الفصل الثاني عشر الكهنوت في الكتب البيبليّة المتأخرة

الفصل الثاني عشر
الكهنوت في الكتب البيبليّة المتأخرة

النصوص عديدة بين القرن الثاني ق م والقرن الأول ب م. ونحن بعد أن نقرأ تاريخ الكهنوت في هذه الحقبة، نتوقّف أولاً عند النصوص القانونيّة المتأخرة، بانتظار العودة إلى أدب البيعهدين في وجهه العبري واليوناني. نترك جانبًا 1 و2مك اللذين استفدنا منهما في الفصل السابق، ونحصر انتباهنا في حكمة ابن سيراخ ونبوءة دانيال.
1- يشوع بن سيراخ
يقف سي في الخط بعد المنفاوي الذي يجعل من الكهنوت مركز الأمّة. فالعهد مع الكاهن فنحاس يلعب دورًا مركزيًا. وطابعه في ابن سيراخ طابع أبديّ، وقد حلّ محلّ عهد الله مع داود.
أ- ابن سيراخ والكهنوت
أولاً: سي 45
تكرّسَ هذا الفصلُ لمديح موسى وهارون وفنحاس. مع موسى يبرز موضوع الشريعة الذي هو مهمّ جدًا في نظر ابن سيراخ. قيل مرتين (آ 3، 5) أن الله أعطاه الوصايا. وهذه الوصايا هي "شريعة الحياة والمعرفة، ليعلّم بني يعقوب العهد، وأحكامه لبني اسرائيل" (آ 5). نال موسى الوصايا "وجهًا لوجه"، فأعطاه الله مجدًا "يساوي مجد الملائكة" (آ 2).
بعد أن ثبّت ابن سيراخ دور موسى وأهميّة الشريعة في خمس آيات فقط، عاد إلى هارون فجاء تصويره له طويلاً جدًا (22 آية). هذا يعني اهتمام ابن سيراخ الكبير بالكهنوت. وحده سمعان، الكاهن الأعظم، سيحقّ له توسّع مثل التوسّع الذي أعطي لهارون (ف 1). هارون هو "قدّيس شبيه بموسى" (آ 6). أعطاه الله "بعهد مؤبّد، كهنوت الشعب" (آ 7). نصَّبه موسى الذي مسحه بالزيت، فنال عهدًا أبديًا، هو ونسله ما دامت السماء (آ 15). والوظائف المعترف بها لشقيق موسى هي على المستوى الليتورجي: يقدّم المحرقة للربّ، يمارس طقس الحلّ للشعب (آ 16). واعتُرف أيضًا له بسلطان حول فرائض الشريعة لكي يعلّم يعقوب متطلّباتها، وينير اسرائيل بشريعة الله (آ 17). فالشريعة في نظر ابن سيراخ هي العنصر الذي يتيح لبني اسرائيل أن يتجنّبوا ضياع هويّتهم، وأن يقاوموا التلفيق الديني. وحين يعلّم الكهنة الشريعة يكونون الموجّهين. وذكرُ الغرباء (آ 18) الذين يقفون بوجه هارون، يدلّ على أن ابن سيراخ واع للأخطار التي كانت تلقي بثقلها على الكهنوت، ساعة كتب كتابه.
فنحاس ابن ألعازر هو "الثالث في المجد" (آ 23). ينشد ابن سيراخ مخافته للرب، وغيرته، وثباته أمام الشعب الثائر. من أجله جُعل »عهد السلام«. هو رئيس المعبد والشعب. له رئاسة الكهنوت إلى الأبد. له نسله. أما آ 25 التي تقابل إرث داود بإرث هارون فهي مهمّة جدًا وسنعود إليها.
ثانيًا: سي 50
إن الكاهن الأعظم سمعان، سمعان بن أونيا (هو سمعان الثاني ابن أونيا الثاني) يصوَّر وهو يمارس وظائفه الليتورجيّة. هذه الصورة الحماسيّة الموسّعة مثل صورة هارون، تدلّ على أهميّة الكهنوت الحياتيّة للشعب. وتلفت انتباهنا آ 24. في العبري، نحن أمام صلاة من أجل سمعان: »تتأكّد أمانة (الله) لسمعان ويثبت عهدُ فنحاس. لا تُنتزع منه ولا من نسله ما دامت السماء«. أن تكون هذه الآية كُتبت ساعة كان سمعان حيًا أم لا، فهذا يدلّ على قلق بالنسبة إلى مصير السلالة الكهنوتيّة التي تمرّ بفنحاس وينتمي إليها سمعان. أما النصّ اليوناني فمحا اسم سمعان واسم فنحاس: "لتبقَ رحمته بأمانة معنا، ولتنقذنا في أيامنا". هذه الترجمة (من العبرانيّة إلى اليونانيّة) تدلّ على أنه في الوقت الذي تحقّقت فيه هذه الآية، صارت رئاسة الكهنوت في يد سلالة غير سلالة فنحاس. فالعهد مع فنحاس قد حُطِّم، فحصل عزل أونيا الثالث وجُعل مكانه منلاوس.
ب- مسيحانيّة كهنوتيّة
إن تعلّق ابن سيراخ بالكهنوت لا يصل إلى مجمل الكهنة، بل إلى سلالة فنحاس ابن ألعازر ابن هارون. فالعهد مع هذه السلالة هو أبديّ (عد 25: 12- 13). لهذا يجب أن نفسّر سي 45: 25ب في معنى حصريّ: "إن عهد هارون يصل إلى جميع نسله". هذا لا يعني إلى جميع الكهنة، بل إلى "سلالة عظماء الكهنة المتعاقبين والذين إليهم ينتمي سمعان". ساعة كتب ابن سيراخ تحقّقت هذه الخلافة. بل هي هنا، وليس لنا أن ننتظرها. وبعبارة أخرى، لا مسيحانيّة كهنوتيّة في سي. وإن ظنّ بعضهم عكس ذلك فعلى أساس تحديد واسع للمسيح هو: "كل رئيس يعمل عمل خلاص، وإن كان سبق له ومارس وظيفته". في الواقع، ما زال بيت فنحاس في السلطة. ويرجو ابن سيراخ أن تمتدّ سلطته إلى الأبد. إذن، هو لا يرجو أن تعود لأنها حاضرة.
ج- مكانة داود
طُرح على ابن سيراخ كما على كل الكتابات التي تمنح الكهنوت مكانة مركزية، سؤال حول أهميّة وجه داود. نتوقّف هنا عند ثلاثة نصوص.
سي 35- 36. يطرح هذان الفصلان مسائل حول النقد الأدبيّ. هما يشبهان سي 51 والمباركات الثماني عشرة. لهما رنّة اسكاتولوجيّة ووطنيّة. ولكن يجب أن نلاحظ أن ف 36 لا يلمّح أبدًا إلى المسيح الداودي، وذلك على خلاف سي 51 والمباركات الثماني عشرة.
سي 47: 1- 10. نحن هنا أمام مديح الملك داود. إن أهميّة هذا الملك لا تُنكر. ولكنها تُوضع في الإطار التاريخيّ. تتحدّث آ 11 عن "القرن" فلا تدلّ على رجاء مسيحاني خاص. تدلّ اللفظة على القوّة والنفوذ كما في سي 47: 5- 7.
سي 45: 25. تحدِّد هذه الآية بوضوح عهد داود فتقابله بعهد هارون. وهي لا تصحّ إلاّ لابن واحد هو سليمان. إذن هي لا تقدّم وعدًا مطلقًا بامتداد للسلالة لا ينقطع. إن عمل داود الذي أتمّه سليمان هو تشييد الهيكل وإقامة العبادة اللذين هما في قلب الحياة اليهوديّة بالنسبة إلى ابن سيراخ كما إلى المؤرّخ الكهنوتي. ليس هناك إلاّ عائلة واحدة يرى ابن سيراخ أن الأبديّة أعطيت لها، هي عائلة عظماء الكهنة وعائلة سمعان.
د- سي 51: 12
يشكّ الشرّاح في صحّة هذا النشيد المدائحي (ف 51). فلا نجده إلاّ في مخطوط مخبأ القاهرة. هناك جزء من آ 12 يقع في قلب الجدال: "إمدحوا ذاك الذي جعل قرن بيت داود يزهر، لأن محبّته أبديّة. امدحوا ذاك الذي اختار بني صادوق كهنة، لأن محبّته أبديّة". فالذين يقولون بصحّة هذه الآية يسندون شرحهم بالقول إن سلالة صادوق هي على رأس الكهنوت. ما أخذ ياسون بعد محلّ أونيا الثالث. ثم جاء محازبو الحشمونيين وأمرّوا على المديح "مقصّ الرقابة". لهذا لم نجد هذه الآية في معظم المخطوطات العبريّة ولا في الترجمات. فلم يحتفظ بها إلاّ متشيّعون ظلّوا أمناء للخط الصادوقي. ولكن هناك حلاً آخر معقولاً: إن آ 12 قد أضافها متشيّعون أمناء لصادوق.
2 - دانيال
أ- وضع الكتاب
إن الحسيديم الذين كوّنوا مجموعة (تنظّمت بشكل أخوّة)، تبنّوا قضية متتيا في ثورته. كانوا أناسًا أتقياء ومتعلّقين كل التعلّق بنظم أمّتهم الدينيّة، فما ارتضوا أن يروها مداسة. حملوا السلاح لبواعث دينيّة فقط. ولما اعتبروا أنهم حصلوا على إعادة الحرية الدينيّة التي قاتلوا من أجلها، "وقّعوا" على السلام (1مك 6: 59- 60)، وانفصلوا عن يهوذا المكابيّ تاركين له متابعة القتال. فألكيمس الذي صار عظيم كهنة بفضل رضى ديمتريوس الأول (1مك 7: 9)، ضلّلهم في رغبتهم بالسلام. قالوا: "هو كاهن من نسل هارون. لن يسيء إلينا" (1مك 7: 14).
في هذا الإطار يأتي سفر دانيال، وصاحبه هو كاهن يجعل مكانة مركزيّة لشعائر العبادة في كتابه. ولكن البرهان ليس بحاسم. فقد يكون الكاتب من العوام المتعلّقين بالنظم الدينيّة والشرعيّة الكهنوتيّة. ولكن يجب مع ذلك أن نشدّد على أهميّة الهيكل والعبادة. رفض دانيال العبادات الدنسة (ف 3 و5). وأكّد تعلّقه بالكلندار وبالشريعة (7: 25). أما تاريخ شعب الله والمدينة المقدّسة، فيرى أنه تتوزّعها أحداث تخصّ المعبد وعظماء الكهنة (الرئيس الممسوح، 9: 25أ؛ الممسوح الذي أزيل 9: 26أ؛ إبطال الذبيحة وتدنيس الهيكل، 9: 27ب؛ 11: 31).
ب- دا 3: 37- 40 (حسب تيودوسيون)
إن صلاة عزريا (دا 3: 26- 45) التي نقرأها في نسختين يونانيتين (السبعينيّة وتيودوسيون) قد أدرجت في الجزء الأرامي من الكتاب. قال بعضهم إنها وُجدت في النصّ الذي نقلته السبعينيّة ثم تيودوسيون. ولكن قد تكون دوّنت في العبريّة لا في الأراميّة. ويمكن أن تكون في الأصل صلاة ليتورجيّة.
لا تتحدّث هذه الصلاة بشكل مباشر عن الكهنوت. إلاّ أن آ 37- 40 تلفت الانتباه لأنها تنقل موضوع الذبيحة إلى المستوى الشخصيّ. (37) "صرنا يا ربّ أقلّ الشعوب عددًا وذللنا اليوم في كل الأرض بسبب خطايانا. (38) وفي هذا الزمان لا رئيس لنا ولا نبيّ ولا قائد، لا محرقة ولا ذبيحة ولا تقدمة ولا بخور، ولا موضع لنا لنقرّب أمامك البواكير لننال رضاك. (39) جئناك بقلب منسحق وروح متواضعة. فاقبلنا كمحرقات الكباش والثيران(40) وكآلاف الخراف السمان. هكذا فلتكن ذبيحتنا اليوم أمامك حتى ترضيك فأنت لا تخيّب أمل المتّكلين عليك".
تتيح لنا آ 37 أن نحدّد زمن الصلاة، لأنها تشير إلى توقّف الذبائح في أيام أنطيوخس الرابع. هي كتبت بين سنة 167 وسنة 164، أو حالاً بعد قرار أنطيوخس. وغياب "الرئيس والنبيّ والقائد" (آ 38) يعني أيضًا غياب عظيم الكهنة وغياب أي موجّه للأمّة. وتشير آ 39- 40 إلى مقاطع أخرى في العهد القديم: في 6: 6- 8؛ مز40: 7-9 ؛ 51: 18- 19. إن روحانيّة هاتين الآيتين اللتين تذكراننا بروحانية 2مك ولاهوت الاستشهاد عنده، تقود المؤمن إلى أن يقدّم نفسه ذبيحة أي أن يعمل مشيئة الله. هذا ما يقابل تقوى الحسيديم. لهذا أدرجت هذه الصلاة في سفر دانيال.
ج- دا 9
هناك بعض الآيات في ف 9 تلامس موضوع الكهنوت.
أولاً: مسح قدس الأقداس (9: 24)
إن تدخّل الله الأخير الذي يحصل في النهاية المحدّدة بسبعين أسبوعًا من السنين، هو مسحة قدس الأقداس. نحن هنا أمام تكريس معبد. لهذا نترك القول: قديس القديسين كما في الشعبيّة اللاتينيّة. ولكن لا ننسى التقابل بين الهيكل والشعب. فتطهير هيكل أورشليم يعيد الشعب - المعبد إلى كهنوته الكامل.
ثانيًا: المسيح الرئيس (9: 25)
إن لفظة "مسيح" ولفظة "ن ج ي د" (رئيس) غامضتان. فهما تنطبقان على أشخاص عديدين. قد تدلاّن على كورش الذي أمر بإعادة بناء الهيكل. وقد تعنيان يشوع، عظيم الكهنة، الذي أعاد بناء الشعب وكرّس المعبد. أو زربابل الذي أعطيت له ألقاب مسيحانيّة في حج 2: 21- 23؛ زك 4: 6- 10؛ سي 49: 11.
ثالثًا: المسيح المقتول (9: 26)
المسيح المقتول (الذي أزيح) الذي ليس شخص المسيح الرئيس في 9: 25، هو أونيا الثالث الذي فقد رئاسة الكهنوت لصالح أخيه ياسون. هو ذات الشخص الذي يتحدّث عنه 11: 12 كـ "رئيس العهد". دلّ دانيال هنا على أمانة لجماعة أونيا كممثل للسلالة الكهنوتيّة الشرعيّة. وهو يرجو عودة هذه السلالة من أجل عبادة تعود إلى الهيكل.
د- كهنوت في رجاء دانيال
في رجاء شعب جديد ومجدَّد، يحتلّ المعبد والعبادة المكانة الأولى. وكهنوت جدير بهيكل مطهًّر، يُقدّم ذبائحَ ترضي الله. والموضوع العبادي مهمّ إلى درجة نعتبره وحده. فكأن دانيال تطلّع في المستقبل، إلى شعب أبناء قدّيسي العليّ الذي ليس على رأسه سوى المؤسّسة الكهنوتيّة. ولكن الوضع ليس هذا. فبناء المستقبل سيتمّ بحسب الماضي وبحسب الكتب المقدّسة التي تحتفظ به. إذن، سيتمّ هذا البناء عبر النظم السياسيّة التي لا يتوسّع فيها دانيال. ومع هذه النظم يدخل الهيكل والكهنوت وتكون لهما حصّة كبيرة في تكوين شعب أبناء قدّيسي العلي.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM