصبحون كالأموات. راحوا في طريق الموت لا في طريق الحياة، لان الله بحضوره لا يريد موت الخاطئ بل عودته عن ضلاله. هنا نتذكّر ما حدث لبولس وسيلا اللذين كانا في سجن فيلبي (أع 16: 26): "حدثت بغتة زلزلة عظيمة، حتى تزعزعت أسس السجن". أجل، الرب حاضر هنا بقدرته التي تجعل الأرض ترتعش. فلماذا يخاف المؤمنون؟ بل إن الوثنيين سوف يتوبون: "خرّ (السجّان) مرتعدًا، وقال: ماذا علّي أن أعمل لأخلص"؟

خاتمة
ذكرنا هذه الظواهر الكونيّة، من كوكب يشعّ في السماء، وشمس تظلم، وأرض تتزلزل. كل هذا يدلّ على تدخّل الله في الكون... كان أشعيا في الهيكل فتزعزعت الأسس. وكان بولس وسيلاً في السجن، فتزعزعت أسس السجن. وصلّى الرسل بعد خلاص بطرس ويوحنا "فتزلزل الموضع الذي كانوا مجتمعين فيه" (أع 4: 31). الكون كلّه يتحرّك وهو الثابت، والخلائق تتحوّل وتتبدّل، ولكنه الله هو هو من الأزل إلى الأبد. والإنسان بين يديه. يبقى علينا أن لا نتوقّف عند هذه الظواهر بما فيها من معجز ومدهش، ولا نخرج منها، بل ننطلق منها لنكتشف حضور الله وقدرته في العالم وفي التاريخ، هو الألف والياء، البداية والنهاية. كل شيء به وفيه، فله المجد إلى أبد الدهور.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM