الفصل السابع والعشرون :أعطني ولدًا والا أموت

 

الفصل السابع والعشرون

أعطني ولدًا
والا أموت

تلك كانت صرخة راحيل لزوجها يعقوب بعد أن طال زمن الزواج ولم تُنجب أولادًا: "أعطني ولدًا وإلاّ أموت". فاحتدَّ يعقوب وقال: "هل أنا مكان الله؟ هو الذي حرمك ثمرة البطن" (تك 30: 1-2). أما رفقة زوجة اسحاق، فصلّى زوجها من أجلها "لأنها كانت عاقرًا. فاستجاب الرب له وحبلت رفقة" (تك 25: 21-22). وكان لها ولدان يعقوب وعيسو. وفي بداية الكون، حين حبلت حواء، أم الاحياء، التي تمثّل كل أم، حين حبلت وولدت قايين، قالت: "رزقني الرب ابنًا" (تك 4: 1).
الولد هو ثمرة الزواج، ولهذا تطلبه كل امرأة، ويرجوه كل رجل لئلاّ يزول اسمه من على وجه الأرض.

1- الزواج في مخطّط الله
حين خلق الله الكون، خلق الإنسان رجلاً وامرأة، وقال لهم: "انموا واكثروا واملأوا الأرض" (1: 28). باركهم الله، وبركته تظهر بشكل خاص وعلى المستوى المادي، بالخير الكثير وبالعمر الطويل، وخصوصًا بالاولاد العديدين. ولما اسّس الرب "سر" الزواج، ودعا الرجل إلى أن يترك أباه وأمه ويلزم امرأته، كان هدفه أن لا يعيش الإنسان وحده: يكون الرجل بقرب المرأة، ويكون الأولاد ثمرة حبّهما. على هذا الاساس سمّى الرجل امرأته حواء، لأنها تعطي الحياة، أو بالأحرى تحمل في حشاها الحياة.
وعرف الرجل المرأة، عرف آدم حواء، وكلُّ إنسان هو آدم وكل امرأة هي حواء. وكان قايين الذي يمثّل أهل الحضر، أي أولئك الذين يعيشون في القرى والمدن، يعملون في الزراعة. وكان هابيل الذي يمثّل أهل الوبر، أي الذين يقومون بعمل رعاية الخراف والجمال. ونما هذان العالمان، فقال الكتاب: "وبدأ الناس يكثرون على وجه الأرض" (تك 6: 1). وسوف يقوم الكاتب بإحصاء البشريّة وجعلها في ثلاثة أسماء: سام، حام، يافث، وذلك قبل أن تتشتّت على وجه الأرض كلها (تك 11: 9).
يتزوج الرجل والمرأة أول ما يتزوجان ليكون لهما أولاد. ويزوّج الرجل ابنه لكي يكون له نسل يذكر اسمه. ولقد كان الاهتمام بالأولاد مسيطرًا بحيث حصلت تجاوزات على مستوى وحدة الزواج، على مستوى الأمانة المتبادلة بين الرجل والمرأة. فنرى الرجل يتزوّج أكثر من امرأة، ولا سيَّما إذا كانت المرأة الأولى عاقرًا. أو هو يذهب إلى خادمة امرأته فتتعزّى المرأة بولد في البيت. هذا ما فعل ابراهيم مع هاجر. قالت سارة لابراهيم زوجها: "الرب منع عني الولادة، فاذهب إلى جاريتي لعلّ الرب يرزقني منها بنين" (تك 16: 2). وهكذا وُلد اسماعيل. وسوف تتبنّى كل من راحيل وليئة أولادًا من جاريتيهما، وتعتبرانهم أولادهنّ.
نشير هنا إلى خطّ في الكتاب المقدّس يتحدّث عن المرأة الواحدة والرجل الواحد. "يترك الرجل أباه وأمه ويلزم امرأته، فيصير الإثنان جسدًا واحدًا" (تك 2: 24). ليسوا هم ثلاثة أو أربعة أو أكثر، بل اثنان كانا في الأصل واحدًا قبل أن ينفصلا ليتميّز الواحد عن الآخر، فيُغني الرجل امرأته بما عنده من مزايا الرجولة، وتُغني المرأة زوجها بما عندها من صفات الأنوثة. هنا نفهم كلام القانة لزوجته حنّه: "أما أنا خير لك من عشرة بنين" (1 صم 1: 8). بكت حنّة لأن الله لم يرزقها ولدًا، فأراها زوجها غنىً هامًا في حياتهما المشتركة. وسوف تنشد: "العاقر ولدت سبعة، وكثيرة البنين ذبلت" (2: 5). وسيُنشد أش 54: 1: "رنِّمي أيتها العاقر التي لا ولد لها، واهتفي أيتها التي ما عرفت أوجاع الولادة".

2- الولد بركة من الله
بدأ خلقُ الكون ببركة حلّت على الرجل والمرأة المخلوقَين على صورة الله ومثاله. ولما بدأ الله مسيرته مع ابراهيم، قدّم له بركة فدلّ على رضاه عنه: "أباركك، وتكون بركة، أبارك مباركيك" (تك 12: 2-3). وكيف تكون هذه البركة؟ "أكثر نسلك كنجوم السماء والرمل الذي على شاطىء البحر... ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض" (تك 22: 17). وكان ابراهيم قد أحسّ أن الله ليس راضيًا عنه، لأنه يموت من دون نسل، فقال: "يا سيدي الرب، ما نفع ما تعطيني وأنا أموت عقيمًا (تك 15: 2)!
ونقرأ في سفر التكوين أخبارًا عن هذه البركة في البنين. هناك سلسلة الأنساب. وهناك مشاريع زواج، فيرسل ابراهيم من يأتي لاسحاق بامرأته؛ ويرسل اسحاق يعقوب إلى بلاد أرام. وكانت مزاحمة على الولادة مع راحيل وليئة. "ولما رأت راحيل أنها لم تلد غارت من اختها" (تك 20: 1). وقدّمت جاريتها لزوجها. ورأت ليئة أنها توقّفت عن الولادة، فأعطت هي أيضًا جاريتها ليعقوب. وبحثت الاختان عن "اللفّاح" الذي يجعل المرأة "ولودًا" كما كانوا يقولون (تك 30: 14-15).
وسوف نرى الله يتدخّل ليفتح رحم سارة ورفقة وراحيل. أشرنا إلى رفقة وراحيل، أما سارة فظلّت عاقرًا حتى زمن متأخر. ولما جاءتها البشارة ضحكت لانها كانت قد يئست من نفسها (تك 18: 12). ولكن الله أعطاها اسحاق. وانتظرت راحيل، ولكن ابنها كان يوسفَ الذي خلّص إخوته من المجاعة. وانتظرت حنّة، ولكن ابنها كان صموئيل رجل الله الذي نقل شعبه من مستوى القبائل إلى الملكية. فالولد الذي ينتظره الوالدان طويلاً يكون مختارًا من أجل مهمّة خاصة.
ومن أجل نسل يلجأ الإنسان إلى التبنّي. هكذا أراد ابراهيم أن يتبنّى عبده اليعازر. ثم ان المرأة تتبنّى ابنًا حبلت به جاريتها. أما نعمي، فاعتبرت أن ابن راعوت (كنّتها) من بوعز (نسيب زوجها) هو ابنها. أعطى الرب راعوت أن تحمل ابنًا، فقالت النساء لنعمي (حماتها. تزوّجت راعوت ابن نعمي ولكن مات زوجها): "تبارك الرب الذي لم يحرمك اليوم وليًا يذكر اسمه في بني اسرائيل ويجبر قلبك، ويعولك في شيبتك. فكنّتك التي أحبّتك والتي ولدته، خير لك من سبعة بنين" (را 4: 12-15).
هكذا يكون الخصب السماوي الذي يقدّمه الرب للرجل وللمرأة علامة بركة. ولكن أيضًا الخصب الروحي. فالكاهن البتول أب وإن لم يكن له أولاد. فقد ولد أبناء الكنيسة في جرن المعمودية، فصاروا أبناءه وأبناء الله. والراهبة التي تهتمّ بالأطفال، باليتامى... هي أم من نوع آخر وإن لم تصر زوجة لأحد. ومريم العذراء ولدتنا جميعًا عند الصليب في شخص التلميذ الحبيب، فصارت أم أبناء عديدين، أبناء لا يحصون.

3- بيت بلا أولاد
اهتمّ شعب الله بالخصب في العائلة. وهذا ما يتيح لنسل ابراهيم أن يصير كثيرًا مثل نجوم السماء والرمل على شاطىء البحر. ولهذا كان العقم ما يعارض مخطط الله. كان شرًا يجب أن يحاربه المجتمع. ولن يفهم المؤمنون معناه إلا شيئًا فشيئًا.
بيت بلا أولاد هو أمر لا يطاق. العقم شرّ كالالم والموت، وهو يبدو وكأنه يعارض وصيّة الله: أنموا واكثروا. والعقم عار ما بعده عار، لأن الرجل يموت بدون نسل، والمرأة قد تُطرد من بيت زوجها إن لم تصبح جارية. هذا ما أحسّت به سارة حين ولدت هاجر اسماعيل: أحسّت أنها محتقرة. فعاتبت زوجها.
العقم شرّ يجب أن نحاربه. كانت لهم وسائلهم في الماضي على حساب قدسيّة الزواج ومساواة المرأة بالرجل وكرامة المرأة. وهناك وسائل طبية اليوم تتقدّم شيئًا فشيئًا. وهناك، يا للأسف مرّات يعود فيها الرجل إلى عادات قديمة تتنافى ومنطق الإنجيل وتعاليم الكنيسة...
اعتبر الكتاب أن الله وحده يتغلّب على العقم. بل هو سبب الرحم المغلَق الذي لا ينجب ولدًا. هذا ما قاله يعقوب لامرأته راحيل. وهذا ما وعد به الرب شعبه كعلامة لبركته له: "لا تكون عاقر في أرضكم" (خر 32: 26). واعتبر الكتاب أن المرأة العاقر ليست ابنة اللعنة لأنها لم تنجب ولدًا لزوجها. إذا كان الله قد زار هؤلاء النساء، فهذا يعني أن العقم الذي فيهنّ ليس عقابًا وقصاصًا. زار سارة ووعدها. زار حنّة، أم صموئيل. وكان وعد لأليصابات أم يوحنا المعمدان التي تعزّت في آخر أيامها.
كانت الشريعة تمنع "الخصي" من تقديم ذبيحة لله (لا 21: 20) وتجعله على هامش المجتمع فلا يختلط بالناس (تث 23: 2). وكانت المرأة تختبىء فلا تراها عين "تتشفّى" بعقمها لأنها "خاطئة" لا تستحقّ بركة الله. غير أن التطوّر سيظهر شيئًا فشيئًا. فتدافع الشريعة عن المرأة "المكروهة" (تث 21: 15-17). ونقرأ في أش 65: 3-5: "لا يقل الغريب الذي لا ينتمي إليّ أنا الرب: "لا بد أن يفصلني الرب عن شعبه"! ولا يقل الخصيّ: "ها أنا شجرة يابسة"، لأن الرب قال للخصيان الذي يحافظون على السبت (أي: يوم الرب) ويختارون ما يرضيني ويتمسّكون بعهدي: "أعطيهم في بيتي (في الهيكل) وفي داخل أسوار مدينتي (في أورشليم المقدّسة) جاهًا وإسمًا يكون خيرًا من البنين والبنات، إسمًا أبديًا لا ينقطع ذكره". وفي هذا الخط سيقول يشوع بن سيراخ (16: 1-3): "لا تشته أولادًا لا ينفعون، ولا تفرح بالبنين الأشرار، ولا تأخذ في الاعتبار كثرة تدوم. فواحد صالح خير من ألف، والموت بلا ولد خير من كثرة الأولاد الأشرار".

خاتمة
تلك هي الوصية التي أرادها الله في خليقته منذ الابتداء. أنموا واكثروا واملأوا الأرض. هناك خصب مادي يتمثّل بالبنين والبنات. يا ليتنا نربّيهم فيرضون الله. وهناك من يتبنّى ولدًا يكون من أقاربه أو من الأبعدين. ففي فرنسا التقيت بعدد من الآباء والامهات تبنّوا ولدًا من روندا أو لاوس، من بلدان آسية وافريقيا، فكان ولدًا محل أولاد أنجبوهم. أو ولدًا مع سائر أولادهم. وهناك خصب لدى الذين يكرّسون نفوسهم لمن لا أم لهم ولا أب. هذا ما يسمّى الخصب الروحي، وأولادهم لا يُعدون ولا يُحصون. وهذا الخصب لا يكون موجودًا إلا لدى الذين عمر قلبُهم بالحب. فالعقم الجسدي قد يولّد حالة من الانكماش فيصبح الرجل مثل كهل عازب والمرأة كفتاة عانس. حينئذ يعيشان حالةً من الانحطاط تعود بهما إلى الطفولة فلا يعرفان النموّ. وإذا ما نقص الزوجين خصب مادي فلم يعطيا ولدًا، يبقى عليهما أن لا تكون حياتهما أنانية متبادلة، بل انفتاحًا على القريب في عمل اجتماعي وروحي يقودهما في النهاية إلى الله الذي هو سر المحبّة اللامتناهي والخصب الذي لا ينفد.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM