الفصل العشرون المشاركة في كهنوت المسيح

الفصل العشرون
المشاركة في كهنوت المسيح

احتفظت الرسالة إلى العبرانيين بالكهنوت للمسيح. أما النصوص التي ندرسها الآن فهي تطبقّ لفظة "كاهن" على المعمّدين. ونحن نجدها في 1بط وفي رؤ.
1- رسالة بطرس الأولى
استعمل بطرس مرتين لفظة "هياراماتا" كهنوت. وهذان الاستعمالان (2: 5، 9) يقعان في قسم حاول الشرّاح أن يحدّدوا فنّه الأدبي (2: 4- 10). ظنّ بعض الشرّاح أننا أمام مديح، ورأى آخرون أهميّة الإيرادات التوراتيّة. لن نقول إن بطرس أخذ استشهاداته من مجموعة "شواهد". ولكنّنا نقول إن استشهادات آ 6- 8 حول الحجر (آ 9- 10 حول شعب الله) تعود إلى تقليد شفهيّ حول موضوع تقليديّ. والطابع المرتبط بسفر الخروج لبعض هذه الاستشهادات مهمّ جدًا لموضوعنا، لأن عبارة "كهنوت ملكي" توجّه النظر نحو خر 19: 6.
والعلاقة بين 1بط وليتورجيّة المعموديّة أمر معروف. وقد تساءل بوامار إذا كانت آ 9- 10 تنتميان إلى "فعل شكر" (افخارستيا) يتبع المعموديّة. والهدف الليتورجي في آ 9- 10 يُذكر في عبارة "كهنوت ملكي" فيربطهما مع آ 5. وتقوم الليتورجيا في "إعلان مآثر الله" (آ 9) وهي عبارة ترتبط بسفر الخروج (رج أش 53: 21) فتحلّ محل »فعل الشكر« الذي يُقرأ في المقطع الموازي في كو 1: 12- 13، 21.
إن عبارة "مملكة كهنوتية" تذكّرنا بما في خر 19: 6 (م م ل ك ت. ك هـ ن ي م). هناك معان عديدة للعبارة. هناك من قال: "مملكة يحكمها الكهنة": "فالمملكة التي يحكمها الكهنة تعكس بالضبط وضع العالم اليهوديّ بعد المنفى". وهذا التفسير هو أفضل من: "مملكة يتمتّع فيها جميع المواطنين بالكرامة الكهنوتيّة". مهما يكن من أمر، نستطيع القول إن العبارة تشير إلى الجماعة لا إلى الأفراد. وهذا ما يكون له أثره في تأويل 1بط 2: 9.
في الواقع، أخذ بطرس العبارة من التوراة اليونانيّة. و"باسيليون هياراماتا" لا تعني مملكة كهنة، بل كهنوت ملوكي، أي أمّة مختارة، وظيفتها كهنوتيّة وكرامتها ملوكيّة بالنظر إلى الله الملك الذي تقوم بخدمته العباديّة. ناقش الشرّاح لفظة "باسيليون". هل هي اسم؟ هل هي صفة؟ إذا كانت صفة نستطيع أن نقرأ: نسل مختار، أمّة مقدّسة، شعب للاقتناء، حيث تلعب "للاقتناء" وظيفة صفة.
نجد لفظة "هياراماتا" (كهنوت) في آ 5، آ 9. ولكن يجب أن نلاحظ تطوّرًا في التفكير من آ 5 إلى آ 9. فإن آ 9- 10 تشكّلان تقدمًا بالنسبة إلى آ 4- 5. يرى سبيك أن آ 9 التي تستعمل استشهادات بيبليّة، تفسّر الكرامة المسيحيّة كما في آ 7، والكهنوت المقدس كما في آ 5. هذه اللفظة غير موجودة إلاّ في التوراة (خر 19: 6) والنصوص التي تورد هذا الاستشهاد (2 مك 2: 17؛ فيلون، هجرة ابراهيم 56). فهي، شأنها شأن كل الألفاظ التي تنتهي بهذا الشكل، تعني الجماعة، لا الفرد، وارتأى ترجمة: "حلقة كهنوتية". ورأى آخرون أن اللفظة ترادف "هياراتيا" وتدلّ على ممارسة الوظائف الكهنوتيّة. أما فانوا فرأى أن لا تترجم بـ "وظيفة"، بل "ممارسة عمليّة لوظيفة". أما "هياراماتا" فلا نترجمها بالطريقة عينها في آ 5، آ 9. ففي 2: 5 تدلّ العبارة على ما إليه يتوجّه "البيت الروحي". ويحدَّد أي عمل يُنتظر من البيت الروحي: تقديم ذبائح روحيّة. أما في 2: 9 فتعبير بطرس يدلّ على هيئة كهنوتيّة. في النصّ الاول (2: 5) لا تغيب الوجهة الفرديّة والجماعيّة ولكن يعبّر عنها بلفظة "بيت". أما في النص الثاني (2: 9) حيث لا تتكرّر لفظة "بيت"، فتعود الوجهتان إلى "هياراماتا".
إن المفهوم العماديّ في 1بط يساعدنا على فهم صحيح للفظة "هياراماتا". إن مرتدّين جاؤوا من الأمم الغريبة وكانوا يمارسون عبادة الأوثان (1: 18)، صاروا الآن الشعب الذي اقتناه الله (2: 9). كانوا غرباء عن العهد الموسويّ، فصاروا شعب الله. إذن، حدث تحوّلٌ في البنية الاجتماعيّة لشعب الله، تكوّنه الآن جماعةُ المعمّدين مهما كان أصلهم العرقي أو الوطني(12). وبيّن شرّاح أن ترتيب الكلمات التي تحدّد الفاعل "أنتم" (آ 4- 5) يتمّ بالنظر إلى موضوعين: ذاك الذي يرتبط "بالحجر": حجارة حيّة، بناء، بناء روحي. وذاك الذي يرتبط بالله: كهنوت مقدّس، ذبائح روحيّة. إن ما في الأولى يخضع لما في الثانية. أما صفة "روحي" فتنطبق على السلسلتين: بيت روحي. ذبائح روحيّة. إن موضوع "الحجارة الحيّة" يشدّد على الوجهة الاجتماعيّة لهذه الولادة التي يمنحها العماد للمؤمنين الجدد. وفي قلب البناء تُوجد الحجارة في ارتباطها المتبادل بعضها ببعض لا في وجودها من أجل ذاتها. وبعد موضوع "الكهنوت المقدّس" الذي يحدَّد بعمل هو "الذبيحة الروحيّة"، يأتي موضوع "الحجارة الحيّة" الذي لا ينغلق على فكرة "ثبات مريح" نجدها في لفظة "بيت": فالفاعل يلعب دورين يحددّهما شخصان إلهيان: بُني على حجر الزاوية فهو في بيته. ولكنه أيضًا في خارج بيته لأنه يتطلّع إلى "الله" بذبيحة العهد. نلاحظ هنا أن الدور يرتبط بالدور الآخر. ولا يكون دور من دون الآخر: لا بناء بدون ذبيحة. ولا ذبيحة لا تستند إلى "حجر". فالحجارة الحيّة توجّه نحو المسيح "الحجر الحيّ" (آ 4). و"الذبائح الروحيّة" التي تحدّد "الكهنوت المقدّس" توجّه نحو الله ولكنها تجذب أيضًا الأنظار إلى المسيح. لا تطبّق 1بط لفظة ذبيحة على موت المسيح. ولكنها تتحدث عن "دم كريم، دم الحمل الذي لا عيب فيه ولا دنس" (1: 19). فذبيحة المسيحيين الروحيّة تظهر هكذا كجواب على ذبيحة الحمل، كعطاء تجاه عطاء. تجاه الدم المراق هناك تقدمة الشخص. يبدو أننا لا نستطيع أن نحصر هذه التقدمة الشخصيّة التي لأجلها كوِّن الشعب »كهنوتًا مقدّسًا« في تقدمة الافخارستيا وحدها. فحياة المسيحيين في حدّ ذاتها هي ما يشكّل جوابهم على الدعوة التي تلقّوها كـ "كهنوت مقدّس" و"كهنوت ملوكيّ".
ويُطرح سؤال: هل نظر بطرس (أو استبعد) كهنوتًا تراتبيًا وأسراريًا؟ يعتبر الشرّاح أن هذه السؤال في غير محلّه. قال سبيك: "هي مسألة لا يتطلّع إليها 1بط ولا عب: فالعبادة هي روحيّة في مجتمع روحيّ، حيث الذبائح الروحيّة يقدّمها بالضرورة كهنوت روحي". تلتقي 1بط هنا مع عدد من النصوص البولسيّة التي تسير في خط تماهي الحياة المسيحيّة مع الليتورجيا. مثلاً أف 5: 2؛ فل2: 17؛ روم 12: 1. في روم 15: 16 يرى بولس نفسه خادم المسيح يسوع "ليقدّم لله، بشكل ذبيحة، إعلان الإنجيل لكي يصبح الوثنيون ذبيحة مرضيّة«. إن الخدمة الرسوليّة التي يعبَّر عنها بألفاظ الخدمة الليتورجيّة، تتطعّم على وضع مشترك بين جميع المؤمنين. ولكن يجب أن نشدّد على أن "الكهنوت الملوكيّ" لا يمارَس إلاّ في كنيسة (هي جسد المسيح) مرتّبة على خدم نالت نعم الروح (رج 1كور 12). هنا نجد في شكل آخر وجهة جوهريّة من العهد القديم. في اسرائيل كانت "الأمّة المقدسة" مرتّبة على خدمة التقديس المسلّمة إلى بني هارون. ما دام الهيكل حاضرًا وليتورجيّته (وهذه ميزة يهودية حسب روم 9: 4- 5)، لم يُطرح السؤال على الجماعة المسيحيّة المتهوّدة. ولكن لما زالا، طُرح السؤال على جميع أعضاء الكنيسة. وتطلّعت عب ويو إلى هذا التبدلّ، كل من منظاره. في هذا النطاق نستطيع أن نربط "الذبائح الروحيّة" في شعب الله الجديد، بالبنى الخاصة بالكنيسة. وبيّن فانوا أن بولس فهم دوره كخادم، لا كمؤمن بسيط، وهذا لا ينفي كل ما قيل عن العمل العباديّ الذي يقوم به الرسول. وبطرس أيضًا لا يقول شيئًا ضدّ كهنوت الخدمة. ولكن الألفاظ المستعملة تفترض هذا الكهنوت لأن لكل إنسان بيتٌ بالضرورة. وإذا كان بطرس لا يطبّق بشكل مباشر على المسيح لقب كاهن، فهو ينسب إليه في الواقع موقع الكاهن، لأنه يشدّد على ضرورة الوساطة.
2- رؤيا يوحنا
نجد ثلاثة نصوص في رؤ تطبّق موضوع الكهنوت على الشعب المسيحيّ. رؤ 1: 6؛ 5: 10؛ 20: 6.
أ- رؤ 1: 6
هذه الآية (1: 6) هي جزء من مقطع يبدو كمقدّمة في بداية رؤ (1: 4- 8). بعد تحيّة في صيغة المخاطب الجمع (أنتم، آ 4، عليكم النعمة والسلام)، ترد مجدلة في صيغة المتكلّم الجمع (نحن، آ 5- 8، أحبّنا وحرّرنا). ووجود لفظتي "ملكوت" و"كهنة" الواحدة قرب الأخرى يذكرنا بما في خر 19: 6. ولكننا نبدأ بالاختلافات.
- كانت صيغة المضاف والمضاف إليه (ملكوت كهنة). فصارت صيغة العطف: ملكوت وكهنة.
- لا تنطبق لفظتا "ملكوت" و "كهنة" على بني اسرائيل، بل على "نحن". وهذا "النحن" يدلّ على الذين ينتمون إلى الكنائس (1: 4).
- المسيح هو الذي يقوم بالتحوّل الذي يجعل منا "ملكوتًا وكهنة لله أبيه".
- هذا التحوّل قد تمّ، وما عاد موضوع انتظار في المستقبل. فإذا كان من علاقة بين خر 19: 6 ورؤ 1: 6 فهي علاقة بين الوعد وتتمّة الوعد.
إن عبارة "ملكوت وكهنة" جزء من عمل المسيح الذي عُرض في 1: 5- 6. النجاة من خطايانا بدمه تشكّل الوجهة السلبيّة. وعمله الذي يجعل "منّا" "ملوكًا وكهنة لله أبيه" هو الوجهة الايجابيّة. هناك اختلافة نصوصيّة في آ 5 تقول "اغتسلنا" بدل "تحررنا". في هذه الفرضية تصبح العلاقة مع العموديّة ممكنة كما في 1بط. ولكن التقليد النصوصيّ يميل إلى "حرّرنا". فنحن أمام تقليد سفر الخروج، وتكوين الجماعة في ملكوت وتحوّلها إلى كهنة، يرتبطان بالخلاص من الخطايا بالدم.
ونلاحظ أخيرًا أن استعمال لفظة "كهنة" لا لفظة "كهنوت"، يطبقّ الموضوع الكهنوتي بشكل شخصي لا نراه بهذه الأهميّة في 1بط. ولكننا نتورّع من المفاضلة بين 1بط ورؤ حول أهميّة الفرديّ والجماعيّ. ففي الكنيسة كل شيء شخصيّ وكل شيء جماعي. نستطيع أن نتطلّع إلى جماعة الحياة ونمائيّة الوظائف أو الطابع الشخصيّ للدعوات التي منحها المسيح لكل عضو في جسده.
ب- رؤ 5: 10
نجد في هذا النصّ اللفظتين اللتين وجدناهما في 1: 6: ملكوت، كهنة. السياق هو سياق الليتورجيا السماويّة الذي نراه في ف 4- 5. يتوجّه النظر إلى الله (ف 4) ثم إلى الحمل (ف 5). فالحمل الواقف كأنه مذبوح، يحقّ له وحده أن يفتح الكتاب المختوم. ويهتف له الأحياء الأربعة والشيوخ الأربعة والعشرون، ويذكرون أنه افتدى لله بدمه، أناسًا من كل قبيلة ولسان وشعب وأمّة، وجعل منهم "لالهنا ملكوتًا وكهنة". الاختلافات مع خر 19: 6 هي التي أشرنا إليها في دراسة رؤ 1: 6. ونلاحظ بشكل خاص أن الحمل هو الذي يعمل هنا لا الله. إن عبارة "جعلتَ لالهنا"، تذكّرنا ربّما بما في أش 61: 6.
لا يقال شيء عن ممارسة المفدييّن للوظيفة الكهنوتيّة. غير أننا نستطيع أن نلاحظ رباطًا ممكنًا بين "المناخ" الذبائحيّ في السياق المباشر (إن الحمل جعل بدمه ملكوتًا وكهنة) ومجيء لفظة "كهنة". ولكنّ "فانوا" يوضح أن فعل "سفازاين" (ذبح) وفعل "اغورازاين" (افتدى، اشترى) لم يؤخذا من مفردات الذبائح العباديّة. إذن، هناك مفارقة أن يكون الحمل المذبوح هو أسد يهوذا. وهناك مفارقة أخرى أن نرى "المفدييّن بالدم" قد صاروا كهنة وملكوا على الأرض. فالذين يملكون هم كهنة وهم مفديّون بدم الحمل. أما الإشارة إلى "صلاة القديسين" (آ 8)، فتدلّ رّبما على الشكل الذي فيه يُمارس الكهنوتُ والملكوت.
ج- رؤ 20: 6
لا يتحدّث هذا النصّ الأخير عن كهنة صنعهم المسيح لالهنا كما في 5: 9، بل عن "كهنة الله المسيح". يشدّد النصّ على الاستشهاد والموت لأجل المسيح. ووحدهم الذين ذُبحوا من أجل شهادة يسوع وكلمة الله، يشاركون في القيامة الأولى لملك يدوم ألف سنة (20: 4- 5). ويسمَّون سعداء وقدّيسين بعد أن مُنحت لهم ثلاثة امتيازات. الامتياز الأول يجنّبهم حكم الموت الثاني. والامتيازان الثاني والثالث يجعلهما "كهنة الله والمسيح" ويمنحهما ملك ألف سنة. إن استعمال المضارع لا الماضي كما في 1: 6 يفتح التطويبة (سعيد وقديس) على المستقبل. فالكهنوت يقدَّم هنا كامتياز آت يرى فيه بعضهم درجة سامية: "انتقل الشهداء من درجة الكهنوت الأولى التي هي مشتركة بين جميع المعمّدين إلى درجة سامية".
هذه النصوص الثلاثة التي أخذت من رؤ، بيّنت وضع المعمّدين فنسجت نسجًا دقيقًا الموضوع الكهنوتي والموضوع الملوكيّ. هناك بعض المسيحيين يتّحدون اتحادًا وثيقًا بالمسيح الحمل المذبوح بواسطة الاستشهاد. وهكذا يتمّ كهنوتهم في درجة سامية.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM