الفصل الخامس والعشرون: على جبل سيناء والوصايا العشر

الفصل الخامس والعشرون
على جبل سيناء والوصايا العشر

وصلنا إلى هدف مسيرتنا. فتحرير اسرائيل وخروجهم من مصر، ما صنعه الله لهم، والطريق التي أخذوها، كل هذا تمّ ليقودهم إلى سيناء، كل هذا حدث من أجل اللقاء بين الله وشعبه، من أجل إقامة عهد بينه وبينهم. هذا ما نتحدّث عنه بعد أن وصلنا إلى قلب الكتاب.
هذه الفصول التي سنقرأها (ف 19- 24) ترتبط كلها بالعهد في سيناء، ونحن سنميّز فيها أربعة أقسام. الاعلان عن العهد وتهيئته (19: 1- 25، مع 20: 18- 21)، الوصايا العشر (20: 1- 17)، شرعة العهد (20: 22- 23: 33)، الاحتفال بالعهد ولقاء موسى بالله على الجبل (24: 1- 18).

1- الاعلان عن العهد وتهيئته (19: 1- 25)
وصعد موسى للقاء الله فناداه الربُ من الجبل وقال: كذا تقول لآل يعقوب: رأيتم كيف عاملت المصريّين، وحملتُكم كما تحمل النسور صغارها، وأتيتُ بكم إليّ. والآن إن سمعتم حقاً ما أقوله لكم وحفظتم عهدي، تكونون لي شعباً خاصاً بين الشعوب. جميع الأرض لي أما أنتم فتكونون لي مملكة كهنة وشعباً مقدّساً، أي مكرّساً لخدمتي (19: 3- 6).
ودعا الرب شعبه وقدّم لهم مواعيده في ذلك اليوم أي في عيد الاسابيع الذي يحتفلون فيه بعطية الشريعة على جبل سيناء يوم العنصرة. وذكَّرهم بأحداث الخلاص من مصر: ما الذي صنع لهم وكيف حملهم ورفعهم فوق كل خطر كما يحمل النسر صغاره (رج تث 32: 11). فإن حفظ الشعب عهد الرب جعلهم خاصته وككنز ثمين له، جعلهم مملكة كهنة، فقربّهم إليه، وجعلهم في خدمته وأرسلهم يعلّمون الشريعة. فالدور الذي يلعبه الكهنة في شعب اسرائيل هو الدور الذي سيلعبه شعب اسرائيل في سائر الشعوب. وهو الدور الذي ستلعبه الكنيسة مع شعب الله الجديد. وفي هذا يقول بطرس الرسول: أما أنتم فنسل مختار وكهنوت ملوكي وأمة مقدّسة وشعب اقتناه الله لاعلان خصائله (1 بط 2: 9).
ولكن إذا أراد الشعب أن يتقرب إلى الله فعليه أن يتهيّأ. هو مدعوّ إلى القداسة فعليه أن ينفصل عن كل ما هو عالمي ويتكرس للرب في تقبّل كلمته واتمام مشيئته. أما التهيئة فتمتد على ثلاثة أيام (19: 15) ليكون الشعب مستعداً للقاء الرب حين يأتي في ظلمة الغمام (19: 9). ويتحدّث النص عن استعداد خارجي يرتبط بنظافة الجسد التي هي جزء من نقاوة الانسان. وهذه النقاوة لن تكون تامة إلا بعد عبور الرب. فالشعب لا يحق له أن يصعد الجبل. فان صعد مات بسبب ناره المحرقة أو قُتل بسهم أو رُجم بالحجارة رجماً. ولكن اذا نفخ البوق يصعد موسى مع الكهنة ثم الشعب (19: 13).
ويصوّر الكاتبُ ظهورَ الله (19: 16- 25) بصور متنوعة. من جهة نجد الجبل مدخِّناً لأن الرب نزل وسط النار والزلزال (آ 20) ويكون جبل سيناء موضوع ظهور الرب. من جهة ثانية يتكلّم النص عن الرعود والبروق والغمام الكثيف (آ 16) أي عن عاصفة قوية. فتقدّم موسى وشعب الله إلى لقاء الرب في أسفل الجل (آ 17) الذي يبدو بشكل معبد يقيم فيه الله. أكنّا أمام بركان أو أمام عاصفة، أمام مكان ظهور الله أم محل إقامته، فالتقاليد تحتفظ بذكرى مريعة رافقت موسى حين صعد الجبل ليتقبّل شريعة الله. وظلّ الاعتقاد سائدًا بأن الله يقيم على جبل سيناء. إلى هناك سيذهب إيليا للقاء الرب بعد أن يئس من الحياة (1 مل 19: 8 ي).
وهكذا يقدّم ف 19 من سفر الخروج مقدمة مهيبة لعهد سيناء. هو يجعلنا في إطار عبادي: يقف الشعب عند أسفل الجبل كما على مدخل معبد يلتقي فيه الله بموسى. هناك حدود لا يتجاوزها أحد. وعلى الشعب رغم بعده أن يستعد للقاء موسى بالله الذي يتم في ظهور مريع سيملأ قلب الشعب خوفاً. أما هدف اللقاء فكلمة يوجّهها الله إلى موسى وينقلها موسى إلى الشعب. هذا ما قاله سفر الخروج. أما سفر التثنية فيشير إلى أن ظهور سيناء كان سماع كلمة وسط النار والدخان لا رؤية وجه (تث 4: 10- 18). وستعود الرسالة إلى العبرانيين إلى هذا المشهد لتقابل بين وحي سيناء والصور الهائلة بواسطة موسى، ووحي جبل صهيون وأورشليم السماوية بواسطة يسوع المسيح وسيط العهد الجديد، فتقول: اقتربتم من جبل صهيون، من مدينة الله الحيّ، من أورشليم السماوية، من الله ديّان البشر جميعاً، من يسوع وسيط العهد الجديد. فاحرصوا أن لا ترفضوا الذي يتكلّم. فإذا كان الذين رفضوا المتكلم بكلام وحي في الأرض (أي موسى) ما نجوا من العقاب، فكيف ننجو نحن إذا رفضنا المتكلم من السماء (عب 12: 22 ي) أي يسوع المسيح.

2- الوصايا العشر (20: 1- 17)
وتبدأ الوصايا بمقدمة: أنا الرب الهك الذي أخرجك من أرض مصر، من دار العبودية. نحن في إطار المعبد، في عيد من الاعياد. يتذكّر الشعبُ إلهَه الذي هو الاله المخلّص الذي لا يزال حاضراً وفاعلاً اليوم في تاريخ شعبه كما كان في الماضي. هذا الاله التزم بقضايا شعبه. وطلب من شعبه ان يلتزم بوصاياه. وهكذا يرتبط خلاص الشعب بالشريعة لأن الذي أعطى فرائض للشعب هو الذي خلّصه من العبودية.
الوصية الأولى (آ- 3): لا يكن لك الهة أخرى تجاهي، أي لا تعبد آلهة أخرى، لأن يهوه يُعبد وحدَه في شعب اسرائيل. لا تفضِّل آلهة أخرى عليّ ولا تجعل هذه الآلهة التي تتعبد لها تتحدَّاني في عقر داري ووسط شعبي.
حين يحتفل الشعب بشعائر العبادة فهو يحضر أمام الله، والله حاضر في معبده، فلا يقبل أن يكون معه الله آخر أو أن تُصنع تماثيل قرب تابوت العهد رمز حضور الله. هذا التشديد على وحدانية الله ستحتفظ به الديانات التوحيدية التي ترفض الشرك وعبادة الاوثان.
الوصية الثانية: لا تصنع لك وثناً منحوتاً ولا صورة شيء00. (آ 4- 6). هذه الوصية امتداد للوصية الاولى: مُنعت صُوَر الآلهة الغريبة، بل أيَّة صورة لله الواحد. ستكون بعض الصور في الشعب كالحية النحاسية والعجل الذهبي، وسوف يتأخّر الشعب الاسرائيلي ليعرف أن الله روح وأن الذين يعبدونه يعبدونه بالروح الحق (يو 4: 24). ولكن اللهّ لا يريد أن يتشبّه بآلهة مصر وكنعان وفينيقية. ثم إن هناك علاقة بين الصورة والشخص، فمن امتلك الصورة كانت له سلطة على الشخص. فهل يعقل أن يتسلّط الانسان (كما بقوة سحرية) على الله من خلال تمثال يصنعه له؟
حين تكلّم الله لم يرَ الشعب أية صورة (تث 4: 15- 19). اذاً يجب عليه أن لا يعبد أية صورة، لأن الله اله غيور يعاقب المؤمنين حين يعبدون آلهة أخرى.
الوصية الثالثة (آ 7): لا تحلف باسم الهك باطلاً وبدون فائدة وبالتالي كذباً. الاسم يرتبط بالشخص الذي يحمله ويمتلك قسماً من قدرة الشخص وحضوره. فمن تلفّظ باسم الله وجد نفسه بحضرة الله واستعمل قدرته. هذا ما يحدث في أمور السحر والعرافة: يلفظون اسم الاله من أجل عمل يصل شره إلى البشر. من عمل مثلَ هذا يُقتَل. لا يُلفَظ اسم الله إلاّ في الصلاة والعبادة والمديح. ثم إن الشعب العبراني خاف أن يتلفّظ باسم الله فتكلّم عن الحضور والمجد والسماء. واذا التقى بكلمة يهوه قال ادوناي أو السيد. أما نحن المسيحيين فنقول للرب: ليتقدس اسمك (مت 6: 9). ونتذكر كلام الرب يسوع: لا تحلفوا مطلقاً لا بالسماء ولا بالأرض ولا بأورشليم. فليكن كلامكم نعم أو لا (مت 5: 33- 37).
الوصية الرابعة (آ 8- 11): لا تنسَ أن تكرّسَ (تقدس) لي يوم السبت، أن تكرّسه لخدمة الرب. الله خلق الكون في ستة أيام واستراح، وهكذا يفعل المؤمن. هذه العادة فُرضت في شعب الله في القرن السادس أو الخامس أو في زمن المنفى والرجوع من السبي. ولكن سيأتي زمن تصبح فيه وصيّة السبت ثقيلة جداً: لم يعد السبت في خدمة الانسان، بل صار الانسان في خدمة السبت وهذا لا يرضاه يسوع (مر 2: 25- 28). وسيأتي يوم يحل الاحد محل السبت لأنه تذكار قيامة المسيح. وهكذا فالاحد ليس امتداداً للسبت، بل نظاماً جديداً أخذت به الجماعة الجديدة على ضوء الروح القدس.
الوصية الخامسة (آ 12): أكرم أباك وأمك لكي يطول عمرك وتكون سعيداً في الأرض التي يعطيك الرب الهك. هذه الوصية تتوجّه إلى الجميع، لا إلى الصغار فقط. وهي تعني أيضاً العناية بالوالدين في زمن الشيخوخة. هذه الوصية شدّد عليها يسوع (مت 15: 4- 6؛ مر 7: 10- 13)، وقال فيها بولس الرسول: أيها الابناء أطيعوا والديكم (أف 6: 1؛ كو 3: 20).
الوصية السادسة (آ 13): لا تقتل، لا تمسّ حياة القريب، فمن مسّ حياة القريب مسّ حياة الجماعة. وتوسعت الوصية فلم تقتصر على القريب بل وصلت إلى كل انسان لأن كل انسان مخلوق على صورة الله. فمن مسّ حياة القريب مسّ الله الذي هو وحده سيد الحياة والموت. هذه الوصية سيعمّقها يسوع فيقول: سمعتم أنه قيل لابائكم لا تقتل أما أنا فأقول لكم: من غضب على أخيه أو من قال له يا أحمق يستوجب نار جهنم (مت 5: 21- 22).
الوصية السابعة (آ 14): لا تزن، لا تُخن الحياة الزوجية، وإلا كان جزاؤك الموت (لا 20: 10؛ تث 22: 22- 27). في الماضي كانت المرأة تُعتبر ملك الرجل. ولكن فيما بعد، تطلّع الانبياء إلى الخيانة الزوجية وربطوها بعهد الشعب مع ربِّه. أما المسيح فيقول لنا: "من نظر إلى إمرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه" (مت 5: 28).
الوصية الثامنة (آ 15): لا تسرق، إي لا تمس ملك الغير. وهناك معنى أقرب إلى التقليد اليهودي حيث السرقة تدل على خطف الاشخاص وبيعهم عبيداً (رج 21: 16؛ تث 24: 7؛ 1 تم 1: 10)، وهذا أمر تعرفه حتى المجتمعات الحديثة. ونزيد: إن الاحتفاظ باجرة العامل سرقة، والدين بالربى سرقة، وسحق المساكين سرقة. مقابل السرقة وامتلاك حق الغير هناك روح الفقر الانجيلي الذي يوصلنا إلى حرية القلب والمحبة.
الوصية التاسعة (آ 16): لا تشهد على قريبك شهادة زور. إذا شهد أحد وكذب فهو يستحق العقاب الذي أراده للمتهم (تث 19: 16- 19). كان للكلمة أهميتها يوم لم تكن الكتابة معمّمة، لهذا طلب القاضي شهادة شاهدين أو ثلاثة في قضية. ثم إن الوصية توسّعت فشملت كل غش ونميمة وافتراء وكذب (رج مت 5: 37؛ 1 يو 2: 21- 22).
الوصية العاشرة (آ 17): لا تشته بيت قريبك، لا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته. كانت المرأة ملكاً للرجل وهي أقل أهمية من بيته. أما في سفر التثنية ففصل المشترع المرأة عن سائر ملك الرجل فقال: لا تشته امرأة قريبك، ولا تتوق إلى امتلاك بيت قريبك. نحن هنا أمام عواطف الانسان العميقة ونواياه. ولكن الوصية يمكنها أن تعني أيضاً: لا تظلم أحداً (رج مر 10: 19).
سمع الشعب هذه الوصايا فخافوا. رؤية الله لا تخلو من الخطر، وكذلك سماع كلمته، لهذا يحتاج الشعب إلى وسيط يحمل إلى المؤمن كلمة الله. وموسى هو الوسيط الذي يتقبّل كلمات الله وينقلها إلى الشعب، وهو الذي يبيّن أن هذه الاحداث هي امتحان للشعب لتبقى مخافة الله في قلبه فيبتعد عن الخطيئة.

3- شرعة العهد (20: 22- 23: 33)
وتمتد الوصايا في شرعة العهد التي تتضمّن فرائض قديمة. شرَّعت على العبيد، وعلى الحكم بالاعدام، وعلى الضرب والجراح، وعلى الحوادث التي يسبّبها حيوان، ثم على أنواع مختلفة من الاضرار (السرقة بوجه عام والتخريب)، عن الحياة الاخلاقية والدينية، عن السنوات المقدّسة والأعياد.
وبعد كل هذه الفرائض تأتي الوعود والتهديدات: اذا سمعت ما يقولُ لك (ملاكي) وعملت بجميع ما اتكلّم به أعادي أعداءَك، وأُخاصم مخاصميك (23: 22). إذا عبدتم الربّ بارككم في خبزكم ومائكم (23: 25).
وقبل أن ننتقل إلى القسم الأخير نورد بعضاً من فرائض شرعة العهد.
من خطف أحداً فباعه أو احتفظ به يُقتل قتلاً. من لعن أباه أو أمه يُقتل قتلاً.
لا تترك ساحرة على قيد الحياة.
لا تظلم الغريب ولا تضايقه، فأنتم كنتم غرباء في أرض مصر.
لا تسئ إلى أرملة ولا إلى يتيم، فإن اسأت إليهما وصرخا إليَّ فإني أسمع صراخهما.
إذا أقرضت مالاً لفقير من شعبي فلا تكن له كالمرابي.
إذا استرهنت ثوب صاحبك فعند مغيب الشمس ردّه إليه لأنه غطاؤه الوحيد وكساء جلده الذي ينام فيه. إن هو صرخ إليّ سمعت لأني رحوم.
كونوا أناساً مقدّسين.
لا تقبل خبرًا كاذبًا ولا تمدّ يدك إلى الشرّير فتجعل نفسك شاهد زور.
لا تتبع الأكثريّة في فعل الشرّ، ولا تحرك العدالة إرضاءً للأكثريّة.
اذا رأيتَ حمارَ عدوِّك ساقطاً تحت حمله فلا تتجاوزه، بل ساعد عدوّك ليقيمه.
لا تحرِّف حق المسكين في دعواه. إبتعد عن الكلام الكاذب.

4- الاحتفال بالعهد (24: 1- 18)
هذا الفصل يشكّل خاتمة القسم عن عهد سيناء (ف 19: 24) ومقدمة للفصول المتكلمة عن تنظيم شعائر العبادة في البرية (ف 25- 31، 35- 40).
هذا الفصل يتضمن قسمين: العهد في سيناء (24: 1- 11) وموسى على الجبل (24: 21، 12- 18).
في القسم الأول نجد خبرين. ماذا نتهرأ في الخبر الاول (آ 1- 2، 9، 11)؟ موسى وهارون وابناه ناداب وأبيهو وسبعون شيخاً يمثلون الشعب. رأوا الله في مجده ولم يموتوا. وأختُتم العهدُ بوليمة اتحاد وسلام. الخبر الثاني (آ 3- 8) هو امتدادٌ للشرائع والفرائض التي قرأناها في شرعة العهد. حوار بين موسى والشعب عند أسفل الجبل. ردّد موسى الشرائع فالتزم بها الشعب. وبنى موسى مذبحاً من اثني عشر نصباً على عدد الاسباط الاثني عشر وقام بطقوس، ثم رشّ من الدم وقال: هوذا دم العهد الذي عقده الرب معكم بحسب هذه الأقوال (24: 8). هذ الكلام سيردّده يسوع ليلة العشاء السرّي (مت 26: 28؛ مر 14: 24؛ لو 22: 20). أما الرسالة إلى العبرانيين فتذكر العهد الاول وتقابله مع العهد الجديد في المسيح (عب 9: 20).
في القسم الثاني (24: 12- 18) يدعو الله موسى إلى الجبل ليعطيه الوصايا من أجل تعليم الشعب (آ 12- 15). وسيطيل موسى إقامته هناك ولن ينزل إلاَّ ليرى الشعب يخون الرب ويعبد العجل الذهبي (ف 32- 34). أما الآيات 15- 18 فتبدو بشكل مقدّمة للفصول التي تتحدّث عن المعبد وآنية العبادة. دخل موسى في وسط الغمام وأقام في الجبل أربعين يومًا وأربعين ليلة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM