الفصل العاشر من الانسان العتيق إلى الانسان الجديد

الفصل العاشر
من الانسان العتيق
إلى الانسان الجديد
3: 9 ب- 17

درسنا في فصل سابق التأليف، فجعلنا هذه المقطوعة التي ندرس الآن (3: 9 ب- 17) داخل القسم الثالث الذي يشدّد على قداسة المؤمنين. وها نحن نتوقّف في شقّ أول عند حياتنا في المسيح بظروفها (3: 9- 11) وفي شقّ ثان (3: 12- 17) عند التصرّف الخلقي في تعابيره الايجابيّة. وننهي بنظرة عامة إلى آ 9 ب- 17.

1- ظروف الحياة في المسيح (3: 9- 11)
بما أن المؤمنين قد تخلّصوا من الانسان العتيق ولبسوا الانسان الجديد، فقد استطاعوا أن يتركوا الرذائل التي شكّلت طريقة حياتهم السابقة. إن آ 9 ب- 11، تقع في خطّ المعلّلات الكرستولوجيّة التي قرأناها في آ 1- 4، فتكوّن أساسًا لسلسلتي التحريضات (وتربط بين هاتين السلسلتين)، تلك التي تطلب منّا أن نترك الرذائل الماضية (آ 5- 9 أ)، وتلك التي تدعونا إلى ممارسة القيم الانجيليّة.
أ- خلعتم الانسان العتيق (آ 9 ب)
"بعد أن خلعتم (خالعين) الانسان العتيق مع أعماله". هو اسم الفاعل. ننفصل عن بعض الممارسات لكي يتعرّى الانسان العتيق، فيُغسل ويُعرض ولكنه لا يُترك. وتجاه "خلع..." هناك "لبس من جديد". وهكذا يؤكّد الكاتب أن الانسان العتيق قد مات، فيرتبط بما في روم 6: 6 الذي يربط هذا الموت بالصلب (صُلب انساننا العتيق)، و8: 13 (إذا أمتّم بالروح أعمال الجسد تحيون). فالتعارض هنا بين الانسانين العتيق والجديد، يعود إلى خلفيّة عماديّة قرأناها في آ 1- 4، وإلى الدعوة (آ 5) إلى أن نميت الأعضاء الأرضيّة. وهكذا نفهم كيف انتقل النصّ من "الأعضاء" إلى الانسان كله.
ب- لبستم الانسان الجديد (آ 10)
ينتقل النصّ من صورة الانسان العتيق إلى صورة "الانسان الجديد" (نقرأ في 2 كور 5: 17؛ 6: 15 عن الخليقة الجديدة. وفي 2 كور 3: 6 عن العهد الجديد، عن الميثاق الجديد). هنا نتذكّر 2 كور 4: 16: "انساننا الداخليّ يتجدّد يومًا فيومًا". إذن، تشكّل آ 9 ب- 10 وحدة منظّمة حول صورتين متعارضتين. وسيزول هذا التعارض بزوال الشق الأول، بموت الانسان العتيق في المعموديّة: نخلع الانسان العتيق، نلبس الانسان الجديد.
إن منطق البرهان هو ما يفسّر ظهور المثنّى عتيق- جديد. فتجاه أعمال معروفة هي أعمال الوثنيين المحيطين بنا، مع رذائلهم، لا يمكن لأعمال المسيحيّ إلاّ أن تتحدّد في ألفاظ جديدة، وبتصرّف لا يفكّر فيه من ظلّ غارقًا في ثقل الخطيئة. استعمل الكاتب في إطار عمادي لفظتين تعنيان "الجديد" (نيوس، كاينوس). فما معنى "لبس الانسان الجديد"؟ إن دلّ "خلع" على موت عن الممارسات القديمة، عن الرذائل، فـ "لبس" يدلّ على ولادة من أجل بشريّة رفيعة تعيش في البرّ وتتكرّس للفضيلة. وإذا كان المعمّد مولودًا جديدًا (إلى هذا تشير لفظة نيوس)، فبشريّته الجديدة، وحياته الجديدة، لا يمكن أن تكون إلاّ حياة المسيح (آ 4). ويتمّ هذا النموّ بتجدّد متواصل. هو دومًا جديد، ولا يتحجّر في مضامين ثابتة لا تتبدّل. إذا كان الانسان الجديد مختلفًا كل الاختلاف عن العتيق، فهناك عنصر حاسم يجمع بينهما: الانسان وكيانه: إن التحوّل يتمّ بدون تبديل في الطبيعة.
ويضيف الكاتب أن الانسان الجديد يتجدّد على صورة خالقه، أي الله. تلك هي الصورة الأولى للتجدّد: يحافظ الانسان الجديد على انسانيّته، فيصير يومًا بعد يوم شبيهًا بالله. أبتصرّفه؟ هذا ما ستقوله الآيات اللاحقة.
إذا كان الكاتب لم يقل بعد في ما يقوم بالضبط هذا الجديد (على المستوى الخلقيّ)، فهو يدلّ على غايته: المعرفة (ابيغنوسيس). رج 1: 9 حيث المعرفة خضعت بنفسها "لسلوك يليق بالربّ ويرضيه". فغاية التجرّد هي خلقيّة. فإن كان المؤمن يصبح يومًا بعد يوم أكثر شبه بالله، فلكي يكون قدّيسًا، بارًا، صالحًا، صبورًا، كاملاً. وهذا ما يشدّد مرّة أخرى على أهميّة التصرّف الخلقيّ لمن يريد أن يحيا في المسيح.
ج- لا يوناني ولا يهودي (آ 11)
يمكننا أن نتساءل: لماذا لم يقل الكاتب في بداية آ 10 إن المعمّدين قد ارتدوا المسيح كما في غل 3: 27؛ لكي يستغلّ كل الاستغلال جميع وجهات الاستعارة التي استعملها وتتيح لنا آ 11 أن نقدّم جوابًا على مستوى آخر فنصوّر العلاقات الجديدة بالنظر إلى المسيح.
"حيث" (هوبو). هل يعني الانسانَ الجديد نفسه أم الجسد الكنسي؟ إن الكنيسة هي بلا شكّ الموضع الذي فيه يتجدّد كل مؤمن يومًا بعد يوم، على صورة خالقه، بقدر ما تظهر علاقات جديدة يعيشها أناس جدد. وهكذا تؤكّد الآية الملاحظة التي أوردناها سابقًا: يبدأ الجديد فيتجدّد بشكل سلبيّ وفي تعارض مع ما نعرف وما نعيش. أما البشريّة العتيقة فهي بشريّة تبرز فيها الاختلافات الأساسيّة والتمييزات والحواجز على مختلف الصعد، ولا تساعد على التبادل والوفاق: وضع المرأة في المجتمع في درجة ثانية. أما العبد فلا حقّ له إطلاقًا. والوثنيون (= اليونانيون) لا ينتمون إلى شعب العهد. وهكذا لا حقّ لهم بالبركات الالهيّة.
حين أنكرت غل 3: 28؛ كو 3: 11 كل تمييز، لم تعلنا المساواة في الأوضاع الاجتماعيّة والحضارات، بل قالتا إن المقولات الدنيويّة لتحديد وضع المؤمنين لم تعد في محلّها. لم تعد مقبولة. وغياب التمييز يدلّ، بشكل ايجابي، على الكرامة التي يشارك فيها الجميع بدون تمييز. ففي نظر كو 3: 11 ب، الانسان الجديد هو الذي يتقبّل كرامته من حضور المسيح فيه. وهكذا يشبه المؤمنون الله يومًا بعد يوم، لأن المسيح هو "كل في الكلّ".
هل يتضمّن هذا أن جميع المؤمنين يشبهون بعضهم بعضًا في كل شيء؟ وهل تعلن غل 3: 28 وكو 3: 11 غياب التنوّع على المستوى الأساسي، مستوى الايمان. بالمسيح، وعلى هذا المستوى وحده؟ واستنتج بعض المفسّرين خطأ بأن في الكنيسة، لا رئيس ولا مرؤوس، بل إن جميع المسيحيين يمارسون ذات الوظائف والخدم الكنسيّة. مثل هذا القول يعارض تماسك كلام بولس في كو 3: 11 كما يعارض 1 كور 12: 29 (هل كلّهم رسل؟ هل كلّهم أنبياء؟). إن غياب التمييز لا يمنع ترتيب النسيج الكنسي والاجتماعي. هنا نتذكّر صورة الجسد في 1 كور.
عاد بولس إلى لاحة تقليديّة في كو 3: 11، فوسّع حقل التمييز في سلسلة تنحدر ولا ترتفع. انتقل من اليهوديّ إلى اليونانيّ. ومن اليونانيّ إلى الأعجمي. وبين الأعاجم نظر إلى من هم في آخر السلّم الاجتماعيّ والحضاريّ. وقد توخّت هذه اللائحة أن تبيّن أن الجميع بدون استثناء، من الذين امتازوا بأن يكونوا شعب، العهد، إلى الذين يُعتبرون آخر البشريّة، يتمتعون بذات الكرامة. هذه الكرامة تقوم بأنهم أناس جدد في المسيح. ومنذ الآن قدّيسو الله وأحبّاؤه.
وتنتهي آ 11 فتؤكّد الوجه الكرستولوجيّ في كو. قالت 1 كور 15: 28 عن الله إنه يكون "كلاً في الكل" في نهاية الأزمنة. أما كو 3: 11 فأكدّت ذلك منذ الآن في المسيح: سيادته كاملة. أولويّته كاملة. وملؤه كامل. فهو كل شيء لجميع المؤمنين الذين امتلأوا فيه بشكل نهائي. فغياب كل تمييز على مستوى الهويّة والكرامة والامكانيّة الخلقيّة لدى المؤمنين، يجد ينبوعه في الكرستولوجيا، في شخص يسوع المسيح.

2- التصرّف الخلقي في تعابيره الايجابيّة (3: 12- 17)
والآن يستطيع الكاتب أن يصوّر التصرّف الخلقي الجديد الذي يُدعى إليه جميعُ المؤمنين بألفاظ تذكّرنا بما في الرسائل الكبرى. ولكننا تركنا التعابير السلبيّة كما في آ 5- 9، ووصلنا إلى التعابير الايجابيّة.
أ- أنتم مختاري الله وقديسيه (آ 12)
كما في آ 5 (إذن)، يتوسّع التحريض هنا أيضًا على أساس علاقة المؤمنين بالمسيح. فالطريقة التي بها يسمّي الكاتب قرّاءه (مختاري الله وأحبّاءه) يدلّ على أن خبرة محبّة الله هي ما يحرّك المسيحيّ في تصرّفه: بما أن المعمّد عرف رأفة الله ورحمته تجاهه، عرف صلاحه وصبره، فعليه أن يتصرّف كذلك تجاه سائر المؤمنين: إذن، لا يحثّ الكاتب المؤمنين من الخارج، يل يعيدهم إلى مسيرتهم الخاصّة وهويّتهم الجديدة: إن الانجيل الذي تقبّلوه وعاشوه يبقى في النهاية المعلّل الوحيد للتصرّف المسيحيّ.
وتأتي لائحة الفضائل بما فيها من أمور مشتركة مع غل 5: 22- 23: اللطف (خرستوتيس)، الوداعة (براوتيس)، الصبر (مكروتيميا)، المحبّة (أغابي، آ 14)، السلام (ايريني). وهكذا كما في آ 5، 8، 11، استعادت كو ما في غل. غير أن كو 3: 12 غير متوسّعة مثل غل 5: 22- 23. هي لا تحتفظ في حركة أولى إلاّ بالرحمة واللطف تجاه سائر المؤمنين. بما أن الكاتب شدّد على هذا، نحذّر من الاستنتاج أن الكولسيين لم يمارسوا المحبّة ولا الرحمة: فالكاتب لا يضع اصبعه على الجرح كما لا يصوِّر بالضرورة في آ 5- 8 الفوضى الموجودة في الجماعة: إن الجديد الخلقيّ الذي يُدعى إليه الكولسيون، يطلب منهم موقف المسيح نفسه الذي سامح ورحم. بما أن المسيح هو حياة المعمّد، نفهم أن يكون موقف المعمّد هو موقف ربّه. وهكذا نفهم لماذا ذكر الكاتب أول ما ذكر الرحمة واللطف.
إن عبارة "أحشاء الرحمة" (سبلانخنا اويكترمو) تستلهم فل 2: 1. ولكن الحثّ على الرحمة هو جزء من مقال يهوديّ ومسيحيّ (1 بط 3: 8؛ أف 4: 32؛ وص زبولون 7: 3؛ وص نفتالي 7: 4؛ وص شمعون 4: 4). فالرحمة التي نقرأها في روم 12: 1؛ 2 كور 1: 3 تدلّ أولاً على موقف الله والمسيح تجاه البشر. إن آ 12 تطبّق ما في آ 11 حيث قيل إن تحوّل المعمّد يقوم بأن يصبح يومًا بعد يوم شبيهًا بالله.
ب- احتملوا بعضكم بعضًا (آ 13)
نحن هنا في الواقع أمام اسم الفاعل: "محتملين بعضكم بعضًا". فعلى المعمّدين أن يسامحوا كما سامحهم الرب (رج روم 15: 7). فالرب هو مثال المعمّد في تصرّفه. غير أن هذا المثال ليس مثالاً يقدَّم إليه من الخارج. بل إن خبرة الغفران التي نالها المؤمن تحرّكه وتجعله قادرًا بدوره على الغفران.
ولكن من هو "كيريوس"؟ الله أو المسيح؟ لقد لاحظنا أن كو تتّجه إلى "إلغاء" الله كفاعل لعمَلَي الخلق والخلاص، لكي تُبرز وساطة المسيح الفريدة. وإذا عدنا إلى استعمال "الربّ" في كو، تبدو الاستنتاجات أكثر وضوحًا: (1) يظهر "الله" (تيوس) وحده أو مع لقب "الآب"، لا الرب. أما "المسيح" فنجده مرات مع "الربّ". (2) إن 1: 10 والمقطع حول الخلقيّة العائليّة (3: 18- 4: 1) يدلاّن على أن كو تحتفظ بلفظة "كيريوس" للمسيح.
ج- إلبسوا المحبّة (آ 14)
تواصل هذه الآية استعادة "اللبس" في خطّ بولسيّ واضح (روم 13: 8، 10؛ 1 كور 13؛ غل 5: 14): هي تجعل المحبّة فوق جميع الفضائل السابقة لتغطّيها كما بلباس، أو لتجعلها معًا دون أن تتماهى معها.
لا يتحدّث الكاتب إلاّ عن وظيفة المحبّة التي هي "رباط الكمال". المحبّة هي الرباط السامي، الرباط الكامل. والرباط الذي موضوعه الكمال أو يقود إلى الكمال. بما أن المحبّة هي فوق جميع الفضائل، تحيط بها وتجمعها، فهي أيضًا الرباط الكامل. وهناك تفسير كان يُعطي السبب الأخير لتصرّف المعمدين: الكمال. ولكن ماذا تربط المحبّة؟ الفضائل المذكورة في آ 12 أو فضائل المعمدّين؟ هذا ما لا يحدّده الكاتب. بما أن آ 15 ستتكلّم عن رباط بين أعضاء في جسم واحد، فالرباط المذكور هنا ينطبق بالاحرى على الفضائل التي تصل إلى الكمال بفضل المحبّة.
د- سلام المسيح (آ 15)
إن هذه العبارة (ليَسُد في قلوبكم سلام المسيح) هي بمثابة تمنٍ أكثر منه دعوة إلى "صنع السلام" أو العمل لأجله (كما في روم 14: 19). يبدو السلام هنا نعمة نتقبّلها لا قيمة نعمل لها (روم 15: 13؛ غل 14: 17). إن فعل "ليَسُد" يستعيد 2: 18. وهكذا يُدعى الكولسيون إلى موقف يتعارض مع موقف جميع الذين احتقروا المعمَّدين الذين لا يأخذون بالممارسات الزهديّة: معيار الحكم على الآخرين والنظر إليهم، هو معيار السلام كما يريده المسيح ويعطيه.
ويحدَّد السلام في أصله: يرتبط بالمسيح. هو مسيحاوي. ويحدّد في غائيّته: يرتبط بالكنيسة. هو إكليزيولوجي. لقد دُعي المؤمنون إلى السلام الذي هو سلام جسم وحيد موحَّد. فيجب أن نتبع مسيرة سلام المسيح هذا بما فيه من تشعّب: يجب أن يسود في قلب كل مؤمن لكي يمتدّ فيما بعد إلى الجسم الكنسيّ. فوحدة الجسم الكنسي تجد في السلام غايتها وأداتها.
إن المسيح يتلقّى دورًا أساسيًا في خلقيّة المعمدين، بحسب كو. ولكن اللون الكرستولوجي للبعد الكنسيّ للخلقيّة، يأتيه من الطريقة التي بها تصوّر كو العلاقات المميَّزة بين المسيح وكنيسته منذ البداية في 1: 18: السلام الذي يحركه المعمدون يأتي من المسيح الذي يسود على كنيسته ويعطيها الحياة. وهكذا يشدّد 3: 15 بشكل غير مباشر على التماسك العظيم في الرسالة إلى كولسي.
وعبارة: "كونوا شاكرين"، لا تشير بشكل مباشر إلى فعل الشكر الذي ستتحدّث عنه آ 17، بل إلى الموقف الذي به نعترف بعطايا قبلناها، كما نعترف بالمعطي: لسنا فقط أمام تصرّف، بل طريقة حياة نعود بها إلى الله وإلى الآخرين. هنا نجد الوجهة الثانية للخلقيّة المسيحيّة التي لا تقوم فقط بأن نذهب إلى إخوتنا لكي نغفر لهم ونعينهم ونحبّهم، بل لنتقبّل حبّ الآخر ومبادرته (وحب الله ومبادرته) تجاهنا.
و- لتحلّ فيكم كلمة المسيح (آ 16)
نحن هنا أيضًا أمام اسم الفاعل: معلّمين، ناصحين، مرنّمين. تلك هي الطريقة التي بها تحّل كلمة المسيح بوفرة في الجماعة. هذه الكلمة التي هي كلمة المسيح (الذي يتكلّم بواسطة أعضاء الجماعة) تتّخذ شكل التعليم والنصح (أو التحريض، كلمة من المعمِّد إلى المعمَّد. في خطّ واحد، أو تكون متبادلة) والصلاة (كلمة المعمّدين إلى الله). إذن لسنا هنا أمام إعلان الانجيل بواسطة المرسلين أو الرسل (رج 1: 29)، بل أمام الانجيل كما يستعيده المعمَّدون ويتأمّلونه ويعبِّر عنه بعضهم لبعض إذا أرادوا أن ينموا في معرفة الله ومشيئته. هكذا لا تكون كلمة المسيح (كبشرى وخبر طيّب) فقط واقعًا من الماضي، بل تظلّ تحرّك الجماعة وتبنيها في الوقت الحاضر.
ولكن ليس كل كلمة في الجماعة قطعًا كلمة "المسيح" (فهناك كلام المعلّمين). لهذا يأتي هذا النصح في النهاية، بعد اللطف والرحمة والمحبة والسلام التي جاءت بشكل طريقة حياة وتصرّف أساسيين وموصوفين بوصف كرستولوجيّ. لهذا، يجب على التعليم والنصح أن يتمّا "في كل حكمة" (رج 1: 9).
وهكذا يكون دور المسيح حاسمًا على جميع الصعد، وفي كل أشكال العلاقات بين المعمَّدين ومع الله، لأن كلمته تُحيي الجماعات بالطريقة التي فيها يمارس المعمّدون التعليم، والنصح المتبادل، والصلاة إلى الله.
ندهش حين نرى "الروح" يُذكر بشكل عابر (أناشيد روحيّة)، "فيكسفه" المسيح على ما يبدو: سبق وقلنا إن هذا لا يعني جهل القول المتعلّق بحياة المؤمنين بتأثير من الروح (لا تعتبر كو أنها قالت كل شيء على جميع الصعد)، بل تشديدًا على الانجيل، كلمة المسيح، كموضع وينبوع فيه يجد المؤمنون دومًا، كلَّ ما يحتاجونه لكي يعرفوا إرادة الله ويحيوا النعمة التي تلقّوها في المعموديّة، لكي يحيوا ملء الحياة.
والنهاية حول مختلف أشكال الصلاة، تستعيد ما قيل في 1: 12 عن الصلاة وفعل الشكر، وتُظهر أهميّته: لا يقول الكاتب لماذا تجد الحياة المسيحيّة كمالها في الصلاة الجماعيّة. ولكن جميع التوسّعات حول الملء الذي يناله المعمدّون في المسيح لا يمكن إلاّ أن يقود إلى هذا: التعرّف إلى العطايا يقود إلى المعطي، فنندهش من طرقه وننشدها معًا.
و- كل شيء باسم الرب يسوع (آ 17)
يستعيد بولس نصحه ويُجمله مذكرًا بذات المبدأ الكرسترلوجي: نعمل كل شيء، ونقول كل شيء "باسم الرب يسوع". ولكن المبدأ الكروستولوجيّ يقود إلى الآب: فالحياة المسيحيّة هي حياة في فعل شكر متواصل (1: 12). وهكذا تظهر غاية الحياة الخلقيّة لدى المعمّدين: أن يجعلوا من كل حياتهم جوابًا في المسيح ومع المسيح وبالمسيح، وفعل شكر إلى مجانيّة الله. لهذا، جعلت كو فعل الشكر في نهاية النصح الخلقيّ مع تشديد يدلّ بوضوح على أن الكاتب يجعله ذروة في الحياة المسيحيّة.

3- نظرة عامة
ويتابع بولس إرشاده كما قلنا في بداية الفصل. فنصل مع آ 9 ب إلى خلع الانسان العتيق مع كل أعماله. فمنذ ذلك اليوم الذي فيه ماتوا مع المسيح في المعمودية (2: 11- 12)، لبسوا الانسان الجديد، الذي صار لهم المسيح في الايمان.
* مهما كانت صورة اللباس جديرة بأن تعبّر عن التحوّل الذي حصل في حياة المؤمن، فالواقع يتجاوز الصورة (آ 10). لأن اللباس يبقى ما هو. أما الانسان الجديد فيتجدّد باستمرار بعمل الروح. هو لا يُعطى مرّة واحدة في كمال لا يتبدّل. ولا يُوجد إلاّ بالنسبة إلى الايمان الذي يتقبّله دومًا في المسيح. وهو لا يأخذ شكله إلاّ في الطاعة لمشيئة الله. هذا اللباس يتجدّد بدون انقطاع في علاقات حيّة تربط المؤمن بالمسيح والمسيح بالمؤمن.
وعلى هذا التجدّد أن يقود الانسان الجديد إلى معرفة أوضح وأكمل لنعمة الله ومتطلّباته في يسوع المسيح، وهي معرفة تعمل بدورها على تجديد "صورة الذي خلقها". هذه الكلمات الأخيرة تحدّد هدف تجديد الانسان الجديد وقاعدته: صورة الله. فالمسيح هو للمؤمن "آدم جديد" الذي ألبسه (غل 3: 7) والذي يجب عليه دومًا أن يلبسه (روم 13: 14). والمسيح "آدم الآخر" (1 كور 15: 45) هو صورة الله (كو 1: 15). فحين يجد المؤمن في المسيح بشريّته الحقيقيّة، يستعيد أيضًا صفته كـ "صورة الله" التي لا تنفصل.
* وحين يصل المؤمنون إلى هذه النقطة (آ 11) يفهمون أن عليهم أن يتخلّصوا من الكذب ومن سائر الخطايا (آ 8)، لأنها لا تتوافق مع تصرّفهم كأناس جدد، وهي تجرح اتحادهم في المسيح. فحيث يُوجد الانسان الجديد، "لا يوناني ولا يهودي"... لا عبد ولا حرّ، بل المسيح الذي هو أقوى من كل ما يفصل فئة عن فئة.
إن التناقضات العرقيّة والدينيّة والحضاريّة والاجتماعيّة قد تبدّدت كلها. وهي تسيطر بعدُ على العلاقات المباشرة لدى الذين لبسوا الانسان الجديد. هم لا يرون بعد الآن في أخيهم اليونانيّ واليهوديّ والاعجمي والعبد والحر، لا يرون فيهم الانسان الذي يرفضهم، بل المسيح الذي يؤمنون به ويطيعونه، وهو حياتهم (آ 3)، والكلّ في الكلّ.
* يبقى علينا أن نخلع العتيق ونلبس الجديد، أن نلبس المحبّة ونؤدي فعل الشكر (آ 12). فبعد النصح (أو التحريض) السلبيّ (لا، لا) يأتي النصح الايجابيّ. بعد النداء إلى التخلّص من الانسان العتيق وتصرّفاته الشرّيرة، يأتي نداء لكي نلبس استعدادات الانسان الجديد. هذا ما يُفرض على الكولسيين بصفتهم "مختاري الله وقدّيسيه وأحبائه". فما يفعلون، يجب أن يتوافق مع ما هم. إنهم "مختارو الله" الذي اختارهم في مجموعة البشر بحسب قصده الأزلي (روم 8: 28). إنهم "قديسون" لأن الله انتزعهم من العالم (غل 1: 4) ليكونوا له في كنيسته. إنهم "محبوبو" الله في الاختيار الذي به تقدّسوا.
وهكذا يقدّس اختيارُ الله المؤمنين، ويُظهر لهم محبّته. فليدّلوا بدورهم على ذلك. وليلبس الواحد تجاه الآخر استعدادات تليق بالذين كانوا موضوع هذه المحبّة. أحشاء الرحمة. أو الحنان. والرأفة التي تهتمّ بآلام الآخرين وتعمل على مدّ يد المساعدة. و"اللطف" الذي يتنبّه إلى الانسان وحاجاته. و"التواضع" الذي هو أفضل دواء ضدّ حبّ الذات الذي يسمّم العلاقات بين الإخوة. و"الوداعة" التي تساعدنا على تجنّب الصدامات. و"الصبر" الذي يحتوي انفجار الغضب.
* فما يطلبه الرسول (آ 13) هو المحافظة على الشركة المهدّدة حين يُجرح أخ أو تساء معاملته. فليتعلّم المؤمنون أن يحتملوا بعضهم بعضًا، أن يعيشوا التسامح المتبادل. فالغفران الذي منحه الرب لهم، يفرض عليهم ذلك. ولكن كيف نقدر أن نحسب حساب هذه الاستعدادت (آ 14) التي هي وحدها جديرة بأن تحافظ على هذه الوحدة؟ بالمحبّة التي تلهمها فتصبح بذلك "رباط الآخر". إن أحبّ الإخوة بعضهم بعضًا، يلبسون الحنان واللطف والتواضع والوداعة، يحتمل الواحد الآخر ويغفر للآخر، يتّحدون برباط أقوى من رباط المصالح والمعتقدات، برباط الكمال، أي بالحياة المسيحيّة في وجهها الكامل.
* وهكذا يكون بولس قد قال كل شيء حين نصح الكولسيين أن يطلبوا في المحبّة الحفاظ على وحدتهم. ولكنه يعود إلى أبعد من ذلك فيضيف: "ليَسُد في قلوبكم سلام المسيح" (آ 15). سلام المسيح هو ذاك الذي يخصّه والذي يستطيع وحده أن يعطيه. ويدلّ السياق أنه ليس فقط استعداد الروح والسلام الباطني، أو واقعًا أخلاقيًا، بل هو السلام بين أعضاء الجماعة. إنه واقع روحي، واقع الخلاص نفسه.
وحين يملك هذا السلام في القلوب، فهو يسود بسلطانه العواطفَ والأفكار والارادات، ويوجّه تصرّف المؤمنين. فإلى هذا "السلام" يدعو الله المؤمنين، يدعوهم معًا، لا كلَّ واحد وحده، يدعوهم في تضامن بعضهم مع بعض. "في جسد واحد". وهكذا لا يستطيعون أن ينفصلوا بعضهم عن بعض، ولا أن يتهرّبوا من عمل "سلام المسيح" بما فيه من سموّ.
* ويحضّ بولس الكولسيين على الشكر، لأنهم ما داموا يقبلون "سلام المسيح" مثل عطية الله، فهذا السلام يوجّه حياتهم ويحفظهم متّحدين. لهذا فهو يتوجّه في آ 16- 17 إلى جماعة متّحدة كل الاتحاد: "لتحلّ فيكم كلمة المسيح...". فالكنيسة لا تعرف فقط "سلام المسيح"، بل أيضًا كلمته. الكلمة التي تحمل سلامه، هذه الكلمة التي لا تني تكوّن كلمته في فم خدّامه وفي عمل كنيسته. ويطلب الرسول أن "تحلّ" هذه الكلمة في جماعة كولسي، وأن تعمل باستمرار ووفرة، فتنشر فيها كل قدرتها وتوزّع عليها جميع كنوزها وأولها "الحكمة" التي تمنح في كل ظرف معرفةَ النعمة ومتطلّبات الله في المسيح.
ويُمارس عملُ كلمة المسيح في إطار الجماعات العباديّة، وبالأخصّ في نشيد الجماعة. فـ "المزامير والتسابيح والأناشيد الروحيّة" تعبّر بطريقتها عن "كلمة المسيح". والروح يستخدمها ليُسمع هذه الكلمة للجماعة الخاشعة. وحين ينشد المؤمنون، فهم "يعلّمون بعضهم بعضًا وينبّهون في النعمة" التي هي مضمون الكلمة، وفي الوقت عينه ينشدون لله في قلوبهم.
هكذا تتّحد غايتا النشيد في الجماعة: هو يتوجّه إلى الله. ويبني المؤمن (آ 17). ولكن لا يكفي أن تنشد الجماعة مدائح وتبارك في تسابيحها الربَّ لما عمله من أجلها. فهي تعبّر له عن شكرها بكل حياتها، فتعمل كل شيء "باسم الربّ يسوع". وهكذا تُقفل دائرة الحياة التي تنزل بلا انقطاع من الله إلى الجماعة بكلمة المسيح، وبالمسيح تعود إلى الآب في فعل شكر لا ينقطع.

خاتمة
بعد التعاليم العقائديّة والتحذير من التقاليد البشريّة، تتواصل الرسالة بسلسلة من التحريضات بدأت مع الفصل السابق (3: 1- 9)، فتبدو على أنها "روحانيّة المعموديّة". يستند هذا الكلام إلى ضرورة التعرّي للنزول إلى حوض المياه. ويعدِّد ما يجب أن نتعرّى (نتجرّد) منه لنلبس الانسان الجديد. هناك جديد على مستوى الزمان. حياتنا تتجدّد سنة بعد سنة في المسيح. وهناك جديد على مستوى النوعيّة، حيث عهد الروح يقف تجاه عهد الحرف (2 كور 3: 6). ومع أن الغطس (العماد) في المسيح هو حدث فريد، إلاّ أنه يفرض نموًا مستمرًا. فهذا الانسان الجديد ما زال يتجدّد. يبتعد عن الرذائل ويأخذ بالفضائل من أجل حياة جماعيّة يُشرف عليها الحبُّ وفعلُ الشكر. فواقعيّة النعمة توجّه مسيرة الحياة المسيحيّة. بما أن المؤمنين محبوبون من الله، فعليهم في الجماعة أن يتجاوبوا مع حبّ الله الأول، هذا الحبّ المليء بالرحمة الذي تجلّى في شكل خاص بغفران الخطايا. وفي هذه الجماعة، ينشدون لله، ويسمعون كلام المسيح، ويحثّ بعضهم بعضًا على اكتشاف مشيئة الله في الحياة الملموسة. ذاك هو وجه الجماعة في حياتها المشتركة مع الإخوة، وفي صلاتها مع الله. هو وجه المعمّدين الذين وَضعوا موضعَ العمل ما يتطلّب منهم إيمانهم.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM