الفصل السادس الكهنوت في زمن الملوك

الفصل السادس
الكهنوت في زمن الملوك

لما حلّ النظام الملكيّ، حوّل ظروف وجود الكهنوت في أرض اسرائيل. وهكذا ستجد القبائلُ الموحَّدة تحت إمرة داود وسليمان، طريقة أصيلة لكي تحيا العلاقة بين سلطة الملك وسلطة الرئيس، وسط الأمم المجاورة. لن نتوقّف هنا عند الظروف المختلفة لممارسة الملكيّة. بل نحصر كلامنا في الاصلاح الاشتراعيّ الذي طيع بطابعه حقبة هامة. لهذا ندرسه على حدة. ونميّز فيه ثلاثة أمور. الكهنوت في الملكيّة الموحّدة. كهنوت أورشليم. الكهنة واللاويون في مملكة مقسّمة.
1 - الكهنوت في الملكيّة الموحّدة
هذه الحقبة القصيرة والخصبة معًا تقابل مُلك داود وسليمان. نهتم فيها بثلاث فئات من الناس: الملك، الكهنة، اللاويون.
أ – الملك
لا نريد أن نصوّر هنا الطقوس الملكيّة التي انتقل بعضها إلى عظيم الكهنة في زمن بعد المنفى. بل نتوقّف عند مسألتين: دور الملك في شعائر العبادة. والملكية "حسب ملكيصادق".
أولاً: دور الملك في شعائر العبادة
في جولتنا داخل ديانات الشرق القديم، رأينا أن الملك هو المسؤول عن تدبير الهياكل، وفي اسرائيل، الملك هو الذي ينظّم العبادة. انطلق بعضهم من مشاركة في أعمال العبادة ليعطونه صفة الكاهن. فنراه يقدّم الذبائح (1 صم 13: 9- 10؛ 15: 15؛ 2 صم 6: 13- 17؛ 24: 25؛ 1مل 3: 4). ومُنحت له امتيازات كهنوتيّة: يبارك الشعب (2 صم 6: 18= 1أخ 16: 2). يرفع صلوات التشفّع (2 صم 7: 18- 29؛ 1أخ 17: 16- 27؛ 1مل 8: 33- 55= 2أخ 6: 14-42). يلبس أفود الكتان (2صم 6: 14) الذي يمكن أن لا يكون لباسًا كهنوتيا.
وجاء من حلّل هذه المعطيات، فاستنتج أن الملك ليس كاهنًا في المعنى الدقيق للكلمة. فالملكية الاسرائيليّة لم تمنح الكهنوت للملك، لا في بدايتها ولا في تطوّرها. منذ البداية، كانت الوظائف الكهنوتيّة مميّزة بوضوح عن امتيازات الملك المحارب. ساعة لم يكن الملك "موظفًا" في شعائر العبادة ، فهو يُعتبر صاحب حّق في مراقبة العبادة. يجب أن نفسّر بدقّة الإشارات التي تدلّ على نشاط كهنوتيّ، ولا سيّما في ما يتعلّق بالذبائح. ففي هذه الحال، كان اللجوء إلى الكهنة اللاويين مفروضًا على الملوك كما على سائر العوام في اسرائيل. يُضاف إلى ذلك أن الملك ليس حارس المعبد، وأنه يتوجّه إلى الكاهن لينال جوابًا من الله (1صم 23؛ 9: 30: 7).
ثانيًا: الملكيّة "حسب ملكيصادق"
ولكننا نجد مقطعين تنضمّ فيهما ملكية أورشليم إلى لقب الكاهن. هما المقطعان الوحيدان اللذان يشيران إلى شخص ملكيصادق (تك 14: 18- 20؛ مز 110: 4).
. مز 110: 4
المزمور 110 هو مزمور ملكي، وهو يعود إلى زمن قديم، ربّما إلى زمن داود، نجد في آ 4 "ا ل. د ب ر ت ي". هل تعود إلى "د ب ر" (معاهدة) كما قال الأب داود؟ عند ذاك يُلغى شخص ملكيصادق. إن لفظة "بحسب" تترجم اليونانيّة "حسب ترتيب". وكانت ترجمة ممكنة مع كاكو: "أقسم الرب ولن يندم: أنت كاهن إلى الأبد. (أقسم) بالنسبة إلى ملكيصادق". وشرح موقفه فقال: "لا يقوم جوهر القول النبويّ في التأكيد على الطابع الكهنوتيّ للملكية، وهو طابع نقلته سلالة يبوس (اسم أورشليم في أيام الكنعانيين) من ملكيصادق إلى سلالة داود، ولكن في وعد الأبد أي في استمراريّة الملكيّة في السلالة". يفضّل هذا الموقفُ على موقف يرى في هذا الكلام عودة أولى إلى صادوق. وهكذا يؤكّد المزمور في نظر اسرائيل، على شرعيّة الكهنوت القبل إسرائيليّ في أورشليم. وهناك من اعتبر المزمور110 متأخرًا (بعد المنفى). فرأى فيه مزمورًا ملكيًا قديمًا تحوّل إلى قصيدة تنشد تولي رئيسُ الكهنة سلطته.
. تك 14: 18- 20
وطرح تك 14: 18- 20 عددًا من الصعوبات. فالنص مركّب تركيبًا عجيبًا ويدخل بصعوبة في مراجع البنتاتوكس الادبيّة. وجاء من رتّب النظريات في مجموعات مختلفة. (1) تلك التي تجعل تدوين تك 14: 18- 20 في ما بعد المنفى. (2) تلك التي تحدّد موقع النصّ في حقبة الملكيّة المقسّمة. (3) تلك التي ترى فيه تبريرًا لموقع صادوق في زمن داود. (4) تلك التي تقول إن هذا النص يُسند مختلفَ وجهات سياسة داود، حين حاول أن يوفّق بين العبادات الاسرائيليّة والعبادات الكنعانيّة، وحين أراد أن يجعل الناس يقبلون باعتداد داود بأن يكون ملك الاسرائيليّن والكنعانيين معًا. مهما يكن من أمر، فمرمى النصّ الأول ليس أن يجعلنا نقبل بكهنوت ولا أن يُبرز طابعَ المُلك في اسرائيل.
نلاحظ موقف دلكور الذي يقول إن مز 110 وتك 14 يرتبطان بتقليد تاريخي واحد. فقد دوّن المزمور في زمن داود. أما تك 14 الذي ينقل تقاليد قديمة فقد دوّن في زمن متأخّر. دوّن بعد المنفى فتوخّى أن يبرِّر تأسيس فريضة العشر رابطًا إياها بزمن الآباء.
ب - الكهنة في أيام داود وسليمان
ما زالت معرفتنا لتنظيم الكهنة في زمن داود وسليمان ناقصة. أما الكاهنان الرئيسيان فهما ابياتر وصادوق. ووجود هذين الكهنوتين يعكس ظروف خلق دولة تضمّ تقاليد مختلفة. لم يكونا محتكرَين كل الكهنوت، لأن اللوائح الإداريّة تذكر أبناء داود وعيرا.
كان ابياتر ابن احيمالك، كاهنًا في معبد نوب، فارتبط بجماعة عالي في شيلو. أما جوهر كهنوته فمن الخط "العرَّافي". هو يستعمل أفود العرافة. وحين لجأ إلى داود، حمل الافود (1صم 23: 6؛ 23: 9؛ 30: 7). وحمل معه تقاليد الكهنوت اللاوي الموشي في شيلو. وظهر مرّة أخرى في خبر الخلافة بجانب صادوق الذي يشاركه في حراسة تابوت العهد (2صم 15: 24-29؛ 17: 15؛ 19: 12). بعد أن أخذ جانب أدونيا، نُفي إلى عناتوت (1مل 2: 26). نحن هنا أمام مؤامرة داخل البلاط الملكيّ. قُهر الاتجاه المحافظ كما عرفته شيلو، ساعة بدأت الملكيّة تتطوّر مع سليمان. لن يعود أبياتر كاهن الرب (1مل 2: 27). ويربط مدوِّن 1 مل هذا الواقع بقول نبويّ ضد بيت عالي (1صم 2: 27- 36)، وإن كانت عناصر هذا القول قد جاءت بعد ذلك الوقت.
وظهر صادوق فجأة في خبر الخلافة. قاسم ابياتر حراسة تابوت العهد، فصار اسمه يرد قبل اسم ابياتر. وربطه المؤرِّخ الكهنوتي بسلالة العازر الكهنوتيّة (1 أخ 5: 34؛ 6: 38؛ 24: 3) وبالتالي بهارون. وحسب النصّ العبريّ في 2صم 8: 17، هو يرتبط بعائلة عالي بواسطة احيطوب. ولكن هذا يبدو صعبًا بسبب حاشية 1مل 2: 27.
أصل صادوق ما يزال سريًا. لا نعرف بدقّة من أين جاء. قيل كان كاهن جبعون (1 أخ 16: 39) وانتمى إلى كهنوت قرية يعاريم. وهناك فرضيّة تجعل منه كاهن معبد يبوس القديم، ووارث كهنوت ملكيصادق. وكانت اختلافة في هذا الخط عينه: كان كاهنًا يبوسيًا، فالتحق بداود في حبرون، وهكذا صار رئيس كهنة في بني اسرائيل. وكان رأي آخر: صادوق هو من نسل هارون من حبرون. وتركز الصراع الهاروني الموشي في زمن داود على صادوق وابياتر. وقيل: ارتبط صادوق ببيت يوياداع، والد بنايا، قائد الحرس الشخصيّ لداود. كان صادوق مساعده حسب 1 أخ 12: 28- 29. هكذا تبقى أمامنا فريضتان: ارتباط صادوق بيبوس. ارتباطه بهارون.
اختلف صادوق عن ابياتر، فما ذُكر عنه أنه استعمل أفود العرافة. ارتبط صادوق وأبياتر بتابوت العهد. إلاّ أن خبر الخلافة لا يتركّز على المسائل العباديّة. بل هو يعطينا معلومات عن الدور الذي لعبه الكاهنان في قضايا الدولة (2صم 19: 12- 15). كان صادوق بجانب سليمان مع النبي ناتان وقائد الحرس بنايا. وحسب 1مل 1: 39، هو الذي قدّم المسحة الملوكيّة لسليمان.
وأعلمتنا اللوائح الإداريّة بوجود أكثر من كهنوت. حسب 2صم 8: 18، كان ابناء داود كهنة. هو أمر عادي في النظم الملكيّة الشرقيّة التي تجعل بعض أعضاء العائلة المالكة يقومون بوظائف دينيّة. ولكن 1 أخ 18: 17 صحّح النص فقال: "وكان بنو داود الأوّلين".
واللائحة الثانية لموظّفي داود تقول إن عيرا اليتري كان كاهن داود (2صم 23: 38). وهناك لائحة سليمان في 1مل 4: 1- 5 حيث خلف عزريا والدَه صادوق. ولكن غابت لفظة "كاهن" من السبعينيّة. والاشارة إلى صادوق وابياتر هي إضافة (رج 1مل 2: 26- 27). ولقب كاهن الذي أعطي لزابود يبقى غير أكيد.
ج - اللاويون في مملكة داود وسليمان
كان لمجيء الملكيّة وتنظيم العبادة الوطنيّة نتائج هامّة في تطوّر الكهنوت. نظّم المَلك العبادة، فصار الكهنة موظّفين لديه. وهو يستطيع أن يستبعد من يشاء كما فعل مع ابياتر. هل تابع الاتجاه الذي بدأ في زمن القضاة، والذي شرع يفضّل اللاويين؟ كان ابياتر من اللاويين. ولكن لا صادوق ولا عيرا كانا من اللاويين. في أي حال، وجب على السلطة الملكيّة أن تقوم ببعض المساومات، وتأخذ بعين الاعتبار مساندة المجموعات المختلفة للملك.
كانت ملكيّة داود من أصل يهوذاوي. وكان اللاويون متمركزين في يهوذا. وقد أعاد المؤرِّخ الكهنوتي إلى داود تنظيم العبادة، ولعب اللاويون دورًا كبيرًا في هذا التنظيم. ويرى الشرّاح أن اللاويين الذين ساعدوا الملك على تثبيت عرشه، ظلّوا يخدمونه بشكل لافت. وحين درسوا عدّة حالات (أو اشخاص) انضمّوا إليه، استنتجوا أن هذه الخدمة لم تكن عبادية فحسب، بل سياسيّة وعسكريّة. وعالجوا علاقات داود باللاويين انطلاقًا من لوائح المدن اللاويّة (يش 21؛ 1 أخ 6: 39- 66؛ عد 35: 2- 8) التي أعادوها إلى زمن الملكيّة الداوديّة، فقالوا: حين أقام داود العبادة الوطنيّة، سلّم بعض المدن إلى اللاويين. كانوا أمناء لداود، فعُرفوا بغيرتهم ليهوه وبكفاءتهم في إقامة شعائر العبادة. أجل، إن هذه اللوائح تعكس سياسة داود.
2 - كهنوت أورشليم
إذا أردنا أن نتعرّف إلى كهنوت أورشليم خلال الملكيّة، نعود إلى التاريخ الاشتراعي (يش، قض، 1 و2 صم، 1 و2 مل) وإلى التاريخ الكهنوتي (1 و2 أخ، عز، نح). ومع ذلك، تبقى هذه المراجع خفرة في ما يخصّ التنظيم الداخليّ للكهنوت ودوره في شعائر العبادة. كما أنه يجب أن نأخذ بعين الاعتبار الاتجاه اللاهوتيّ لكل من التقليد الاشتراعيّ والتقليد الكهنوتيّ.
أ - خلفاء صادوق
نبدأ فنقابل مختلف لوائح الأنساب: 1أخ 5: 27- 41؛ 6: 35- 38؛ عز 7: 1- 5؛ نح 11: 10- 11؛ 1 أخ 9: 10- 11؛ 1 عز 8: 1- 2 (عزرا الأول في السبعينيّة اليونانية)؛ 2 عز 1: 1- 3 (عزرا الرابع كما في الشعبيّة اللاتينيّة). نلاحظ مزيجًا بين مختلف المجموعات التي تلقّاها المؤرخ الكهنوتي أو ألّفها. فالمعلومات الأكيدة تتداخل مع ما عرفناه من قبل.
لا نستطيع أن نقدّم هنا تاريخًا متواصلاً للكهنوت في زمن الملوك. نكتفي بالإشارة إلى بعض المحطات. خلف عزريا صادوق (1مل 4: 2). ولكننا لا نعرف شيئًا عنه. في أيام يوشافاط (870-848)، تحدّث المؤرِّخ الكهنوتيّ عن إصلاح قانوني. وورد اسم كاهنين: أليشاماع ويورام (2أخ 17: 8). ثم إن أمريا الكاهن الرئيس يدقّق في الأمور المتعلّقة بالربّ (19: 11). وكان تأثير الكاهن يوياداع كبيرًا في الانقلاب على عثليا وتتويج يوآش. ظلّ يوياداع مدّة طويلة في وظيفته، ولكنه لم يُذكر في سلسلة الأنساب. يقول 2أخ 22: 11 إن امرأته يوشابع هي ابنة يورام وشقيقة أحزيا. في أيام يوآش حدث أمرٌ جديد. جاء أمر من الملك، ففرض على الكهنة أن يتخلّوا عن جزء من المداخيل التي تغذّي الكنز المقدس، من أجل الإصلاحات في الهيكل. ولكن هذا كان من واجب الملك (2مل 12: 5- 7؛ رج 1 مل 9: 25ب). لهذا ظلّ الأمر حرفًا ميتًا، وعادوا إلى الممارسة القديمة. كان ليوياداع ابن اسمه زكريا، فقتله يوآش (2 أخ 24: 20- 22). وكان عزريا آخر رئيس كهنة في أيام الملك عزيا (2 أخ 26: 17- 20). يروي المؤرخ خلافًا حصل بين الملك والكاهن حول الدور العباديّ للملك. في أيام أحاز (736-716)، بدا أوريا الكاهن خاضعًا لسلطة الملك (2مل 16: 10- 17؛ رج أش 8: 2) الذي لعب دورًا كبيرًا في أمور العبادة (آ 12- 13)، ونلاحظ ترتيبات حول وظائف الكهنة في لغة قريبة من المرجع الكهنوتي. هكذا نكون في تقليد هيكل أورشليم. ونعرف أيضًا رئيس كهنة (كان في الوقت عينه رئيس الهيكل) في أيام حزقيا. اسمه عزريا. ويوضح 2 أخ 31: 10 أنه من بيت صادوق. وخلال إصلاح يوشيا (سنة 922) حلقيا هو الكاهن. وآخر الممسكين بالوظيفة الكهنوتيّة كان سرايا (2مل 25: 18؛ إر 25- 10؛ 52- 14). ابنه يوصاداق (1أخ 5: 10) سيكون والد جدّ يشوع، رئيس الكهنة الذي عاد مع العائدين من السبي.
حاولت لائحة الأنساب أن تملأ الفجوات التي تركتها الأخبار التي ما اهتمّت بأن تربط كل كاهن رئيس ببيت صادوق، ولا بأن تحدّد أن الوظيفة جاءته بالوراثة. لا نستطيع أن نستخرج برهانًا إيجابيًا من هذا الصمت، ولكننا نستطيع أن نتكلّم عن الكهنة الصادوقيين في أيام الملوك.
ب - التراتبيّة الكهنوتيّة
إذا عدنا إلى النصوص، نستطيع أن نكتشف بعض التنظيم في العالم الكهنوتي. فلقب "عظيم الكهنة" (هـ. ك هـ ن. هـ. ج د و ل) لم يُوجد قبل المنفى. أما ما نقرأ في 2مل 12: 11؛ 22: 4- 8؛ 23: 14 فقد زيد فيما بعد. عادة، يسمّى الكاهن الأول "هـ. ك هـ ن" (الكاهن مع أل التعريف) أو "ك هـ ن. هـ. ر و ش" (الكاهن الرئيس أو الكاهن الأول) (2أخ 19: 10-11؛ 26: 11- 20) أو "هـ. رو ش" (الرئيس، 2أخ 24: 6). إن الكهنة الذين أعطي لهم هذا اللقب عاشوا قبل المنفى، منذ أمريا في أيام يوشافاط (1أخ 19: 11) حتى سرايا (2مل 25: 18). أعطي هذا اللقب أولاً إلى أمريا في إطار إصلاح قانونيّ. ويبدو أنه أعطي له بسبب وظائفه القضائيّة. وقد يكون المعنى تطوّر: ففي أيام سرايا، تميّز الكاهن الأول عن الكاهن الثاني.
ووجد كاهن ثان (م ش ن ه). ولكنه لا يُذكر إلا في الأزمنة الأخيرة للملكيّة، بعد حكم يوشيا. مثلاً، لا يُذكر في 2مل 23: 4. أما في 2مل 25: 18 (= إر52: 24) فنجد صفنيا (= إر 21: 1؛ 37: 3؛ رج 29: 24- 29). في هذا النصّ الأخير يُسمّى "ف ق ي د" الهيكل أي المكلّف بشرطة الهيكل. وهو أقلّ عداوة لارميا من سلفه فشحور (إر 20: 1).
وعرف المؤرخ الكهنوتي لقبًا آخر: "ن ج ي د" (مدبّر) بيت الله (1أخ 9: 11؛ 2أخ 31: 13؛ رج 2أخ 35: 8؛ نح 11: 11؛ إر 20: 1). ولكن هذا اللقب لم ينحصر في الكاهن الرئيس. وهناك "حرّاس العتبة" (حرّاس أبواب الهيكل). رج 2مل 12: 10؛ 22: 4؛ 23: 4؛ 25: 18 = إر 52: 24؛ 2أخ 34: 9. هم ضبّاط رفيعون في الهيكل. وقد كلّفهم يوآش بجمع ما يرد إلى الهيكل (2مل12: 10). وأخيرًا "كبار (أو شيوخ) الكهنة". هم رؤساء البيوت الكهنوتيّة الذين لعبوا بعض المرّات دورًا هامًا في أمور الدولة (2 مل 19: 2 = أش 37: 2).
ج - وضع الكهنوت في أورشليم
إن هذه النصوص التي أوردناها تتيح لنا أن نستنتج أن دور الكهنة كان محدودًا في أورشليم على أيام الملوك. هناك ظروف خارقة أبرزت وجهين كهنوتيين: يوياداع في أيام عثليا ويوآش. وحلقيا في زمن أصلاح يوشيا. لماذا هذا الدور المحدود؟ ثلاثة أسباب.الأول: الملك هو الذي يدير ما يتعلّق بالمعبد. الثاني: في لوائح الموظّفين، لا يحتلّ الكاهن المركز الأول ولاسيّما في أيام داود. الثالث: الكهنة هم مرافقون من الدرجة الثانية في المهمّات الرسمّية. ولا يبدو أنه كان للكهنة تأثير سياسيّ. لأن السلطة الملكيّة راقبت كل تحرّك في الهيكل.
نشير بشكل عابر إلى انتقاد الأنبياء للكهنة. فأشعيا وميخا النبيّان في يهوذا في القرن الثامن، تكّلما قليلاً عن الكهنة. في إطار الحرب الآرامية الافرائيمية، ذكر اشعيا اوريا الكاهن كشاهد أهل للتصديق (أش 8: 2). و"كبار الكهنة" كانوا في الوفد الذي أرسل إليه (أش 37: 2). هو يوبّخ الكهنة (مع الانبياء) بسبب الخمر التي تلهبهم (28: 7). ويزيد "إنهم يعثرون في الحكم" أي يمارسون القضاء تحت تأثير السكر. أما كتاب ميخا فتضمّن هجومًا واحدًا على الكهنة بعد أن جعلهم مع سائر المسؤولين (3: 11). إتّهم الكهنة بسبب جشعهم: "رؤساؤها يحكمون بالرشوة، وكهنتها يعلِّمون بالأجرة".
3 - الكهنة اللاويون في مملكة مقسّمة
لن نجد عملاً جديًا يضمّ مختلف الفئات الكهنوتيّة إلا مع الإصلاح الاشتراعيّ. أما الآن، فالشعب انقسم قسمين: مملكة الشمال (أو افرائيم أو اسرائيل) وعاصمتها السامرة. ومملكة الجنوب (أو يهوذا) وعاصمتها أورشليم. وستعيش مملكة الشمال قرنين من الزمن قبل أن تزول. بدأت بعد موت سليمان، مع يربعام الأول حوالي سنة 933 ق م. وانتهت مع هوشع وسقوط السامرة سنة 722-721. في ذلك الوقت انتظمت الحركة اللاوية منتظرة ساعتها.
أ- يربعام الأول والكهنوت
اختار يربعام معبدين معروفين في عالم الكهنة. ارتبط معبد دان بالموشيين (نسبة إلى موشى، موسى)، ومعبد بيت إيل بالآباء حسب قض 20: 26- 28. كان فنحاس، حفيد هارون بواسطة العازر، يخدم بيت إيل. واحتفظ يش 24: 13 بتقليد يقول إن العازر دُفن في جبل افرائيم. ولكننا لسنا أكيدين بأن يكون هذا الكهنوت قد ظلّ مرتبطًا بهارون بعد إصلاح يربعام الأول، لأننا نعرف أن الهارونيين طُردوا من بيت إيل حسب 2 أخ 11: 13- 15؛ 13: 8- 11.
وكهنة شيلو الذين أبعدوا حين ارتقى سليمان العرش، ما ظلّوا مكتوفي الأيدي. فسياسة سليمان الموافقة ليهوذا أضرّت بمصالح الموشييّن في الشمال. فاستفاد يربعام الأول من هذا الاستياء لديهم.
يرد انفصال يربعام الأول في حاشية نقرأها في 1مل 12: 26- 33. كان تدخّلُ الملك في شعائر العبادة أمرًا عاديًا، لأنه المسؤول عن العبادة، ولأن له سلطة على تسمية الكهنة. ولكنه سمّى أشخاصًا ليسوا من "بيت لاوي" (عبارة قد لا تكون اشتراعيّة). أناسًا جاؤوا من كل جهة (أفضل من أناس عاديين، من الشعب). وجعل النص هؤلاء الكهنة يرتبطون بالمشارف (12: 3؛ 13: 33). ورغم الإنشاء الاشتراعي للمجموعة، يرى بعضهم في 12: 31 آية اشتراعية. فإن آ 31 (بنى يربعام بيوتًا للعبادة وأقام كهنة) تستند إلى أساس متين. فيربعام ما وجد بين اللاويين كهنة مستعدين أن يكونوا له. فاللاويون المقيمون في الشمال فضّلوا الأمانة لعبادة لا تعرف صورة ولا تمثالاً.
هناك علاقة بين 1 مل 12 وخر 32. ونقاط الاتصال عديدة: أو أن يربعام اقتدى بهارون. أو نحن أمام حرب يصليها كهنة أورشليم الصادوقيون، ستخفّ حدّتها حين قُبل الصادوقيون في أورشليم في نسل هارون. ويبدو أن هذه الحرب لم تأت من أورشليم، بل من كهنة شيلو الذين عارضوا الهارونيين في بيت ايل. ويرى آخرون أن خر 32 يعود إلى تقليد موشي شيلوني لم يقبل بعبادة مع صور وتماثيل فقام على يربعام (مثلاً، ردّة فعل أحيا). يبدو أننا لا نجد في خر 32 حربًا بين كهنوتين، لأن هارون لا يبدو هنا كصورة كهنوتيّة.
ب - ترفيع كهنوتي للاويين (خر 32: 25- 29)
أُقحم خر 32: 25- 29، بشكل متأخّر في سياقه الحالي. ويصعب أن ننسبه إلى أحد مراجع البنتاتوكس الأربعة (يهوهي، الوهيمي...). قد يكون جاء من الشمال فدخل في نصّ الوهيمي. وما توخّاه في الأصل ليس مناوءة هارون، لأن آ 25ب و35ب اللتين تهاجمان هارون أضيفتا فيما بعد. هذا التقليد يهاجم بالأحرى عبادة العجل الذهبي. بما أن لا شيء يشهد لهذا الهجوم في القرن التاسع، فإن هاتين الآيتين لا يمكن أن تكونا دوِّنتا قبل القرن الثامن. ولكن لا يمكن أن تعودا إلى ما بعد سقوط السامرة الذي أنهى العبادة الملكيّة في الشمال.
أما النواة الحقيقيّة لهذه الوحدة النصوصيّة فهي آ 29 التي تؤكّد أن اللاويين تقلّدوا الكهنوت مع عبارة "ملأتم أيديكم". والتحديد الوحيد المعطى هنا هو أن هذه التولية هي من أجل الرب. فموسى طرح مسألة التعلّق بيهوه (آ 26). وأعطيت لهم البركة. فالتعلّق بيهوه سمة خاصة باللاويين، وهو يسبق الرباطات العائليّة والوطنيّة. ويمكننا أن نتساءل: هل نفهم بلفظة "أخ"، الاسرائيلي بشكل عام أو اللاوي بشكل خاص؟ مهما يكن من أمر، فهذه القاعدة اللاوية تجعل للقبيلة ما كان في الأصل للفرد (قض 17- 18). وهي تبرّر مطالبة اللاويين بحق حصريّ في ممارسة الكهنوت.
ج - وظائف لاوي الكهنوتية (تث 33: 8- 11)
إن القول حول لاوي في تث 33: 8- 11 يختلف في رنّته عن القول الذي نجده في بركات يعقوب (تك 49: 5- 7). الموضوع هنا هو الوظائف الكهنوتيّة في قبيلة لاوي. وقد يعود النص إلى القرن الثامن، فيكون "دوّن" بعد خر 32: 25- 29. لما جُعلت توليةُ الكهنوت للاويّين على سفح سيناء، فإطار هذا "القول" هو أحداث مسّة ومريبة. غير أننا نجد في تث 33: 9أ صدى لما في خر 32: 25- 29. فمجمل النص هو امتداد للتولية وتكملة لها. ونستطيع أن نميّز زمنين في التدوين: المرحلة الأقدم، وهي ذات طابع قبليّ، تتحدّث عن الوظيفة الكهنوتيّة في ارتباطها بالأقوال النبوية (33: 8). والمرحلة المتأخرة دوّنت في صيغة الغائب الجمع فأشارت إلى التعليم والذبيحة (آ 9ب- 10).
أولاً: وظيفة "العرافة"
هي الوظيفة التي تشهد لها أكثر ما تشهد النصوصُ القديمة. والأواني المستعملة هي اوريم وتوميم. نجد اللفظتين معًا في تث 33: 8؛ خر 28: 30؛ لا 8: 8؛ عز 2: 63؛ نح 7: 65. ونجدهما في 1صم 14: 41 حسب الترجمات (لا في الأصل العبري). كانت بلا شك شيئًا مثل زهر النرد يتيح أن يجيب بنعم أو لا. ولكن في زمن الملكيّة، خفّ تدريجيًا دور الكهنة في "العرافة".
ثانيًا: التوراة والتعليم
وارتبطت الوظيفة الكهنوتيّة تقليديًا بالتوراة (في المعنى الحصري) التي هي في الأصل تعليم قصير حول موضوع خاص، وقاعدة سلوك عمليّة في مواد عباديّة. وقد اتّخذ التعليم الكهنوتي أشكالاً مختلفة حسب الأطر التي مورس فيها. فبالإضافة إلى التقنية القديمة في العرافة وتقديم "القول الالهي"، ميّز الشرّاح "التوجيه" الكهنوتي (نجد مثلاً عنه في حج 2: 10- 13). و"الاعلان" الكهنوتي (رج تث 27: 14- 26). و"الحكم" الكهنوتي (كما في خر 22: 7- 8 حيث يُحمل الخلافُ أمام الله). أما الموضوع الأهم في "التوراة" (أي التعليم) الكهنوتية فهو التمييز بين الطاهر والنجس، بين المقدّس والدينويّ. غير أن النصوص الأوضح تعود إلى زمن متأخّر. واعتبر بعضهم أننا أمام أجوبة ترتبط بظروف خاصة لا أمام تعليم منسّق. ومع ذلك، يبقى أن مسؤوليّة الكهنة الأولى تقف أمام "التعاليم" (توروت جمع توراة) (إر 18: 18)، كما تقف مسؤولية الأنبياء تجاه "أقوال" الله.
ثالثًا: الوظيفة الذبائحيّة
هي تأتي في الدرجة الأخيرة. لم تكن في الأصل محفوظة للكهنة. إن تث 33: 10 ب انطلق من واقع يُعمل به ويكاد يصبح قاعدة. فالكهنة ارتبطوا بالذبائح من خلال دورهم "العرّافي" ووظيفتهم كحرّاس المعبد. في شيلو، كانت لهم حصّة من الذبائح (1صم 2: 12- 17). ولما تطوّرت شعائر العبادة في زمن الملكيّة، أخذ الكهنة "يحرقون البخور" و"يضعون المحرقة على المذبح". في القول ضد بيت عالي، جاءت في الدرجة الأولى العلاقة بين الكاهن والمذبح (1صم 2: 28). فالكاهن ليس الذابح بمعنى "الناحر" (كل واحد ينحر)، بل هو ذاك الذي يقدّم الذبيحة. وهكذا، حين تحدّد دورُ الكهنة في الذبائح، بدا هذا الدور قديمًا. ولكنه تنظّم شيئاً فشيئًا ساعة زال دور "العرافة"، وصار الدور التعليمي مشتركًا مع أشخاص غير الكهنة.
د- كهنوت الشمال والأنبياء
يخبرنا كتاب الملوك أن الحركة النبويّة تركّزت في مملكة الشمال، وكان تأثيرها كبيرًا. ومنذ القرن الثامن، بدأ الأنبياء يهاجمون بقوّة الانحرافات في العبادة. جاء نبيّ من الجنوب وكان في أصل الخلاف بين الكهنة والأنبياء، اسمه عاموس. جاء إلى معبد بيت إيل الملكي. فطرده الكاهن أمصيا (عا 7: 10- 17).
وجسّد هوشع هذا الصراع ضد العبادات الوثنيّة. هو النبيّ الوحيد الآتي من الشمال وقد ترك كتابًا. هاجم عجل السامرة (هو 8: 4- 6)، بيت أون (10: 3؛ رج12: 1- 3). والتقى بالكهنة خلال انتقاده للعبادات (4: 4، 6، 9؛ 5: 1؛ 6: 9). يلخّص موقفه في 6: 6 مع توبيخين جوهريين: رفض المعرفة ونسيان التوراة (= التعليم). هو لا يحدّد هويّة الكاهن ولا مكانته. هو لا يهاجم الكهنوت كوظيفة. بل الكهنة الذين يقومون بهذه الوظيفة. فلهوشع نظرته السامية إلى الكهنوت. فتوراة إله العهد قد سُلِّمت إلى الكهنة. خطيئتهم تحدّد عقابهم. وسيُصنع بالكهنة، ما صنعوا هم بيهوه. رذلوا وحيه. فسيرذل كهنوتَهم.
مهما يكن ارتباط هوشع بالوسط الكهنوتي، فهو يعكس الحالة النفسية وإرادة الإصلاح. وهذا الإصلاح سيتمّ حين يساعد الكهنةُ الحقيقيون الشعب ليعرف الرب، فينقلون إليه التوراة أي التعليم.
خاتمة
تلك كانت جولتنا في الكهنوت على عهد الملوك بدءًا بعهد داود وسليمان. وصولاً إلى منفى أشور (722) ومنفى بابل (587). ما زال يُوجد أكثرُ من كهنوت في البلاد، ولاسيّما حين انقسم الشمال عن الجنوب ونظّم له كهنوتًا خاصًا به أخذ أعضاءه من الناس العاديين لا من اللاويين. ولكن الحركة اللاوية بدأت تتكوّن في شكل منظّم. وكذلك الحركة الكهنوتيّة التي ستجمع النصوص العديدة قبل منفى بابل وبعده، فتقدّم لنا الكتب الكهنوتيّة والتاريخ الكهنوتي.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM