الفصل السادس والعشرون: المسيرة في البرية ببركات الله

الفصل السادس والعشرون
المسيرة في البرية ببركات الله

ترك العبرانيون وراءهم خصب الأرض وغزارة المياه، وتوغّلوا في البرية حيث الصعوبات عديدة: لا ماء، لا طعام، لا مأوى، لا مأمن. ترك العبرانيون أعظم مدنيَّة وألمعها، وعادوا إلى مدنيّة البدو في صحراء سيناء. واندفعوا نحو عالم الحرية في هذه المسافات الشاسعة، وحسبوا أن حياتهم ستكون عيداً متواصلاً. لا شكّ في أن الرب سيشملهم بعنايته ويعطيهم الطعام والشراب ولكنه يطلب منهم ثقة ثابتة. يطلب منهم أن يتعلّقوا به وحده دون سائر الآلهة، أن يحفظوا وصاياه، وأن يعتبروا نفوسهم بأمان ما دام في قلبهم إيمان.
وبدأت المسيرة في الصحراء، تلك المسيرة التي تقود الشعب إلى جبل سيناء، إلى موضع اللقاء بالرب. ويقدّم لنا سفرُ الخروج لمحة عن هذه المسيرة وأخطارها فيورد لنا خمسة أحداث ظلّت عالقة في ذكريات العبرانيين وبرهنت لهم أن الله الذي خلّصهم لا يتركهم بل يهتمّ بحاجاتهم اليومية. وهذه الاحداث هي: مياه مارة (15: 22- 27)، المن والسلوى (ف 12)، المياه المتفجّرة من الصخر (17: 1- 7)، النصر على بني عماليق (17: 8- 16) واللقاء بيترو، حمي موسى (ف 18).

1- مياه مارة (15: 22- 27)
وصل الشعب إلى الصحراء، فكاد لا يجد ماء، والذي وجده كان مراً لا يُشرب. فامتلأ الشعب مرارة وتذمّر على موسى. حرّر موسى شعبه ولكن مهمّته لم تنته بعد، فعليه أن يصبر على هذا الشعب، أن يكون الوسيط بين الله وشعبه، أن يتشفّع. طلب من الله فأشار الله عليه أن يلقي عود شجرة في الماء فتصبح صالحة للشرب. وهكذا صار.
مارة موضع وصل إليه الشعب بعد مسيرة ثلاثة أيام. هل كان هناك معبدٌ اجتمع حوله العبرانيون قبل متابعة الطريق إلى سيناء؟ مهما يكن من أمر فالرب استقبل فيه شعبه وأعطاه بعض الفرائض والوصايا وقال له: إذا أطعت أمر الرب إلهك وكنت مستقيماً أمامه وأصغيت إلى وصاياه وحفظت جميع فرائضه، لا أحلّ بكم جميع الامراض التي أحللتها بالمصريين لأني أنا الرب الله العافية. الله يعافي شعبه من أمراض الجسد كما من أمراض النفس فيغفر له خطاياه.
ووصل الشعب إلى إيليم فوجدوا اثنتي عشرة عين ماء وسبعين نخلة تكفي الاسباط الاثني عشر والسبعين عشيرة برؤسائها السبعين (24: 1؛ عد 11: 16). أما التقليد المسيحي فرأى في هذه الاعداد تلميحاً إلى الرسل الاثني عشر وإلى التلاميذ السبعين (لو 10: 1). وسيقابل الآباء مياه مارة بمرارة الشريعة المفسَّرة تفسيراً حرفياً والتي تصبح حلوة بفضل عود صليب المسيح.
ونعود إلى الخبر فنفهم أن الله الذي خلص شعبه، ما زال يهتمّ به في مسيرته الطويلة والقاسية في الصحراء، ويعطي موسى السلطان ليساعد الشعب على إيجاد الطعام والشراب. والله هو الاله الذي يحوّل الخير شراً (تك 50: 20)، والمرارة حلاوة، وخطر الموت وعدَ حياة.
تذمّر الشعب وسيتمرّد، والهموم اليومية تلاحقه في محنته عبر الصحراء. إنها تتعدّى قوى أناس مساكين خرجوا حديثاً من العبودية، قوى حجّاج يبحثون عن إله سريّ لا تراه العين. ولكن قوى شعب الله حاضرة شرط أن لا يتنكّر لنفسه وينسى أن الله معه. فبإيمانه بربِّه يقدر على كل شيء، يقدر أن يعبر الصحراء ويتغلّب على التجارب والمحن. مثل هذا الايمان يجعلنا فوق المستوى العادي من الشجاعة ويدخلنا في مصير يتعدّى طرق البشر. في هذا الاطار نسمع القديس بولس: ما اصابتكم تجربة الا وهي على مقدار وسعكم البشري. إن الله أمين فلا يكلّفكم من التجارب غير ما في وسعكم، بل يؤتيكم مع التجربة وسيلة النجاة منها والصبر عليها (1 كور 10: 13).

2- المن والسلوى (ف 16)
وتذمّر الشعب مرة أخرى على موسى وهارون اللذين أخرجا الشعب من مصر ليقتلاه في البرية. قالوا: كنا سعداء في مصر نجلس عند قدور اللحم ونأكل من الطعام شبعنا. سمع موسى وهارون هذا التذمّر وحسباه موجّهًا نحو الله لا ضد شخصيهما.
وأعلن الرب أنه سيرسل خبزاً من السماء (16: 4- 5)، فيأكل الشعب خبزاً في الصباح ولحماً في المساء (16: 11- 12). فالطعام الذي يعطيه الله سيكون امتحاناً للشعب: هل يسيرون بحسب شريعة الرب أم لا؟ ثم إن الطعام سيجعل الشعب يعرفون أن يهوه هو الله (16: 12) ذلك الذي أخرجهم من أرض مصر (16: 6). وهكذا ترتبط عطية الطعام بحدث الخلاص من مصر، وهو حدث تاريخي، كما يرتبط بهذا الحدث تنظيم الشرائع التي يعطيها الله لشعبه. فالاله المخلّص والمشترع هو أيضاً الاله الذي يقود شعبه ويقوته يوماً بعد يوم بعنايته ورحمته. ولكن هذا الاله لا يمكن أن يكون الهاً نفعياً في خدمة الشعب، بل هو الاله الذي يتجلّى مجده وسط الغمام بطريقة تفوق الطبيعة (16: 7، 10).
ويورد النص ظاهرتين (16: 13- 21): طيور السلوى تغطي أرض المخيم، والمن حول المخيم. ظاهرتان طبيعيتان لاحظهما علماء التاريخ والجغرافيا. تأتي الطيور تعبة بعد سفر طويل فتقع على الأرض منهكة القوى فيلتقطها الانسان بسهولة. والمن معروف في البرية إلى اليوم. حصل العبرانيون على طعام ما كانوا لينتظروه، وحصلوا عليه بطريقة مدهشة فبدا لهم معجزة من السماء. هذا المن لم يعرفه قرّاء العهد القديم ونحن لا نعرفه، ولكن الكاتب الملهم حسبه طعامًا سماوياً يعطيه الرب وأكلاً مشبعاً. كان هذا الطعام مناسبة ليمتحن الله شعبه ويجعله يعي حالته: إنه مسكين أمام الله ينتظر كل شيء منه. إنه مؤمن يعرف أن الانسان لا يحيا بالخبز فقط بل بكل ما يخرج من فم الله (تث 8: 3). وما يخرج من فم الله هو كلمته. وهكذا يصبح خبز السماء كلمة الله.
أجل، صرخ الشعب فتدخّل الله من أجل شعبه، وأجرى لهم عجائبه كل أيام حياتهم في البرية حتى اليوم الذي دخلوا فيه أرض الميعاد. رافقهم عطاء المن أربعين سنة (16: 35- 36) إلى ذلك الفصح الذي عيّدوه في كنعان وأكلوا للمرة الأولى من غلّة الأرض (يش 5: 11- 12).
وأعطاهم الرب تعليماته: يجمع كل واحد ما يحتاج اليه هو وعياله كل يوم بيومه. وهنا حصلت المعجزة: الذي جمع كثيراً لم يفضل عنه والذي جمع قليلاً لم ينقصه (16: 18). هذا الكلام سيردّده بولس الرسول حين يتحدّث عن جمع الصدقة من أجل فقراء أورشليم (2 كور 8: 15). وأمرهم الرب: لا يبق من المن شيء إلى الغداة وإلاّ دبَّ فيه الدود. ولكن الشعب لم يسمع فاحتفظ ببعض المنّ إلى الغد. فوبّخ موسى الشعب وأفهمهم أن المن صورة عن عناية الله بشعبه كل يوم بيومه: هو خبز السماء، هو طعام يتساوى فيه الجميع، هو طعام يومي يمنحه الله المؤمن في مسيرته إلى أرض الميعاد. سيعلمنا يسوع أن نقول: أعطنا خبزنا كفاف يومنا (مت 6: 11)، وينبّهنا ألاّ نهتمّ بما نحتاج اليه من طعام أو لباس (مت 6: 25- 26). بل نكون مثل طير الحقل وزنبق الأرض. أما التقليد اليهودي فيقول إن المن كان له طعم الخبز، وطعم اللحم والزيت، وطعم العسل. وفي هذا قال سفر الحكمة: أعطيت شعبك طعام الملائكة وقدّمت لهم من السماء خبزاً معدًّا لم يتعبوا فيه، خبزاً يوفر كل لذة ويلائم كل ذوق (حك 16: 19- 20).
ويتحدّث العهد الجديد عن المن، ذلك الطعام الروحي، طعام الذين يعيشون بحسب روح الله كما قال بولس الرسول (1 كور 10: 3). ويستفيض القديس يوحنا في الكلام على خبز الحياة، الذي لا يخيّب أمل من يغتذي منه، على الخبز النازل من السماء الذي يُشبع جوعنا ويعطينا الحياة. يعود يوحنا إلى إطار سفر الخروج، ويلمّح إلى المن الذي أعطاه موسى، فيصل بنا إلى جسد يسوع الذي يُعطَى لحياة العالم، للحياة الابدية (يو 6: 31- 35، 48- 58).
هذه الخطبة عن الخبز النازل من السماء، عن المسيح الاله الذي صار جسداً لخلاص الكثيرين وطعاماً لحياة الكنيسة في مسيرتها. هذه الخطبة هي كمال تأمّل كنسي قاده الروح القدس انطلاقاً من الصحراء. وفي النهاية تلفّظ يسوع بكلمات سرّ الاسرار (مت 26: 26- 28؛ مر 14: 22- 24؛ لو 22: 19- 20؛ 1 كور 11: 23- 25) في إطار ليتورجي يرتبط بفصح اليهود فيذكّرنا بالفداء الخلاصي وبالعهد، ويساعد الكنيسة على أن تحتفل على مدى التاريخ بسرّ الخلاص الفاعل.

3- في رفيديم (ف 17)
ونقرأ في ف 17 حدثين منفصلين: الماء يتفجّر من صخر حوريب، والنصر على بني عماليق. الرب يعطي شعبه كل خير، وينقذه من كل خطر، وذلك بواسطة عصا موسى التي اسمها عصا الله.
ما وجد الشعب ماء فتذمّر على موسى، فتوجّه موسى إلى الرب الذي أمره أن يضرب الصخر بعصاه. تفجّرت المياه فارتوى الشعب.
سمِّي المكان مسة ومريبة أي موضع المحنة وموضع الخصومة. امتحن الشعب ربه (17: 2، 7): هل يقدر أن يخرج ماء من الصخر؟ وخاصم موسى، ومن خلاله خاصم الله يوم أحسّ بالعطش. ولكن في الواقع هو الله يمتحن شعبه المرتاب به وبقدرته (15: 25). ونتساءل هنا: هل تذمّر الشعب مراراً طالباً الماء، أم أن الكاتب الملهم انطلق من حدث واحد وجعل الرب يتدخّل حالاً بعد الخروج من مصر في مارة (15: 22- 26)، ثم قبل الوصول إلى سيناء (17: 1- 7) في مسة ومربية قرب رفيديم، وأخيراً في مريبة القريبة من قادش (عد 20: 1- 13)؟ الامر معقول. ولقد انطلق المعلّمون اليهود من مربية رفيديم ومريبة قادش التي تفصل بينهما مسافة أربعين سنة من الاقامة في البرية، فاعتبروا ان صخرًا واحدًا رافق الشعب وأمّن له الماء خلال ترحاله. عرف بولس الرسول هذا التقليد فتمال في 1 كور 10: 4: "كان آباؤنا يشربون من صخرة روحيّة ترافقهم وهذه الصخرة هي المسيح".
هذا الحدث، أكان واحداً أم متعدّداً، يدلّ على أن الله لا يترك شعبه في البرية أمام محنة الجوع والعطش والأعداء. هذه المحنة تدفع الشعب إلى التذمّر على موسى وبالتالي على الله ولكنها مناسبة ليدلّ الله على أنه لا يتخلّى عن شعبه. إنه يؤمّن له كل ما يحتاج إليه كل يوم بواسطة معجزة دائمة. إن صخر حوريب الذي أخرج منه موسى الماء، يبقى علامة عناية الله الذي يعطي الحياة لشعبه والذي لم ينقذ شعبه من العبودية ليقتله في الصحراء. وتقليد الصخر المتنقّل في الصحراء، هو امتداد لتفسير لاهوتي يرى في هذا الخبر معجزة من الله تتكرر يوماً بعد يوم بعنايته الدائمة. فما دام الشعب في الصحراء فليعرف أن عليه أن يعتمد على الله من أجل طعامه وحياته. ونحن المسيحيين السائرين وسط صحراء هذا العالم نعرف أن حضور المسيح في سر الافخارستيا حقيقة دائمة منذ بداية الكون وحتى نهايته.
لن نتوقّف على حدث المعركة مع بني عماليق إلاّ لنقول إن هذا النصر كان علامة لحماية الله لشعبه أمام أخطار البرّية. الله وحده يعطي النصر وعلى رئيس شعبه أن يرفع يده لصلاة ثابتة ومواظبة، إذا أراد أن يحصل على بركة الله.
هذه المعركة بين بني اسرائيل وبين بني عماليق رمز إلى حرب دائمة بين شعب الله وقوى الشر التي يرمز إليها عماليق حفيد عيسو. ولن تنتهي هذه الحرب إلا في الزمن المسيحاني حين يسحق شعب الله قوى الشر بصورة نهائية.

4- لقاء موسى ويترو (ف 18)
لقاء موسى ويترو هو صورة مصغّرة عن لقاء العبرانيين والمديانيين. يبدو أن العبرانيين أخذوا عن المديانيين طرق عبادتهم وعوائدهم في تقدمة الذبائح. عن المديانيين أخذوا فكرة تابوت العهد (عد 10: 29- 36) والتنظيم الاجتماعي للقبائل والعشائر. إن موسى عاش عند المديانيين بعد هربه من مصر (2: 15- 22) وتزوّج ابنة كاهنهم. عند المديانيين تقبّل رؤية العليقة الملتهبة (3: 13- 14) ووحي اسم يهوه. كان يترو كاهناً، فقرّب محرقات وذبائح لله (18: 12) وشاركه هارون وجميع شيوخ اسرائيل. وكان يترو منظماً اجتماعياً فعلّم موسى فعيّن رؤساء مئة وخمسين وعشرة (18: 21- 25).
كيف يكون هؤلاء الرؤساء؟ يكونون أقوياء فلا يخافون من أحد، ويتّقون الله. يكونون مستقيمن فيحبّون الحق، وأعفّاء النفس فلا يأخذون رشوة (18: 21).
ممارسة العدالة تعود إلى الله، والله سلّمها إلى موسى الذي يحكم باسم الله في قضايا الشعب. وموسى سلّم بعضاً من سلطاته إلى الرؤساء الذين عيَّنهم. ولكن يبقى هو المشترع الذي يدرّج الرؤساء في التعرّف إلى الشريعة. اختاره الله وأرسله فكان الوسيط بين الله والبشر، والنبي الذي يعرّف الناس بكلمة الله، والمعلّم الذي يلقّن شعب الله شريعة الله.
الحياة الجماعية لشعب الله وجهة مهمة، وقوامها الحق والعدل المتجذّرين في ضمير الناس وعاداتهم. ولكننا لن نبقى على مستوى العادات ولن نحصر الحياة بعدالة البشر. ففي شعب الله، الله هو الذي يقود شعبه ويقضي له. والعلاقات بين أعضاء الجماعة ليست علاقات متبادلة فحسب، بل هي علاقات مع الله أيضاً. فكلمات البشر وأعمالهم تدلّ على علاقتهم بعضهم ببعض وتكون هذه العلامة موافقة لمشيئة الله. ولكن إن أردنا أن نعرف فكرة الله ومشيئته وحكمه، لا بد لنا أن نسأله ونسمع كلمته. الله يتكلم بواسطة أناس اختارهم وأجهزة أقامهم.
أجل الله لا يتبرّأ من قضايا هذا العالم. هو قريب من الجميع وبالاخص من صغار القوم، وهو يطلب من الكبير أن يهتمَّ بالجميع ولا سيّما بالضعيف والغريب واليتيم والارملة. ثم إن شريعة الرب توجِّه الافراد فلا يتكبّر عليها انسان مهما علا مقامه. الشريعة الواحدة تعبير عن الايمان الواحد، والايمان يذكّرنا دوماً بروح الشريعة ويعلّمنا أن نكون أخوة نعيش بقلب واحد ونفس واحدة.

خاتمة
هكذا تكون مسيرة شعب الله في البرية. الرب يدافع عن شعبه ويعتني به. يسخّر الطبيعة فتعطيه الطعام والشراب، ويرسل الناس فيعلّمونه تنظيم أموره بطريقة ستجد كمالها مع النظام الملكي. ولكن يبقى على الفرد أن يعرف أنه يرتبط بالله، وعلى ضوء كلمة الله يرتبط بإخوته ليؤلّف معهم عائلة واحدة. ويبقى على الشعب أن يكون أميناً لربه واثقاً بعنايته، فيتابع المسيرة التي توصله إلى جبل اللقاء بالله، إلى سيناء مكان حضور الله والمنبر الذي منه يرسل صوته ويعلن وصاياه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM