الفصل الثلاثون المعطيات الجغرافية معطيات لاهوتية

الفصل الثلاثون
المعطيات الجغرافية
معطيات لاهوتية

حين نقرأ إنجيل متّى، يلفت انتباهنا ترتيبٌ خاص أخذه من إنجيل مرقس، هو الترتيب الجغرافي. ونحن من هذا القبيل نستطيع أن نقسم هذا الإنجيل ثلاثة أقسام ترتبط بالأمكنة التي فيها مارس يسوع رسالته. القسم الاول، رسالة في الجليل (مت 4: 12-15: 20= مر 1: 15-7: 23). القسم الثاني، رسالة على حدود الجليل (مت 15: 21-18: 35= مر 7: 24-9: 50). والقسم الثالث صعود إلى أورشليم (مت 19: 1-20: 34= مر 10: 1-52). أما يمكن أن يكون يسوع خرج من الجليل الا بعد وقت غير قليل؟ أما يكون قد صعد إلى أورشليم سوى مرّة واحدة؟ بل هو صعد أكثر من مرّة كما يقول إنجيل يوحنا. فاذا كان الأمر هكذا، لماذا قسم متّى (في خط مرقس) رسالة يسوع حسب تقسيمات جغرافية محدَّدة؟ لأنه وإن انطلق من الجغرافيا التي عرفها يسوع خلال رسالته، فقد أراد أن يعطي هذه الجغرافية بُعدًا لاهوتيًا. هذا ما سنحاول أن نكتشفه في هذا المقال.

1- الجليل
ما هو الجليل في المعنى الجغرافي؟ هو منطقة، دائرة، في شمال فلسطين. يحدّه سهل يزرعيل ونهر الأردن وصور وصيدا. أقامت فيه قبائل نفتالي واشير وزبولون. لم يُعرف ككيان جغرافي وسياسي إلا في حقبة بعد المنفى، أي خلال الحكم الفارسي ثم اليوناني والروماني. قد نستطيع القول إنه لم يكن لهذه المنطقة مفهوم جغرافي، بقدر ما لها مفهوم سياسي وهي أرض الثورات. وفي هذا تحدّث لو 13: 1 عن "الجليليين الذين مزج بيلاطس دماءهم بدماء ذبائحهم". ولا ننسى أن الثورة اليهودية على رومة، بدأت في الجليل وامتدّت إلى أورشليم التي اُخذت سنة 70 ب.م.
لم تعرف هذه المنطقة نبيًا عل مرّ تاريخها (يو 7: 52: لا يقوم نبي من الجليل)، فكيف يكون يسوع نبيًا وهو من الجليل؟ هذه المنطقة التي تميّزت بلهجتها الخاصة (مت 26: 73)، هذه المنطقة التي خرج منها مؤسّس "الغيورين" (أع 5: 37)، هذه المنطقة التي خرج منها معظم الرسل بحيث سمّوا "جليليين" (أع 2: 7)، هذه المنطقة التي أعطت اسمها أيضًا لبحيرة جنسارت، وانفصلت عن السامرة، اعتُبرت منذ القديم "مقاطعة الأمم" بسبب المزيج السكّاني الذي فيها. وقد قال فيها أشعيا منذ القرن الثامن: "في الزمان الأول أهينت أرض زبولون ونفتالي. وأما في الزمان الأخير فتُكرم تلك الأنحاء ما بين طريق البحر وعبر الأردن وجليل الأمم" (8: 23). وسيستعيد متّى هذا النص الاشعيائي ويحمّله معنى جديدًا في خطّ المعنى القديم.
ذكر متّى الجليل كموضع رسالة يسوع. وتحدّث عن المدلول النبوي لهذه الرّسالة. ففي الجليل، توجّه يسوع بكلامه إلى القبائل التي تقيم في هذه المنطقة والتي تهدّدها ظلمةٌ آتية من العالم الوثني. في عهد الاشوريين، جاءت الحرب فتركت وراءها الدمار والظلمة بعد أن أفرغت الأرض من سكانها. واليوم، جاء المسيح يحمل النور إلى منطقة سيذكرها الإنجيلي مرارًا.
أقام يسوع، بعد عودته من مصر، في نواحي الجليل (2: 22). وخلال عماده جاء من الجليل إلى الأردن (3: 13)، لا ليقيم بقربه كما فعلت جماعة قمران، ولا ليبشّر هناك ويعمّد على مثال يوحنا المعمدان. غير أنه سيعود إلى الجليل (4: 12)، ومنه يطلق رسالته: "توبوا، فإن ملكوت السماوات قريب" (4: 17). ويعطينا متّى ملخّصًا لهذه الرّسالة الجليليّة قبل خطبة الجبل (4: 23) وبعدها (9: 35) فيقول: "وكان يطوف في الجليل كله، يعلّم في مجامعهم، ويبشّر بإنجيل الملكوت، ويشفي كل مرض وكل سقم في الشعب".
أرض الجليل هي الأرض المنفتحة على يسوع وعلى الإنجيل. وجمهورها سوف يتبع يسوع بالآلاف. منذ خطبة الجبل (5: 1)، حتى المعجزات العشر التي بدأ خبرها بهذه العبارة: "تبعته جموع كثيرة" (8: 1)، حتى تكثير الارغفة (14: 21). ومن الجليل سينطلق يسوع في رسالة إلى نواحي صور وصيدا (15: 21) حيث سيشفي ابنة المرأة الكنعانية، ويطعم أربعة آلاف وثني (15: 21) كما سبق له وأطعم خمسة آلاف يهودي (14: 21). وكان قد سبق له وعبر البحيرة، فوصل إلى المدن العشر، إلى تلك المناطق الوثنية، فشفى مجنونَي الجدريين (8: 28-34).
من الجليل، انطلق يسوع في رسالته. ومن الجليل سوف يُطلق تلاميذه. دعاهم "فمضوا إلى الجليل". وهناك قال لهم: "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس"(28: 16، 19). كان بالإمكان أن يحصر التلاميذ عملهم بين الخراف الضالّة في أرض إسرائيل (10: 6)، أن يحتفظوا بالخبز للبنين، لأهل البيت، لا للغرباء، للكلاب الذين يكونون خارج البيت (15: 26-27). ولكن هذا لا يمكن أن يتمّ في الجليل، الذي هو أرض الانفتاح على العالم الوثني.

2- أورشليم
ستكون أورشليم أرض الانغلاق. هي ترفض يسوع، ترفض الخروج من عزلتها والذهاب إلى الآخرين. هذا ما نكتشفه بشكل خاص في سفر أعمال الرسل. فالكنيسة الأولى التي سجنت نفسها أولاً في العلّية ثم في أورشليم، خافت حين رأت الإنجيل يصل إلى السامرة. أما قال لهم يسوع: "لا تدخلوا مدينة للسامريين" (متّى 10: 5)؟ وخاصمت بطرس حين بشّر كورنيليوس الوثني مع أنه من خائفي الله، والسامعين لشريعته، والعاملين بوصاياه. أما قال يسوع أيضًا: "لا تسلكوا طريقًا إلى الوثنيين" (متّى 10: 5)؟
أورشليم التي يحجّ إليها المؤمنون ثلاث مرّات في السنة، التي جاءها "يوم العنصرة" "رجال اتقياء من كل أمّة تحت السماء" (أع 2: 5)، لا تعرف أن تستقبل يسوع الذي "جاءها من الجليل فتبعته جموع غفيرة" (مت 19: 2). جاء إليها "الآتي باسم الرب" (مت 21: 9)، فأرادت أن تسكت الاولاد الذين "يهتفون في الهيكل ويقولون: هوشعنا لابن داود " (21: 15).
أورشليم هذه تراقب يسوع منذ البداية، منذ شفاء مخلّع كفرناحوم (9: 3). وقد بيّن متّى كيف أن هذا التجاهل ليسوع بانتظار رفضه، بدأ منذ الطفولة. سأل المجوس أين يولد الملك. أجابهم رؤساء الكهنة وكتبة الشعب: "في بيت لحم اليهودية" (2: 5). عرفوا بمولده، ولكنهم لم يهتمّوا له. إنّهم سيكونون مثل هذه التينة التي تحمل شريعة الله. لم تثمر فيبست، وسوف يقول اليهود عن نفوسهم: دمه علينا وعلى أولادنا، ويرسلون يسوع إلى الموت. سيهتفون: اصلبه. ويفضِّلون على هذا الملك الضعيف، قيصَر رومة.
هكذا استقبلت أورشليم ربّها. استقبلته معلّقًا على الصليب وموضوعًا في قبر. واستعدت مسبقًا لرفض قيامته. "تذكّرنا أن ذلك المضّل قال وهو بعدُ حي: إني أقوم بعد ثلاثة أيام. فمُرْ إذن بضبط القبر إلى اليوم الثالث" (مت 27: 63-64). ولكن يسوع قام. فاجتمع رؤساء الكهنة والشيوخ وأعطوا الجند مالاً كثيرًا قائلين: "قولوا إن تلاميذه جاؤو ليلاً وسرقوه ونحن نيام" (28: 12-13).
لم يكن دور أورشليم كبيرًا في حياة يسوع كما نقرأها في إنجيل متّى. فهناك بضعة فصول، وكلها جدالات عنيفة انتهت بالويلات القاسية على الذين يبدون "كالقبور المكلّسة والناس يمشون عليها ولا يعلمون". وكانت النهاية "كآبة" لدى يسوع وهو الذي عمل ما لا يُعمل من أجل المدينة المقدّسة. لهذا قال باكيًا: "يا أورشليم، يا أورشليم! يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها. كم مرّة أردت أن أجمع بنيك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا. فهوذا بيتكم يترك لكم خرابًا" (23: 37).
في الواقع ستدمّر أورشليم فيعتبر الإنجيلي أن هذا كان عقابَها، لأنها لم تعرف ما هو السلام الذي يُرسل إليها. خربت أورشليم سنة 70 ب.م. على يد الجيوش الرومانية. ولكن الكنيسة تركتها، فانطلقت الرسالة مع بولس الرسول من انطاكية لا من أورشليم. وفي انطاكية سيُدعى التلاميذ للمرة الأولى "مسيحيين" باسم يسوع المسيح. أما أورشليم فتركها المسيحيون بانتظار أن يتركها اليهود وينظّموا صفوفهم في أرض الجليل

خاتمة
من الجليل إلى أورشليم، من أرض الانفتاح على يسوع وتقبّل كلامه كما الزرع في الأرض، إلى أرض الانغلاق والرفض الذي يقود إلى قتل الانبياء والحكماء والكتبة (23: 34)، إلى قتل الابن نفسه (21: 38-39). من أورشليم التي انغلقت على نفسها ورفضت الخروج من عزلتها، إلى الجليل الذي انفتح على الامم الوثنية وحمل إليها الإنجيل. أجل، لسنا في إنجيل متّى (وفي إنجيل مرقس أيضًا) أمام مفهوم جغرافيّ وحسب، بل نحن أمام مفهوم لاهوتيّ سيجعلنا ننسى الجغرافيا. ننسى أننا في أرض فلسطين. فتصبح جماعاتنا وكل واحد مّنا أورشليم أو الجليل. ننفتح على الرب وندائه أو نرفض. لا نريد أن نذهب إلى السامريين ولا إلى الوثنيّين، بل نعتبر نفوسنا الشعب المختار والمخلّصين الوحيدين. فقد يجد يسوع عند قائد مئة وثني "إيمانًا لم يجد مثله عند أحد في إسرائيل" (8: 10). وتكون "الكلبة الصغيرة" التي لا يحقُ لها سوى الفُتات، ابنةَ البيت بسبب إيمانها العظيم (15: 28). وقد يأتي "الآخرون من الشرق والغرب ويتّكئون مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب في ملكوت السماوات، ويُلقى أبناء الملكوت في الظلمة البرانية" (8: 11-12). كل هذا يطرح سؤالاً علينا نحن المؤمنين. ويطلب من كل واحد منا جوابًا.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM