الفصل الثامن: حريّة المعمّدين

الفصل الثامن
حريّة المعمّدين
2: 16- 23

في هذا القسم الثاني من البرهان، وبعد الحديث عن جهاد بولس من أجل البشارة بالانجيل (1: 24- 2: 5) توقّفنا في مقطع أول عند الأمانة للانجيل الذي تقبّله الكولسيون مع "تحذير من المعلّمين الكذبة" (2: 6- 15). وها نحن نصل إلى المقطع الثاني (2: 16- 23) مع حرّية المعمدين. في 2: 8 كان تنبّه حول الممارسات العباديّة (أ). وبعد الأسباب الكرستولوجيّة (آ 9- 15) ها نحن أمام استعادة للتشبيهات (أ أ). وكل هذا ينتهي بتحريض ختامي (آ 20- 23).

1- مقاومة التعليم الضالّ (2: 16- 19)
بعد أن أعطى الرسول الأسباب التي لأجلها يجب على المؤمنين أن يتعلّقوا بالمسيح وبه وحده، ها هو يقدّم النقاط الملموسة التي فيها يجب أن يقاوموا التعليم الضال. ورأى بعضى الشرّاح في هذه الآيات ضلال الكولسيين، لأنها تدلّ على تشابه بين هذه الضلالة والتقوى النسكيّة الروحيّة التي نجدها في عالم الجليان اليهودي وذلك في أربع نقاط: (1) ضرورة الايحاءات السماويّة (رج 2: 6- 23). (2) الشروط للتنعّم بهذه الايحاءات: قداسة، برّ، صلاة، نسك. والواسطة هي الأحلام والرؤى (آ 16، 18، 23). (3) مضمون هذه الايحاءات (العرش السماوي، البلاط السماوي والليتورجيا، الدينونة مع الشهود والكتب التي سجِّلت فيها أعمال البشر). رج آ 18 والليتورجيا الملائكيّة. (4) وأخيرًا، وظيفة هذه الايحاءات (تعزية الابرار وتشجيعهم، الدعوة إلى ممارسة الشريعة، تهديد المخالفين). رج آ 16، 18 حيث نفهم أن أصحاب الضلال فرضوا على المؤمنين ممارسات الكلندار الليتورجي والممارسات النسكيّة وهدّدوا المخالفين.
أ- لا يحكم عليكم أحد (آ 16)
في آ 16- 18، نجد فعل الأمر (لا يحكم عليكم، لا يخيّبكم أحد) مع لائحة من المواد يجد فيها مؤمنو كولسي أن المقاومين يستندون إليها. أما مرمى هذه الآيات، فهو إبراز التناقض الذي يتعرّض له "معلّمو" كولسي الذين يهتمون بممارسات تذلّ البدن من أجل الرؤى فيصلون إلى نقيض انتظارهم. يصلون إلى الكبرياء واحتقار الآخرين. أما ما يجب أن نطلبه فهو نموّ الجسد الكنسيّ نموًا متناسقًا بأوليّة المسيح الفريدة.
"لا يحكم عليكم أحد في المأكول أو المشروب" (آ 16 أ). إن متطلّبات الطعام والشراب هي متطلّبات ممثّلي ضلال كولسي: أرادوا أن يفرضوا الصوم الجزئيّ أو التام على كل أعضاء الجماعة. ولكن لا يقال شيء عن مضمون هذه المتطلّبات (ماذا نأكل أو نشرب؟ كيف؟ متى نصوم وكم يدوم صيامنا). إن "الطعام والشراب" يدلاّن على ما كان يفعله الاسيانيون، وما يقول كتاب اليوبيلات. كما يدلاّن على ما تطلبه ديانات غير الديانة اليهوديّة. ولهذا ما يدلّ على أننا في محيط يهوديّ هو "رأس الشهر والسبوت".
"من قبيل عيد..." (آ 16 ب). نجد هذه العبارة في الكتابات البيلية وأدب ما بين العهدين (عد 10: 10؛ 1 أخ 23: 31؛ 2 أخ 2: 3...). نحن هنا أمام موجز لمتطلّبات وممارسات تجعل من اسرائيل شعب الاختيار والعهد.
ب- هي ظلّ المستقبلات (آ 17)
بعد أن قدّم الكاتب ما يطلبه "معلّمو" كولسي من ممارسات، ها هو يبيّن ما فيها من سلبيّة، ملمِّحًا إلى الأسباب الكرستولوجيّة التي ذُكرت في 2: 9- 15. تبدأ هذه الآية فتعلن أن الممارسات المطلوبة هي "ظلّ الأشياء الآتية". أي هي تعكس بشكل ناقص الواقع الاسكاتولوجي المتين، الابدي. وتبقى مرتبطة بالعالم الزائل، البدني، الذاهب إلى الدمار. فإن لم تكن كظلّ، إن لم تكن وهمًا محضًا، فهي لا تتكيّف مع ما يعيشه المؤمنون، أي الواقع الأخير الذي حصل بالمسيح ومع المسيح. لهذا نقول في آ 17 ب: "ولكن الحقيقة، أي الخيرات التي لا تزول، فتأتي من المسيح. هي مسيحاويّة".
ج- لا يجرّدكم أحد من أهليّتكم (آ 18)
قد فسرّت هذه الآية بطرق مختلقة. فالفعل مع النفي يعني: جرّد من أهليّة. أو: حرم من النصر. وهناك صورة "الحكم" و"الجائزة" في الألعاب، كأننا في منافسة أو سباق. هناك بعض المؤمنين يعلنون (وكأنهم قضاة) أن الآخرين هم أقل تقوى (في ممارسات مذكورة في آ 16). تدلّ العبارة على سخرية حقيقيّة: إذا كان هدف هؤلاء المؤمنين هو التواضع، فكيف يجعلون نفوسهم حكمًا على الآخرين ليجرّدوهم من كل أهليّة، فيصلوا إلى ما يريدون أو يعلنون.
واسم الفاعل "تالون" يقوّي صيغة الأمر: "لا يخيّبكم أحد بإرادتكم. أما "التواضع" (آ 18- 23 يُذكر مرتين) فيعود بنا إلى ممارسات تساعد على التواضع (مثل الصوم وغيره)، كما يعود بنا إلى الروح التي تحرّك هذه الممارسات. وهكذا يكون التواضع (تاباينوفروسيني) شرطًا لقبول المؤمن في الليتورجيا السماويّة. فتصبح الجملة كما يلي: يرض بممارسات متواضعة (إماتات) ليشارك في الليتورجيا السماويّة.
ونجد هنا لفظة "ملائكة". هل تدلّ على ما دلّت عليه "القوات" و"السلطات" في 1: 16؛ 2: 10؛ إذا كان الجواب بالايجاب، فكيف نفسّر التبديل في التسمية؟ لا شك في أن الرئاسات والقوّات تدلّ في كو على جيوش السماء. ولكنّنا رأينا أن الكاتب استعمل هذه التسمية لأنه اعتبرها قد مارست دورًا في الدينونة والعقاب. ولكن هذا الدور قد زال بعد أن استولى المسيح على كل سلطة في نظام الخلق وفي نظام الخلاص. أما هنا فالنصّ يريد أن يتحدّث لا عن عبادة تؤدّى للملائكة، بل عبادة يؤدّيها الملائكة لله. هذه العبادة يتأمّل فيها "معلّمو" كولسي الذين قد نالوا الرؤى والأحلام.
إن نهاية آ 18 تُبرز تناقض "المعلّمين" الذين يوصون بممارسات تتوخّى اذلال البدن ولكنّها في الواقع تنفخه بالكبرياء. فكل كلام وكل ممارسة تقودان في النهاية إلى التناقض والكبرياء، يجب أن يكونا موضوع شكّ ويُرذلا.
د- نتمسّك بالرأس (آ 19)
ها قد عبّر الكاتب الآن بوضوح عن خطر الفلسفة بعبارة تذكّرنا بما في آ 18: هي تَفصل عن المسيح الذي منه وحده يتقبلّ الجسد النموَّ. ويُعطى لنا معيار آخر يدلّ على نمط الكلام الخاح والمموّه: فالكلام الذي يفصل المؤمنين عن المسيح، الذي يهدّد وحدة الكنيسة ونموّها، هو كلام يحمل الموت مهما كانت ظواهره ونبل براهينه. فمن لم يتمسّك بالمسيح الذي هو الرأس، بدا في الواقع وكأنه ينفصل عن الجسد وعن حياته. هذه الآية تدلّ على أن تعليم "المعلّمين" لا يعطي المسيح الأولويّة والمكانة اللتين له في حياة الكنيسة.
وهكذا لاحظنا التدرّج في هذا المقطع. في آ 16- 17 يُرفض الحكم على المؤمنين، لأن الممارسات هي ظلّ الواقع النهائي، فلا تحدّد الخلاص ولا الشجب. في آ 18- 19 لا سبيل إلى الاحتقار. فقيمة المسيحيّ تأتيه من اتحاده بالمسيح لا من الممارسات النسكيّة. فهذه الممارسات لا تجعل المؤمنين متواضعين ولا تقرّبهم من الله، بل تجعلهم متعجرفين وتبعدهم في الواقع عن المسيح.

2- تحريض ختامي (2: 20- 23)
مع آ 20 يدخل هذا القسم في الحقيقة الختاميّة التي تقابل آ 6- 7. تتبدّل اللهجة: لم يعد الموضوع تحذير الكولسيين، ولا تقديم البراهين لهم لكي يقاوموا تعليمًا جذّابًا، بل تذكيرهم بقوّة وإيجاز بحريّة المؤمنين في المسيح.
لقد توسّع البرهان الكرستولوجيّ (خصوصًا في آ 9- 15) ذاكرًا الرئاسات والقوات، فأكّد على سيادة المسيح وأولويّته. ولكن في التحذيرات (آ 8، 16- 19) لا يوضَّح سبب اللجوء إلى هذه الكائنات السماويّة. فهل للممارسات النسكيّة التي أعلنها المعلّمون ضروريّة للحصول على الخلاص، علاقة مع سلطة الكائنات السماويّة؟ وكيف تهدّد أولويّةَ المسيح المشاركةُ في الليتورجيا الملائكيّة التي تؤمّنها هذه الممارسات؟ إن العلاقة بين الممارسات النسكيّة والقوى السماويّة وأولويّة المسيح لا تُفهم إلاّ إذا رأى "معلّمو" كولسي أن القوى السماويّة قد كُلّفت بأن تنّفذ بدقّة هذه الممارسات وأن تعاقب المخالفين. حين درسنا 2: 14- 15 اكتشفنا أن بعض الكتابات اليهودية تشهد على هذا المعتقد. إن هذا الطرح يستطيع وحده أن يشرح خاصيّة هذا القسم.
أ- متمّ مع المسيح (آ 20)
إن بدايّة آ 20 تجعلنا في قلب الرسائل الكبرى التي أعلنت أن المؤمن قد مات مع المسيح عن الشريعة والخطيئة (روم 6: 2، 10، 11؛ 7: 6؛ غل 2: 19). أما التعبير هنا فيذكّرنا بما في غل 4: 9- 10 (مع إشارة إلى الاعياد كما في كو 2: 16). إن الخضوع لأركان العالم (طعام، شراب)، للأرض، لا يليق بالمؤمنين. فلماذا العودة إلى مثل هذه القواعد (لا تلمس، لا تذق) التي تعتبر أنها تحرّرنا من الأرضي، بينما هي في الواقع تجعلنا عبيدًا له.
بما أن المؤمن مات مع المسيح عن أركان العالم، فهو لا يستطيع أن يعيش بعد وكأن وجوده كمؤمن تحدّده نواميس العالم. هذا هو معنى عبارة "كأنكم عائشون في العالم" التي لا تعني أن المؤمنين لا يخضعون للظروف الطبيعيّة والاجتماعيّة التي يخضع لها سائر الناس، بل أن المؤمنين لا يقدرون بعد اليوم أن يستندوا إلى ما كان يعتبر من قبل طريقَ خلاص (قواعد متعلّقة بالطعام والشراب والأعياد).
ب- لا تأخذ، لا تذق (آ 21)
"لا تذق" تدلّ على الصيام أو مراعاة قواعد تتعلّق بطهارة الأطعمة. واعتبر بعض الشرّاح أن "لا تأخذ" و"لا تلمس" تشيران إلى العفّة على مستوى الحياة الجنسيّة. نحن هنا أمام تلميح. لهذا لا نستطيع أن نحدّد، مع أن مثل هذا النسك يتماشى مع ما تقوله آ 13 (قهر الجسد) لأن من لا يقهر جسده يصل إلى هذا الحدّ. ولكن سوف نرى مع شرح آ 22 أن النصّ لا ينظر إلى ممارسة على مستوى الطعام.
ج- أشياء تؤول إلى زوال (آ 22)
هذه الأشياء هي الأطعمة أو الممارسات التي تحرّمها آ 21. ولكن المعنى غير محدّد، لأن وظيفة العبارة تتبدّل. (1) كل هذه الاشياء هي للدمار (للزوال) بالاستعمال. أو استعمال كل هذه الأشياء يقود (حسب المعلمين) إلى هلاك (من يأكلها). فالمعلمون في كولسي يبرّرون المحرمات: لماذا نتعلّق بطعام يؤول إلى الهلاك؟ يردّ بولس في آ 22 على أن مثل هذا التبرير يستند إلى تعاليم بشريّة. (2) هذه الأشياء تؤول إلى أن تدمَّر باستعمالها. أي: هذه الأشياء صُنعت كلها لتُستعمل، لتؤكل، وبالتالي لتفنى: نحن هنا أيضًا أمام تبرير معلّمي كولسي الذين يشدّدون هذه المرّة على الطابع الموقت للطعام أو الممارسة الجنسيّة. في آ 22 ب، استعاد بولس أش 29: 13، وبيَّن الأصل البشري لهذا التبرير. (3) إن آ 22 ب هي تفسير ونقد من عند بولس: يفرض المعلّمون محرّمات تتعلّق بالأطعمة، ولكن تحريمهم يعود إلى تعاليم بشريّة، لأن الله خلق جميع الأشياء لكي يأكلها الانسان ويستعملها.
لا تنطبق آ 22 أ على أشياء (أطعمة وربما ممارسات جنسيّة) تصفها، بل على أفعال الأمر في آ 21، أي على محرَّمات "المعلمين" التي تشير إلى الافراط على مستوى الأكل والعلاقات الجنسيّة. ماذا نختار من هذه التفاسير؟
رُبطت "الأشياء" (أقله آ 22) بأفعال الأمر في آ 21: "لا تأخذ، لا تذق، لا تلمس" أشياء قد صُنعت لتستعمل (لتؤكل). حينئذ تكون آ 22 أ كلامًا من الكاتب لا استعادة لموقف "المعلمين". ووظيفتها أن تشدّد على التعارض داخل أفعال الأمر: لماذا نحرّم ما جُعل لكي يستعمل؟ أما عبارة آ 22 ب فترتبط بشكل مباشر مع آ 20 وغير مباشر مع آ 21 التي تكون لها امتدادًا وتحديدًا فوق آ 22 أ. فنقرأ: "لماذا تخضعون لقواعد وكأنكم تعيشون في العالم... حسب وصايا وتعاليم البشر"؟
إن موقف كو حول استعمال الأطعمة يتبع موقف الرسائل الكبرى (روم 14؛ 1 كور 8- 10): هي تدافع عن الحرّية التي نالها المؤمنون في المسيح. أما آ 22 ب التي تستعيد بشكل ضمنيّ أش 29: 13، فقد تكون جزءًا من برهان استُعمل في جدالات حول الشريعة (مت 15: 9 وز): إن استعمال هذا النصّ بشكل عاديّ، جعل الكاتب يظنّ أنه ليس من الضروريّ أن يورده كلَّه حرفيًا. أما وظيفة اللجوء إلى أش 29: 13 فهي واضحة: إنه وإن عاد المعارضون إلى تقاليد قديمة لكي يبرّروا قواعد يقدّمونها، فالكاتب يردّ فيقول إن هذه القواعد قد صنعها البشر ولم يطلبها الله بشكل مباشر.
د- قواعد عليها ظواهر الحكمة (آ 23)
يشدّد البرهان الأخير مرّة جديدة على التناقض الذي يقيم فيه "المعلّمون"، ويُنهي بحكم لا استئناف فيه حول الفائدة السوتيريولوجيّة (على مستوى الخلاص) لهذه الممارسات النسكيّة.
إن هذه القواعد (أو الوصايا)، وإن كان لها ظاهر الحكمة على مستوى العبادة والتواضع والنسك (أو قهر الذات)، فهي تقود في الواقع إلى وقاحة الجسد.
لها ظاهر الحكمة، ولكن لا قيمة لها ضد إرضاء البدن. أو: لا قيمة لها حول وقاحة البدن. أو: هي مجرَّدة من كل قيمة ولا تنفع إلاّ إلى إرضاء البدن. الفرضيتان الأولى والثانية تحترمان قواعد النحو والبلاغة، وتُبرزان التناقض بين كلام ومُثل المعلّمين الذين يتحدّثون عن التواضع والقساوة (أفايديا، حياة قاسية) تجاه الجسد وبين النتائج الملموسة التي هي الكبرياء التي بها لا يُذل البشريّ بل يزداد وقاحة.
إن لفظة "إتالوتريسكيا" لم تستعمل قبل كو. تبرز رغبة (أو: إرادة) الذين يستعدّون لكي يدخلوا في معبد سماويّ بفضل الرؤى. وتعني: عبادة ينادي بها هؤلاء المعلّمون من عندهم. هم استنبطوها. هي عبادة مصطنعة، ولا شيء يبرّرها.
إذن شدّدت هذه الآية على تناقض لدى هؤلاء المعلّمين. قدّموا ممارسات لإذلال البدن، من أجل التواضع، فأعطت نتائج معاكسة.

3- نظرة عامة
أراد بولس هنا أن يدافع عن الحرّية المسيحيّة. فمع تعليم الهراطقة، برزت ممارسة. فمن قبلَ التعليمَ قبلَ الممارسة. وجاءت آ 8- 15 فانتزعت من هذا التعليم، مع ما فيه من تجربة، كلَّ وهج ونفوذ. لن يكون الكولسيون بهذه الجهالة ليبادلوا ملء الخلاص الذي امتلكوه في المسيح مع "الضلال الفارغ" الذي يقدَّم لهم باسم "فلسفة".
* إذن، لا يتبلبلوا بحكم يغلقه هؤلاء الهراطقة على حرّيتهم المسيحيّة. فأساس هذا الحكم واه مثل النظريات البالية التي ينبثق منها. نعرف هنا أن هؤلاء الناس مارسوا العفّة عن الأطعمة، فتجاوزوا فرائض الشريعة الموسويّة على مستوى الطعام والشراب. وظهرت هذه الروح الدينيّة الخاصة بممارسة مثل هذه المحرّمات على مستوى الطعام بأصولها المتعدّدة. وبما أن كل هذا ترافَق في كولسي مع المحافظة على الأزمنة المقدّسة كما عرضها العالم اليهوديّ، من أعياد سنوية وبداية القمر والسبوت، ظهر بوضوح أن هذا التلفيق الدينيّ في كولسي هو ذو طابع يهوديّ.
عفّة عن الطعام. ممارسة أزمنة مقدسة. هما بعض الوسائل للانفصال عن العالم، لمحاربة الخطيئة، للاحتفاظ من نجاسة البدن، للتكرّس للاله واجتذاب نعمته.
* ولكن ما قيمة هذه الممارسات للذين يحكمون عليها في المسيح (آ 17)؟ إنها تدلّ على توق إلى خيرات روحيّة، لم تكن في متناول اليد قبل مجيء المسيح. قد كانت في عالم سابق للمسيحيّة في بعض نقاطها. كانت "ظلاً" غير ثابت. ولكنّها مع ذلك كانت تبشِّر بجسد يخصّ المسيح. ففي المسيح وحده تصبح "الخيرات الآتية" (الغفران، التقديس، الاتحاد مع الله الحياة) حاضرة وفي متناول يد المؤمنين، في جسده الذي هو الكنيسة. لم يعد "للظل" من قيمة لمن يشارك في "الجسد".
* إذن، لا يتأثّر الكولسيون بأحكام الهراطقة (آ 18) وكأن هؤلاء الناس الذين يتمّسكون بمعتقدات وممارسات بالية، قد أعطوا سلطة لكي "يحرموهم من الأجر" (أو: الجعالة). أي لينكروا عليهم الخلاص. هم لا يعرفون أو لا يريدون أن يعرفوا أن الممارسات الطقوسيّة والنسكيّة التي بها يربطون الخلاص قد خسرت كل قيمة بالنسبة إلى المؤمنين. هم ما زالوا "يتلذّذون في قهر الذات وعبادة الملائكة". جعل بولس في مناخ قهر الذات (أو: الاماتة أو: التواضع الذي يرافق الصوم)، ممارسات الهراطقة مع طابعها النسكي (آ 23).
ظنّ هؤلاء الناس أن عليهم أن يخضعوا لنظام قاس ودقيق لكي يسيطروا على البدن، ويحفظوا نفوسهم من نجاسات الحياة، وهكذا يظهرون بين التائبين الغيورين أمام الله. ولكن حين يصنعون ما يصنعون، هل يقدّمون عبادة إلى الله؟ كلا، بل إلى الملائكة. إلى ممثّلي وحرّاس التدبير الديني الذي وضع له المسيح حدًا. فهذه العبادة التي تقوم في ممارسات فرائض نسكيّة، لا يمكن أن تتوجّه إلى الله الذي في المسيح ألغى الشريعة الموسويّة وأحلّ محلها النعمة، بل هي تتوجّه إلى الملائكة الذين جاء الله يعرّيهم من سلطانهم ومن نفوذهم. فكيف يكون متشيّعو عبادة بالية، حكَمًا على حرّية المسيحيين؟
هؤلاء المعلمون يدينون المسيحيّين الذين يرفضون أن يتبعوهم. بل أكثر من ذلك. إن الذين ربطوا خلاصهم بممارسات تقوى متطلّبة وملتبسة، شعروا بنفوسهم أنهم أسمى من الآخرين فاحتقروهم. وما شكّوا أنهم حين يصنعون هذا يخضع فكرُهم للبدن، لما فيهم من بشريّ، وهكذا لا يتّخذون الاحتياطات تجاه هذا الميل. فالبدن يعرف أن يثأر لنفسه في وقت لا ننتظره. إذا عارضناه وعاقبناه في الخارج، فهو يلجأ إلى الداخل، إلى وجدان الذي ظنّ أنه "يُميته" ويتغذّى ممّا يجب أن يقتله.
* ولكن كيف يجد ذاك الذي ينصّب نفسه حكَمًا، أنه صار على مستوى البدن، على مستوى اللحم والدم؟
إليك الذنب الذي يفسّر كل شيء: "لم يعد متمسّكًا بالرأس"، بالمسيح (آ 19). هو لا يُقرّ به ربًّا. لا يعود يخضع له. يحتقر نعمته. وبكلمة، لم يعد مسيحًا. والذي لا يعود يرتبط بالرأس، لا يعود يرتبط بالجسد. والذي ينفصل عن المسيح، ينفصل عن الكنيسة من أجل هلاكه.
فالكنيسة هي جسم متشعّب يمتلك أعضاء اتصال تؤمّن الوحدة، وتحيا بالحياة التي يمنحها الله إياها بالمسيح. فالانسان الذي انفصل عن المسيح وعن كنيسته، لم يعد يشارك في هذه الحياة، لا يقيم في نور الوحي، وبالتالي يخسر حقّه في الحكم على المسيحيين المؤمنين.
* في آ 16- 19، أفهم بولس الكولسيين أن هؤلاء المتشيّعين الغيورين لديانة بالية، لا يقدرون أن يقاوموا الخلاص الذي أعطي للمؤمنين في المسيح. ومنذ آ 20، سيدعوهم إلى أن يعوا أن تقوى الهراطقة لا تتوافق إطلاقًا مع وضعهم كمؤمنين. فهذا "التعليم" بشريعانيّته النسكيّة، ما زال يرتبط بعالم قطعَ الكولسيّون معه كل علاقة. لهذا، فمثلُ هذه المتطلّبات لا تعنيهم.
قال الرسول: "إن كنتم متّم مع المسيح". ذاك هو وضع بشر نالوا العماد، فاتّحدوا بالمسيح في موته ودُفنوا معه (آ 11). هذا الموت هو تحرّر. فكما أن المواطن لا يعود بموته خاضعًا للدولة التي تطلب منه الطاعة لشرائعها والضرائب والخدمه العسكريّة، هكذا المؤمنون الذين ماتوا مع المسيح. لقد أفلتوا من سلطات القوّات الملائكيّة، التي ظلّت حتى مجيء المسيح، تُشرف على الحياة الدينيّة في العالم، وتحفظ البشر في وضع القاصر على المستوى الروحي (غل 4: 1- 3). أما الآن، فهي لا تستطيع بعد أن تطال الكولسيين الذين ما عادوا يخافون من شيء. غير أنه يبقى عليهم أن يعوا هذا التحرّر، ويؤكّدوا عليه في وجه الهراطقة الذين بدوا وكأنهم يجهلونه.
* لقد توهم هؤلاء الناس أنهم سيقفون معهم خاضعين لأركان العالم، وكأنهم ما زالوا يرتبطون بها، وكأنهم، وهم العائشون في هذا العالم، لا يمكن لعلاقتهم مع الله أن يكون لها سوى الشكل الذي يعطونه: الشريعانيّة أو التعلّق المفرط بالشريعة. الطقسانية أو الاكثار من الشعائر الطقسية. والتقشّف والزهد.
ويعطي بولس بعض الأمثلة حول هذه الفرائض التي تشرف على تقوى الهراطقة: "لا تأخذ، لا تذق، لا تمسّ". هذه المواضيع التي تبدو بدون موضوع محدّد (قد يشبه الأول الثالث) تصوّر دقة ووسوسة تقوى شلَّها همّ الاحتياطات التي يأخذونها ليحافطوا على طهارة أبدًا مهدّدة. لا نسأل بولس عن إيضاحات رفضَ أن يعطيها. كل ما يمكن أن نلاحظه، هو أن "الدقّة" في الممارسة وصلت إلى حدّ جعلت الهراطقة يتأثّرون بتيّارات لم تأتهم من العالم اليهوديّ. لقد صرنا على مستوى الشيع.
* وترد آ 22 بشكل جملة معترضة: "أشياء تدمَّر في الاستعمال". فالأطعمة التي تشير إليها فرائض الهراطقة ستدمّر بالاستعمال. لهذا يكون من العبث على المؤمن أن يربط بها طهارته وخلاصه. نجد هذه الفكرة في مر 7: 18- 19. وإن عبارة "حسب وصايا البشر وتعاليمهم" تحدّد الفعل الرئيسي في آ 20: لماذا تُفرض عليكم هذه الأوامر؟ فمن أطاع هذه الأوامر البشريّة، لم يفعل إرادة الله بل إرادة البشر. وهكذا جعل "المعلّمون" الكولسيين يطلبون خلاصًا يتخيّلون أنهم يستطيعون وحدهم أن يهيّئوا ظروفه ويفرضوا متطلّباته. ومن أين تأتي هيبة هذه الوصايا البشريّة التي تُولَد كل يوم من جديد، والتجربة التي تشكلّها لأعضاء كنيسة كولسي؟
* هذا ما يجيب عليه بولس في آ 23. لها شهرة، لها ظاهر الحكمة. تعتبر نفسها مؤسَّسة على معرفة سامية لسرّ المصير وشروط الخلاص. والذين يخضعون لها يتميّزون عن سائر البشر العاديين بجدّيتهم وغيرتهم وقداستهم. في القرن الأول، بل في أيامنا أيضًا، كل نظام حياة يشدّد على الزهد والنسك، يُلهم الاحترام والاعجاب. ويدلّ الرسول على ما في هذه الممارسات الزهديّة من "ظاهر الحكمة": تبدو الممارسة للذين في الخارج، وكانها "عبادة إرادية" تتجاوز متطلّباتها الدقيقة ما يستطيع أن يقوم به عامّة الشعب. ولكن هذه التقوى تحمل الرذيلة في مبدأها. يظنّ المؤمن أنه يقهر جسده. أنه يتعلّم التواضع. فاذا هو يتعلّم الكبرياء والوقاحة، ويبحث عمّا يرضي الجسد بحاجاته ورغباته.

خاتمة
حدّثنا الفصل السابق (2: 6- 15) عن سلوك في المسيح، في "حياة جديدة"، عن سلوك يتوافق مع التعليم الذي تسلّمناه. عن سلوك نكون فيه كالشجرة بأصولها والبيت ببنائه. ثم حذّرنا من هذه الفلسفة "التي هي تقليد بشريّ" يسير حسب "أركان العالم". وأفهمنا أننا نخصّ المسيح بالمعموديّة، هذا المسيح الذي انتصر بصليبه على ما في السماء وما على الأرض. وحذّرنا هذا الفصل (2: 16- 19) من ممارسات فيها الشعوذة والوسواس، فقال لنا: "الحقيقة هي المسيح". فلماذا تبحثون عن حقيقة أخرى؟ حرّيتنا في المسيح، فلماذا نجعل من نفوسنا عبيدًا لأفكار أو ممارسات أو رؤى؟ بالمعموديّة متنا مع المسيح عن الخطيئة. بل متنا عن كل هذه القواعد التي لها ظاهر العبادة. أما حياة المسيحي فهي اتحاد مع المسيح. وكل ما فينا ينطلق من هذا الاتحاد. فلماذا نبحث عن طريق أخرى لا يمكن إلاّ أن تقود إلى الهلاك؟

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM