الفصل الثاني والعشرون:الروح القدس والانبياء



الفصل الثاني والعشرون

الروح القدس والانبياء

حين نتلو قانون الإيمان، نعلن عن الروح القدس أنه "ناطق بالانبياء". بهذا الكلام نقول إنّ الروح هو الذي يحرّك الانبياء، كي يحملوا كلام الله. بل هو الذي يخلقهم. هو في أصل رسالتهم. هذا الروح الذي هو في الوقت عينه ريح تتغلغل في كل مكان، في كل إنسان، سيفعل فعله في هؤلاء الذين اختارهم له اختيارًا شخصيًا وأرسلهم ليكونوا باسمه الشهود على عهده.
نتوقّف هنا عند النصوص التي تربط أنبياء الله بروح الله. نتوقّف عند أشعيا بأقسامه الثلاثة، عند أرميا وحزقيال.

1- عبد يهوه والروح
"ها عبدي الذي أسانده، مختاري الذي رضيتُ عنه. جعلتُ روحي عليه، فيقدّم الحقّ إلى الأمم. لا يصيح ولا يرفع صوته. ولا يُسمع في الشارع صراخه. قصبة مرضوضة لا يكسر، وشعلة خامدة لا يطفئ. بأمانة يقدّم الحقّ. لا يُلوى ولا ينكسر حتى يقيم الحقّ في الأرض، فتعليمه رجاء الشعوب" (اش 42: 1-7).
يعود هذا النص إلى أشعيا الثاني، نبيّ المنفى، الذي طُلب منه أن يفتح عيون شعبه ويعيد إليه الأمل، بعد أن خارت قواه وغاب إيمانه. عمّن يتحدّث النبي؟ يتحدّث عن نفسه وهو الذي دعاه الله واختاره ليسلّمه مهمّة: أن يُقيم الحقّ والعدل، على مثال داود كما في مز 89: 4: "عاهدتُ الذي اخترته، حلفت لداود عبدي". والعبد هو العابد والمتعبّد، هو الذي جعل حياته ملك الربّ. أما هذا هو النبّي تجاه الله؟ على هذا النبيّ أن يقوم بعمل صعب جدًا. أن يفتح عيون المسحوقين لكي يروا خلاص الله من خلال مظاهر العنف الذي يحلّ بشعبه، لكي يروا الحرّية والرّجاء رغم كل مظاهر اليأس. سيكون قويًا بالرب الذي يقوّيه. سيكون قويًا من خلال ضعفه وصمته وسكوته. دون أن يمارس العنف: لا يكسر قصبة مرضوضة. لا يطفئ الفتيل المدخّن الذي صار قريبًا من الانطفاء. بل يُسند هذه القصبة السّريعة العطب. ويحاول أن يعيد النار إلى شعلة خامدة.
وكيف له أن يفعل هذا؟ بفعل الروح الذي جعله الله عليه. والذي يُعطى له، لا من أجل ذاته، بل من أجل الآخرين، من أجل الرّسالة التي أوكل بها. لا بدّ من أن يتحقّق مخطّط الله. بواسطة البشر، بواسطة الأنبياء. لهذا، هم ينالون هذا الروح الذي يخلقهم خلقًا جديدًا، ويدفعهم دفعًا في عمل الرسالة. فصار موسى الخائف قويًا، وإرميا الصبي رجلاً حكيمًا. واشعيا الذي سيقول للرب بعد أن طهِّرت شفتاه: "ها أنا لك فأرسلني" (اش 6: 8). فقال له الرب: "اذهب". وسلّحه حين جعل عليه روحه.

2- روح الرب والمسحة بالزيت
"روح الربّ عليّ، لأن الرب مسحني له، وأرسلني لأبشّر المساكين، وأجبر منكسري القلوب، لأنادي للمسبيين بالحرية، وللمأسورين يتخلية سبيلهم، وأنادي بحلول سنة رضاه..." (اش 61: 1-3).
مضى الوقت، وزالت مملكة بابل التي سحقت أورشليم، واقتادت الشعب إلى السبي والمنفى. ووصل كورش الفارسي، فسمح للمسبّيين بالعودة إلى بلادهم، وعادت قلّة قليلة. ولكنها ما زالت أسيرة الماضي. اليأس يسيطر على الناس الذين تركوا الأمانة لله وخانوا عهده. بل تركوا الايمان بالله، واعتبرو الربّ أنه أضعف من أن يفعل. من أجل هذا أرسل الله إليهم نبيًا. اختاره. مسحه كما يُمسح الملك، بعد أن غاب الملك فلم يعد له من وجود. فالمسحة بالزيت تدلّ على تكريس الله، وهي تدلّ على نعمة داخلية لا نراها بالعين، تدلّ على الروح الذي أعطي للنبيّ، الذي سيحلّ في النبيّ وبالتالي في الناس الخائري العزيمة، بعد أن سيطر عليهم روح الكآبة. يكفي أن يحلّ روح الله على إنسان فيجعل منه المخلّص ويمنحه قدرة تنتقل، كما بعدوى، إلى سائر الشّعب فينال الخلاص الذي هيّأه الله له.
ترك الشّعب المنفى، ولكنّه لم يعرف بعدُ الخلاص الذي يتوق إليه. فالملك الذي هو سراج الرب غائب. فيبقى على النبيّ أن يعمل عمل الملك: سيعيد بناء السعادة والعدالة والسلام. سيكون الأب الحقيقي لشعبه: قلوب انكسرت كما تنكسر يد ضُغط عليها. النبي يجبرها كما يفعل طبيب ماهر. مأسورون أخلي سبيلهم، لكنهم لا يعرفون بعد كيف يعيشون الحرية في أرض تخضع للاجنبي. فالنبي هو الذي سيكون الرفيق لهؤلاء "العبيد"، فيحوّل حياتهم من الحزن إلى الفرح، ومن الذلّ إلى المجد. كيف يستطيع النبيّ أن يقوم بهذا العمل الصعب، بل المستحيل؟ روح الربّ عليه. هذا الروح ناله بمسحة من الربّ، فانطلق واثقًا بنفسه، واعيًا لرسالته. وسيردّد يسوع في بداية رسالته العلنية هذه الاقوال النبويّة: "روح الرب عليّ". ويقول: "اليوم تمّت (فيّ) هذه الكلمات" (لو 4: 21). واليوم روح الرب (وعطاياه) تُمنح للذين طُلب منهم أن يعملوا من أجل العدالة بين الناس، والسعادة من أجل المساكين. كان كلام النبيّ صلاة ورجاء. فرفعه يسوع إلى مستوى الحقيقة التي تجسّدت فيه. بل إن هذا الروح صار شخصًا حيًا سيفعل في العالم فعلاً عجبًا: "يُفحم العالم بشأن الخطيئة والبرّ والدينونة" (يو 16: 8).

3- قدّستك وجعلتك نبيًا
قال الرب لي: "قبل أن أصوّرك في البطن عرفتك (جعلت عيني عليك، اخترتك)، وقبل أن تخرج من الرحم قدّستك (كرّستك كما بزيت المسحة)، وجعلتك نبيًا للأمم... أينما أرسلك تذهب، وكل ما آمرك به تقوله؛ لا تخف من مواجهة أحد، فأنا معك لأنقذك". ثم مدّ يده ولمس فمي وقال: "ها أنا جعلت كلامي في فمك" (إر 1: 4-9)
يروي هذا النصّ بداية رسالة إرميا. لا نجد ذكرًا للروح الذي يخلق الانبياء ويرسلهم، بل الرب بالذات. ولكن النتيجة هي هي. هناك تكريس ومسح بالزيت كما في اش 61: 1-3. هناك ارسال إلى الامم كما في اش 42: 1-4. والخبرة التي عاشها اشعيا في الهيكل، سيعيشها إرميا هنا حين يلمس الرب فمه ويحمّله كلامه. وقوّة النبي الذي ما زال "صبيًا"، أو شابًا ابن العشرين، تأتيه من حضور الله معه. "أنا معك لأنقذك". وكان قد سبق ذلك نداء: "لا تخف".
"قدستك"، كّرستك. لقد احتفظ الرب بنبيّه لنفسه. لقد جعله له. عرفه من أجل مهمة خاصة سوف تحدَّد فيما بعد. هذا يتضمن إتحادًا حميمًا بين الله ونبيّه، ومعرفة مباشرة لفكر الرب. حين يسلّم الربّ الانسان مهمة، فهو يمنحه القوة والنعم الضرورية، بل يمنحه ذاته. يكون معه. وهكذا صار أرميا جديرًا بالرسالة التي كُلّف بها.

4- دخل فيّ الروح
لما رأى حزقيال مجدَ الرب، سقط على وجهه ساجدًا، وسمع صوتًا يكلّمه (حز 1: 28). "فقال لي: "يا ابن البشر، قف على قدميك فأتكلم معك". ولما كلّمني، دخل فيّ الروح، وأقامني على قدميّ وسمعت صوته. وقال لي: "يا ابن البشر، سأرسلك إلى بني اسرائيل، إلى شعب تمرّدوا عليّ وعصوني، هم وأباؤهم إلى هذا اليوم" (حز 2: 1-3).
أمام مجد الرب الذي يُرعب بعظمته، أحسّ حزقيال أنه "إبن بشر" ضعيف لا يستطيع أن يقف على قدميه. وبعد الرؤية العظيمة مع الفلك والضياء، والأحياء الأربعة، والنار التي تظهر في جمرات متّقدة (حز 1: 13)، سمع حزقيال كلام الربّ.
هو الله يأتي إلى النبيّ. يمنحه قدرته الإلهية. يمنحه روحه. لقد دخل روحُ الله في ذلك الذي كلّف بأن يخلّص شعبه. هكذا فعل مع شمشون (قض 14: 6-19؛ 15: 14). هكذا فعل مع شاول (1 صم 10: 6-10) وداود (1 ص 16: 13). وهكذا سيفعل مع جذع يسّى، كما يقول أشعيا (11: 2): "روح الرب ينزل عليه، روح الحكمة والفهم والمشورة، روح القوة والمعرفة والتقوى". هذا الروح يُعطى أيضًا للأنبياء كما هو الأمر هنا مع حزقيال.
هنا نتذكّر أن الكتاب تورّع عن الحديث عن الروح في خط الأنبياء، عاموس واشعيا وهوشع وارميا. والسبب هو حذر من تصرف بعضهم. مثلاً، نقرأ عن شاول أنه جاء إلى جبعة حيث "استقبله جماعة من الانبياء، فحلّ عليه روح الله فتنبّأ بينهم" (1 صم 10: 10). ولكن زال هذا التخوف مع إيليا واليشاع. فتحدث الكتاب عن هذا الروح الذي يصنع العجائب (2 مل 2: 1؛ 5: 26)، الذي هو في النهاية روح الله (1 مل 18: 12؛ 2 مل 2: 16).
وعاد حزقيال إلى التقليد القديم، فبدت الموهبة النبوية عنده تجلّيًا لروح الرب الذي يأتي في النبّي. "دخل فيّ الروح" (حز 2: 2؛ 3: 24). "حلّ عليّ روح الرب" (11: 5). جعله يقوم على قدميه أو هو رفعه كما رفع إيليا: "ثم رفعني الروح..." (11: 1).
"يا ابن البشر سأرسلك". نحن هنا في خط دعوة الانبياء، منذ موسى والقضاة والأنبياء. قال الرب لموسى: "فتعال أرسلك إلى فرعون لتُخرج شعبي" (خر 3: 10). وقال لجدعون: "أنا الذي أرسلك. فاذهب بقوّتك هذه (في الواقع هو ضعيف) وخلّص بني إسرائيل" (قض 6: 14). وهكذا اُرسل حزقيال في مهمّة صعبة تشبه إلى حد بعيد مهمّة اشعيا الذي سيرى "قلب الشعب قاسيًا واذنيه ثقيلتين، وعينيه مغمضتين" (اش 6: 10). وسيقول الرب لحزقيال: "أرسلك إلى شعب تمرّدوا عليّ وعصوني". هل يتراجع النبيّ؟ كلا. بل سيبقى الشاهد لله وسط شعبه: "سواء سمعوا أو لم يسمعوا، سيعلمون أن بينهم نبيًا" (حز 2: 5). وسيقول له الله ليشدّده ويحرّره من الخوف: "فكلّمهم بكلامي، سواء سمعوا أم لم يسمعوا" (حز 2: 7).
هذا الروح حاضر منذ البداية ومع رؤية مجد الربّ. وهدفُ هذه الرؤية كلمة يدرك النبي بها مجمل المنفيين. ولكنهم صاروا كالعظام اليابسة، فماذا تنفع فيهم الكلمة؟ فكان الجواب من حزقيال (37: 5-6) بفم الرب: "سأدخل فيك الروح فتحيين. أجعل عليك عصبًا... وأنفخ فيك الروح، فتحيين وتعلمين أني أنا هو الربّ". وهكذا يصبح الشعب كلّه شعبًا من الأنبياء على مثال النبي حزقيال الذي كان في وسطهم الشاهد على هذا الروح الجديد الذي سيجعله الله في أحشائهم (36: 26).

خاتمة
ذاك هو الروح، وذاك هو عمله في قلب الانبياء. بل هو الحاضر في بداية حياة الانبياء ينفحهم بالقوة والحكمة والمشورة، فينقلون كلام الله وإرشاده إلى شعبه. قد تواجههم الصعوبات، ولكن الروح حاضر معهم.
هذا الروح الذي أرسله الرب فجدّد وجه الأرض، أتراه لا يجدّد قلوب الذين تكرّسوا للرب وحملوا كلمته؟ أتراه لا يجدّد قلوبنا فنكون أنبياء في محيطنا بحسب كلام موسى في البرية: "يا ليت جميع شعب الله انبياء يُحلّ الرب روحَه عليهم" (عد 11: 29).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM